بينات من الآيات [ بسم الله الرحمن الرحيم ]
كما سبق و ان ذكرنا ، بان للبسملة معاني عديدة و دقيقة في كل سورة ، تتصل بموضوعها ، و ما يؤكد ذلك انها تنزل مع كل سورة بصورة مستقلة ، وهي هنا تعني : باسم الله تبدأ طريقك متوكلا عليه ، و باسمه تدخل الصراع فلا تخضع للضغوط ، و لا تستجيب للإغراءات ، و باسم الله تبني الأسرة الصالحة .
[1] [ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين و المنافقين ]و عادة حينما تأتي في القرآن أوامر صعبة ، و هكذا في النصوص الاسلامية يسبقها أو يلحق بها الوصية بالتقوى ، و السبب ان تطبيق الأوامر الصعبة و الإستقامة عليها يحتاج الى دافع قوي و إرادة صلبة ، يجدها المؤمن في تقوى الله .
واذ يستهل القرآن الحديث بهذه الآية الحادة ، و يسمي من يحاولون تثبيط الرسول عن المواجهة مع الكفار - في ظرف أحوج ما تكون الأمة الى الدفاع عن كيانها - بالمنافقين و الكفار ، لان الاستجابة لهؤلاء خطيرة جدا ، و من شأنها القضاء على الامة و الرسالة الاسلامية .
[ إن الله كان عليما حكيما ]
و تفيد الخاتمة هذه أمرين :
1 - ان الله يعلم أهداف المنافقين و الكافرين ، من ضغوطهم على الرسول ، و ما ينتهي اليه الأمر من فساد لو يطيعهم ، فهو حكيم اذ ينهى نبيه (ص) عن الخضوع لهم .
2 - ان الله حين يذكر هاتين الصفتين بعد ان يأمر بالتقوى و ينهى عن طاعة المنافقين و الكافرين ، فلأن التقوى تنبع من إحساس الانسان بإحاطة الله له علما ، و لأن الطاعة تأتي من الاعتقاد بأن الذي يأمره حكيم في أمره .
[2] ان هدف هؤلاء من الضغط على الرسول هو صده عن رسالة ربه لهذا حث القرآن بعد ان نهى النبي عن الطاعة لهم ، على الالتزام بالوحي فقال :
[ و اتبع ما يوحى إليك من ربك ]
يتجلى واقع القيادة في الظروف الصعبة فيعرف مدى توكلها على الله ، و وعيها للامور ، و تصديها لمسؤولياتها .
فالقيادة الرسالية هي التي تتبع أمر الله و رسالته ، و تستقيم عليها ، في مختلف الظروف ، دون ان تستجيب لما يقوله الآخرون مما هو مخالف للرسالة ، و هنا نؤكد بان الضغط الذي تواجهه القيادة داخليا ، من قبل المجتمع بقطاعيه العام أو الخاص ، أشد و أصعب من الضغط الخارجي ، لان انهيار الجبهة الداخلية التي تعتمدها القيادة أخطر من أي شيء آخر ، و دور القيادة و أهميتها تبرز في تصديها لعوامل هذا الانهيار و علاجها له ، و ليس الانسيـاق معه . و حينما يعتبر القرآن الشورى ضرورية و يأمر بها القيادة الرسالية ، لا يغفلحقيقة هامة ، اذ يقول : " و شاورهم في الأمر فاذا عزمت فتوكل على الله " فالقيادة هي التي تعزم و تقرر ، و لكن ليس وفق اهواء الآخرين ولا حتى اهوائها ، انما وفق هدى الله و وحيه .
[ إن الله كان بما تعملون خبيرا ]
و كفى بهذا باعثا للانسان نحو تقوى الله و خشيته .
و لعل اسم الخبير يوحي بمعرفة حقيقة العمل صالح او فاسد .
[3] [ و توكل على الله ]
لكي تتمكن من الاستقامة ، و تحدي ضغوط الآخرين .
[ و كفى بالله وكيلا ]
و قد تكررت هذه الفكرة عشرات المرات في القرآن ، أن يذكر الرسول بالتوكل و عدم اتباع اهواء الآخرين ، فليست مشكلة القائد ان يتبع هواه ، بمقدار ماهي اتباع اهواء المحيطين به ، لانه يجسد الروح الجمعية في من يقودهم ، فهو عادة ما يتجرد عن هواه ، و لكنه يخضع لاهواء تلك الروح التي يجسدها بقيادته ، و لذلك نجد التعابير القرآينة تؤكد على هذا الخطر : " و لا تطع الكافرين و المنافقين " (1) ، " ولا تتبع اهواءهم و احذرهم ان يفتنوك " (2) ، " و لا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق " (3)... الخ .
[4] ثم يظهر السياق رفض الاسلام للإزدواجية في الشخصية اذ يقول :
[ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ]
(1) الاحزاب / 1
(2) المائدة / 49
(3) المائدة / 48
فاما ان يتلقى توجيه المنافقين و الكفار ، أو يتبع رسالة الله ، أما الالتقاط فهو مرفوض في منطق الاسلام ، فكما ان قلب الانسان واحد و عواطفه واحدة ، كذلك يجب ان تكون حياته منسجمة مع بعضها ، و بتعبير آخر يجب ان يرعى البشر الفطرة التي خلقها الله فيه ، وهو يضع القوانين لنفسه . و يربط القرآن بين هذه الفكرة و بين قوله تعالى حاكيا عن الأسرة :
[ و ما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ]
فكما لم يجعل الله لرجل قلبين في جوفه ، فلا يستطيع أن يحب و يكره رجلا بصورة شاملة في آن واحد ، ولا ان يفكر في أمور متعددة في وقت واحد ، كذلك لا يمكن ان يجعل زوجته و أمه امرأة واحدة ، فيجب ان يكون الامر حسب الواقع الفطري الطبيعي لا حسب ما يقرر الشخصنفسه .
و الظهار الذي تشير اليه الآية هو قول الرجل لزوجته : انت علي كظهر أمي ، أو كظهر أختي . و هذه من العادات الجاهلية ، كما توجد عادة أخرى و هي جعل الآخرين ابناءا لمن يتبناهم ، لكن القرآن لا يقرها بل يرفضها .
[ و ما جعل أدعياءكم أبناءكم ]
فالابن لا يصير دعيا لوالده ، و الدعي لا يصير ولدا لمن يدعيه ، و تبين الآية ان هذه العادة ليست مما يتفق مع تعاليم الله ، و لا فطرة البشر ، انما هي من بنات افكار الناس أنفسهم :
[ ذلكم قولكم بأفواهكم ]
و لو عدتم الى قلوبكم و فطرتكم لرفضتم ذلك ، و قلب الانسان لا يمكن ان يحسفي داخله بان الدعي ولدا له ، و لو قال ذلك الف مرة بلسانه ، لان القلب شيء آخر يميز الابن الحقيقي عن غيره ، و لا يتمكن ان يخرق القوانين الفطرية ، ببعض القوانين الاعتبارية ، لأنها تفقد قدرة التنفيذ باعتبارها ظاهرية لا قلبية .
[ و الله يقول الحق ]
و الحق هو القانون الفطري ، و الحقيقة الخارجية ، و هذه صفة القرآن فهو كتاب الله الذي ينطبق على كتاب الطبيعة ، فكما تذكرنا الطبيعة بآيات القرآن و تهدينا لها ، فان الله يذكر عبر آياته بسننها و قوانينها .
[ وهو يهدي السبيل ]
السليم ، و الصراط المستقيم ، و ( ال ) التعريف تحدد هذا السبيل ، انه ليس اي سبيل كان ، بل هو السبيل القويم .
[5] ثم يبين القرآن حكم اللقيط ، و هو يخالف ما عليه الجاهلية من نسب اللقيط الى من يربيه و يتبناه حيث يقول :
[ ادعوهم لأبائهم ]
الحقيقيين الذين انحدروا من صلبهم .
[ هو أقسط عند الله ]
أصح لانسجامه مع شريعة الله ، و فطرة البشر ، بينما كان الجاهليون يخالفون هذا الأمر و ينسبون الرجل الى من تبناه ، حتى لو كان أبوه شخصا آخر ، و كان من عادتهم اذا افتقر احدهم أن يدفع أولاده الى من يعولهم فيصير الآخر والدهم في عرفالناس ، و لكن هل يغير هذا من الواقع الفطري شيئا ؟ كلا .. فأبو طالب حينما اعطى ولده عليا (ع) للنبي (ص) بسبب فقره ، لم يصبح عليا ولد الرسول ، و كذلك الأمر بالنسبة لزيد ابن حارثة ، الذي نسبه الناس للنبي ، فأنزل الله آية في أمره . (1)[ فإن لم تعلموا ءاباءهم ]
و تعرفوهم .
[ فإخوانكم في الدين ]
اخوة سببيون و ليس نسبيين ، فهم لا يرثون منكم .
[ و مولاكم ]
و المولي هو الشخص الذي ينتمي الى عشيرة أو أسرة ، لانه لا عشيرة له ، فيسمى مولى لهم ، و يختلف عن العبد بانه صاحب ولاية ، وله تسميات أخرى كالدخيل و اللحيق . اذن فعدم معرفة والده ، لا يغير من الواقع شيئا .
[ و ليس عليكم جناح ]
أي ذنب .
[ فيما أخطأتم به ]
أيام الجاهلية ، لأن الاسلام يجب ما قبله ، أو إذا أخطأتم الآن اذا لم يكن عن عمد .
(1) الاحزاب / 37
[ و لكن ما تعمدت قلوبكم ]
في نسبة الابناء الى غير آبائهم الحقيقيين ، فذلك محاسبون عليه .
[ و كان الله غفورا رحيما ]
يغفر للعبد اخطاءه ، اما الانحرافات المتعمدة ، و التي يصر عليها فانها لا تغفر .
[6] وفي الآية الاخيرة من هذا الدرس يركز القرآن على فكرة حساسة و ذات أهمية بالنسبة للمجتمع المسلم ، في أبعاد حياته المتعددة ، حيث يبين بأن القانون الرسالي يقتضي ان تكون القيادة الرسالية مقدمة على كل شيء ، اما الأسرة فهي تأتي في المرتبة الثانية ، فاذا ما تعارض قرار القيادة مع قرار الأسرة فالواجب اتباع القيادة ، لانها أقرب الى كل فرد فرد من أبناء المجتمع و التجمع ، بل هي أقرب للفرد من نفسه ، وفي مجمع البيان ان النبي (ص) " لما أراد غزوة تبوك أمر الناس بالخروج قال قوم : نستأذن اباءنا و امهاتنا ، فنزلت هذه الآية " (1)
[ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم ]وفي المرتبة الثانية تكون العلاقة الاسرية هي الاسمى .
[ و اولــوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين و المهاجرين ]أما الرحم الذي لا يتصل معك بعلاقة الدين فهو مقطوع في الاسلام ، كالارحام التي لم تكن تهاجر أو الرحم الكافرة ، ولا يعني هذا ان يؤذي المسلم والديه أو(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 237 - رقم 13
عموم رحمه لكفرهم ، بل ان القرآن يحث على الاحسان اليهم ، فهم ان انقطعت معه علاقتهم الدينية فإنه تجمعه بهم العلاقة الانسانية التي يقرها الاسلام .
[ إلا ان تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ]
فذلك يقبله الله ، و يشجع عليه القرآن .
[ كان ذلك في الكتاب مسطورا ]
إنه قانون مسطور في كتاب الله .
|