فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[34] يبدو أن أغلب المترفين - وهم الذين نعمهم الله فأسرفوا - معاندون ، و يكفرون بالرسالات ، بل و يحملون لواء الحرب ضدها .

[ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ]و لعل القرآن عبر في هذه الآية بكلمة " قرية " عن المدينة ، بل عن الحضارة بأجمعها ، استصغارا لها ، و لأن من لا يعبدون الله ، ولا يتبعون رسالاته في حياتهم و حضارتهم أقليه و ان كثرت أعدادهم ، ذلك أن القيمة الحقيقية للإنسان كما المجتمع بقربهمن الحق أو بعده عنده ، لا بما يملك من تقدم مادي بحت .

[35] اما لماذا يكفر هذا الفريق فذلك - كما يصرحون أنفسهم - للاسباب التالية :


الاول : كثرة الأموال و الأولاد ، و لعل التعبير كما الأموال لا يختص بظاهر الكلمتين انما تشمل كلمة الأموال كل أنواع الثروة ، كما تنطوي كلمة الأولاد أيضا على الأتباع و المطيعين .

[ و قالوا نحن أكثر أموالا و أولادا ]

إذ ان اول أهداف الرسل هو تغيير القوة السياسية الحاكمة على الناس ، و لكن المترفين يعارضون ذلك مبررين رفضهم بأن السلطة لا تكون لصاحب الحق و العلم ، انما للمترف بما يملك من المال و الاتباع .

الثاني : الاعتقاد بأن من يملك المال و الرجال لا يلحقه الأذى ، و لا يشمله العذاب الالهي ، حتى ولو فعل الفواحش .

[ و ما نحن بمعذبين ]

و لعل هذه الفكرة تكون سببا لتوغلهم في الجرائم ، لأن اعتماد الانسان على ما يملك من مال و مؤيدين ، بعيدا عن هدى الله و العقل يقحمه في المهالك ، و هذا ما دفع امريكا للدخول في حرب فيتنام ، فتمرغ أنفها ، و سقطت هيبتها المزيفة ، كما سقطت روسيا باحتلالهاافغانستان الاسلامية غرورا و استكبارا ، فتعرضت لهزائم منكرة على يد ابطال الاسلام هنالك .

وما يدريك لعل الغرور يكون سببا لانتهاء الجاهلية الحديثة ؟ فقد قال الامام علي (ع) يصف بعض الاقوام :

" زرعوا الفجور و سقوه الغرور ، و حصدوا الثبور " (1)(1) نهج البلاغة / خ 2 - ص 47


و قال (ع) :

" طوبى لمن لم تقتله قاتلات الغرور " (1)[36] و يعالج ربنا هذا الانحراف النفسي حينما يذكر بان ما في أيدي الناس من مال انما هو من عند الله لا من عند أنفسهم حتى يغتروا بها .

[ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر ]

فتارة يزيد الله الرزق للعبد حتى يكفيه و أكثر ، و تارة يضيق عليه فيه ، فالغنى و الفقر اذن بيده عز وجل ، و لعل غني اليوم يكون فقيرا غدا أو العكس ، الا أن الغالبية من الناس لا يعقلون هذه الحقيقة لأنهم لا يعلمون الا ظاهر الحياة الدنيا ، فيعتقدون مثلاأن سعيهم فقط يدر الرزق ، و لو تعمقوا في الحياة قليلا لعرفوا أن ذلك وسيلة فقط أما السبب الحقيقي فهو رحمة الله .

[ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ]

و لعل من مشاكل البشر العقلية و النفسية انهم لا يتدرجون في تعليل ظواهر الحياة لمعرفة العلة الأسمى و الارفع ، انما يقتصرون على الأسباب الظاهرة المباشرة .

[37] ثم لنفترض بأن المترفين يملكون الأموال و الأولاد ، فهل ذلك يقربهم بهم الى ربهم . كلا ..

[ و ما أموالكم و لا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ]بلى . من الممكن ان يكون المال و الاتباع وسيلة لرضى الرب ، و ذلك اذا بعث(1) غرر الحكم .


الايمان في القلب ، و تحول الى أعمال الخير و الصلاح ، فعمر بالمال الحرث و النسل ، و استخدمت القوى البشرية للدفاع عن المستضعفين و احقاق الحق ، و متى صار اصحاب المال و الاتباع بهذا المستوى عظم شأنهم عند ربهم بزيادة الخير لهم في الدنيا ، و اعطاهم الجنان والأمن في الآخرة .

[ إلا من ءامن و عمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف ]لايمانهم من جهة ، و لعلمهم من جهة أخرى ، و هذا ما يشير اليه الحديث الشريف :

" شكر الغني خير من صبر الفقير "

وفي تفسير القمي قال : ذكر رجل عند ابي عبد الله (ع) الاغنياء و وقع فيهم ، فقال ابو عبد الله (ع) :

" أسكت ! فان الغني اذا كان وصولا لرحمه ، بارا باخوانه ، أضعف الله له الأجر ضعفين لان الله يقول " و ذكر الآية " (1)أما جزاء الآخرة فهو الأمن من فزع يومئذ .

[ و هم في الغرفات ءامنون ]

[38] كان هذا جزاء الغني حينما يستخدم قدراته المادية و البشرية في سبيل اعلاء كلمة ربه ، اما اذا كان الغنى طريقا للجحود ، و لحرب الرسالات الإلهية ، فليس جزاؤه سوى العذاب الشديد .


(1) تفسير القمي / ج 2 - ص 203


[ و الذين يسعون في ءاياتنا ]

وهي القرآن ، و ما يتصل به من الحقائق المعنوية و المادية كالقيادات و آيات الطبيعة .

[ معاجزين ]

اي يجعلونها عاجزة عن بيان الحقيقة ، عبر إثارة الشبهات الزائفة حولها ، أو تفسيرها على غير وجهها .

[ أولئك في العذاب محضرون ]

أرادوا ذلك أو رفضوه .

و تتضمن الآية الكريمة معنيين :

المعنى الأول : ان المعاند الذي قرر الكفر بالله ، و السعي من أجل تحريف آياته ذاتها ، أو تأويل دلالاتها ، فانه حتى لو قرأ القرآن أو بحث عن الحقائق فليس للايمان بها و انما للبحث عن وسيلة لردها و معارضتها .

المعنى الثاني : أن المنحرف يستخدم كل قوة يملكها في غير أهدافها المشروعة ، فاذا بالمال الذي هدفه تقويم النظام الاجتماعي ، و تحريك الفاعلية الاقتصادية ، يصبح وسيلة لدمار المجتمع ، و إفساد الإقتصاد ، واذا بالسلطة التي هدفها اقامة العدل ، و بناء الحياةالفاضلة ، تصير أداة لفساد الأرض ، و هلاك الحرث و النسل " واذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد " (1)(1) البقرة / 205


واذا بالآيات التي هي وسيلة الهداية تضحى عندهم محورا للمعاجزة و للجدال العقيم ، فتزيدهم كفرا و طغيانا .

و حينمـــا نقرأ اليوم عن اقتصاد العالم نرى كيف صارت الثروة أداة لهدم الحضارة ، فميزانيات التسلح في هذا العصر تبتلع انتاج الحضارة البشرية ، و كل التقدم العلمي و التكنلوجي لديها ، فاذا بالمترفين و حفاظا على مصالحهم ، يلقون بالقنابل المدمرة على مدينةبنتها القوى و الفاعليات البشرية خلال عشرات السنين ، فتدمرها في بضع دقائق ، كما فعلت القنبلة الذرية في هيروشيما و نكزاكي ، أو كما فعلت قنابل الحلفاء في المدن الالمانية .

[39] اذن فما هو الموقف السليم من الآيات و الافكار السليمة ، و من الثروة و القوة و هما من آيات الله ؟

الجواب أولا : معرفة المنعم مقدمة لشكره النظري و العملي .

[ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر له ]فالذي يرى ان ربه هو الذي أعطاه ما يملك لا يكفر به ، ولا يحارب رسالاته ، و عباده الصالحين ، ولا يخشى من الإنفاق في سبيله ، بل يسعى لذلك إحساسا منه بالمسؤولية . أوليس القدرات و الإمكانات كما النفس امانة من عند الله ؟! فلماذا لا يردها حين يطلبها منه؟ بلى . سوف يعطيها راضيا مطمئنا لرزق ربه .

[ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ]

وذلك من ناحيتين :

الناحية الغيبية : قال رسول الله (ص) :


" ومن يبسط يده بالمعروف إذا وجده يخلف الله له ما أنفق في دنياه ، و يضاعف له في آخرته " (1)وقال ابو عبد الله (ع) :

" ان الرب - تبارك و تعالى - ينزل أمره كل ليلة جمعة الى السماء الدنيا من أول الليل ، وفي كل ليلة في الثلث الأخير ، و أمامه ملك ينادي : هل من تائب يتاب عليه ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل فيعطى سؤله ؟ اللهم اعط كل منفق خلفا ، و كل ممسك تلفا ، إلى أن يطلع الفجر ، فإذا طلع الفجر عاد أمر الرب - تبارك و تعالى - الى عرشه ، فيقسم ارزاق العباد " (2)و لعل الناحية الغيبية في خلف الرزق و مضاعفته تكمن في البركة الإلهية التي يسبغها على عبده ، و في التوفيق الى القرارات الصائبة ، و التصرفات المالية النافعة .

الناحية الطبيعية : ان ما يدفع الانسان للبحث عن حوائجه و من بينها المال هو الشعور بالحاجة ، و لا شك أن المنفق سوف يسعى بقواه العقلية و المادية من أجل التعويض عما أنفقه ، عبر تحريك المال من خلال المشاريع و الاعمال المختلفة .

و حتى ينفق الانسان في سبيل الله ، لابد ان يتعرف على كرم ربه عز و جل ، لهذا لم يكتف القرآن بذكر ما تقدم - من أن الله يخلف على من أنفق - انما أضاف .

[ وهو خير الرازقين ]


(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 340

(2) المصدر / ص 339


و الاحاديث تؤكد هذه الحقيقة ، قال رسول الله (ص) :

" من صدق بالخلف ، جاد بالعطية " (1)

و قال (ص) :

" من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة " (2)و هل يصدق بالخلف و يوقن به الا اذا عرف أن ربه خير الرازقين .

ثم لماذا لا ينفق الانسان ماله في سبيل الله وهو ان بقي لم ينتفع به ، و ان انفقه كان في سبيل الحق ، قال الامام الباقر (ع) للحسين ابن ايمن :

" يا حسين ! أنفق و أيقن بالخلف من الله ، فانه لم يبخل عبد ولا أمة بنفقه فيما يرضي الله عز و جل الا أنفق اضعافها فيما يسخط الله " (3)[40] هروبا من ثقل المسؤولية يتشبث البشر بأي تبرير ، ولابد من إبطال كل تبريراته ، ليتحمل امانته بصدق ، و ما عبادتهم للأصنام أو الملائكة أو الجن إلا صورة لهذه الحقيقة ، و يفند السياق هذه العبادة عبر ذكر الحوار الذي يجري بين الرب و بين عباده المكرمينمن الملائكة ، حيث يجمعهم هم و الذين زعموا أنهم يعبدونهم من المشركين ، ثم يخاطب الملائكة بما يوحي : كيف رضيتم بعبادة المشركين لكم ؟!

فيجيبون : أولا : نحن لا نتخذ من دونك وليا ، و بالتالي لا نرضى بعبادة أحد(1) المصدر / ص 239

(2) المصدر / ص 340

(3) المصدر / ص 240


لنا ، ثانيا : اذا كانت العبادة حقا هي الطاعة فانهم كانوا مطيعين للجن وليس لنا نحن الملائكة .

[ و يوم يحشرهم جميعا ]

المشركون و من عبدوهم .

[ ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ]

ولعل تقديم المفعول الذي يدل على الحصر يوحي بأن طبيعة العبادة لا تتجزأ ، فلو كانوا يعبدوا الملائكة حقا فلابد انهم كانوا يخلصون العبادة لهم .

[41] هنالك انكشف زيف ادعاء المشركين عبادتهم للملائكة اذ ...

[ قالوا سبحانك ]

لا يمكن أن نرضى بشريك لك ، فأنت الرب القدوس ، الذي لا شريك له .

[ أنت ولينا من دونهم ]

و يبدو أن معنى " الولي " هو القريب ، فيكون مراد الملائكة : انت الذي نتقرب اليك ، و لسنا نرضى بقرب هؤلاء الذين لا يسوى ولاؤهم لنا شيئا ، فما قيمة عبادة همج رعاع ، لا يضرون ولا ينفعون ؟!

و نستوحي من هذه الإجابة : ان علينا الا نرضى بطاعة الناس لنا إذا كانت تسخط الرب ، فان طاعتهم لا تغني شيئا عن عذاب الرب ، و ما قيمة طاعتهم إذا اسخطت ربنا الذي بيده نفعنا و ضرنا وهو بكل شيء قدير ؟!

ثم اشارت الملائكة إلى أن عبادة المشركين هي للجن في الواقع .


[ بل كانوا يعبدون الجن ]

فالعبادة هي الطاعة ، و بالطاعة تنعكس توجهات المعبود على سلوك العابد ، و بما ان سلوك المشركين المنحرف يعكس توجهات الجن فانهم كانوا في الواقع يعبدون الجن التي هي الموجودات الغيبية التي يمكن ان تكون منحرفة ، ولذلك أمرنا الله ان نستعيذ به منهم في سورةالناس فقال : " قل اعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوساوس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة و الناس " .

ثم ان العبادة تعكس عادة صلة العابد بالمعبود ، وصلة هؤلاء كانت مع الجن دون الملائكة ، إذ أن الجن كانت توسوس في صدورهم ، و تدعوهم الى الضلالة .

[ أكثرهم بهم مؤمنون ]

فالجاهليون كانوا ينسبون الخوارق للجن ، و يقدسونها ، و لعل تغيير الصيغة من العموم الى الاكثرية جاء بسبب أن العبادة اشمل من الايمان اذا فسرناها بالتسليم و الطاعة المطلقة ، فكثير أولئك الذين يعبدون السلاطين خوفا و طمعا ولا يؤمنون بهم ، و من أبرز مظاهـــر العبادة بلا إيمان طاعة البسطاء للأحبار و الرهبان ، و اتخاذهم أربابا من دون الله ، دون ان يسجدوا لهم ، أو يؤمنوا بأنهم خالقوهم و رازقوهم .

[42] و ينسف القرآن الكريم أساس الشرك ، و عبادة الملائكة و الجن بان الخلائق لا تملك نفعا ، ولا تدفع ضرا من دون أمر الله و إذنه .

[ فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا و لا ضرا ]

و يؤكد ربنا مسؤولية الانسان عن أفعاله دون ان يقدر الشركاء الذين يعبدونمن دون الله نجاته من النار .

[ و نقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ]

فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس