بينات من الآيات [49] اذا عقد المؤمن على امرأة ، ثم طلقها من قبل ان يمسها ، فلا تجب عليها العدة ، بل يجوزر لها ان تتزوج بعد الطلاق مباشرة ، و اذا كان فرض لها مهرا محددا وجب عليه دفع النصف لها ، و عند كون المهر محدد ، فان لها عليه ان يمتعها بان يدفع لها شيئا من المتاع ذهبا أو مالا أو لباسا مما يجبر كسر شأنها عند قريناتها .
[ يا أيها الذين ءامنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل ان تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن و سرحوهن سراحا جميلا ]من دون نزاع او جدل ، او تهمة يلقيها كل طرف على الآخر ، تبريرا للفرقة ، أو تشفيا من صاحبه ، و هذا الأمر ينبغي ان ينسحب على جميع العقود و المعاملات الاجتماعية و المالية و غيرهما .
[50] ثم ينتقل السياق لبيان بعض احكام الزواج بالنسبة للرسول (ص) فالزواج من الشؤون البشرية التي ينبغي للانبياء الاهتمام بها ، باعتبارهم الأسوة للناس في سائر الجوانب حتى الاجتماعية منها ، فليس من الصحيح ان يجد الرسول غضاضة ولا حرجا في الزواج لكونه نبيا أو قائدا ، و هذا ما أكدته الآية الكريمة : " ما كان للنبي من حرج فيما فرض الله له " و الزواج الذي يحل للرسول (ص) على أنواع ثلاث :
الأول : ما يلتقي فيه مع الناس من جهة ، و يختلف معهم من جهة أخرى ، و هو الزواج العام فتحل المرأة للرسول كما لسائر المؤمنين بعد العقد و المهر ، بينما يختلف الرسول عن غيره في جواز زواجه بأي عدد شاء من دونهم ، اذ لا يحل لهم الزواج الدائم باكثر من اربعنساء .
[ يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي ءاتيت أجورهن ]و عـــن ابي عبد الله (ع) عن حمادة الحلبي : سألته عن قول الله عز و جل : " يا أيها النبي انا أحللنا لك ازواجك " قلت : كم احل له من النساء ؟ قال : " ما شاء من شيء " . (1)(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 291
الثاني : ما يتفق فيه مع سائر المؤمنين ، و هو الزواج من الإماء و الأقرباء .
[ وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ]
و الأمة : هي المرأة التي يتملكها الرجل بالأسر أو الشراء ، و لا يكتفي الله بالتعبير " وما ملكت يمينك " انما يضيف " مما افاء الله عليك " وذلك ليقول للرسول و لنا ايضا : بان الزواج لا يتم من غير ثمن ، فهو ان لم يكن بالاجر ( المهر )فبالأسر ، و كلاهما فيه تعب و صعوبة .
و مما يجوز للرسول الزواج منهن القريبات اللاتي تربطه بهن العلاقة العائلية .
[ وبنات عمك و بنات عماتك وبنات خالك و بنات خالاتك التي هاجرن معك ]أما التي لا تهاجر مع الرسول (ص) ، و تبقى في مكة فلم يكن جائزا له الزواج منها .
الثالث : ما ينفرد به النبي عن سائر المؤمنين وهي المرأة التي تهب نفسها له ، فانه يجوز له الزواج بها من دون أجر .
[ و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي ان يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ]و في تضاعيف الكلام يلاحظ انسجام التعابير مع تخصيص المورد للرسول وحده ، فقد تكررت كلمة " النبي " مرتين في موقع يمكن الاستغناء عن الثانية لولا هذا الأمر ، ثم أكد ربنا : " خالصة لك " تحديدا للخطاب بأنه يعني الرسول (ص) وحده ، ولم يكتف بذلك انما صرح بانفراده بها ، اذ قال " من دون المؤمنين " .
قال الحلبي : سألت ابا عبد الله (ع) عن المرأة تهب نفسها للرجل ينكحها من غير مهر ؟ فقال :
انما كان هذا للنبي (ص) فاما لغيره فلا يصلح هذا حتى يعوضها شيئا يقدم اليها قبل ان يدخل بها ، قل أو كثر ، ولو ثوب او درهم و قال : يجزي الدرهم " (1)وعن محمد بن قيس عن ابي جعفر عليه السلام قال :
" جاءت امرأة من الأنصار الى رسول الله (ص) فدخلت عليه و هو في منزل حفصة ، و المرأة متلبسة متمشطة ، فدخلت على رسول الله (ص) فقالت : يا رسول الله ! ان المرأة لا تخطب الزوج و انا امرأة أيم (2) لا زوج لي منذ دهر ، ولا ولد ، فهل لك من حاجة ، فــانتك فقد وهبت نفسي لك ان قبلتني ، فقال لها رسول الله (ص) خيرا و دعا لها ، ثم قال : يا اخت الانصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا ، فقد نصرني رجالكم ، و رغبت في نساؤكم ، فقالت له حفصة : ما اقل حياؤك و اجرأك و انهمك للرجال ! فقال رسول الله (ص) : كفي عنها يا حفصة فانه خير منك ، رغبت في رسول الله فلمتيها و عبتيها ، ثم قـــال للمـــرأة : انصـــرفي رحمك الله . فقد اوجب الله لك الجنة لرغبتك في ، و تعرضك لمحبتي و سروري ، و سيأتيك أمري ان شاء الله ، فانزل الله عز وجل : " و امرأة مؤمنة ان وهبت نفسها للنبيان أراد النبي ان يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين " قال : فاحل الله عز و جل هبة المرأة تفسها لرسول الله و لا يحل ذلك لغيره " (3)(1) المصدر / ص 291
(2) الايم : التي لا زوج لها ، بكرا كانت أو ثيبا .
(3) المصدر / ص 292
و تأكيد رابع يضيفه القرآن بان هذا الحكم يخص الرسول وحده حين يقول ، بان للمؤمنين احكاما خاصة تختلف عن أحكام النبي في الزواج .
[ قد علمنا ما فرضنا عليهم في ازواجهم ]
من وجوب المهر ، فلا يمكن لأحد غير النبي ان يتزوج امرأة من دون مهر أبدا ، و السبب أن المهر فرض للمرأة ، ضمانا لها ضد شهوة بعض الرجال ، و الرسول معصوم أن يحيف زوجته أو يظلمها ، و اذ ينتهي الحديث لهذه الفكرة فمن أجل رفع الحرج عن النبي (ص) حيث خص دونغيره ببعض الأمور ، تبين ذلك الآية الكريمة :
[ لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما ]
[51] و هكذا ينساب السياق مبينا جانبا من حدود العلاقة الزوجية عند الرسول حيث يقول :
[ ترجي من تشاء منهم و تئوي اليك من تشاء و من ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن و يرضين بما ءاتيتهن كلهن و الله يعلم ما في قلوبكم و كان الله عليما حليما ]وقد انقسم المفسرون في هذه الى فريقين :
الاول : ربطها بما قبلها ، و قال ان الآية " ترجي من تشاء منهن و تؤوي اليك من تشاء " يخــاطب الرسول : بانك حر ترفض من تهب نفسهــا اليك ، أو تقبلها و تتزوجهــا ، و استندوا في رأيهم هذا الى خبر عن الحلبي عن ابي عبد الله (ع) ، قال : قلت : أرأيت قوله : " ترجي من تشاء منهن و تؤوي إليك من تشاء " قال :
" من أوى فقد نكح ، و من أرجى فلم ينكح " (1)الثاني : فسرها بحرية الرسول (ص) في تقسيم وقته على زوجاته كيفما يشاء ، و ليس كما ترى زوجاته ، أو على أساس قانون معين له .
و انسجاما مع هذا الرأي يكون تفسير الآية : انك يا رسول الله تستطيع ان تنام عند من تشاء من زوجاتك ، و تترك الآخريات " ترجي من تشاء منهم و تؤوي اليك من تشاء " بل انـت حــر لو عينت ليلة ما لزوجة ما ثم بدا لك ان تغير الوقت ان تفعل بما تراه " و مــن ابتغيت ممن عزلت فلا جنــاح عليــك " و هذا الأمر يرفع احتمال النزاع بين زوجات الرســـول لعلمهن بأن الأمر بيده لا بأيديهــن ، " ذلك أدنى ان تقر أعينهن ولا يحزن .. ألخ " .
[52] و كما كانت الآيات السابقة قد أحلت للرسول بعض الأمور ، جاءت هذه الآية لتحرم عليه أمورا أخرى .
[ لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك و كان الله على كل شيء رقيبا ]و في هذه الآية اقوال عديدة :
1 - ان الآية جارية على ظاهر لفظها ، و معنى ذلك : لا يجوز للرسول بعد نزول هذه الآية ان يتزوج غير زوجاته التسع ، ولا ان يطلق احداهن ليتزوج غيرها ، باستثناء الاماء .
(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 293
2 - و هناك روايات تخالف هذا الرأي ، حيث تستنكر ان يجوز للانسان العادي استبدال زوجاته ، بينما يحرم ذلك على الرسول (ص) و تفسير الآية بانها تحرم عليه الزواج من غير النساء اللاتي حددتهن الآية السابقة ، " انا أحللنا لك ازواجك اللاتي اتيت اجورهن وما ملكت يمينك .. الآية " و بناء على المعنى الأول فقد أوقف الله حرية الرسول (ص) في الزواج ، و ذلك ليعرفنا ان تزوج النبي لم يكن بهدف الشهوة انما لأهداف نبيلة أخرى ، فمرة يتزوج امرأة بعد ان جربت الحياة الزوجية التي انتهت بالطلاق عدة مرات من أجل ان يستر عليها ، و يتزوج بثانية لكي يستميل عشيرتها ، و بثالثة من اجل ان ينقض عادة جاهلية قائمة في المجتمع تقضي بحرمة الزواج من مطلقات الادعياء .
[53] ثم يبين الله بعد ذلك العلاقة بين الرسول و من يحضر الى منزله محددا بعض الاحكام و الاداب التي تمس هذه العلاقة .
[ يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا إن يؤذن لكم الى طعام غير ناظرين إناه ]1 - الدخول الى بيت النبي يجب أن يكون مسبقا بإذن .
2 - و عند الدعوة الى الطعام يجب ان لا يدخل مسبقا ، و ينتظر أوان الطعام ، لأن من آداب الأكل في بيوت الآخرين أن ياتي في الوقت المناسب ، و ذلك لان المجيء أول النهار و انتظار الغذاء يسبب الازعاج لصاحب البيت ، و قد جاء في السيرة : ان رسول الله (ص) أولمعلى زينب بتمر و سويق ، و ذبح شاة ، فأمر أنسا ان يدعو اصحابه ، فترادفوا أفواجا ، فوج يدخل فيخرج ، ثم يدخل فوج ، الى ان قال ، يا نبي الله ! قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه ، فقال : ارفعوا طعامكم ، و تفرق الناس و بقي ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا ، فقام رسولالله - صلى الله عليه وآله -
ليخرجوا ، فطاف بالحجرات ، فرجع فاذا الثلاثة جلوس مكانهم ، و كان - صلى الله عليه وآله - شديد الحياء ، فتولى ، فلما رأوه متوليا خرجوا و نزلت الآية . (1)3 - ولكن اذا دعيتم فادخلوا ، و لا يمنعكم الحياء من الاستجابة للرسول .
[ فإذا طعمتم فانتشروا ]
ولا تطلبوا الجلوس عند النبي حتى لو كان بهدف نبيل ، كالاستفادة من حديثه ، أو حديث بعضكم مع بعض .
[ ولا مستئنسين لحديث ]
ثم يبين القرآن خلفية هذا النهي : بأن الجلوس ربما يؤدي الى احراج الرسول و اذاه ، بما ينتهي اليه من آثار سلبية على برنامج حياته العائلية أو السياسية .. الخ .
[ إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم و الله لا يستحي من الحق ]4 - وعلى الضيف ان يراعي حرمة البيت الذي يحل فيه ، فلو اضطرته الحاجة للتعامل مع أهله من النساء يجب ان يتعامل معهن بأدب ، و بمقدار حاجته ، ومن وراء حجاب ، فبعد نزول هذه الآية صار حراما على المؤمنين التحدث مع نساء الرسول الا بهذه الكيفية .
[ وإذا سألتموهن متاعا فسئلوهن من ورآء حجاب ]
اما عن حكمة هذا التشريع فهي الوقاية من الذنب ، و التي لا تتم الا بطهارة(1) جوامع الجامع للعلامة الطبري / ج 2 - ص 333
القلب ، و هذه الطهارة لا تتأتى الا بابتعاد الانسان عن اسباب المعصية ، و التي من بينها حديث المرأة مع الرجل و بالذات اذا لم يكن ثمة حجاب بين الطرفين ، ذلك ان من طبيعة المرأة كما من طبيعة الرجل ان يميل أحدهما للآخر بالغريزة ، و لعل الحديث بينهما بغير الصورة التي تهدي لها الآية ينتهي الى المعصية .
[ ذلكم أطهر لقلوبكم و قلوبهن ]
و لأن الرسول كان يدرك هذه الحقيقة لم يكن ليتقبل هذه الحالة ، بل كانت تلحق به الأذى النفسي .
[ و ما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ]
و لكي يقطع الله الطريق على القلوب المريضة ، و بالتالي ينهي هذه المشكلة التي تؤذي الرسول ، حرم الزواج من نسائه بعده .
[ و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده ]
و مع ملاحظة ظروف نزول الآية نعرف ان هذا الحكم يختص بنساء النبي اللاتي تعرضن لأذى المنافقين ، حيث طمع بعضهم في الزواج منهن بعد الرسول ، و صرح بذلك بوقاحة ، فحرم الله ذلك عليهم .
ان احترام بيت الرسالة كان يقتضي عدم ظهور نساء الرسول في المواقع العامة ، و عدم تحدثهن مع الرجال الا من وراء ستر ، بينما يحل مثل ذلك لغيرهن إذا حافظن على حدود الستر و العفاف .
قال علي بن ابراهيم : لما أنزل الله : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و ازواجه امهاتهم " و حرم الله نساء النبي على المسلمين ، غضب طلحة فقال : يحرم محمد علينانساءه ، و يتزوج هو نساءنا ؟! لئن امات الله عز و جل محمدا لنركضن بين خلاخيل نسائه كما ركض هو بين خلاخيل نسائنا ، فأنزل الله عز و جل : " و ما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ولا ان تنكحوا ازواجه من بعده ... الآية " (1)و ربما كان هدف هؤلاء المنافقين هو ايذاء الرسول الا انهم يخفون هذه النوايا ببعض التبريرات كقولهم : لماذا يتزوج هو بنسائنا ، و لا يصح لنا العكس ، فهددهم الله من طرف خفي اذ قال :
[ إن ذلكم كان عند الله عظيما ]
و هناك حكمة أخرى لهذا التشريع الالهي يذكره بعض المفسرين : ان مركز نساء النبي العظيم كان يستهوي الطامعين في السلطة أو الشهرة ، و كان امثال هؤلاء يمنون أنفسهم بنكاح ازواج النبي من بعده للحصول على مكانة اجتماعية تستغل لأطماع سياسية ، ولعل بعضهم كان ينوي نشر أفكاره من خلال ذلك بادعاء أنه أضحى من أهل البيت و هم أدرى بما في البيت .
و لعل الآية تشير - من طرف خفي - الى عدم جواز استغلال مكانة ازواج النبي للوصول الى مراكز سياسية أو اجتماعية كما حصل فعلا - ومع الأسف - بين المسلمين من بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وآله - .
[54] ثم كشف هذا الواقع ، و أكد للمنافقين أنه يعلم به .
[ إن تبدوا شيئا ]
بالتصريح به .
(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 298
[ أو تخفوه ]
بمختلــف المظاهر و التبريرات التي تخدعون بها الناس الذين لا يعلمون إلا الظاهــر .
[ فإن الله كان بكل شيء عليما ]
و أخيرا :
فان هذه الآية الكريمة - و كما أشرنا في بدايات الدرس - تصلح أن تكون نبراسا للمسلمين في كل مكان في علاقتهم مع قيادتهم ، فيحترمونها ، و يفرضون على أنفسهم حقوقا لها ، لكي يستطيع القائد تقديم أكبر قدر من الخدمة للأمة ، و لمبادئها و اهدافها .
|