فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[21] يدعي بعض المنافقين أنهم قادة ، و ان من صفات القائد في تصورهم أن لا يدخل المعركة ولا يضحي بنفسه ، بل يجلس بعيدا عن الصراع ليصدر الأوامر فقط ، لكن القرآن يؤكد بأن القيادة الحقيقية تتمثل في رسول الله (ص) و أن حياته يجب ان تكون نموذجا لنا نقتدي به ، و السبب انه كان الأمثل في كل حقل فهو الأشجع و المقدام في الحروب ، و صورة مناقضة للمنافق فهو يعمل أولا ثم يأمر الناس ، و كان الإمام علي (ع) المعروف بشجاعته و اقدامه يقول عنه :

" كنا اذا احمر الباس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلم يكن أحد منا أقرب الى العدو منه " (1)و اذا قرر الحرب كان اول من يلبس لامتها ، فبعد ان وضعت حرب الخندق أوزارها ، و عادت قريش أدراجها منهزمة ، عاد الرسول الى بيته - و كان الوقت بعد الظهر - فوضع الحرب و استحم لصلاة العصر ، و قبل الدخول فيها نزل عليه جبرئيل (ع) وقال له : يا محمد ! وضعت لامة الحرب ونحن ( اي الملائكة ) لم نضعها ؟! فعرف النبي انه يجب ان يبادر لحرب بني قريظة الذين ساعدوا كفار قريش في حرب الخندق ، و نقضوا بذلك عهدهم مع الرسول (ص) فسرعان ما لبس لامة حربه و قال للمسلمين : لا نصلى العصر الا في بني قريظة ، فمشى المسلمون الىهناك ، و حاصروا قلاعهم خمسة و عشرين يوما ، الى ان استسلموا و عاد المسلمون الى المدينة ، و هكذا كان الرسول هو السباق الى الخيرات ، كما كان القمة السامقة في كل فضيلة و مكرمة ، فهو الذي يحب التأسي و الاقتداء به لا المنافقين .

[ و لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ]


(1) نهج البلاغة / خ 9 - ص 520


و لكن هل يتمكن من الاقتداء بالرسول كل أحد . كلا .. بل الذي ارتفع بإرادته و روحه و سلوكه عن حطام الدنيا ، و تطلع الى الآخرة .

[ لمن كان يرجوا الله و اليوم الآخر ]

اما الذي يكون هدفه شهواته أو زينة الدنيا ، فانه لا يستطيع الإقتداء بالرسول (ص) الذي اخلص نفسه و وجهه لله ، و زهد في درجات هذه الدنيا الدنية ، و زخرفها و زبرجها .

اما الصفة الاخرى لمن يتبع الرسول فهي : تذكر غايته الاساسية و هي رضوان اللـــه ، و الاستقامة عليها ، و حين يعرف الانسان وجهته يعرف - بوضوح - سائر أهدافه ، و تتــوضح له استراتيجياته و معالم سلوكه ، إذ يجد المعيار السليم لمعرفة كل ذلك . و هكذا يعطي ذكر الله ضمانة للإنسان حتى لا ينحرف عن أهدافه التي تجمعها كلمة واحدة هي رضوان الله .

[ و ذكر الله كثيرا ]

[22] و بعد ذلك يثنى السياق على أهم صفات المؤمنين ، و التي تناقض صفات المنافقين و أهمها :

أولا : انهم لا تكسرهم الأزمات ، و لا ينهزمون أمام الصعوبات مهما كانت ، فهم يعرفون بأن ذلك كله من طبيعة طريقهم ( ذي الشوكة ) فكلما رأوا المصاعب تتزاحم في طريقهم كلما ازدادوا يقينا بصحة طريقهم ، و تسليما لربهم و قيادتهم .

و لعل المؤمن يبحث عن ساعة حرجة يجرب فيها نفسه ( ايمانه و إرادته ) و بالتالي يظهر فيها كفاءاته الرسالية الحقيقية لوجه الله .


[ و لما رءا المؤمنون الأحزاب ]

لم ينهزموا كما فعل المنافقون ، بل ازدادوا يقينا بخطهم .

[ قالوا هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله ]و من هذا نستفيد ان التربية الرسالية السليمة هي التي تصارح الانسان بطبيعة المسيرة ، و انها محفوفة بالمخاطر على صعيد الدنيا ، مما يساعد الفرد على الاستقامة حين الازمات و المصاعب ، لانها حينذاك لن تكون مفاجئة له ، بل سيعتبرها أمرا طبيعيا و قد استعد لها فهي مما تزيده تثبيتا على طريقه ، لهذا كان المؤمنون يزدادون إصرارا على مواصلــة الدرب برغم الواقع الصعب حيث كان العدو قد جمع لهم ، و جاء لحربهم بكل قوته ، و برغم الحرب النفسية التي كان يشنها المنافقون ضدهم .

و حين يرى المؤمنون الصعوبات و الأزمات وقد وعدهم الله ورسوله بها يتيقنون بالفرج لأنهم وعدوا به ايضا ، و تحقق الوعد الأول يدل على تحقق الآخر .

[ قالوا هذا ما وعدنا الله و رسوله ]

ردا على المنافقين ، و اخمادا لأهواء النفس .

ألم يعدهم الرب سبحانه بالمواجهة التي تنتهي بالنصر المؤزر ، ان اعظم عامل للصمود في الظروف الصعبة التنبأ بها ، والاستعداد النفسي مسبقا لمواجهتها ، و ها هم المؤمنون في هذا المستوى ، و كما النار تفتتن الذهب ، و كما المبرد يلمع زبر الحديد ، كذلك مواجهةالمشاكل تستخرج معدن المؤمن الصافي ، و تجلي نفسه من ادرانها ، هكذا زادت الحرب مع الاحزاب ايمانهم و تسليمهم .

[ و ما زادهم ]


تجمع الاحزاب ، و تخذيل المنافقين و توهينهم .

[ إلا إيمانا ]

بالله ، و رسالاته ، و الصراط المستقيم الذي هم عليه .

[ و تسليما ]

لربهم و قيادتهم ، و حينما ندرس حياة الشعوب نجدها نوعين : فبعضها حينما يتعرض للضغوط و التحديات ينهار ، و البعض الآخر - على العكس تماما - يزداد قوة و ثباتا ، و تحديا ، و يعود هذا الاختلاف لنوعية الثقافة التي يؤمن بها و يمارسها كلا النوعين . فبينما يمارس النوع الاول ثقافة الانهزام ، يمارس النوع الثاني ثقافة التحدي ، و المؤمنون الحقيقيون هم الذين يتمسكون بثقافة التحدي ، فاذا بهم كلما تراكمت العقبات و المشاكل أمامهم كلما فجروا طاقاتهم ، و سدوا ثغراتهم ، و استعدوا لمواجهتها ، كما انهم عند المصاعب يكتشفون أنفسهم ، و الطاقات التي أودعها الله فيهم ، و يستثمرون كل ذلك في سبيل الانتصار على الأزمات و التحديات .

[23] ثانيا : انهم لا يفكرون في أنفسهم كافراد ، انما كقيم و تجمع و أمة ، فلا يفكر احدهم في ذاته ، و انه ربما يقتل في المعركة ، انما يقول : اذا قتلت فسوف يأتي الأخرون و يتابعون مسيرتي ( فالمهم عنده ان تنتصر القيم ، لا ان ينتصر هو نفسه ) واذا بقيت فسوف أرث الشهداء الذين أريقت دماهم في هذا الطريق ، و أتابع دربهم ، و أفي بحقوقهم ، فأنا مسؤول أمام الله عما أرثه من دماء الشهداء . فشعور المؤمن اذن شعور اجتماعي لا فردي .

[ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم منقضى نحبه ]

و صار شهيدا في سبيل الله .

[ و منهم من ينتظر ]

لقاء الله و يستعد له ، فالمؤمنون متماسكون كالبنيان المرصوص ، بعضهم يمضي و يبقى البعض الآخر ليكمل مسيرته ، دون ان يفكر احدهم في نفسه و شهواته ، و يقول لماذا انا الذي اقتل وليس فلان ؟ و لماذا انا الذي اقتل و يبقى فلان يتنعم بالنصر و المكاسب ؟ كلا ..
فالقضية قضية صراع مستمر كل واحد يؤدي دورا معينا فيه ، و المجموع الكلي هو المهم عندهم جميعا ، و هذا نابع من اعتقاد المؤمنين بانهم باعوا أنفسهم لله ، فهم لا يملكونها ، و لا يحق لهم ان يفكروا في مصالحها ، انما يتصرف فيها ربهم و قائدهم حسبما تقتضيه القيم الالهية ، فهم مسلمون الامر لله و لقيادتهم ، و هذا الايمان هو الذي يبعث فيهم الاستقامة و الصمود في الطريق .

[ و ما بدلوا تبديلا ]

[24] و بعد هذا العرض الصريح و المختصر لجانب من صفات المنافقين و بعدهم المؤمنين ، يشير السياق القرآني اشارة الى جزاء كل من المؤمنين و المنافقين اذ يقول :

[ ليجزي الله الصادقين ]

و لكن ليس بانتمائهم الاجتماعي الظاهر لحزب المؤمنين ، بل بعملهم الذي يتجانس مع تسميتهم و انتمائهم الحقيقي .

[ بصدقهم ]


و تعالى الله ان تختلط عليه الاوراق ، بلى . نحن البشر قد تغرنا المظاهر ، فنسمي أنفسنا او الآخرين بالصادقين ، لمجرد حضورهم في تجمع مؤمن ، و لكن الله و هو عالم الغيب و رب العالمين لا يعزب عنه مثل ذلك .

[ و يعذب المنافقين إن شاء ]

بنفاقهم في كلامهم و عملهم .

[ أو يتوب عليهم ]

اذا صححوا مسيرتهم ، و عادوا عن النفاق الى الايمان .

[ إن الله كان غفورا رحيما ]

فهو يقبل التوبة الصادقة ، لانه لم يخلق الناس ليعذبهم ، بل ليرحمهم كما في الآيات و الاحاديث .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس