نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الخامس

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الخامس

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 303

وسلم جذبة من اللحم، فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال: كلوا بسم الله، فأكل القوم حتى نهلوا عنه حتى ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم. ثم قال: إسق القوم يا علي، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد النبي أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقد سحركم صاحبكم والله، فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي. فلما كان الغد قال: يا علي هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعدلنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ثم اجمعهم لي، ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا حتى نهلوا، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا؟ قلت - وأنا أحدثهم سنا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا - أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي فقال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون لأبي طالب ويقولون: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي. وأخرج ابن جرير عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوا إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعا وقلت: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال: هذا أخي ووصيي وخليفتي فاسمعوا له وأطيعوا. وأخرج أحمد وابن جرير والضياء عن علي أنه قيل له: كيف ورثت ابن عمك دون عمك؟ فقال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب القربة، فصنع لهم مدا من طعام وأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس أو لم يشرب، فقال: يا بني عبد

ص 304

المطلب إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي؟ فلم يقم إليه أحد، فقمت إليه وكنت من أصغر القوم، فقال: اجلس. ثم قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: اجلس، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي. قال: فلذلك ورثت ابن عمي. تفسير خطير أدى إليه الذوق الصحيح: إعلم أن الأخوة هي المقارنة الوجودية أولا والمشهودية ثانيا، والوصاية هي التحقق بما تحقق به الموصى علما وحالا ومقاما ومعرفة، والوزارة تحمل ما تحمله الموزر من الأحمال والأثقال، والوارثة تحصيل ما حصله المورث لا على سبيل الكسب بل بالمناسبة الاستعدادية والأقضائية، والخلافة هي القيام مقام المستخلف على سبيل البدلية. تحقيق أنيق: إعلم أن للوصاية والأخوة وغيرهما من الفضائل المذكورة حكمة غامضة وسر عميق في الأصل الوجودي، اتضح بالوجدان الصريح والذوق الصحيح، وهو أن حضرة الوجوب والألوهية لما أفضت بفيضها الأقدس صورا معلومة في حضرة علمه، فأول مفاض في تلك الحضرة هو العين المحمدي صلى الله عليه وسلم وحقيقته الجامعة لجميع حقائق الممكنات وأعيانها، ولها البرزخية الكبرى بين حضرة الوجوب والامكان. ثم استفاض بالثبوت العلمي بوسطاته صلى الله عليه وسلم مقترنا به العين العلوي الجامع لحقائق الأنبياء والمرسلين وغيرها، ثم استفاضت الأعيان الأخر وكذلك لما أفاضت هذه الحضرة بفيضها المقدس إفاضة وجودية خارجية في الحضرة العيانية، كان السابق بالوجود في تلك الحضرة الروح المحمدي وتاليه الروح العلوي. ثم لما أوجد الله الهباء فأول ما ظهرت به حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم وروحه قبل سائر الحقائق والأرواح، وكان الروح العلوي أقرب الأرواح إليه صلى الله عليه وسلم، فظهرت مقارنا لظهوره.

ص 305

ثم استعدت وتوجهت تلك الحقيقة المحمدية والصورة الهبائية، لانطباق التدلي الأعظم الحق الذي به يهتدي الخلق وإليه يلجأ، وذلك التدلي عبارة عن تجل إلهي بحسب جمعية أسماء في الاسم الرحيم الهادي، فتجلى الرحيم الهادي بأحدية جميع الأسماء في صورة النور الأعظم وانطبق على تلك الصورة الهبائية فتحقق وتجوهر بها، ثم انبسط ذلك النور على من هو أقرب به صلى الله عليه وسلم في ذلك الهباء. ثم وثم. وكان أقرب الناس إليه في ذلك الهباء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولذا صار جامعا لحقائق الأنبياء والمرسلين وأسرار المتقدمين والمتأخرين، وكان أخا له صلى الله عليه وسلم ووصيا وخليفة ووارثا ووزيرا ووليا للمؤمنين ومولى لهم وممدا لجميع الأنبياء والمرسلين والأولياء الأولين والآخرين بمدده صلى الله عليه وسلم الناشئ من ذلك النور الأعظم. ويؤيد ما قلناه ما أخرجه الإمام أحمد في المناقب عن سلمان الفارسي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء علي بن أبي طالب. ويؤيده أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: يا علي كنت مع الأنبياء سرا ومعي جهرا. وقال سيدي وسندي وجدي المتفرد بالله الصمد الشيخ أبو الرضا محمد قدس الله سره الأمجد في شرح هذا الحديث: نعم هو من الأولياء السابقين وهم الذين يتصرف تمثل روحهم في العالم، قبل أن يتعلق الروح بالبدن العنصري تعلق التصرف والتدبير. فقال: ويؤيده قصة دشت أرزن، وتلك قصة طويلة لم أذكرها مخافة الاطالة، فمن أراد الاطلاع عليها فليطالع الملفوظات القدسية الرضائية التي ألفتها ورتبتها. وأيضا مؤيد للمذكور ما روي في كلماته المأثورة رضي الله عنه: أنا علي وهو علي أنا بكل شيء عليم، أنا الذي مفاتيح الغيب عندي لا يعلمها بعد

ص 306

محمد غيري، أنا قلب الله، أنا يد الله، أنا جنب الله، أنا اللوح المحفوظ، أنا ذو القرنين، أنا النوح الأول، أنا الإبراهيم الخليل، أنا الموسى الكليم، أنا الأول والآخر والظاهر والباطن، أنا روح الأرواح، أنا روح الأشباح، أنا خازن النبوة، أنا وجه الله، أنا ترجمان وحي الله. إنتهى. ثم اعلم أنه كان منشأ التحقيق أني رأيت في مبشرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم في بلدي وتوجه إلى الحصن السلطاني، فدخل فيه وأصحابه رضي الله عنهم كل واحد منهم نزل في دار من له معرفة به ومودة، حتى جاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى داري وجلس على سقف بيتي، فصعدت السقف وقمت وراء ظهره لخدمته، فلبث رضي الله عنه قليلا، ثم قام وقال لي: انظر إلى السماء، فرأيت في كبد سماء الحقيقة بدرا كاملا تنور به العالم كمال التنور، فقال رضي الله عنه: هذا البدر تمثال الحقيقة المحمدية فإذا البدر انشق بنصفين، نصف بقي على السماء وكمل بدرا في آن واحد كأنه ما انشق، وانتقل النصف الثاني فدخل في صدره رضي الله عنه، وكنت انظر إذ كمل بدرا بتدريج قليل، فقال رضي الله عنه: هذا نسبتي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال بالتلطف التام: وهكذا نسبتك معي فانظر إلى بدري، فرأيت فإذا بدره انشق بشقين قام الشق الواحد في صدره رضي الله عنه وكمل بدرا كأنه ما انشق، وانتقل الشق الثاني فدخل في صدري، وقال رضي الله عنه بالعطوفة التامة: سيكمل شقك أيضا بدرا ولكن بالتدريج مرة بعد أخرى، ثم جاء رضي الله عنه وقعد في حجري فعانقته وشرعت أقول: أنت سيدي وإمامي، أنت حجتي وبرهاني، أنت إسلامي وإيماني، أنت عرفاني ووجداني، أنت ذاتي وصفاتي، أنت حقيقتي ورسمي، أنت أخلاقي وأسراري، ثم انكشف على السر الذي حررت، فالحمد لله حمدا كثيرا خالدا مع خلوده، والحمد لله حمدا لا منتهى له دون علمه، والحمد لله حمدا لا منتهى له دون مشيته، والحمد لله حمدا لا أجر يقابله إلا رضاه. وقد صرح الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي قدس سره ببعض هذا

ص 307

التحقيق، فرأيت أن أذكر كلامه استشهادا، قال الشيخ في الباب السادس من الفتوحات المكية: إن الله تبارك وتعالى لما أراد بدأ ظهور العالم على حد ما سبق في علمه انفصل العالم من تلك الإرادة المقدسة بضرب تجل من تجليات التنزيه إلى الحقيقة الكلية، فحدث الهباء وهو بمنزلة طرح البناء الجص ليفتح فيه من الأشكال والصور ما شاء، وهذا هو أول موجود في العالم. ثم إنه تعالى تجلى بنوره إلى ذلك الهباء والعالم كله فيه بالقوة، فقبل منه كل شيء في ذلك الهباء على حسب قربه من النور، كقبول زوايا البيت نور السراج، فعلى حسب قربه من ذلك النور يشتد ضوؤه وقبوله، ولم يكن أحد أقرب إليه قبولا من حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان أقرب قبولا من جميع ما في ذلك الهباء، فكان صلى الله عليه وسلم مبدأ ظهور العالم وأول موجود. قال الشيخ محيي الدين: وكان أقرب الناس إليه في ذلك الهباء علي بن أبي طالب إمام العالم بأسره والجامع لأسرار الأنبياء أجمعين - إنتهى ما في اليواقيت والجواهر نقلا من الفتوحات. فاحفظ ذلك التحقيق تجده نافعا معينا في كشف كل فضيلة ومنقبة ماضية وآتية إن شاء الله تعالى، فإنه أصل كل منقبة والله أعلم (1). * * *

(هامش)

(1) معارج العلى - مخطوط. (*)

ص 308

قوله: لأن كون سيدنا الأمير شريكا في النور النبوي لا يستلزم إمامته من بعد النبي صلى الله عليه وسلم . أقول: ليس هذا النفي إلا مكابرة فاضحة، لأن كون النور العلوي جزء من النور النبوي ومقدما في الخلق والايجاد على خلق آدم وسائر الأنبياء عليهم السلام يثبت الأفضلية له عليه السلام، وذلك صريح كلام المحققين من أهل السنة كما عرفت، فتكون أفضليته من الخلفاء الثلاثة من البديهيات المسلمة، وهذا كاف لاثبات إمامته عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل، وقد دل على ذلك أيضا كلام والد (الدهلوي) وتصريحات ابن تيمية وغيرهما من أكابر علماء أهل السنة. وليعلم أن تعبير (الدهلوي) عن هذه الحقيقة بلفظ الاشتراك غير

ص 309

واضح، وكأنه يقصد منه التفكيك بين النورين، وأن نوره عليه السلام أقل من نور النبي صلى الله عليه وآله، لكن الأحاديث دلت على أن النور الذي خلق أولا قبل كل شيء كان نورا واحدا، ولم يزل كذلك في الأصلاب والأرحام حتى انقسم إلى نصفين في صلب عبد المطلب رضي الله عنه، ولفظ النصف صريح في التساوي بين النورين، وأين المناصفة التي وردت في الأحاديث من المشاركة التي قالها (الدهلوي)؟! فيجب حينئذ حمل الأحاديث التي لم يرد فيها لفظ النصف على هذا المعنى، وما كان منها مشتملا على لفظ الجزء لا يأبى الحمل على معنى النصف ، بل المتبادر من تقسيم الشيء إلى جزئين هو التساوي بينهما. وبعد، فلو تنزلنا وسلمنا كون نوره عليه السلام أقل من نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه أيضا مثبت لأفضلية علي بعده من جميع الخلائق، فكيف بمن سبق الكفر إسلامه، وكان محروما من ذلك النور؟! قوله: فلا بد لمن يدعي ذلك من إثبات الملازمة بين الأمرين وبيانها بحيث لا تقبل المنع . أقول: قد أثبتنا إثباتا لا يشوبه ريب ومذل بتوفيق الله ولي الطول والفضل، أن كون نور الوصي مساويا في التقدم لنور النبي دليل زاهر على الخلافة بلا فصل، وأن الانكار والرد لا يصدر إلا من باب الهذر والهزل ومن أصحاب السفه والعناد الرذل، فلا يلصق غبار بهذا المطلوب المشرق المنار العلي الأخطار المقبول لدى

ص 310

أولي الأبصار، والذي لا ينكره ويجحده إلا الذين هم ما جاسوا خلال ديار الآثار، وما تشرفوا قط بملاحظة تصريحات الأساطين الكبار، وما خاضوا في غمار بحار تفحص الأسفار. قوله: ودون ذلك خرط القتاد . أقول: إثبات خرط القتاد دون هذا المرام الصريح السداد، والمراد الواضح الرشاد لا يصدر إلا ممن خب وأوضع في مهامه العناد، ونكص وجار وراغ عن الحق الأبلج وحاد، واضطرب في مجاهل التعصب والتعسف، وإنما خرط القتاد من خبط خبط العشواء وركب متن البعاد عن الانتقاد. قوله: ولا كلام في قرب نسب حصرة الأمير من النبي . أقول: حمله مفاد حديث النور على مجرد القرب النسبي تعنت لم يسبق إليه، ومع ذلك ففيه اعتراف ضمني بصحة حديث النور، ورد صريح على ما تقدم منه من دعوى بطلان الحديث من أصله

ص 311

كما أنه تكذيب لدعوى (ابن الجوزي) و(الكابلي) و(القاضي الهندي) بطلانه ووضعه، ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله. وفي قوله: لا كلام في قرب نسب حضرة الأمير من النبي رد على (عمر بن الخطاب)، إذ نفى هذا القرب بإنكاره كون الإمام عليه السلام أخا رسول الله صلى الله عليه وآله. قال ابن قتيبة: إن أبا بكر أخبر بقوم تخلفوا عن بيعته عند علي، فبعث إليهم عمر بن الخطاب، فجاء فناداهم وهم في دار علي وأبوا أن يخرجوا، فدعا عمر بالحطب فقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو لأحرقنها عليكم على ما فيها فقيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة. فقال: وإن. فخرجوا وبايعوا إلا عليا، فزعم أنه قال: خلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي عن عاتقي حتى أجمع القرآن، فوقفت فاطمة على بابها، فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم جنازة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا ولم تروا لنا حقا. فأتى عمر أبا بكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر: يا قنفذ - وهو مولى له - إذهب فادع عليا. قال: فذهب قنفذ إلى علي، فقال: ما حاجتك؟ قال: يدعوك خليفة رسول الله. قال علي: لسريع ما كذبتم على رسول الله، فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة. قال: فبكى عمر طويلا، فقال عمر الثانية: ألا تضم هذا المتخلف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفذ: عد إليه فقل: أمير المؤمنين يدعوك لتبايع، فجاءه قنفذ فنادى ما أمر به، فرفع علي صوته فقال: سبحان الله لقد ادعى ما ليس له. فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة، قال: فبكى أبو بكر طويلا. ثم قام عمر فمشى ومعه جماعة حتى أتوا باب فاطمة فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها باكية: يا رسول الله ما ذا لقينا بعد أبي من ابن الخطاب وابن أبي قحافة! فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين،

ص 312

فكادت قلوبهم تتصدع وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر معه قوم. فأخرجوا عليا ومضوا به إلى أبي بكر فقالوا له: بايع، فقال: إن لم أفعل فمه؟ قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله. قال عمر: أما عبد الله فنعم وأما أخا رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلم. فقال عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أكرهه على شيء ما كان فاطمة إلى جنبه. فلحق علي بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح ويبكي وينادي: يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني... (1). * * *

(هامش)

(1) الإمامة والسياسة، كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب / 12. (*)

ص 313 وجوه صحة الاستدلال بالقرب النسبي على الإمامة بلا فصل

ص 315

قوله: وإنما الكلام في استلزام القرب النسبي للإمامة بلا فصل . أقول: إن الاستدلال بقرب نسب أمير المؤمنين عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خلافته عليه السلام صحيح بلا ريب ومتين في نهاية المتانة، والوجوه الدالة على صحة الاستدلال بهذا الأمر، والمثبتة لبطلان تشكيك (الدهلوي) كثيرة جدا، وهذا بعضها:  1 - أحاديث اصطفاء بني هاشم

 لقد أفادت الأحاديث الكثيرة: إن الله تعالى قد اصطفى بني هاشم من جميع خلقه، فهم أفضل من غيرهم، ولما كان أمير المؤمنين عليه السلام من بني

ص 316

هاشم - بل هو أفضلهم بعد النبي بالاجماع - فهو أفضل من الثلاثة الذين لم يكونوا من بني هاشم، ومع وجود أفضل بني هاشم كيف يجوز التقدم عليه؟! وإليك بعض نصوص أحاديث الاصطفاء المشار إليها مع بعض ما يتعلق بها: 1 - مسلم عن أبي عمار شداد أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل اصطفى كنانة من ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام، واصطفى قريش من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم (1). قال النووي بشرحه: قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفى كنانة إلى آخره. استدل به أصحابنا على أن غير قريش من العرب ليس بكفوء لهم، ولا غير بني هاشم كفؤ لهم إلا بني المطلب، فإنهم وبنو هاشم شيء واحد كما صرح به في الحديث الصحيح، والله أعلم (2). 2 - الترمذي عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.... عن العباس بن عبد المطلب قال قلت: يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة، ثم خير البيوت فجعلني من

(هامش)

(1) صحيح مسلم 2 / 203. (2) المنهاج في شرح مسلم 15 / 36. (*)

ص 317

خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا. هذا حديث حسن... (1). 3 - وأخرج ابن الأثير ما تقدم عن مسلم والترمذي وغير ذلك في فضائل النبي صلى الله عليه وآله ومناقبه... (2). 4 - وروى الواقدي مكالمة عمرو بن العاص مع قسطنطين وقد جاء فيها: وإن الله عز وجل اختار لنبينا الأنساب من صلب آدم إلى أن خرج من صلب أبيه عبد الله، فجعل خير الناس من ولد إسماعيل، وألهم إسماعيل أن يتكلم بالعربية وترك إسحاق على لسان أبيه، فولد إسماعيل العرب، ثم جعل خير العرب كنانة ثم جعل خير كنانة قريشا، ثم جعل خير قريش بني هاشم، ثم جعل خير بني هاشم بني عبد المطلب، ثم جعل خير بني عبد المطلب نبينا صلوات الله وسلامه عليه فبعثه رسولا واتخذه نبيا، وهبط عليه جبرئيل بالوحي وقال: طفت المشرق والمغرب فلم أر أفضل منك يا محمد. قال: فاقشعرت جلود القوم وخضعت جوارحهم حين ذكرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجفت قلوبهم، ودخلت الهيبة قلب قسطنطين حين سمع كلام عمرو وقال له: صدقت في قولك، كذلك الأنبياء تبعث من كبار بيوت قومها (3)

. 5 - وروى ابن سعد حديث واثلة بن الأسقع، ثم قال: أخبرنا أبو ضمرة المديني، نا أنس بن عياض الليثي، نا جعفر بن محمد بن علي عن أبيه محمد بن علي ابن حسين بن علي بن أبي طالب: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قسم الله الأرض نصفين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف على ثلاثة فكنت في خير ثلث منها، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشا من العرب، ثم اختار بني

(هامش)

(1) صحيح الترمذي 5 / 583 - 584. (2) جامع الأصول 9 / 396. (3) فتوح الشام 2 / 41. (*)

ص 318

هاشم من قريش، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبد المطلب.... عن محمد بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله اختار العرب، فاختار منه كنانة أو النضر بن كنانة، ثم اختار منهم قريشا، ثم اختار منهم بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم.... عبد الله بن عبيد بن عمير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله اختار العرب فاختار كنانة من العرب، واختار قريشا من كنانة، واختار بني هاشم من قريش، واختارني من بني هاشم (1). 6 - وعقد الحافظ أبو نعيم في (دلائل النبوة) الفصل الثاني في ذكر فضيلته صلى الله عليه وسلم بطيب مولده وحسبه ونسبه وغير ذلك فذكر أحاديث كثيرة في هذا المعنى بالأسانيد المتصلة... ونحن نذكر بعضها مجردة عن الأسانيد: ... أخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء . ... ألا إن الله تعالى خلق خلقه ثم فرقهم فريقين فجعلني من خيرهم قبيلة، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا . ... خير العرب مضر، وخير مضر بنو عبد مناف، وخير بني عبد مناف بنو هاشم، وخير بني هاشم بنو عبد المطلب، والله ما افترق فرقتان مذ خلق الله آدم إلا كنت في خيرهما . ... إن الله تعالى قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما، ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا ثم جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة، ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) الآية .

(هامش)

(1) الطبقات الكبرى 1 / 20 - 21. (*)

ص 319

... فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم، فأنا خيار إلى خيار... . 7 - وقال القاضي عياض: وأما شرف نسبه وكرم بلده ومنشأه فمما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه ولا بيان مشكل ولا خفي منه، فإنه نخبة بني هاشم، وأفضل سلالة قريش وصميمها، وأشرف وأفضل العرب وأعزهم نفرا من قبل أبيه، ومن أهل مكة من كرم بلاد الله على الله وعباده . فروى في هذا الفصل وغيره أحاديث عديدة، منها حديث واثلة، وبعض الأحاديث المتقدمة بأسانيده إلى رواتها (1). 8 - وروى الحافظ الكنجي بسنده حديث واثلة عن مسلم ثم عن الترمذي ثم قال: قلت: ومعنى قوله اصطفى: إختار، ذكره جماعة من المفسرين في قوله عز وجل (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع هو شهيد) فثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر - وهو الصادق الصدوق - عن الله تبارك وتعالى أنه اصطفى بني هاشم على غيرهم من قبائل قريش، ويؤيد هذا القول ما أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل زيادة على ما جمعه والده من مناقب علي... عن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر بني هاشم والذي بعثني بالحق لو أخذت بحلقة باب الجنة ما بدأت إلا بكم، ولو لم يكن كالشمس ما أدخله في مصنف والده (2). 9 - وذكر الحافظ محب الدين الطبري بعض هذه الأحاديث تحت عنوان ذكر اصطفائهم و ذكر أنهم خير الخلق (3).

(هامش)

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى: 62. (2) كفاية الطالب: 410. (3) ذخائر العقبى: 10. (*)

ص 320

10 - وروى المتقي أحاديث كثيرة في هذا الباب تقدم ذكر طائفة منها عن الكتب المختلفة، ومما أورده سوى ما تقدم: قال لي جبرئيل: قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، وقلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم. الحاكم في الكنى وابن عساكر عن عائشة (1). كنت وآدم في الجنة في صلبه، وركب بي السفينة في صلب أبي نوح، وقذف بي في النار في صلب إبراهيم. لم يلتق أبواي قط على سفاح ولم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة صفي مهدي، لا يتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما... (2). ما ولدتني بغي قط منذ خرجت من صلب آدم، ولم تزل تنازعني الأمم كابرا عن كابر حتى خرجت من أفضل حيين من العرب: هاشم وزهرة (3). وقد روى هذه الأحاديث وغيرها جماعة آخرون مثل: * محمد بن يوسف الزرندي (4). * السيد علي الهمداني (5)* شهاب الدين القسطلاني (6). * ابن حجر المكي بشرح قول البوصيري: لم تزل في ضمائر الكون تختار * لك الأمهات والآباء * نور الدين الحلبي حيث قال: ومما يدل على شرف هذا النسب أيضا:

(هامش)

(1) كنز العمال 11 / 409. (2) المصدر 11 / 427. (3) المصدر 11 / 427. (4) نظم درر السمطين 52. (5) المودة في القربى ينابيع المودة: 242. (6) المواهب اللدنية 1 / 13. (*)

ص 321

ما جاء عن عمرو بن العاصي... وجاء بلفظ آخر عن واثلة... وما جاء عن جعفر بن محمد... وعن ابن عباس... وعن ابن عمر... وعن أبي هريرة... وعن... (1).  كلمات العلماء على ضوء الأحاديث

 ثم إن كبار العلماء الأعلام قد صرحوا بهذا المعنى على ضوء الأحاديث المذكورة، وإليك نصوص كلمات جماعة منهم باختصار:

 1 - القسطلاني: ثم اعلم أنه عليه الصلاة والسلام لم يشركه في ولادته عن أبويه أخ ولا أخت، لانتهاء صفوتهما إليه وقصور نسبتهما عليه، ليكون مختصا بنسب جعله الله تعالى للنبوة غاية ولتمام الشرف نهاية، وأنت إذا اختبرت حال نسبه الشريف وعلمت طهارة مولده تيقنت أنه هو سلالة آباء كرام، فهو صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأبطحي الحرمي الهاشمي القرشي، نخبة بني هاشم المختار المنتخب من خير بطون العرب وأعرقها في النسب وأشرفها في الحسب، وأنضرها عودا وأطولها عمودا وأطيبها أرومة وأعزها جرثومة، وأفصحها لسانا وأوضحها بيانا وأرجحها ميزانا وأصحها إيمانا، وأعزها نفرا وأكرمها معشرا من قبل أبيه وأمه، ومن أكرم بلاد الله عليه وعلى عباده (2).

2 - السيوطي: المقامة السندسية: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) نبي سري، قدره علي وبرهانه جلي، خير الخليفة أما وأبا وأزكاهم حسبا ونسبا، خلق الله لأجله الكونين وأقر به من كل مؤمن العينين، وجعله نبي الأنبياء وآدم منجدل في طينته، وكتب

(هامش)

(1) السيرة الحلبية 1 / 43 - 44. (2) المواهب اللدنية 1 / 13. (*)

ص 322

اسمه على العرش إعلاما بمزيته عنده وفضيلته، وتوسل به آدم فتاب عليه وأخبره أنه لولاه ما خلقه، وناهيك بها مزية لديه: نبي خص بالتقديم قدما * وآدم بعد في طين وماء كريم بالحبا من راحتيه * يجود وفي المحيا بالحياء ومن خصائصه - فيما ذكر الغزالي وغيره - إن الله ملكه الجنة وأذن له أن يقطع منها من يشاء ما يشاء. وأعظم بذلك منة. وخصه بطهارة النسب تعظيما لشانه وحفظ آبائه من الدنس تتميما لبرهانه، وجعل كل أصل من أصوله خير أهل زمانه، كما قال في حديث البخاري الذي نقطع بصدوره من فيه: بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه. وقال عليه السلام: أنا أنفسكم نسبا وصهرا وحسبا لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما، فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا. وأجدر بقول صاحب البردة أن يكون له في عرصات القيامة عدة: وبدا للوجود منك كريم * من كريم آباؤه كرماء نسب تحسب العلا بحلاه * قلدتها نجومها الجوزاء حبذا عقود سؤدد وفخار * أنت فيه اليتيمة العصماء وينظم في سلك هذه الدرر قول * افظ العصر أبي الفضل ابن حجر: نبي الهدى المختار من آل هاشم * فعن فخرهم فليقصر المتطاول تنقل في أصلاب قوم تشرفوا * به مثل ما للبدر تلك المنازل (1)

(هامش)

(1) المقامات 45. (*)

ص 323

3 - الحلبي: وإلى شرف هذا النسب يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله: وبدا للوجود منك كريم... أي: ظهر لهذا العالم منك كريم أي جامع لكل صفة كمال. وهذا على حد قولهم لي من فلان صديق حميم ، وذلك الكريم الذي ظهر وجد من أب كريم سالم من نقص الجاهلية، آباؤه الشامل للأمهات جميعهم كرماء، أي سالمون من نقائص الجاهلية، أي ما يعد في الإسلام نقصا من أوصاف الجاهلية. وهذا نسب لا أجل منه... وقد قال الماوردي في كتاب أعلام النبوة: وإذا اختبرت حال نسبه صلى الله عليه وسلم وعرفت طهارة مولده صلى الله عليه وسلم، علمت أنه سلالة آباء كرام ليس فيهم مسترذل، بل كلهم سادة قادة، وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة، هذا كلامه. ومن كلام عمه أبي طالب: إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها وإن حصلت أنساب عبد منافها * ففي هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإن محمدا * هو المصطفى من سرها وكريمها بالرفع عطفا على المصطفى، وسر القوم وسطهم، فأشرف القوم قومه وأشرف القبائل قبيلته وأشرف الأفخاذ فخذه (1).

 4 - أبو نعيم الاصبهاني (بعد ذكر الأحاديث المتقدمة): ووجه الدلالة في هذه الفضيلة: إن النبوة ملك وسياسة عامة، وذلك قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) وهو الملك في ذوي الأحساب والأخطار من الناس، وكل ما كان خصال فضله أوفر كانت الرعية بالانقياد إليه أسمع وإلى طاعة مطيعه أسرع، وإذا كان في الملك وفي توابعه نقيصة نقص عدد أتباعه ورعيته

(هامش)

(1) السيرة الحلبية 1 / 44. (*)

ص 324

... فدل ذلك على أن الملك لا يجعل إلا في أهل الكمال والمهابة، وهاتان الخصلتان لا توجدان في غير ذوي الأحساب، فجعل الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من الحظوظ أو فرها ومن السهام أوفاها وأكثرها، فلذلك قال: فأنا من خيار إلى خيار... .

 5 - السيوطي - بعد الأحاديث: قال أبو نعيم: وجه الدلالة على نبوته من هذه الفضيلة أن النبوة ملك وسياسة عامة... (1).

6 - القاضي عياض: الباب الثاني في تكميل الله تعالى له المحاسن خلقا وخلقا، وقرانه جميع الفضائل الدينية والدنيوية فيه نسقا... فذكر فيه فوائد جمة في كلام طويل (2). 2 - كان الرسول من بني هاشم فالإمام يكون منهم

 ذكر شاه ولي الله الدهلوي روايات من قصة السقيفة في (إزالة الخفا) إلى أن قال: أما رواية أبي سعيد الخدري - قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار فجعل الرجل منهم يقول: يا معشر المهاجرين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلا منكم قرن معه رجلا منا، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان أحدهما منكم والآخر منا. قال: فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك، فقام زيد بن ثابت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين فإن الإمام يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام أبو بكر فقال: جزاكم الله خيرا يا معشر الأنصار وثبت قائلكم. ثم

(هامش)

(1) الخصائص الكبرى 1 / 39. (2) الشفا - 46. (*)

ص 325

قال: والله لو فعلتم غير ذلك لما صالحتكم. أخرجه ابن أبي شيبة . أقول: لقد استدل زيد بن ثابت على لزوم كون الخليفة من المهاجرين بأن رسول الله صلى الله عليه وآله من المهاجرين، وقد قرر أبو بكر هذا الاستدلال ووافقه عليه وتمت البيعة لأبي بكر. وعلى ضوء هذا الاستدلال نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان من بني هاشم فإن الإمام يكون من بني هاشم، ولما كان علي عليه السلام أفضلهم بالاجماع ولم يكن أحد من الثلاثة من بني هاشم فيكون هو الإمام والخليفة بعد رسول الله. فثبت أن قرب النسب من أدلة الإمامة والخلافة.  3 - خطبة أبي بكر في السقيفة

 لقد خاصم أبو بكر الأنصار في السقيفة واحتج عليهم في أمر الخلافة بأنه لن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا ولقد خصمهم بهذا البيان وتمت البيعة له في نهاية الأمر في قصة مفصلة معروفة. ولا ريب أن عليا أشرف القوم - من المهاجرين والأنصار - نسبا ودارا، فيجب - بالأولوية - أن لا تعرف العرب هذا الأمر إلا له، فالقرب النسبي إذا من أقوى الأدلة على إمامته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أخرج البخاري في حديث طويل عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه قال: ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو مات عمر بايعت فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر، من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي تابعه تغرة أن

ص 326

يقتلا. وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر إنطلق بنا إلى أخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالا عليه القوم، فقالا: عليكم أن لا تقربوهم، إقضوا أمركم. فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ماله؟ قالوا: يوعك، فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله. ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معاشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم، فإذا بهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضونا من الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك. فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت. فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم. فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقر بني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، أللهم إلا أن تسول لي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقلت: إبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون

ص 327

ثم بايعته الأنصار. ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد بن عبادة. قال عمر: وإنا والله ما وجدنا في ما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي تابعه تغرة أن يقتلا (1). ورواه ابن هشام، وابن جرير الطبري، والمتقي (2).  4 - خطبة أبي بكر

 بلفظ آخر وقد احتج أبو بكر في خطبته يوم السقيفة على الأنصار بالقرب في النسب مع رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: نحن عشيرته وأقاربه وذوو رحمه، ونحن أهل الخلافة وأوسط الناس أنسابا فعلى أساس هذا الاستدلال يكون علي عليه السلام - وهو أقرب إليه صلى الله عليه وآله وسلم من أبي بكر بلا ريب - هو الأولى والأحق بالأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وأما هذه الخطبة فقد رواها جماعة من أئمة الحفاظ. قال الحفاظ محب الدين الطبري: وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب: إن أبا بكر يوم السقيفة تشهد وأنصت القوم فقال: بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعا إليه، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما ونحن عشيرته وأقاربه وذوو رحمه، ونحن أهل الخلافة وأوسط الناس أنسابا في العرب، ولدتنا العرب كلها فليس منهم قبيلة إلا لقريش فيها ولادة، ولن تصلح إلا لرجل من قريش، هم

(هامش)

(1) صحيح البخاري - كتاب الحدود الباب 31. (2) سيرة ابن هشام 2 / 657 - 661، تاريخ الطبري 3 / 203. كنز العمال 5 / 644 - 647. (*)

ص 328

أصبح الناس وجوها وأسلطهم ألسنة وأفضلهم قولا. فالناس لقريش تبع، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا في كتاب الله وشركاؤنا في دين الله تعالى والتسليم لفضيلة إخوانكم من المهاجرين وأحق الناس أن لا تحسدوهم على خير آتاهم الله إياه، وأنا أدعوكم إلى أحد رجلين - ثم ذكر معنى ما قبله في حديث ابن عباس... (1). وفي رواية محمد بن جرير الطبري: فخص الله المهاجرين الأولين من قومه: بتصديقه والايمان به والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم ولدينهم، وكل الناس لهم مخالف زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن به وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ولا ينازعهم في ذلك إلا ظالم... (2). وعند ابن خلدون: نحن أولياء النبي وعشيرته وأحق الناس بأمره ولا ننازع في ذلك... (3).  تنبيه

 وهذا الكلام من أقوى الأدلة على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بلا فصل، لأن جميع هذه الصفات التي ذكرها أبو بكر واستند إليها واعترف بها الأنصار فخصموا بها، متوفرة في علي بأتم معانيها وأعلى درجاتها، فهو الواجد لها دون أبي بكر وغيره من المهاجرين، فهو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا سواه.

(هامش)

(1) الرياض النضرة 1 / 213. (2) تاريخ الطبري 3 / 219 - 220. (3) تاريخ ابن خلدون 2 / 854. (*)

ص 329

وأما قوله: فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما فقد ثبت أن عليا عليه السلام أول الناس إسلاما، وهذا من خصائصه أيضا، وقد روى ذلك واعترف به كبار حفاظ أهل السنة، ومن ذلك حديث رواه: الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي. والحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الاصبهاني. والموفق بن أحمد المكي الخوارزمي. والحافظ ابن عساكر الدمشقي. وأبو الخير الحاكمي. والحافظ الكنجي الشافعي. والسيد شهاب الدين أحمد. وإبراهيم بن عبد الله الوصابي. وأحمد بن الفضل بن باكثير المكي. ومحمد صدر العالم. وهذا نصه عن الحافظ أبي نعيم، فإنه قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أبي حصين، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، ثنا خلف بن خالد العبدي البصري، ثنا بشر بن إبراهيم الأنصاري، عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي أخصمك بالنبوة ولا نبوة بعدي، وتخصم الناس بسبع لا يحاجك فيها أحد من قريش: أنت أولهم إيمانا، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية (1).

(هامش)

(1) حلية الأولياء 1 / 65 - 66. (*)

ص 330 5 - احتجاج علي على أبي بكر

 لقد احتج أمير المؤمنين عليه السلام على أبي بكر وأتباعه بنفس ما احتج به أبو بكر في السقيفة فخصم به الأنصار... روى ذلك ابن قتيبة * المترجم له في: تاريخ بغداد 10 / 170 والأنساب - الدينوري، تذكرة الحفاظ 2 / 185 وتهذيب الأسماء واللغات 2 / 281 ووفيات الأعيان 1 / 314 ومرآة الجنان 2 / 192 وبغية الوعاة 291 * حيث قال: إباية علي بن أبي طالب بيعة أبي بكر - ثم إن عليا أتي به أبو بكر وهو يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله. فقيل له: بايع أبا بكر. فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة بي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتأخذوه منا أهل البيت غصبا. ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكان محمد منكم وأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة؟ فأنا أحتج بمثل ما احتججتم على الأنصار، نحن أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم حيا وميتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون بالله وتخافون الله وإلا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون. قال له عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع. فقال له علي بن أبي طالب: إحلب حلبا لك شطره، أشدد له اليوم يرده عليك غدا، ثم قال: والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه. فقال له أبو بكر: فإن لم تبايعني فلا أكرهك. فقال أبو عبيدة بن الجراح لعلي: يا ابن عم إنك حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالا واستطلاعا، فسلم هذا الأمر لأبي بكر، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق، وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك.

ص 331

فقال علي: يا معشر المهاجرين! الله الله، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، وتدفعون أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القاري لكتاب الله، الفقيه في دين الله العالم بسنة رسول الله، المتضلع بأمر الرعية المدفاع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنها فينا ولا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله وتزدادوا من الحق بعدا. فقال قيس بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها أبا بكر ما اختلف عليك اثنان. قال: وخرج علي يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابة ليلا على مجالس الأنصار يسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلناه به. فيقول علي: أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانه. فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، قد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم به (1). وقد رواه جمال الدين المحدث - وهو شيخ (الدهلوي) - عن جماعة من أصحاب التواريخ (2).  6 - احتجاج علي يوم الشورى

 لقد احتج أمير المؤمنين عليه السلام يوم الشورى بأقربيته من رسول الله

(هامش)

(1) الإمامة والسياسة 1 / 11. ولا ريب في أن هذا الكتاب لابن قتيبة، وقد نسبه إليه جماعة ونقلوا عنه في كتبهم مثل: إتحاف الورى بأخبار أم القرى، وغاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام، والعقد الثمين، والألف باء، وتفسير شاهي. (2) روضة الأحباب. (*)

ص 332

صلى الله عليه وآله لإثبات خلافته عنه صلى الله عليه وآله، فلم ينكر أحد منهم ما احتج به بل اعترفوا بذلك وسلموا له... قال ابن حجر المكي: أخرج الدار قطني: إن عليا يوم الشورى احتج على أهلها فقال لهم: أنشدكم بالله هل فيكم أحد أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرحم مني، ومن جعله صلى الله عليه وسلم نفسه وأبناءه أبناءه ونساءه نساءه؟ قالوا: اللهم لا - الحديث (1). وذكره كمال الدين الجهرمي في ترجمة الصواعق (4). ورواه أيضا الملا مبارك الهروي. ومن الواضح أنه عليه السلام أقرب إلى النبي صلى الله عليه وآله لا من أهل الشورى فحسب بل من جميع الناس، حتى الأول والثاني... ولو لم يصح الاستدلال بالأقربية لم يستدل بها الإمام عليه السلام، ولاستنكر عليه القوم ذلك الاستدلال وردوه. 7 - إعتراف طلحة والزبير والمسلمين بأولويته بالخلافة لأجل القرابة

 روى المتقي: عن محمد بن الحنفية قال: لما قتل عثمان استخفى علي في دار لأبي عمرو بن حصين الأنصاري، فاجتمع الناس فدخلوا عليه الدار فتداكوا على يده ليبايعوه تداك الإبل الهيم على حياضها وقالوا: نبايعك. قال: لا حاجة لي في ذلك، عليكم بطلحة والزبير. قالوا: فانطلق معنا، فخرج علي وأنا معه في جماعة من الناس، حتى أتينا طلحة بن عبيد الله فقال له: إن الناس قد اجتمعوا ليبايعوني ولا حاجة لي في بيعتهم، فأبسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة

(هامش)

(1) الصواعق المحرقة - 93. (2) البراهين القاطعة - 263. (*)

ص 333

رسوله. فقال له طلحة: أنت أولى بذلك مني وأحق، لسابقتك وقرابتك، وقد اجتمع لك من هؤلاء الناس من قد تفرق عني، فقال له علي: أخاف أن تنكث بيعتي وتغدر بي. قال: لا تخافن ذلك فوالله لا ترى من قبلي أبدا شيئا تكره. قال: الله عليك كفيل. ثم أتى الزبير بن العوام ونحن معه فقال له مثل ما قال لطلحة، ورد عليه مثل الذي رد عليه طلحة. وكان طلحة قد أخذ لقاحا لعثمان ومفاتيح، وكان الناس اجتمعوا عليه ليبايعوه ولم يفعلوا، فضرب الركبان بخبره إلى عائشة وهي بسرف فقالت: كأني انظر إلى إصبعه تبايع بخب وغدر. قال ابن الحنفية: لما اجتمع الناس على علي قالوا له: هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام، ولا نجد لهذا الأمر أحق منك ولا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم رحما منك، قال: لا تفعلوا فإني وزيرا خير مني لكم أميرا. قالوا: والله ما نحن بفاعلين أبدا حتى نبايعك، وتداكوا على يده، فلما رأى ذلك قال: إن بيعتي لا تكون في خلوة إلا في المسجد ظاهرا، وأمر مناديا فنادى المسجد المسجد، فخرج وخرج الناس معه فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: حق وباطل ولكل أهل، فلئن كثر الباطل لقديما فعل ولئن قل الحق فلربما، ولعل ما أدبر شيء فأقبل، ولئن رد إليكم أمركم لسعدتم، فإني أخشى أن تكونوا في فترة وما علي إلا الجهد، سبق الرجلان وقام الثالث ثلاثة واثنان ليس معهما سادس: ملك مقرب، ومن أخذ الله ميثاقه، وصديق نجا، وساع مجتهد، وطالب يرجو، هلك من ادعى وخاب من افترى، اليمين والشمال مضلة والطريق المنهج عليه باقي الكتاب وآثار النبوة، وإن الله أدب هذه الأمة بالسوط والسيف، ليس لأحد فيما عندنا هوادة، فاستووا ببيوتكم وأصلحوا ذات بينكم وتعاطوا الحق فيما بينكم، فمن أبرز صفحته معاندا للحق هلك، والتوبة من ورائكم. وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، فهو أول خطبة خطبها بعد ما استخلف.

ص 334

اللالكائي (1). فظهر - من كلمات طلحة والزبير وسائر المسلمين - أولوية أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة، لكونه أقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله.  8 - ذكر النبي القرابة في أدلة الإمامة

 قال الحافظ السيوطي: أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين أنزل عليه (إذا جاء نصر الله والفتح) إلى آخر القصة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي بن أبي طالب يا فاطمة بنت محمد جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبحان ربي وبحمده واستغفره، إنه كان توابا. ويا علي، إنه يكون بعدي في المؤمنين الجهاد. قال: على ما نجاهد المؤمنين الذين يقولون آمنا؟ قال: على الإحداث في الدين إذا عملوا بالرأي ولا رأي في الدين، إنما الدين من الرب أمره ونهيه، قال علي: يا رسول الله، أرأيت إن عرض لنا أمر لم ينزل فيه القرآن ولم يمض فيه سند منك! قال: تجعلونه شورى بين العابدين من المؤمنين ولا تقضونه برأي خاصة، فلو كنت مستخلفا أحدا لم يكن أحد أحق منك لقدمك في الإسلام وقرابتك من رسول الله وصهرك، وعندك سيدة نساء العالمين، وقبل ذلك من كان من بلاء أبي طالب، ونزل القرآن وأنا حريص أن أراعي في ذلك (2). فظهر أنه لم يكن أحد أحق بالخلافة من علي عليه السلام الحائز لهذه الصفات، ومنها القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله فالقرابة من الأمور التي تستلزم الإمامة والخلافة، فما ذكره المتعصبون في إنكار ذلك واضح البطلان.

(هامش)

(1) كنز العمال 5 / 747 - 750. (2) الدر المنثور 7 / 407. (*)

ص 335 9 - يشترط كون النبي وخليفته من سلالة واحدة

لقد قال شاه ولي الله والد (الدهلوي) ما تعريبه: قال الله عز وجل: (قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا). أقول... ثم سأل أيضا أنه يحتاج إلى من يعينه في أمر الرسالة، وقد عبر عنه هنا ب‍ (الوزير) وفي موضع آخر ب‍ (ردءا يصدقني) فطلب بعد ذلك توفر ثلاث صفات في شخص الوزير الذي طلبه، فأحدها ما دل عليه قوله (من أهلي) وهذه الصفة إنما لزمت من جهة شئون موسى الخاصة به، إذ لم يوجد أحد يؤازره في ذلك سواه، وليست هذه الصفة شرطا مطلقا بقرينة استخلاف موسى يوشع، والخلافة أعظم من الوزارة. ويشترط في الوزير أن يكون ذا قوة ومرؤة وذا شأن عند أهل الحل والعقد، ويشترط في الخليفة أن يكون - مضافا إلى ما تقدم - من عشيرة النبي بحيث يرجعان إلى أب واحد، كي يكون الخليفة مكرما لدى الأمة، ولذا لم يرسل الله عز وجل نبيا إلى نبي إسرائيل إلا من أنفسهم من أسباط موسى أو غيره. ولقد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله هذا المعنى شرطا في خلفائه إذ قال: الأئمة من قريش جريا على سنة الله عز وجل في أنبياء بني إسرائيل (1). أقول: ونحن نتمسك بما ذكره من اشتراط قرابة الخليفة من النبي ورجوعهما إلى أب واحد، فبالنسبة إلى خليفة نبينا صلى الله عليه وآله يشترط أن يكون خليفته من عشيرته أي من بني هاشم، وحينئذ تثبت إمامة علي لأنه أفضل بني

(هامش)

(1) إزالة الخفا 2 / 162. (*)

ص 336

هاشم بالاجماع. وما ذكره من لزوم استمرار سنة الله الجارية يقتضي وجوب عصمة خلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم النص عليهم من قبله، وكونهم أفضل الناس بعده. ومن الواضح عدم وجود هذه الأمور في الثلاثة المتقدمين على علي.  10 - كلام الرازي في مناقب الشافعي

 إن للفخر الرازي كلاما طويلا في ذلك بيان نسب (الشافعي) من جهة آبائه وأمهات أجداده وأمه خاصة، وقد ذكر ذلك من جملة مناقبه التي اختص بها دون وأبي حنيفة وأن ذلك يوجب كمال الأفضلية... فقال بعد أن ذكر نسبه من جهة أبيه في المقام الأول: المقام الثاني - وهو بيان أن الشافعي كان هاشميا من جهة أمهات أجداده... إن هذا النسب الذي شرحناه يفيد الشرف والمنقبة من وجوه: الأول: إن عبد مناف جد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أبناء أربعة: هاشم وهو جد رسول الله والمطلب وهو جد الشافعي... وكان هاشم والمطلب متناصرين وعبد شمس ونوفل متناصرين... فلما حصل بين هاشم والمطلب الأخوة من جهة النسب، والأخوة أيضا من جهة المحبة والنصرة، بقي ذلك بين الأولاد، فلا جرم كان الشافعي مخصوصا بمزيد الاهتمام بنصرة دين محمد. الوجه الثاني في تقرير ما ذكرناه: روي أن هاشم بن عبد مناف تزوج امرأة من بني النجار بالمدينة، فولدت له شيبة جد رسول الله ثم توفي هاشم وبقي شيبة مع أمه، فلما ترعرع خرج إليه مطلب بن عبد مناف فأخذه من أمه وجاء به إلى مكة وهو مردفه على راحلته، فظنوا أنه عبد ملكه المطلب فلقبوه به فغلب عليه هذا الاسم. ثم إن المطلب عرفهم أنه ابن أخيه، ثم إنه رباه وقام بأمره، فثبت أن

ص 337

المطلب جد الشافعي كان ناصرا لهاشم ومربيا لعبد المطلب، فبلغت تلك التربية إلى حيث اشتهر بكونه عبد المطلب... ثم إن الله تعالى قدر أن صير الشافعي كالناصر لدين محمد صلى الله عليه وسلم والذاب عنه، ولذلك لقبوا الشافعي - رضي الله عنه - في بغداد بناصر الحديث، حتى يكون نسبة الأولاد إلى الأولاد كنسبة الأجداد إلى الأجداد. الوجه الثالث: روى جبير بن مطعم: إنه لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان ابن عفان قلت: يا رسول الله هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم، لأن الله تعالى جعلك منهم إلا أنك أعطيت بني المطلب وتركتنا، وإنما نحن وهم بمنزل واحد. فقال عليه السلام: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا، ثم شبك عليه السلام بين أصابع يديه إحداهما في الأخرى.... والناس اختلفوا في تفسير آل محمد، فمنهم من فسره بالنسب، ومنهم من فسره بكل من كان على دينه وشرعه، وعلى كلا التقديرين فالشافعي من آل محمد، فكان داخلا في قولنا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد . ولما كان هو من آل محمد ووجب الصلاة على الآل فوجبت عليه، ولا شك أن مالكا وأبا حنيفة ليسا كذلك، فكان هذا النوع من الشرف حاصلا له وغير حاصل لسائر المجتهدين، وذلك يوجب كمال الأفضلية . أقول: وجميع هذه الوجوه التي ذكرها الرازي لإثبات كمال أفضلية الشافعي من مالك وأبي حنيفة وغيرهما من المجتهدين، تقتضي بالأولوية القطعية كمال أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام من الثلاثة وغيرهم.

ص 339 ليس العباس أولى من علي ولا أقرب إلى النبي

ص 341

قوله: ولو كانت القرابة بمجردها تستلزم الإمامة لكان العباس أولى بها منه، لكونه عمه وصنو أبيه والعم أقرب من ابن العم شرعا وعرفا . أقول: لا مجال لهذا النقض، بعد وضوح دلالة حديث النور على كمال الأفضلية لأمير المؤمنين عليه السلام وقبح تقدم أحد عليه، بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. على أنه نقض بعيد عن الصواب جدا لوجوه: 1 - العباس عم النبي من الأب إن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله من الأب، فإن أمه غير

ص 342

أم سيدنا عبد الله والد النبي صلى الله عليه وآله، لكن أم سيدنا أبي طالب وسيدنا عبد الله واحدة وهي فاطمة بنت عمرو المخزومية... فالعباس عم النبي من الأب وعلي ابن عمه من الأبوين، وكون العم من الأب أولى من ابن العم من الأبوين غير مسلم لا عرفا ولا شرعا. وأما كون أبي طالب شقيقا لعبد الله وأن أمها فاطمة المخزومية فمما لا ريب فيه، قال ابن حجر العسقلاني: أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي القرشي الهاشمي، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه، أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومية... (1). وقال: العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي، عم رسول الله صلى الله عليه وآله أبو الفضل، أمه نفيلة بنت حباب بن كلب... (2). هذا... وقد قال يوسف الأعور في الرد على الإمامية: الثالث: إن الحكم لو كان للأقرب لزم الرافضة أن يقولوا: ليس لعلي بعد النبي صلى الله عليه وسلم حكم، إذ العباس أقرب منه لكونه عما وعلي ابن عمه، وكل من أبي بكر وعمر وعثمان أفضل من العباس (3). فرد عليه نجم الدين خضر بن محمد بن علي الرازي بقوله: وأما الوجه الثالث: فلأن الحكم إنما هو للأقرب لما ذكرنا، ولا يلزم منه ما ألزمه بجهله وعناده وخروجه عن طريق الحق وانفراده، لأن أمير المؤمنين عليا عليه السلام ابن عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الأبوين، والعباس عمه من الأب، وابن العم من الأبوين مقدم في الإرث على العم من الأب عند الإمامية مطلقا، فكيف يلزمهم أن يقولوا ليس لعلي عليه السلام بعد النبي حكم يا أبا جهل عوام الناس؟

(هامش)

(1) الإصابة 4 / 115. (2) المصدر نفسه 2 / 271. (3) رسالة الأعور في الرد على الإمامية - مخطوط. (*)

ص 343

وتفضيل الجماعة المذكورين على العباس مجرد دعوى بلا نص ولا أساس، وتحكم من الناصبي الأعور ذي التلبيس والوسواس (1). 2 - الأخ أولى من العم قال شاه ولي الله الدهلوي في (إزالة الخفا): أخرج الطبراني في الصغير من حديث أبي هند يحيى بن عبد الله بن حجر بن عبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي الكوفي بالكوفة فقال: حدثنا عمي محمد بن جعفر بن عبد الجبار قال: حدثني سعيد بن عبد الجبار عن أبيه عبد الجبار عن أمه أم يحيى عن وائل حديثا طويلا في قصة وفوده على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجوعه إلى وطنه ثم اعتزاله الناس في فتنة عثمان ثم قدومه على معاوية، فقال له معاوية: فما منعك من نصرنا وقد اتخذك عثمان ثقة وصهرا؟ قلت: إنك قاتلت رجلا هو أحق بعثمان منك. قال: وكيف يكون أحق بعثمان مني وأنا أقرب إلى عثمان في النسب؟! قلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بين علي وعثمان، فالأخ أولى من ابن العم ولست أقاتل المهاجرين. قال: أو لسنا مهاجرين؟ قلت: أو لسنا قد اعتزلناكما جميعا؟!... . وعلى ضوء ما ذكر هذا الصحابي - حيث زعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد آخى بين أمير المؤمنين وعثمان - من أن الأخ أولى من ابن العم فيكون أمير المؤمنين عليه السلام أولى بعثمان من معاوية نقول: إن أمير المؤمنين أولى بالنبي من عمه العباس، لأنه صلى الله عليه وآله اختار عليا للأخوة يوم عقد المؤاخاة كما في الأحاديث الكثيرة.

(هامش)

(1) التوضيح الأنور في الرد على الأعور مخطوط. (*)

ص 344

3 - قوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) لقد تمسك محمد بن عبد الله بن الحسن ابن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام بقوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بلا فصل... قال الرازي في تفسير الآية: تمسك محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، في كتابه إلى أبي جعفر المنصور بهذه الآية في أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب، فقال: قوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) يدل على ثبوت الأولوية، وليس في الآية شيء معين في ثبوت هذه الأولوية فوجب حمله على الكل إلا ما خصه الدليل، وحينئذ يندرج فيه الإمامة، ولا يجوز أن يقال: إن أبا بكر كان من أولي الأرحام، لما نقل أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه سورة برائة ليبلغها إلى القوم، ثم بعث عليا خلفه وأمر بأن يكون المبلغ هو علي وقال: لا يؤديها إلا رجل مني، وذلك يدل على إن أبا بكر ما كان منه. فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية. والجواب - إن صحت هذه الدلالة - كان العباس أولى بالإمامة، لأنه كان أقرب إلى رسول الله من علي، وبهذا الوجه أجاب أبو جعفر المنصور عنه (1). أقول: وعلى أهل السنة التسليم بهذا الاستدلال، لأنهم يدعون التمسك بأهل البيت ومتابعتهم، قائلين بأن المراد من أهل البيت في حديث الثقلين وغيره هو الأعم من الأئمة الاثني عشر وأبنائهم، كما يظهر صريحا من كلام الكابلي في (الصواقع) وكلام (الدهلوي) في الباب الرابع، وجواب حديث الثقلين وغيرهما

(هامش)

(1) تفسير الرازي 15 / 213. (*)

ص 345

من المقامات، فلا يجوز لهم - والحال هذه - الاعراض عن هذا الاستدلال، بل يجب عليهم الجواب عما ذكره الرازي في إبطاله. هذا، وقد ذكر أبو العباس المبرد وابن الأثير وابن خلدون نص كتاب محمد ابن عبد الله المذكور وكتاب أبي جعفر المنصور إليه... (1) وقد ذكرناهما في مجلد حديث (الغدير). 4 - أولوية علي على لسان العباس لقد كان العباس من القائلين بخلافة أمير المؤمنين، فإنه الذي قال له بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله أمدد يدك أبايعك . وهذا صريح في اعتقاده بأن عليا عليه السلام هو الأولى بها من نفسه وغيره... وكلام العباس هذا في غاية الشهرة، بل ذكره جماعة من متكلمي أهل السنة في مقام الرد على الإمامية... قال الفضل بن روز بهان في رد العلامة: مذهب أهل السنة والجماعة أن الإمام بالحق بعد رسول الله أبو بكر الصديق، وعند الشيعة علي المرتضى كرم الله وجهه ورضي الله عنه. ودليل أهل السنة وجهان: الأول: إن طريق ثبوت الإمامة إما النص أو الإجماع بالبيعة، أما النص فلم يوجد لما ذكرنا ولما سنذكر ونفصل بعد هذا إن شاء الله تعالى، أما الإجماع فلم يوجد في غير أبي بكر اتفاقا من الأمة. الوجه الثاني: إن الإجماع منعقد على حقية إمامة أحد الثلاثة أبي بكر وعباس وعلي، ثم إنهما لم ينازعا أبا بكر، لو لم يكن على الحق لنازعاه كما نازع علي معاوية، لأن العادة تقضي بالمنازعة في مثل ذلك، ولأن ترك المنازعة مع الامكان مخل بالعصمة، إذ هو معصية كبيرة يوجب انثلام العصمة وأنتم توجبونها في الإمام

(هامش)

(1) الكامل للمبرد 2 / 383 - 391، الكامل في التاريخ 5 / 536، تاريخ ابن خلدون المجلد الثالث 407. (*)

ص 346

وتجعلونها شرطا لصحة إمامته. فإن قيل: لا نسلم الامكان أي إمكان منازعتهما أبا بكر. قلنا: قد ذهبتم وسلمتم أن عليا كان أشجع الناس من أبي بكر وأصلب منه في الدين، وأكثر منه قبيلة وأعوانا وأشرف منه نسبا وأتم منه حسبا، والنص الذي تدعونه لا شك أنه كان بمرأى من الناس وبمسمع منهم، والأنصار لم يكونوا يرجحون أبا بكر على علي، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر في آخر عمره على المنبر وقال: إن الأنصار كرشي وعيبتي وهم كانوا الجند الغالب والعسكر، وكان ينبغي أن النبي أوصى الأنصار بإمداد علي في أمر الخلافة، وأن يحاربوا من يخالف نصه في خلافة علي. ثم إن فاطمة عليها السلام - مع علو منصبها - زوجته، والحسن والحسين عليهما السلام مع كونهما سبطي رسول الله ولداه، والعباس مع علو منصبه عمه ومعه، فإنه روي أنه قال لعلي: أمدد يدك أبايعك حتى يقول الناس بايع عم رسول الله ابن عمه فلا يختلف فيك اثنان، والزبير مع شجاعته كان معه... . وممن ذكر ذلك في إثبات إمامة أبي بكر والرد على الإمامية القاضي ناصر الدين البيضاوي في (طوالع الأنوار) وشمس الدين الاصفهاني في شرحه. وقال ابن قتيبة: وكان العباس بن عبد المطلب لقي علي بن أبي طالب فقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقبض فاسأله، فإن كان الأمر لنا بينه وإن كان لغيرنا أوصى بنا خيرا، فلما قبض رسول الله قال العباس لعلي بن أبي طالب: أبسط يدك أبايعك فيقال: عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله ويبايعك أهل بيتك، وإن كان هذا الأمر إذا كان لم يؤخر، فقال له علي: من يطلب هذا الأمر غيرنا؟ وقد كان العباس لقي أبا بكر فقال: هل أوصاك رسول الله بشيء؟ فقال: لا. فلقي العباس عمر فقال له مثله فقال عمر: لا. فعند ذلك قال العباس لعلي: أبسط يدك أبايعك ويبايعك أهل بيتك (1).

(هامش)

(1) الإمامة والسياسة 1 / 4. (*)

ص 347 5 - إعتذار العباس عن قبول وصية النبي

 روى السيد علي الهمداني في (مودة القربى): عن أبي حمزة الثمالي رضي الله عنه عن أبي جعفر الباقر عن آبائه عليهم السلام قال: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي قبض فيه، كان رأسه في حجر علي، والعباس يذب عنه، والبيت غاص بالمهاجرين والأنصار، فقال عليه السلام: يا عم أتقبل وصيتي وتنجز عداتي؟ فقال: أنا رجل كبير السن وكثير العيال. فقال: يا علي أتقبل وصيتي وتنجز عداتي؟ فخنق عليا العبرة وما استطاع أن يجيبه، فأعادها عليه، فقال علي: بأبي أنت وأمي نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أخي ووصيي ووزيري وخليفتي. ثم قال: يا بلال هلم سيف رسول الله ذا الفقار، فجاء به بلال فوضع بين يدي رسول الله ثم قال: يا بلال هلم مغفر رسول الله ذا النجدين فجاء به فوضعه، ثم قال: يا بلال هلم درع رسول الله ذات الفصول فجاء بها، ثم قال: يا بلال هلم فرس رسول الله المرتجز فأتى به فأوثقه، ثم قال: هلم ناقة رسول الله العضباء فجاء بها فأوثقها، ثم قال: يا بلال هلم بردة رسول الله السحاب فجاء بها فوضعها ثم قال: يا بلال هلم قضيب رسول الله الممشوق فجاء به فوضعه. فلم يزل يدعو بشيء بعد شيء حتى العصابة التي كان يعصب بها بطنه في الحرب، ثم نزع الخاتم فدفعه إلى علي، ثم قال: يا علي إذهب بها أجمع فاستودعها بيتك بشهادة المهاجرين والأنصار، ليس لأحد أن ينازعك فيها بعدي، فانطلق أمير المؤمنين حتى وضعها في منزله ثم رجع . أقول: من هذا الحديث يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان بصدد الاعلان عن عدم استحقاق العباس الخلافة، فسأله أولا عن قبول

ص 348

الوصية، فلما علم العباس عدم استحقاقه اعتذر عن ذلك، ثم إن النبي جعل عليا وصيه، ونص على أنه وزيره وخليفته من بعده، وهذا النص الجلي والمحفوف بالقرائن القطعية لا يدع مجالا لأن يتوهم أحد خلافة العباس أبدا. 6 - حديث يوم الدار

 ومن الأدلة على أن أمير المؤمنين عليه السلام وارث النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث يوم الدار، حيث نص فيه على ذلك بصراحة، وقد استدل به علي عليه السلام في جواب من سأله: لم ورثت ابن عمك دون عمك؟ قال ولي الله الدهلوي في كتاب الخصائص عن ربيعة بن ناجد: إن رجلا قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم ورثت ابن عمك دون عمك؟ قال: جمع رسول الله - أو قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله - بني عبد المطلب فصنع لهم مدا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو كأن لم يمس، ثم دعا بغمرة فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأن لم يمس ولم يشرب، فقال: يا بني عبد المطلب، إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، وأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي؟ فلم يقم إليه أحد، فقمت إليه وكنت أصغر القوم [سنا]. قال: اجلس، ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه، فيقول: إجلس، حتى كان في الثالثة ضرب بيده علي. ثم قال فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي .  7 - الإجماع على عدم خلافة العباس

 لقد قام الإجماع المحقق من الشيعة وغيرهم على عدم خلافة العباس، فاحتمال كونه أولى بها من علي واضح البطلان.

ص 349 8 - الخلافة في المهاجرين

 إن من لوازم الخلافة كون الخليفة من المهاجرين الأولين، ومن الواضح أن العباس ليس من المهاجرين الأولين، بل إنه هاجر قبل الفتح بقليل... قال الحافظ ابن حجر بترجمته: وكان إليه في الجاهلية السقاية والعمارة وحضر بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم، وشهد بدرا مع المشركين فأسر، فافتدى نفسه وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب فرجع إلى مكة فيقال: إنه أسلم وكتم من قومه ذلك، وصار يكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخبار، ثم هاجر قبل الفتح بقليل وشهد الفتح وثبت يوم حنين (1). وأما أن كون الخليفة من المهاجرين الأولين فهو أمر مسلم، وقد صرح به شاه ولي الله في (إزالة الخفا). 9 - لزوم كون الخليفة ممن بايع تحت الشجرة

وقد ذكر شاه ولي الله الدهلوي كذلك لزوم كون الخليفة ممن حضر غزوة الحديبية، وممن حضر نزول سورة النور، وممن شهد المشاهد العظيمة كغزوة بدر وغيرها، وقد استفاد هذه الشروط من الأدلة من القرآن والسنة... ومن المعلوم أن العباس لم يشهد بدرا وغيرها مما ذكر، لأنه هاجر قبل الفتح بقليل - كما تقدم عن ابن حجر - وقد وقعت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة (2) وفتح مكة في السنة الثامنة (3)، بل تقدم أن العباس من أسارى بدر.

(هامش)

(1) الإصابة 2 / 271. (2) تاريخ الخميس 1 / 365. (*)

ص 350

وأما عدم شهوده غزوة الحديبية فلأن هذه الغزوة وقعت فيما وقع في السنة السادسة من الهجرة (1). وأما عدم كونه ممن حضر نزول سورة النور فلأن هذه السورة فيما زعم أهل السنة نزلت في قصة إفك عائشة، وهذه القصة من وقائع السنة الخامسة (2). 10 - لا تجوز الخلافة للطلقاء

إن الخلافة لا تكون للطلقاء، ولا ريب في أن العباس من الطلقاء. أما الأمر الأول فقد جاء في (إزالة الخفا) قال عبد الرحمن الأشعري فقيه الشام لأبي هريرة وأبي الدرداء في سعيهما لأن يجعل علي عليه السلام الخلافة شورى بين المسلمين: عجبا منكما: كيف جاز عليكما ما جئتما به! تدعوان عليا أن يجعلها شورى!. وقد علمتما أنه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق، وأن من رضيه خير ممن كرهه ومن بايعه خير ممن لم يبايعه! وأي مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا يجوز لهم الخلافة، وهو وأبوه رؤس الأحزاب! فندما على مسيرهما وتابا بين يديه، أخرجه أبو عمرو في الاستيعاب . وأما الأمر الثاني: فقد علم من عبارة الحافظ العسقلاني السالفة الذكر، وقال الديار بكري في ذكر عزوة بدر بعد ذكر أسماء أسارى بدر عن ابن إسحاق: أقول: ومن جملة أسارى بدر: عباس بن عبد المطلب ولم يذكر فيما ذكره (3).

(هامش)

(1) المصدر 2 / 16. (2) المصدر 1 / 475. (3) تاريخ الخميس 1 / 406. (*)

ص 351

أقول: وهذا الفصل من البحث حول (دلالة حديث النور) في نفس الوقت الذي يعد من الفصول الأساسية في بحوث قسم (حديث النور)، ويفند مزاعم (الدهلوي) هذه المزاعم التي أخذها - كغيرها من الأباطيل من بعض من تقدمه كالكابلي وابن روزبهان وأمثالهما. في نفس هذا الوقت... يبطل هذا الفصل شبهة في باب الإمامة قد أثارها بعض المنتسبين إلى العلم، تزلفا إلى حكام بني العباس، بالاضافة إلى جعل المناقب والفضائل المختلفة للعباس وأبنائه وأحفاده... فباعوا آخرتهم بدنيا غيرهم... وتبعهم على ذلك بعض الكتاب والشعراء... (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون). و(الدهلوي) وأمثاله الذين يتشبثون بكل حشيش في مقابلة أهل الحق، إنما يذكرون هذه الشبهة لغرض الوقوف أمام الحق بغضا له وعنادا... وإلا... فإنهم يعلمون ببطلانها أحسن من غيرهم. وباختصار: إنها شبهة مردودة بإجماع المسلمين... والتشبث بها باطل بإجماعهم كذلك... والله العاصم. * * *

ص 353

وجوه تفنيد النقض بأولوية الحسنين بالامامة من علي بعد النبي

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الخامس

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب