فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


و كان عهد الله مسؤولا
هدى من الآيات

الميثـــاق الذي أخذه الله عز و جل من النبيين ، و عبرهم من الصديقين و الأولياء ، هو العهد الذي وافق عليه كل انسان في عالم الذر ، حيث استنطقه الله بعد ان الهمه العقل " و اشهدهم على أنفسهم لست بربكم ؟ قالوا بلى شهدنا " وكان الهدف من هذا الميثاق - كما توضحه نفس الآية - هو إقامة الحجة على الخلق " ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين او تقولوا انما اشرك اباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون " . (1)و كل من لبى قبل الآخرين كان اقرب الى الله ، فيزوده بنور العلم و الرسالة ، و كانوا هم الرسل و الانبياء و الاوصياء و الاولياء ، قال الامام الصادق (ع) :

" لما أراد الله ان يخلق الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم : من ربكم ؟ فأول من(1) الاعراف / 172


نطق رسول الله (ص) و امير المؤمنين و الأئمة عليهم السلام فقالوا : أنت ربنا ، فحملهم العلم و الدين ، ثم قال للملائكة : هؤلاء حملة ديني و علمي ، و امنائي في خلقي ، و هم المسؤولون " (1)ثم اتخذ الله ميثاقا آخر من رسله قبل ان يبعثهم بالرسالة ، و كان هذا الميثاق بقوة الميثاق الاول .

و من يبعث رسولا يتخذ منه الميثاق ، لكي يتحمل الرسالة بكل أمانة ، و لان النبي يتعرض لانواع الضغوط ، يجب ان لا يخضع للظروف و الوسط الاجتماعي ، فان الله يذكره بين الحين و الآخر بذلك الميثاق عبر آيات ، بالرغم من ان النبي منصور من عند الله بالوحي و بروح القدس ، ذلك الملك العظيم الذي يؤيد الله به انبياءه و الأئمة ، ولعل الوحي كما روح القدس لم يكن أرفع شأنا من القرآن ذاته ، لانه كلام الله . و هل رفعت درجة الوحي الا بكونه الواسطة التي تحمل القرآن الى النبي ؟ و هل منزلة الرسول (ص) الا بتجسيده كتاب الله و حمله له ؟

و القرآن أعظم مؤيد للرسول و لمن يتبعه ، لانه يثبت قلوبهم ، و يزيد في ايمانهم و توكلهم على الله ، بما يذكر به من الآيات و السنن الالهية ، و الحوادث السابقة التي تكشف عنها ، و القرآن موجود بين أيدينا ، فيمكننا ان نستوحي منه بصائر الحياة و العمل ، ونستمد منه العزيمة و الايمان و التوكل ، و نحن نسير في خط الانبياء . و لما كان الرسول يواجه ضغوط المنافقين و الكفار ، و يستعد لحرب الأحزاب التي تجمعت و اتحدت ضده ، جاء القرآن تأييدا له على الاستقامة أمام كل ذلك ، فكان لابد من تذكيره لميثاقه مع ربه ، على العبودية و الاخلاص له ، مما يستوجب عدم الانهيار أمام هذه الضغوط ، باعتباره يناقض الميثاق .


(1) نور الثقلين / ج 2 - ص 92 - رقم 337


ثم يذكر السياق بقصة الأحزاب التي تشتمل على كثير من العبر و الحكم التي من بينها :

الحكمة الأولى : تأييد الله للمؤمنين ، فقد أيد الله رسوله و المسلمين في هذه الحرب بجنود لم يروها ، قيل انها الملائكة ، و قيل هي الريح التي سلطها على الاحزاب ، و قد تكون الرعب الذي قال عنه الرسول (ص) :

" نصرت بالرعب مسير أربعين يوما "

أو هذه جميعا .

المهم ان الانسان مهما يهيء من الوسائل المادية ، فقد تتأثر بعوامل لا يستطيع ضبطها ، و هي ما نسميها بالصدف ، أو هامش الاحتمالات .

و الكفار حينما ساروا لحرب المسلمين يومئذ كانوا قد أعدوا العدة للقضاء عليهم ، و لم يكن في بالهم ان شيئا يمنعهم عن المسلمين ، و لكنهم انهزموا و خسروا المعركة ، و كان السبب المادي الظاهر هو الخندق الذي حفر حول المدينة ، و عموما ما استخدمه و هيأه الرسول من الوسائل و الاساليب للمعركة ، و لكن العامل الأمضى و الأهم أثرا هو الجنود التي لم يلحظها المسلمون بأعينهم ، و إنما جاءت إشارة القرآن الى هذا العامل الحاسم في الانتصار بهدف اعطاء الثقة للرساليين عبر الاجيال ، بانهم يجب ان يعتمدوا بعد الاستعداد و بذل قصارى الجهود ، على نصر الله لا على ذواتهم و وسائلهم المادية .

الحكمة الثانية : كما تؤكد الآيات على الابتلاء الذي يعرض الله له المؤمنين ، و انه من أهم أهداف الحروب و الغزوات ، فمنهم من يستفيد من البلاء و الابتلاء ، في تثبيت ايمانه ، و منهم من يتزلزل و لكنه يعود ليصلح مسيرته ، و منهم من ينهارتماما ، و المؤمن الذي يسقط ثم يعود الى الصواب ثانية ، قد يكون أقدر على الاستمرار ، من الآخر ، الذي لم يسقط ولا مرة ، لانه جرب السقوط ، فعرف كيف يجب ان يقوم لو سقط مرة أخرى ، كالجسم الذي يبتلى بجرثوم معين ، ثم يطيب منه ، فانه يكتسب شيئا من المناعة ضده، لو عاوده من جديد ، لكن هذا الجرثوم نفسه قد يفتك بالآخرين الذين لم يبتلوا به ، و بالتالي لا يملكون مناعة ضده .

و الــذي يصنعه الابتلاء للانسان المؤمن ، انه يطهر قلبه من أسباب الشك و التردد ، و يمكننا ان نحدد أهم أهداف الابتلاءات و المصاعب التي يعانيها الانسان في حياته في أمرين :

ألف : تمحيص قلوب المؤمنين .

باء : تمحيص المجتمع . ففي الظروف الصعبة كالحروب يفـرز المؤمن عن المنافق ، مما يكشف الواقع أمام القيادة ، و بالتالي يتسنى له ابعاد المنافقين من تجمعها " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " . (1)الحكمة الثالثة : تبين لنا الآيات أنواعا من التبرير و الاعذار التي يتشبث بها المنافقون من اجــل التستر على نواياهم ، و فرارهم من المسؤولية ، و من بينها قولهم : " ان بيوتنا عورة " فرارا من الحرب ، دون التفكير في صحتها . و على القيادة الرسالية ان تشخص الافكار التبريرية و تدحضها .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس