ص 200
*(11)* حديث صياح النخلة

لما مر بها المصطفى والمرتضى هذا موسى وأخوه هارون روى
الخطيب الخوارزمي المكي الحنفي قائلا: أخبرني شهردار هذا إجازة: حدثنا أبي شيرويه
بن شهردار الديلمي، أخبرنا أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون الباقلاني الأمين -
رحمه الله - فيما أجازني، أخبرني أبو علي الحسن بن الحسين بن دوما ببغداد، أخبرنا
أحمد بن نصر بن عبد الله بن الفتح الذارع بالنهروان، حدثنا صدقة بن موسى بن تميم بن
ربيعة أبو العباس، حدثنا أبي، حدثنا الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه محمد بن
علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه قال: خرجت
مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم نمشي في طرقات المدينة، إذ مررنا بنخل
من نخلها، فصاحت نخلة بأخرى: هذا النبي المصطفى وعلي المرتضى. ثم جزناها فصاحت
ثانية بثالثة: هذا موسى وأخوه هارون، ثم جزناها فصاحت رابعة بخامسة: هذا نوح وهذا
إبراهيم، ثم جزناها فصاحت سادسة بسابعة: هذا محمد سيد النبيين وهذا علي سيد
الوصيين. فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: يا علي إنما سمي نخل المدينة
صيحانيا
ص 201
لأنه صاح بفضلي وفضلك (1). ورواه أسعد بن إبراهيم الأربلي في (أربعينه) الذي هو
بطريق شيخه الحافظ عمر بن الحسين المعروف بابن دحية عن الثقات... كما صرح في خطبة
كتابه... قال: الحديث السادس - يرفعه إلى جابر قال: سمعت عليا يقول لجماعة من
الصحابة: أتدرون لم سمي الصيحاني صيحانيا؟ قلنا: اللهم لا. قال: خرجت أنا ورسول
الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلنا إلى الحدائق صاحت نخلة بنخلة: هذا النبي
المصطفى وذاك علي المرتضى، ثم صاحت ثالثة برابعة: هذا كموسى وهذا كهارون... (2).
ورواه محمد بن يوسف الكنجي بسنده إلى أبي الحسن بن دوما بسنده كما تقدم... قال:
أخبرنا الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن أبي الفهم البلداني بدمشق، أخبرنا عبد المنعم
الحراني ببغداد، أخبرنا أبو علي ابن نبهان، أخبرنا أبو الحسن بن الحسين بن العباس
بن الفضل بن دوما، أخبرنا أبو بكر أحمد بن نصر بن عبد الله الذارع بنهروان... قلت:
هكذا ذكره الذارع في مسنده (3). أقول: في هذا الحديث دلالة على إمامة أمير
المؤمنين عليه السلام بلا فصل من وجوه، كما في تشبيهه بهارون - مع تشبيه النبي
بموسى بصورة مطلقة - دلالة
(هامش)
(1) المناقب للخوارزمي: 312 رقم 313. (2) الأربعين للأربلي: 324. مصورة ضمن المجموع
الرائق. (3) كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب: 255. (*)
ص 202
على أن التنزيل في حديث المنزلة هو بالنسبة إلى عموم منازل هارون عليه السلام.
وبالجملة، ففي هذا الحديث تشبيه أمير المؤمنين عليه السلام بإبراهيم وبهارون، ووصف
له ب سيد الوصيين بعد وصف النبي صلى الله عليه وآله ب سيد النبيين . وقد
روى الحديث جماعة من أعلام السنة وفيه وصفه ب سيد الأولياء أبو الأئمة الطاهرين
وب سيف الله ... وممن رواه الحافظ السمهودي قال: وأنواع تمر المدينة كثيرة
استقصيناها في الأصل الأول، فبلغت مائة وبضعا وثلاثين نوعا. منها: الصيحاني. وفي
(فضل أهل البيت) لابن المؤيد الحموي، عن جابر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى
الله عليه وسلم يوما في بعض حيطان المدينة، ويد علي في يده، قال: فمررنا بنخل، فصاح
النخل: هذا محمد سيد الأنبياء وهذا علي سيد الأولياء أبو الأئمة الطاهرين. ثم مررنا
بنخل فصاح النخل: هذا محمد رسول الله وهذا علي سيف الله. فالتفت النبي صلى الله
عليه وسلم إلى علي فقال له: سمه الصيحاني، فسمي من ذلك اليوم الصيحاني. فكان هذا
سبب تسمية هذا النوع بذلك، إذ المراد نخل ذلك الحائط (1). ورواه الشيخ عبد الحق
الدهلوي في (جذب القلوب)، وحسام الدين السهارنفوري في (المرافض) عن (جذب القلوب).
وهو بهذا اللفظ دليل آخر على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام.
(هامش)
(1) خلاصة الوفا، الفصل الخامس، في ترابها وثمرها. (*)
ص 203
*(12)* كلمة إلا أنه لا نبي بعدي

إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث
المنزلة: إلا أنه لا نبي بعدي يدل دلالة واضحة على أنه لو كان بعده نبي لكان
عليا عليه السلام... فيكون مفاد الحديث دليلا على العصمة والأفضلية، ضرورة اشتراط
العصمة والأفضلية في النبي. وممن صرح بدلالة هذه الكلمة على المعنى المذكور هو
الشيخ علي القاري، حيث قال في شرحه: فيه إيماء إلى أنه لو كان بعده نبي لكان عليا
(1). والشيخ علي القاري من كبار العلماء المحققين في الحديث عندهم، مشهور
بالتحقيق والتنقيح بينهم... كما لا يخفى على من راجع ترجمته في (خلاصة الأثر)
وغيرها،... وقد اعتمد المتأخرون عنه على كلماته في شرحه على المشكاة، وفي غيره من
كتبه، وقد نص غير واحد منهم على اعتبار خصوص كتابه (المرقاة)، أن كاشف الظنون قد
وصفه بالعظمة.
(هامش)
(1) المرقاة في شرح المشكاة 5 / 565. (*)
ص 204
*(13)* قوله صلى الله عليه وآله وسلم ولو كان لكنته

وبالإضافة إلى دلالة إلا
أنه لا نبي بعدي على أنه لو كان بعده نبي لكان عليا... نجد التنصيص منه صلى الله
عليه وآله وسلم على هذا المعنى في بعض ألفاظ حديث المنزلة... وهذا اللفظ رواه
الحافظ الخطيب البغدادي بسنده عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال
الحافظ ابن عساكر: وأما ما روي عن جابر بن عبد الله، فأخبرناه أبو القاسم علي بن
إبراهيم وأبو الحسن علي بن أحمد، قالا: نا أبو منصور بن زريق، أنا أبو بكر الخطيب،
وأخبرني أبو القاسم الأزهري، نا يوسف بن عمر القواس، والمعافى بن زكريا الجريري،
قالا: أنا ابن أبي الأزهر. ح قال: وأنا الحسن بن علي الجوهري، أنا أحمد بن إبراهيم،
نا أبو بكر بن أبي الأزهر، نا أبو كريب محمد بن العلاء، نا إسماعيل بن صبيح، نا أبو
أويس، نا محمد بن المنكدر، نا جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:
أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ولو كان لكنته. قال
الخطيب: قوله: ولو كان لكنته، زيادة لا نعلم رواها إلا ابن أبي
ص 205
الأزهر (1). وقال الحافظ السيوطي في خاتمة كتابه (بغية الوعاة في طبقات اللغويين
والنحاة): هذا باب في أحاديث منتقاة من الطبقات الكبرى، عن لنا أن نختم بها هذا
المختصر، ليكون المسك ختامه والكلم الطيب تمامه . وقد جاء فيه: وبه إليه (أي
بالإسناد إلى الخطيب البغدادي): أنبأنا أبو القاسم الأزهري، حدثنا المعافى بن
زكريا، حدثنا ابن أبي الأزهر، حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، حدثنا محمد بن
إسماعيل بن صبيح، حدثنا أبو أويس، حدثنا محمد بن المنكدر، حدثنا جابر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه
لا نبي بعدي ولو كان لكنته (2). أقول: هذا الحديث الذي أورده السيوطي الحافظ
المعروف، عن الخطيب البغدادي، الحافظ المشهور، الغني عن الوصف والثناء والتعريف،
المترجم له بآيات المدح والإطراء الفائقة عن الحصر والحد في (الأنساب) و(وفيات
الأعيان) و(تذكرة الحفاظ) و(سير أعلام النبلاء) و(طبقات الشافعية) و(الكامل في
التاريخ) و(المختصر في أخبار البشر) و(مرآة الجنان) وغيرها... هذا الحديث نص صريح
في عصمة أمير المؤمنين عليه السلام وأفضليته
(هامش)
(1) تاريخ دمشق 42 / 176. (2) بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 2 / 414 رقم
47. (*)
ص 206
وفي غير ذلك مما يشترط ويعتبر في كل نبي من الأنبياء، وإنما المانع عن نيله تلك
المرتبة ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليس عن ذلك مانع آخر، وإلا كان
الكلام مستهجنا منكرا، ولم يكن فرق بين أمير المؤمنين وبين أدنى الناس... والعياذ
بالله... فلا يتوهمن أحد أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبيل
تعليق المحال بالمحال، وأنه لا يدل على استحقاق الإمام للنبوة كي يثبت به عصمته
وأفضليته عمن سواه... هذا، ولو جاز ذلك وصح لما وضعوا في حق عمر أنه قال: لو كان
بعدي نبي لكان عمر وللزم تجويز: لو كان بعده نبي لكان أبا جهل أو أبا لهب! وهل
يصدر هذا إلا ممن سيصلى نارا ذات لهب؟! وعلى الجملة، فلا ريب في أنه كما أن موانع
النبوة مثل سبق الكفر وعدم العصمة وفقدان الأفضلية من الكل غير مفقودة في عمر، كذلك
هي موجودة في أبي جهل وأبي لهب، فلو جاز إثبات النبوة لعمر على تقدير عدم اختتام
النبوة جاز إثباتها لأبي لهب وأبي جهل وأمثالهما... وأيضا، لو كان قوله صلى الله
عليه وآله وسلم: ولو كان لكنته غير دال على جواز النبوة للأمير على تقدير عدم
اختتامها، بل كان من قبيل تعليق المحال بالمحال، لما دل إلا على استحالة النبوة
له... لكن بيان استحالة النبوة له لا يفيد فضيلة له، والحال أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في مقام بيان فضله عليه الصلاة والسلام... فالقرينة المقامية مانعة منعا
قطعيا عن التوهم المذكور. إحتجاجهم بالحديث الموضوع: لو كان بعدي نبي لكان عمر
وأيضا، يبطل التوهم المذكور باستدلال القوم بالحديث الموضوع في حق عمر: لو كان
بعدي نبي لكان عمر واحتجاجهم على الأفضلية لعمر بن
ص 207
الخطاب... كالتفتازاني القائل في (تهذيب الكلام): والأفضلية بترتيب الخلافة، أما
إجمالا، فلأن اتفاق أكثر العلماء على ذلك يشعر بوجود دليل لهم عليه، وأما تفصيلا،
فلقوله تعالى: *(وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى)* وهو أبو بكر. ولقوله صلى
الله عليه وسلم: والله ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أحد أفضل
من أبي بكر. ولقوله صلى الله عليه وسلم: خير أمتي أبو بكر ثم عمر. وقال: لو كان
بعدي نبي لكان عمر . فهذا الحديث - عند التفتازاني - يدل على الأفضلية، ولو كان من
باب تعليق المحال بالمحال، فمن أين الدلالة على ذلك؟ و(كالدهلوي) الذي احتج بهذا
الحديث وعارض به حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها حيث جعله دالا على وجدان عمر
شرطا من شروط الخلافة - وهو العلم - على الوجه الأتم (1)... فإن هذه الدلالة إنما
تكون إذا لم يكن المراد منه من تعليق المحال بالمحال. وكالشريفي صاحب (النواقض) حيث
قال: ولو أنصف المسلمون علموا أن إسلام جلهم كان ببركة عمر، وهو تلك النعمة
الجليلة العظيمة التي تفوق النعم. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأنه:
لو كان بعدي نبي لكان عمر ابن الخطاب نبيا . هذا، ومما يدل على صدور حديث المنزلة
لإفادة استجماع أمير المؤمنين عليه السلام لكل شرائط النبوة، وعلى سقوط التوهم
المذكور: كلام الحافظ ابن حجر فيما قاله عمر في حق معاذ بن جبل... وهذا نصه: قال
عياض: اشتراط كون الإمام قرشيا مذهب العلماء كافة، وقد عدوها
(هامش)
(1) التحفة الاثنا عشرية: 212. (*)
ص 208
في مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها خلافه، وكذلك من بعدهم في جميع
الأعصار. قال: ولا اعتداد بقول الخوارج ومن وافقهم من المعتزلة، لما فيه من مخالفة
المسلمين. قلت: ويحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر في ذلك، فقد أخرج
أحمد عن عمر بسند رجاله ثقات أنه قال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته. فذكر
الحديث وفيه: قال: فإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل. ومعاذ
بن جبل رجل أنصاري، لا نسب له في قريش. فيحتمل أن يقال: لعل الإجماع انعقد بعد عمر
على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيا، أو تغير اجتهاد عمر في ذلك. والله أعلم (1).
فإن ما قاله عمر في حق معاذ يدل دلالة واضحة على استجماع معاذ لشرائط الخلافة...
ولولا هذه الدلالة لما احتاج هذا القول إلى التأويل، من جهة عدم كونه قرشيا...
فتلخص: أن الحديث الشريف الذي رواه الحافظ الخطيب البغدادي يدل دلالة تامة واضحة
على استجماع الأمير لشرائط النبوة، وأنه لولا اختتامها بالنبي الأكرم لكان نبيا...
ولا مجال لتأويله بما يخرجه عن هذه الدلالة. قولهم في حق الجويني: لو بعث الله نبيا
لكان هو ثم إنه لا غرابة في أن يضع القوم حديثا في فضل عمر مفاده استحقاقه النبوة
بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم... ليعارضوا به الأحاديث الثابتة في الأمير وأهل
البيت عليهم السلام... بعد أن قالوا مثل هذا الكلام في حق عالم من علمائهم...!!
(هامش)
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري 13 / 102. (*)
ص 209
لقد قالوه في حق أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني كما جاء في ترجمته: قال
اليافعي: سنة 438. وفيها الشيخ الإمام الجليل القدر، مفتي الأنام، قدوة المسلمين
وركن الإسلام، ذو المحاسن والمناقب العظام، والفضائل المشهورة عند العلماء والعوام،
الفقيه الأصولي، الأديب النحوي المفسر، الشيخ أبو محمد الجويني، عبد الله بن يوسف،
شيخ الشافعية، ووالد إمام الحرمين. قال أهل التواريخ: كان إماما في التفسير والفقه
والأصول والعربية والأدب... وكان مهيبا لا يجري بين يديه إلا الجد والبحث والتحريض
على التحصيل. له في الفقه تصانيف كثيرة الفضائل مثل... وله التفسير المذكور المشتمل
على عشرة أنواع في كل آية. وقال الإمام عبد الواحد بن عبد الكريم القشيري: كان
أئمتنا في عصره والمحققون من أصحابنا يعتقدون فيه من الكمال والفضل والخصال
الحميدة، ما أنه لو جاز أن يبعث الله تعالى نبيا في عصره لما كان إلا هو، من حسن
طريقته وورعه وزهده وديانته وكمال فضله. رضي الله عنه (1). وذكر السبكي بترجمته
كلام القشيري وأضاف: وقال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني: لو كان الشيخ أبو محمد
في بني إسرائيل لنقل إلينا شمائله ولافتخروا به (2).
(هامش)
(1) مرآة الجنان. حوادث 3 438 / 58 - 59. (2) طبقات الشافعية 5 / 74. (*)
ص 210
قولهم في حق الغزالي: لو كان بعد النبي نبي لكان الغزالي وعن بعض أكابرهم الجامعين
بين علوم الظاهر والباطن! أنه قال نظير الكلمة المذكورة في حق أبي حامد الغزالي،
وأضاف بأن بعض مصنفاته معجزات... فقد ذكر الحافظ السيوطي في (التنبئة بمن يبعثه
الله على رأس كل مائة) بترجمة الغزالي: قال الشيخ عفيف الدين اليافعي في الإرشاد:
قد قال جماعة من العلماء - منهم الحافظ ابن عساكر - في الحديث الوارد عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - إن الله يبعث لهذه الأمة من يجدد لها دينها على رأس كل مائة،
إنه كان على رأس المائة الأولى: عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس الثانية: الإمام
الشافعي، وعلى رأس الثالثة: الإمام أبو الحسن الأشعري، وعلى رأس الرابعة: أبو بكر
الباقلاني، وعلى رأس الخامسة: الإمام أبو حامد الغزالي. وذلك لتميزه بكثرة المصنفات
البديعات، وغوصه في بحور العلوم، والجمع بين علوم الشريعة والحقيقة والفروع والأصول
والمعقول والمنقول والتدقيق والتحقيق والعلم والعمل. حتى قال بعض العلماء الأكابر
الجامعين بين العلم الظاهر والباطن: لو كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبي لكان
الغزالي، وأنه يحصل ثبوت معجزاته ببعض مصنفاته . رؤيا والدة ولي الله في استحقاق
زوجها أو ولدها النبوة والأطرف من كل ذلك: رؤيا والدة شاه ولي الله الدهلوي في
استحقاق زوجها النبوة، لكن ولدها - ولي الله - يعبر الرؤيا بما حاصله استحقاقه هو
للنبوة
ص 211
دون والده... وإليك نص صورة الرؤيا كما حكاها ولي الله في كتابه (التفهيمات الإلهية
: تفهيم - رأت والدتي بارك الله في عمرها في المنام: كأن طائرا عجيب الشكل، جاء
إلى أبي - قدس سره - يحمل في منقاره كاغذة عليها اسم الله بالذهب، ثم جاء طائر آخر
يحمل في منقاره كاغذة أخرى فيها: بسم الله الرحمن الرحيم لو كان النبوة بعد محمد -
صلى الله عليه وسلم - ممكنا لجعلتك نبيا ولكنها انقطعت به. هذه الألفاظ أو بمعناها.
والطائر الأول كان منقاره أحمر وسائر جسده أغبر مثل الحمام، والثاني: سائر جسده
أخضر كالطوطي. فقال أبي - قدس سره -: أبشري بولدك - أشار إلي - أما كنا أعلمناك أنه
سيكون وليا؟! قالت والدتي: وكان علمي في ذلك المنام أن البشارة في حق أبيك وقوله -
قدس سره - يشعر بأنها فيك. وكان الأمر مشتبها عليها. أقول: وحق التعبير - كما
تقتضيه قوانين الحكمة - أن يقال: الكاغذة الأولى إشارة إلى كمال أبي قدس سره، فإنه
كان فانيا في الله مستغرقا فيه. أما غبرة حاملها، فلأنه كان غير مشغول بذكر
المعارف. وكذلك الحمام والفاختة حسن الصوت غير فصيحها. وأما الكاغذة الأخرى فإشارة
إلى الكمال الذي أوتيته من تلقاء تشريح كمالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وأما
الخضرة حاملها فلإيضاحي بالمعارف، كما أن الطوطي تفصح وتقطع صوتها. وكان هذا حين
فطمت عن اللبن. والحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم .
ص 212
*(14)* قوله صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام: شد به عضدي

كما شد عضد
موسى بأخيه هارون وهو خليفتي ووزيري ولو كان بعدي النبوة لكان نبيا وجاء في
حديث تشبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمير المؤمنين عليه السلام بهارون، مع
التنصيص على وصايته وخلافته، ثم قال: ولو كان بعدي النبوة لكان نبيا . وهذا نصه:
عن أنس - رضي الله عنه - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفاني
على الأنبياء، واختار لي وصيا، واخترت ابن عمي وشد به عضدي كما شد عضد موسى بأخيه
هارون، وهو خليفتي ووزيري، ولو كان بعدي النبوة لكان نبيا (1). وهذا الحديث الذي
رواه السيد علي الهمداني في كتابه الذي ضمنه - كما قال - جواهر الأخبار ولآلي
الآثار في فضائل أهل البيت . نص صريح في خلافة أمير المؤمنين عليه السلام ووصايته،
وأنه إنما كان كذلك لأنه لا نبي بعده صلى الله عليه وآله وسلم وإلا لكان نبيا...
وبالجملة، فإن له كل ما لهارون، إلا النبوة، لكون رسول الإسلام خاتم النبيين.
(هامش)
(1) مودة القربى - المودة السادسة، ينابيع المودة 2 / 288. الطبعة الحديثة. (*
ص 213
*(15)* ما قاله عمار في حق الأمير واستدلاله بحديث المنزلة

وروى الشيخ علي المتقي:
عن يحيى بن عبد الله بن الحسن، عن أبيه قال: كان علي يخطب، فقام إليه رجل فقال:
يا أمير المؤمنين! أخبرني من أهل الجماعة؟ ومن أهل الفرقة ومن أهل السنة؟ ومن أهل
البدعة؟ فقال: ويحك! أما إذا سألتني فافهم عني، ولا عليك أن لا تسأل عنها أحدا
بعدي. فأما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلوا، وذلك عن أمر الله وأمر رسوله.
فأما أهل الفرقة فالمخالفون لي ولمن اتبعني وإن كثروا. وأما أهل السنة فالمتمسكون
بما سنه الله لهم ورسوله، وإن قلوا. وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه
ورسله، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا. وقد مضى منهم الفوج الأول وبقيت أفواج،
وعلى الله قصمها واستيصالها عن جديد الأرض. فقام إليه عمار فقال: يا أمير المؤمنين،
إن الناس يذكرون الفئ ويزعمون أن من قاتلنا فهو وماله وأهله فئ لنا وولده. فقام رجل
من بكر بن وائل - يدعى عباد بن قيس - وكان ذا عارضة ولسان شديد، فقال: يا أمير
المؤمنين! والله ما قسمت بالسوية، ولا عدلت في الرعية!
ص 214
فقال علي: ولم ويحك؟ قال: لأنك قسمت ما في العسكر وتركت الأموال والنساء والذرية.
فقال علي: أيها الناس من كان به جراحة فليداوها بالسمن. فقال عباد: جئنا نطلب
غنائمنا فجاءنا بالترهات! فقال له علي: إن كنت كاذبا فلا أماتك الله حتى تدرك غلام
ثقيف. فقال رجل من القوم: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ فقال: رجل لا يدع لله
حرمة إلا انتهكها. قال: فيموت أو يقتل؟ قال: بل يقصمه قاصم الجبارين، قتله بموت
فاحش يحترف منه دبره لكثرة ما يجري من بطنه. يا أخا بكر، أنت امرؤ ضعيف الرأس! أو
ما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير، وإن الأموال كانت لهم قبل الفرقة، وتزوجوا
على رشده، وولدوا على الفطرة، وإنما لكم ما حوى عسكرهم، وما كان في دورهم فهو ميراث
لذريتهم، فإن عدا علينا أحد منهم أخذناه بذنبه، وإن كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره.
يا أخا بكر: لقد حكمت فيهم بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهل مكة، قسم
ما حوى العسكر ولم يعرض لما سوى ذلك، وإنما اتبعت أثره حذو النعل بالنعل. يا أخا
بكر أما علمت أن دار الحرب يحل ما فيها وأن دار الهجرة يحرم ما فيها إلا بحق. فمهلا
يرحمكم الله. فإن أنتم لم تصدقوني وأكثرتم علي، وذلك أن تكلم في هذا غير واحد،
فأيكم يأخذ أمه عائشة بسهمه؟ قالوا: لا أينا يا أمير المؤمنين، بل أصبت وأخطأ،
وعلمت وجهلنا. ونحن نستغفر الله.
ص 215
وتنادى الناس من كل جانب: أصبت يا أمير المؤمنين، أصاب الله بك الرشاد. فقام عمار
وقال: يا أيها الناس، إنكم - والله - إن اتبعتموه وأطعتموه لم يضل بكم عن منهاج
نبيكم قيس شعرة، وكيف يكون ذلك؟ وقد استودعه رسول الله صلى الله عليه وسلم المنايا
والوصايا وفصل الخطاب على منهاج هارون بن عمران، إنه قال له رسول الله: أنت مني
بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، فضلا خصه الله به إكراما منه لنبيه حيث
أعطاه ما لم يعط أحدا من خلقه. ثم قال علي: انظروا رحمكم الله ما تؤمرون به فامضوا
له، فإن العالم أعلم بما يأتي من الجاهل الخسيس الأخس، فإني حاملكم - إن شاء الله
تعالى، إن أطعتموني - على سبيل الجنة وإن كان ذا مشقة شديدة ومرارة عتيدة، والدنيا
حلوة الحلاوة لمن اغتر بها من الشقوة والندامة عما قليل. ثم إني مخبركم أن خيلا من
بني إسرائيل أمرهم نبيهم أن لا يشربوا من النهر، فلجوا في ترك أمره، فشربوا منه إلا
قليلا منهم، فكونوا رحمكم الله من أولئك الذين أطاعوا نبيهم ولم يعصوا ربهم (1).
فقد جعل الصحابي الجليل عمار بن ياسر - رضي الله عنه - حديث المنزلة دليلا على أن
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد استودع الإمام عليا عليه السلام علم المنايا
والوصايا وفصل الخطاب على منهاج هارون، وهو المعصوم عن الخطأ والمصون عن النقائص...
فاستفاد من حديث المنزلة الدلالة على عصمة الإمام عليه السلام ووجوب إطاعته
واتباعه، كما يجب إطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكونه على منهاجه
تماما...
(هامش)
(1) كنز العمال 16 / 183 رقم 44216. (*)
ص 216
فلا ريب إذن في دلالة الحديث على افتراض طاعة الأمير وعصمته وأفضليته وأعلميته،
وبذلك يكون هو المتعين للخلافة، ويظهر أن لا حق لغيره فيها... ويتبين سقوط الترهات
التي فاه بها المكابرون، وتذهب أضاليل الأعور وابن تيمية أدراج الرياح... مضافا إلى
الفوائد الأخرى المشتمل عليها هذا الحديث: منها: قول الإمام عليه السلام: فأما
أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلوا فإنه يفيد أن كلما ورد من الأمر باتباع
الجماعة والكون مع الجماعة ونحو ذلك، فهو أمر باتباعه واتباع من اتبعه... ويفيد
أيضا أنه مفترض الطاعة وواجب الاتباع، وذاك يفيد عصمته وتعينه للإمامة والخلافة.
وقد أكد ذلك بقوله: وذلك عن أمر الله وأمر رسوله . ومنها: قوله عليه السلام:
فأما أهل الفرقة فالمخالفون لي ولمن اتبعني فإنه أيضا يفيد وجوب اتباعه وذم
مخالفته. وهذه هي العصمة كذلك. ومنها: قوله عليه السلام: فأما أهل السنة...
فإنه بعد تعريفه أهل الجماعة بما عرفت، يدل على أن أهل السنة هم المتابعون له
لا المنقادون لغيره وإن تسموا بهذا الاسم. ومنها: قوله عليه السلام: فأما أهل
البدعة... فإن المراد منهم - بعد معرفة أهل السنة والجماعة - هم المخالفون له
ولأتباعه وإن كثروا... ومنها: قوله عليه السلام: وقد مضى منهم الفوج الأول فإنه
إن أراد الثلاثة وأتباعهم - كما هو الظاهر - فالأمر واضح، وإن أراد أصحاب الجمل،
فيكون قد وصف عليه السلام طلحة والزبير وأتباعهما بأهل البدعة. ومنها: قوله: إنا
لا نأخذ الصغير بذنب الكبير فصريح في أن أصحاب
ص 217
الجمل مرتكبون للذنب، فلا فائدة لما يقال من أنهم اجتهدوا وأخطأوا، فهم مأجورون
أجرا واحدا!! كما أنه عليه السلام وصفهم بأهل الفرقة. وأنه أجرى فيهم حكم الكفار من
أهل مكة. ومنها: قوله: فانظروا رحمكم الله ما تؤمرون فامضوا له... نص في عصمته
ووجوب طاعته... وأنه الأعلم، الحامل للأمة على سبيل الجنة. ومنها: قوله: فكونوا
رحمكم الله من أولئك... حيث أفاد أن طاعته بعينها طاعة النبي المعصوم، وعدم
عصيانه إطاعة للحي القيوم، وفيه ما يدل على كمال العصمة، وأن حكمه عين حكم رب
العزة.
ص 218
*(16)* الأعلمية من منازل هارون إنه لا ريب في أن هارون كان الأعلم في الأمة بعد
موسى عليه السلام...

فيكون أمير المؤمنين عليه السلام الأعلم في الأمة بعد نبينا -
صلى الله عليه وآله وسلم -. والأعلمية تفيد الأفضلية، والأفضلية سبب انحصار الخلافة
فيه. أما أعلمية هارون بعد موسى، فقد ذكرنا عدم الريب فيها، وإليك جملة من عباراتهم
الصريحة بها: قال البغوي: قال أهل العلم بالأخبار: كان قارون أعلم بني إسرائيل
بعد موسى وهارون - عليهما السلام - وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم، وكان حسن
الصورة فبغى وطغى (1). وفي الجلالين: *(قال إنما أوتيته)* أي المال *(على علم
عندي)*. أي في مقابله. وكان أعلم بني إسرائيل بالتوراة بعد موسى وهارون (2). وقال
الخطيب الشربيني: وروى أهل العلم بالأخبار: أن قارون كان أعلم بني إسرائيل بعد
موسى وهارون... (3). وقال العيني: وكان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون
وأفضلهم وأجملهم، قال قتادة: وكان يسمى المنور لحسن صورته، ولم يكن في
(هامش)
(1) معالم التنزيل 4 / 359. (2) تفسير الجلالين 2 / 201. (3) السراج المنير في
تفسير القرآن 3 / 116. (*)
ص 219
بني إسرائيل أقرء للتوراة منه... (1). وعلى الجملة، فإن هارون كان أعلم بني
إسرائيل بعد موسى، فلا يبقى ريب في أعلمية أمير المؤمنين عليه السلام، لما دل على
عموم المنزلة مما تقدم ويأتي، ولخصوص ما أوردناه عن عمار بن ياسر ونحوه. وعلى فرض
قبول ما ذكره ولي الله الدهلوي من حمل الحديث على المنازل المشهورة، فإن الأعلمية
منها قطعا، فالدلالة تامة. هذا، وقد نص العلامة سعيد الدين الفرغاني بشرح قول ابن
الفارض في (التائية): وأوضح بالتأويل ما كان مشكلا * علي بعلم ناله بالوصية نص
على أن حديث المنزلة - كحديث الثقلين وكحديث أنا مدينة العلم - يدل على حصول العلم
لأمير المؤمنين بوصية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان بذلك أعلم من سائر
الصحابة، لا سيما من عمر الذي أفصح عن ذلك بقوله غير مرة: لولا علي لهلك عمر. ووجه
الاستدلال بحديث المنزلة على الأعلمية لا يكون إلا بأن يقال: كما أن هارون كان
متمكنا من حل المشكلات والمعضلات بعلم ناله بالوصية من موسى، فعلي مثل هارون، حصلت
له تلك المرتبة بوصية من النبي. كما أفاد كلامه دلالة حديث الثقلين على المرام.
والحمد لله. ولو كابر متعصب عنود فيما قاله الفرغاني وغيره، فإليك المطلب من رئيس
الفرقة الباغية:
(هامش)
(1) عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان - النوع الثامن والثلاثون، قصة هارون. (*)
ص 220
*(17)* دلالة الحديث على الأعلمية على لسان معاوية

ففي خبر رواه أعاظم القوم وأكابر
أئمتهم أمثال: 1 - أحمد بن حنبل 2 - أبي الحسن علي بن عمر بن شاذان 3 - الفقيه
الشافعي ابن المغازلي الواسطي 4 - الفقيه أبي الليث السمرقندي 5 - محب الدين الطبري
6 - إبراهيم بن محمد الحمويني الجويني 7 - محمد بن يوسف الزرندي 8 - نور الدين
السمهودي 9 - إبراهيم بن عبد الله اليمني الوصابي 10 - أحمد بن حجر المكي 11 - أحمد
بن فضل بن باكثير المكي 12 - أحمد بن عبد القادر العجيلي 13 - المولوي مبين الكهنوي
يستدل رئيس الفرقة الباغية وقائد النواصب... معاوية بن أبي سفيان بحديث المنزلة على
أعلمية مولانا أمير المؤمنين عليه السلام... والفضل ما شهدت به الأعداء...
ص 221
قال ابن عساكر: وأما ما روي عن معاوية: فأخبرنا أبو القاسم زاهر بن طاهر، أنا أبو
سعد الجنزرودي، أنا السيد أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين، نا حمزة بن محمد
الدهقان، نا محمد بن يونس، نا وهب بن عثمان البصري، نا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس
بن أبي حازم قال: سأل رجل معاوية عن مسألة فقال: سل عنها علي بن أبي طالب، فهو أعلم
مني، قال: قولك يا أمير المؤمنين أحب إلي من قول علي، قال: بئس ما قلت ولؤم ما جئت
به، لقد كرهت رجلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغره بالعلم غرا، ولقد قال له:
أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي . وكان عمر بن الخطاب يسأله
ويأخذ عنه، ولقد شهدت عمر إذا أشكل عليه أمر قال: هاهنا علي بن أبي طالب؟ ثم قال
للرجل: قم لا أقام الله رجليك، ومحا اسمه من الديوان. أخبرناه عاليا أبو نصر بن
رضوان، وأبو علي ابن السبط، وأبو غالب بن البنا، قالوا: أنا أبو محمد الجوهري، أنا
أبو بكر بن مالك، نا وهب بن عمرو بن عثمان النمري البصري، حدثني أبي، عن إسماعيل بن
أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال: سل
عنها علي بن أبي طالب فهو أعلم، فقال: يا أمير المؤمنين جوابك فيها أحب إلي من جواب
علي، فقال: بئس ما قلت، ولؤم ما جئت به، لقد كرهت رجلا كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يغره بالعلم غرا، ولقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت
ص 222
مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي . وكان عمر إذا أشكل عليه شيء،
يأخذ منه، ولقد سمعت عمر وقد أشكل عليه فقال: هاهنا علي؟ قم لا أقام الله رجليك
(1). وقال ابن المغازلي: أخبرنا أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن العباس البزاز
رفعه إلى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس قال: سأل رجل معاوية عن مسألة. فقال: سل عنها
علي بن أبي طالب فإنه أعلم. قال: يا أمير المؤمنين قولك فيها أحب إلي من قول علي.
فقال: بئسما قلت ولؤمت ما جئت به، لقد كرهت رجلا كان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يغره العلم غرا، ولقد قال رسول الله له: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا
أنه لا نبي بعدي، ولقد كان عمر بن الخطاب يسأله فيأخذ عنه، ولقد شهدت عمر إذا أشكل
عليه شيء قال: ههنا علي. قم لا أقام الله رجليك، ومحا اسمه من الديوان (2). وقال
ابن حجر: أخرج أحمد: إن رجلا سأل معاوية عن مسألة... وأخرجه آخرون بنحوه...
(3). وقال السمهودي: أخرج الإمام أحمد في المناقب عن أبي حازم قال: جاء رجل إلى
معاوية... وأخرج جماعة آخرون منهم ابن شاذان عن قيس بن أبي حازم بنحوه... (4).
وقال الحمويني: أخبرنا الشيخ جمال الدين أحمد بن محمد القزويني المعروف بمدكويه
مناولة قال: أنبأنا الشيخ ضياء الدين عبد الوهاب بن علي بن علي البغدادي إجازة،
بروايته عن شيخ الإسلام جمال السنة أبي عبد الله محمد
(هامش)
(1) تاريخ دمشق 42 / 97. (2) المناقب لابن المغازلي: 34 رقم 52. (3) الصواعق
المحرقة: 110. (4) جواهر العقدين 2 / 328. (*)
ص 223
ابن حمويه بن محمد الجويني قال: أنبأنا الشيخ أبو محمد الحسن بن أحمد، أنبأنا
الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم البخاري الكلابادي، نبأنا محمد بن عبد الله بن يوسف
العماني. ح محمد بن محمد بن الأزهري الأشعري قال: نبأنا الكديمي. قال العماني:
نبأنا عمر بن عثمان النمري. وقال الأزهري نبأنا وهب بن عمر بن عثمان - وهو الصواب -
قال: نبأنا أبي عن أبي إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ابن أبي حازم قال: جاء رجل إلى
معاوية فسأله عن مسألة... (1). فهذا مدلول ومفاد حديث المنزلة عند معاوية
الباغية، لكن الأعور وابن تيمية وأمثالهما يخالفون إمامهم في هذا المقام، حتى أن
الأعور يتخذ هذا الحديث دليلا على تنقيصه عليه الصلاة والسلام!! ولا يتوهم دلالة
الحديث على أعلمية الإمام من معاوية فقط، لأن معاوية إنما فهم أعلمية الإمام من
تنزيل النبي إياه منزلة هارون، وقد كان هارون أعلم أمة موسى قاطبة، فعلي عليه
السلام أعلم الأمة الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويشهد بما ذكرنا
استشهاد معاوية بأعلمية الإمام من عمر بن الخطاب.
(هامش)
(1) فرائد السمطين 1 / 371 رقم 302. (*)
ص 224
*(18)* قول معاوية بعد سماع الحديث لو سمعت من رسول الله في علي لكنت له خادم

قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: وأما السنة فأخبار، فنبدء منها بما ثبت في الصحيح
والمشاهير من الآثار. حديث في إخاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله
وجهه: قال أحمد في المسند - وقد تقدم إسناده - حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن
الحكم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص قال: خلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم عليا في غزاة تبوك. فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان! فقال: ألا
ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟ وأخرجاه في الصحيحين.
ولمسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا وقال له: ما
منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال سعد: أما ما ذكرت ثلاثا سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم قالهن له فلن أسبه أبدا، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم. وذكر
منها حديث الراية كما سيجئ. الثانية: لما نزلت *(قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم)*
الآية. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا
ص 225
وحسينا، وقال - صلى الله عليه وسلم - اللهم هؤلاء أهلي. الثالثة: سمعت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - وقد خلفه في بعض مغازيه - فقال يا رسول الله تركتني مع النساء
والصبيان. فقال صلى الله عليه وسلم: ألا ترضى. وذكر الحديث. وقد ذكر المسعودي في
كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر: إن سعدا لما قال لمعاوية هذه المقالة قال له
معاوية: ما كنت عندي ألأم منك الآن، فألا نصرته؟ ولم قعدت عن بيعته؟ وكان سعد قد
تخلف عن بيعة علي. ثم قال معاوية: أما إني لو سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما سمعت في علي بن أبي طالب لكنت له خادما (1). أقول: وهذا ما جاء في (مروج
الذهب): حدث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حميد الرازي، عن أبي
مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح قال: لما حج معاوية طاف بالبيت ومعه سعد،
فلما فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة، فأجلسه معه إلى سريره، ووقع معاوية في علي
وشرع في سبه، فزحف سعد. ثم قال: أجلستني معك على سريرك ثم شرعت في سب علي! والله
لأن يكون في خصلة واحدة من خصال كانت لعلي أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه
الشمس: والله لأن أكون صهرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لي من الولد ما لعلي
(هامش)
(1) تذكرة خواص الأمة: 18 - 19. (*)
ص 226
أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس. والله لأن يكون رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لي ما قال له يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويحب
الله ورسوله ليس بفرار يفتح الله على يديه، أحب إلي من أن يكون لي ما طلعت عليه
الشمس. والله لأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ما قال في غزوة تبوك:
ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، أحب إلي من أن
يكون لي ما طلعت عليه الشمس. وأيم الله لا دخلت لك دارا ما بقيت. ونهض. ووجدت في
آخر من الروايات وذلك في كتاب علي بن محمد بن سليمان النوفلي في الأخبار عن ابن
عائشة وغيره: إن سعدا لما قال هذه المقالة لمعاوية نهض يقوم، ضرط له معاوية وقال
له: أقعد لما تسمع جواب ما قلت: ما كنت عندي قط ألأم منك الآن، فهلا نصرته؟ ولم
قعدت عن بيعته؟ فإني لو سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الذي سمعت فيه
لكنت خادما لعلي ما عشت. فقال سعد: والله إني لأحق بموضعك. فقال معاوية: يأبى عليك
بنو عذرة. وكان سعد - فيما يقال - لرجل من بني عذرة (1).
(هامش)
(1) مروج الذهب 3 / 14. (*)
ص 227
*(19)* كلام أروى بنت الحارث مع معاوية

ومما يستدل به على دلالة حديث المنزلة على
إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وخلافته العامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم بلا فصل: كلام الصحابية الجليلة أروى بنت الحارث بن عبد المطلب الهاشمية -
المذكورة في (الإصابة) للحافظ ابن حجر بقوله: أروى بنت الحارث بن عبد المطلب
الهاشمية والدة المطلب بن أبي وداعة السهمي، ذكرها ابن سعد في الصحابيات في بنات عم
النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أمها غزية بنت قيس بن طريف، عن بني الحارث بن
فهر بن مالك. قال: وولدت لأبي وداعة المطلب وأبا سفيان وأم جميل وأم حكيم والربعة
(1). لقد قالت أروى لمعاوية عندما وفدت عليه ودار بينها وبينه حديث طويل... رواه
غير واحد من مشاهير المؤرخين وأهل الأدب... كلاما هو من أحسن ما يستدل به في
المقام. رواية ابن عبد ربه فمن رواة خبرها مع معاوية: أبو عمر أحمد بن عبد ربه
الأندلسي... حيث قال:
(هامش)
(1) الإصابة في معرفة الصحابة 8 / 7. الطبعة الحديثة. (*)
ص 228
وفود أروى بنت عبد المطلب على معاوية رحمه الله. العباس بن بكار قال: حدثني عبد
الله بن سليمان المدني وأبو بكر الهذلي: أن أروى بنت الحارث بنت عبد المطلب دخلت
على معاوية وهي عجوز كبيرة، فلما رآها معاوية قال: مرحبا بك وأهلا يا خالة، فكيف
كنت بعدنا؟ فقالت: يا ابن أخي، لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت
بغير اسمك، وأخذت غير حقك، من غير دين كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام،
بعد أن كفرتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتعس الله منكم الجدود، وأضرع منكم
الخدود، ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا، ونبينا - صلى
الله عليه وسلم - هو المنصور. فوليتم علينا من بعده، تحتجون بقرابتكم من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر. فكنا فيكم بمنزلة بني
إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى.
فغايتنا الجنة وغايتكم النار. فقال لها عمرو بن العاص: كفي أيتها العجوز الضالة،
واقصري عن قولك مع ذهاب عقلك، إذ لا تجوز شهادتك وحدك. فقالت له: وأنت يا ابن
النابغة، تتكلم وأمك كانت أشهر بغي بمكة، وآخذهن للأجرة! إدعاك خمسة نفر من قريش،
فسئلت أمك عنهم، فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب عليك شبه
العاص بن وائل، فلحقت به. فقال مروان: كفي أيتها العجوز واقصري لما جئت به. فقالت:
وأنت أيضا يا ابن الزرقاء تتكلم!
ص 229
ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله ما جرأ علي هؤلاء غيرك، فإن أمك القائلة في قتل
حمزة: نحن جزيناكم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان لي في عتبة من صبر *
وشكر وحشي علي دهري حتى ترم أعظمي في قبري فأجابتها بنت عمي وهي تقول: خزيت في بدر
وبعد بدر * يا ابنة جبار عظيم الكفر فقال معاوية: عفا الله عما سلف، يا خالة، هاتي
حاجتك. فقالت: ما لي إليك حاجة. وخرجت عنه (1). ابن عبد ربه وكتابه العقد وتوجد
ترجمة ابن عبد ربه في كثير من التراجم والتواريخ المعتبرة، مثل: 1 - معجم الأدباء 4
/ 211. 2 - وفيات الأعيان، لابن خلكان 1 / 110. 3 - العبر في خبر من غبر، للذهبي 2
/ 211. 4 - البداية والنهاية 11 / 193. 5 - الوافي بالوفيات 8 / 10.
(هامش)
(1) العقد الفريد 1 / 357. (*)
ص 230
6 - مرآة الجنان، لليافعي 2 / 295. 7 - بغية الوعاة: 161. 8 - نفح الطيب لأبي
العباس المقري، حيث جاء فيه: الفقيه العالم أبي عمر أحمد بن عبد ربه، عالم ساد
العلم ورأس، واقتبس به من الحظوة ما اقتبس، وشهر بالأندلس حتى سار إلى المشرق ذكره،
واستطار بشرر الذكاء فكره، وكانت له عناية بالعلم وثقة، ورواية له متسقة، وأما
الأدب فهو حجته وبه غمرت الأفهام لجته، مع صيانة وورع، وديانة ورد ماءها فكرع، وله
التأليف المشهور سماه بالعقد، وحماه عن عثرات النقد، لأنه أبرزه مثقف القناة مرهف
الشباة، تقصر عنه ثواقب الألباب وتبصر السحر منه في كل باب، وله شعر انتهى منتهاه،
وتجاوز سماك الإحسان وسماه... . كما أن كتابه (العقد) من الكتب المعتبرة عندهم،
فقد سمعت وصفه بأنه محمي عن النقد، وفي وفيات الأعيان وغيره وصفه بأنه من الكتب
الممتعة، وفي بعض الكتب وصفه بأنه من الكتب النفيسة... كما نقل عنه واعتمد عليه ابن
خلكان في (تاريخه) والبلوي في (ألف با) وأبو الفضل جعفر بن ثعلب في (الإمتاع بأحكام
السماع) وابن خلدون في (تاريخه) وعبد العزيز ابن فهد المكي في (غاية المرام بأخبار
سلطنة البلد الحرام) وغيرهم. وقد قال ابن عبد ربه في وصفه: وقد ألفت هذا الكتاب
وتخيرت جواهره من متخير جواهر الآداب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب
اللباب، وإنما لي فيه تأليف الإختيار وحسن الاختصار وفرش لدور كل كتاب، وما سواه
فمأخوذ من أفواه العلماء ومأثور عن الحكماء والأدباء، واختيار الكلام أصعب من
تأليفه، وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله .
ص 231
رواية أبي الفداء
ومن رواته: إسماعيل بن علي المشتهر بأبي الفداء، حيث قال في
(تاريخه) في أخبار معاوية: ومما يحكى عن حلمه: من تاريخ القاضي جمال الدين ابن
واصل: أن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة،
فقال لها معاوية: مرحبا بك يا خالة، كيف أنت؟ فقالت: بخير يا ابن أختي، لقد كفرت
النعمة وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، وكنا أهل البيت
أعظم الناس في هذا الدين بلاء، حتى قبض الله نبيه، مشكورا سعيه مرفوعا منزلته،
فوثبت علينا بعده بنو تيم وعدي وأمية، فابتزونا حقنا، ووليتم علينا، وكنا فيكم
بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب بعد نبينا بمنزلة هارون من
موسى. فقال لها عمرو بن العاص: كفي أيتها العجوز الضالة، واقصري عن قولك مع ذهاب
عقلك. فقالت: وأنت يا ابن النابغة تتكلم، وأمك كانت أشهر بغي بمكة، وأرخصهن أجرة،
وادعاك خمسة من قريش، فسئلت أمك عنهم فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه
به. فغلب عليك شبه العاص بن وائل فألحقوك به. فقال لها معاوية: عفا الله عما سلف،
هاتي حاجتك. فقالت: أريد ألفي دينار لأشتري بها عينا فوارة في أرض خرارة، تكون
لفقراء بني الحارث بن عبد المطلب. وألفي دينار أخرى أزوج بها فقراء بني الحارث.
وألفي دينار أخرى أستعين بها على شدة الزمان.
ص 232
فأمر لها معاوية بستة آلاف دينار. فقبضتها. وانصرفت (1). أبو الفداء وتاريخه وقد
ذكروا أبا الفداء بكل مدح وثناء في كتبهم مثل: 1 - طبقات الشافعية للسبكي 6 / 84. 2
- تتمة المختصر، لابن الوردي 2 / 297. 3 - النجوم الزاهرة 9 / 292. 4 - فوات
الوفيات، لابن شاكر 1 / 16. 5 - البداية والنهاية لابن كثير 14 / 158. 6 - الدرر
الكامنة، لابن حجر العسقلاني 1 / 371. وكتابه (المختصر في أخبار البشر) من التواريخ
المعروفة، ذكر مؤلفه أنه تذكرة تغنيني عن مراجعة الكتب المطولة وقال (كاشف
الظنون): أورد فيه أشياء من التواريخ القديمة والإسلامية، لتكون تذكرة ومغنية عن
مراجعة الكتب المطولة . وفي (التتمة لابن الوردي): من الكتب التي لا يقع مثلها
ولا يسع جهلها، فإنه اختاره من التواريخ التي لا تجتمع إلا للملوك... وضمنه كنوزا،
وهل يعجز عن الكنوز من هو ملك مؤيد؟... . رواية ابن شحنة ومن رواته: القاضي محب
الدين أبو الوليد الحلبي المعروف بابن الشحنة حيث قال: وفي سنة 60 مات معاوية،
وكان عمره 75 سنة، وكان يغلب حلمه على ظلمه، وكان ذا هيبة يحسن سياسة الملك.
(هامش)
(1) المختصر في أحوال البشر 1 / 188. (*)
ص 233
دخلت عليه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب، فقال لها: مرحبا بك يا خالة، كيف حالك؟
فقالت: بخير يا ابن أختي، لقد كفرت النعمة وأسأت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك
وأخذت غير حقك، وكنا أهل البيت أعظم الناس في هذا الدين بلاء، حتى قبض الله نبيه،
مشكورا سعيه مرفوعا منزلته، فوثبت علينا بعده بنو تيم وعدي وأمية، فابتزونا حقنا
ووليتم علينا، فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب بعد
نبينا صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى. فقال لها عمرو بن العاص... . إلى
آخر الخبر... (1) ابن شحنة وتاريخه وقد ترجم الحافظ السخاوي لابن شحنة بقوله: ولد
سنة 749 بحلب ونشأ بها في كنف أبيه، فحفظ القرآن وكتبا، وأخذ عن شيوخ بلده
والقادمين إليها فاشتهرت فضائله، بحيث عينه أكمل الدين وسراج الدين لقضاء بلده
وأثنيا عليه، فولاه إياه الأشرف شعبان، وذلك في سنة 78 عوضا عن الجمال إبراهيم بن
العديم. وذكره ابن خطيب الناصرية فقال: شيخنا وشيخ الإسلام، كان إنسانا حسنا عاقلا،
دمث الأخلاق، حلو النادرة، عالي الهمة، إماما عالما فاضلا ذكيا، له الأدب الجيد
والنظم والنثر الفائقان واليد الطولى في جميع العلوم، قرأت عليه...
(هامش)
(1) روضة المناظر. حوادث سنة 60. (*)
ص 234
وقال البرهان الحلبي: من بيوت الحلبيين، مهر في الفقه والأدب والفرائض، مع جودة
الكتابة ولطف المحاضرة وحسن الشكالة، يتوقد ذكاء، وله تصانيف لطاف. وقال المقريزي
في عقوده: إنه أفتى ودرس بحلب ودمشق والقاهرة، وكان يحب الحديث وأهله، ولقد قام
مقاما عجز أقرانه عنه وتعجب أهل زمانه منه. وحاصل الأمر فيه: إنه كان منفردا
بالرياسة علما وعملا في بلده وعصره، وغرة في جبهة دهره، وانتهى أمره إلى ترك
التقليد، بل كان يجتهد في مذهب إمامه ويخرج على أصوله وقواعده ويختار أقوالا يعمل
بها. أخذ عنه: العز الحاضري والبدر ابن سلامة بحلب، وابن قاضي شهبة وابن الأذرعي
بالشام، وابن الهمام وابن التنيسي والسفطي وابن عبيد الله بمصر. وقد أوردت في
ترجمته من ذيل قضاة مصر فوائد كثيرة، من نظمه ونثره ومطارحات وحكايات (1). وكتابه
الذي وصفه بكونه كتابا في التاريخ وجيز الألفاظ والمباني، أنيق الفحاوي والمعاني
ذكره (كاشف الظنون) بقوله: روض المناظر في علم الأوائل والأواخر. وهو تاريخ
مشهور لأبي الوليد قاضي القضاة... (2). المشابهة بين هارون وعلي في كلام أروى لقد
شبهت أروى بنت الحارث حال بني هاشم بحال بني إسرائيل وحال المتولين للأمر ظلما بحال
فرعون، وأيضا شبهت حال أمير المؤمنين بعد النبي
(هامش)
(1) الضوء اللامع المجلد 5 - الجزء العاشر ص 3 - 6 رقم 5. (2) كشف الظنون 1 / 920.
(*)
ص 235
صلى الله عليه وآله وسلم بحال هارون بعد موسى عليهما السلام... فصرحت إستنادا إلى
حديث المنزلة بكون الإمامة والخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقا ثابتا
لأمير المؤمنين عليه السلام، لكن الثلاثة ثم معاوية قد ابتزوا هذا الحق وغصبوه،
فكان هو وأهل البيت مظلومين مستضعفين مقهورين كما كان هارون... قول النبي: أنتم
المستضعفون بعدي فكان هذا الحديث الشريف مثبتا تعين الأمير للخلافة وتعينها له،
ومبطلا لتقدم الأغيار عليه، ومصدقا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم - كما في
الأحاديث الكثيرة - مخاطبا لأهل بيته: أنتم المستضعفون بعدي . منها: ما أخرجه
أحمد: عن أم الفضل بنت الحارث - وهي أم ولد العباس، أخت ميمونة - قالت: أتيت
النبي عليه السلام في مرضه، فجعلت أبكي، فرفع رأسه فقال: ما يبكيك؟ قالت: خفنا عليك
ولا ندري ما نلقى من الناس بعدك يا رسول الله؟ قال: أنتم المستضعفون بعدي (1).
فهذا خوف أم الفضل بنت الحارث، وكلام النبي معها. وذاك كلام أروى بنت الحارث مع
معاوية! وكل ذلك مثبت أن الأمة ظلمت العترة وغصبت حقها، فكان في هذه الأمة ما كان
في أمة موسى من متابعة القوم للسامري واستضعافهم هارون!
(هامش)
(1) المسند 6 / 339. (*)
ص 236
استنتاج باطل من الرازي
ومن طرائف الأمور تفسير الرازي الآية في قصة هارون،
بالمقارنة بين حال هارون وحال أمير المؤمنين على ضوء حديث المنزلة، ثم استنتاجه أن
ما فعلته الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان صوابا... وهذا نص كلامه
بتفسير *(ولقد قال لهم هارون من قبل...)*: وههنا دقيقة وهي: إن الرافضة تمسكوا
بقوله صلى الله عليه وسلم: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، ثم إن هارون ما منعه
التقية في مثل هذا الجمع العظيم، بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعة
نفسه والمنع من متابعة غيره، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان
يجب أن يفعل علي مثل ما فعل هارون، وأن يصعد المنبر من غير تقية وخوف، وأن يقول:
فاتبعوني وأطيعوني، ولما لم يفعل علمنا أن الأمة كانوا على الصواب (1). رد
النيسابوري على الرازي وهذا الذي ذكره الرازي وإن كان واضح البطلان لدى الناقد
البصير، لكن علو الحق ألجأ بعض أكابر القوم إلى التصريح ببطلانه، فقد ذكر نظام
الدين النيسابوري كلام الرازي وعقبه بما يبطله، وهذا نص كلامه: قال أهل السنة
ههنا: إن الشيعة تمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم: أنت مني بمنزلة هارون من موسى،
ثم إن هارون ما منعه التقية في مثل ذلك الجمع، بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس
إلى متابعته، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان يجب على علي كرم
الله وجهه أن يفعل ما فعل
(هامش)
(1) تفسير الرازي 22 / 106. (*)
ص 237
هارون من غير تقية وخوف. وللشيعة أن يقولوا: إن هارون صرح بالحق وخاف فسكت، ولهذا
عاتبه موسى بما عاتب، فاعتذر بأن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، وهكذا علي امتنع
أولا من البيعة، فلما آل الأمر إلى ما آل أعطاهم ما سألوا. وإنما قلت هذا على سبيل
البحث لا لأجل التعصب (1). وتراه - في آخر كلامه - يخاف من عناد المتعصبين وتعنت
العاذلين فيقول: إنما قلت هذا على سبيل البحث لا لأجل التعصب ليوضح أن ما قاله
ليس إلا إحقاقا للحق وإجهارا بالإنصاف، ومخالفة للتعصب والاعتساف. فلله الحمد الذي
يحمل بعض القوم على التصريح بالحق دفعا للتعصبات الباردة من البعض الآخر منهم. وعلى
الجملة، فلا ريب في أن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام كانت عن خوف واضطرار وتقية،
كما كان سكوت هارون كذلك، والأخبار والروايات الكثيرة تدل على ذلك، وليس ما ذكره
النيسابوري إلا شاهدا من شواهده... وسنذكر طرفا من تلك الأخبار، ونكتفي في هذا
المقام بما روي من أن أمير المؤمنين عليه السلام خاطب النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - قائلا يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني تماما كالذي قاله
هارون... قول الأمير: يا ابن أم إن القوم استضعفوني... ومن رواة هذا الخبر: ابن
قتيبة الدينوري. وتوجد ترجمته وثقته واعتبار رواياته وأخباره في: تاريخ بغداد 10 /
170.
(هامش)
(1) تفسير النيسابوري 4 / 567. (*)
ص 238
والأنساب - القتبي 4 / 431. ووفيات الأعيان 1 / 314. وسير أعلام النبلاء 13 / 296.
ومرآة الجنان 2 / 191. وبغية الوعاة 2 / 63. وغيرها من الكتب. رواه في كتابه
المعروف (الإمامة والسياسة) حيث قال: كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب: وإن أبا بكر
أخبر بقوم تخلفوا عن بيعته عند علي، فبعث إليهم عمر بن الخطاب، فجاء فناداهم في دار
علي، فأبوا أن يخرجوا، فدعا عمر بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجن أو
لأحرقنها عليكم على ما فيها. فقيل له: يا أبا حفص، إن فيها فاطمة. فقال: وإن.
فخرجوا فبايعوا، إلا عليا، فإنه زعم أنه قال: حلفت أن لا أخرج، ولا أضع ثوبي على
عاتقي حتى أجمع القرآن. فوقفت فاطمة على بابها فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوء
محضر منكم! تركتم جنازة رسول الله بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم! لم تستأمروا ولم
تروا لنا حقا! فأتى عمر أبا بكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟ فقال
أبو بكر: يا قنفذ - وهو مولى له - إذهب فادع عليا. قال: فذهب إلى علي فقال: ما
حاجتك؟ قال: يدعوك خليفة رسول الله.
ص 239
قال علي: لسريع ما كذبتم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم. فرجع قنفذ فأبلغ
الرسالة. قال: فبكى أبو بكر طويلا. ثم قام عمر، فمشى معه جماعة، حتى أتوا باب
فاطمة، فدقوا الباب، فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها باكية: يا رسول الله، ماذا
لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة! فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا
باكين، وكادت قلوبهم تتصدع وأكبادهم تتفطر، وبقي عمر معه قوم. فأخرجوا عليا ومضوا
به إلى أبي بكر. فقال له: بايع. فقال: إن لم أفعل فمه؟ قالوا: إذا والذي لا إله إلا
هو نضرب عنقك. قال: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله. قال عمر: أما عبد الله فنعم،
وأما أخو رسوله، فلا. وأبو بكر ساكت لا يتكلم. فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك!
فقال: لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه. فلحق علي بقبر رسول الله يصيح
ويبكي وينادي: يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني (1). ففي هذا الخبر
دلالة من وجوه عديدة على تعين الخلافة له عليه السلام ومقهوريته بعد رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وعدوان المتغلبين... وفي
(هامش)
(1) الإمامة والسياسة 1 / 31. (*)
ص 240
خطابه الرسول بما خاطب به هارون أخاه موسى دلالة صريحة على أن حاله تشبه حال
هارون... فلا يخفى بعد هذا سقوط ما ذكره الرازي، وتمامية الاستدلال بحديث المنزلة
على المطلوب. نسبة كتاب (الإمامة والسياسة) إلى ابن قتيبة وإني لأثبت صحة نسبة كتاب
(الإمامة والسياسة) إلى ابن قتيبة - بعون الله وتأييدات الأئمة الأطهار - كي أختم
على أفواه المتعصبين، فلا ينبري أحد منهم لإنكار الخبر عن طريق التشكيك في صحة
انتساب هذا الكتاب إلى مؤلفه الثقة المعتمد عندهم... فأقول: (1) لقد نقل العلامة
عمر بن محمد بن فهد المكي - وهو من مشايخ شاه ولي الله، وتوجد ترجمته في الضوء
اللامع - عن كتاب (الإمامة والسياسة) مع نسبته إلى ابن قتيبة بالقطع واليقين، في
كتابه المشهور (إتحاف الورى بأخبار أم القرى) وهذه عبارته: سنة 93. فيها كتب
الوليد بن عبد الملك إلى أمير مكة عمر بن عبد العزيز يأمره بضرب حبيب بن عبد الله
بن الزبير، ويصب على رأسه ماء باردا، فضربه خمسين سوطا وصب عليه ماء باردا في يوم
شائت، ووقفه على باب المسجد، فمات من يومه. وفيها: في شعبان عزل الوليد بن عبد
الملك عمر بن عبد العزيز عن الحجاز... فكتب الوليد إلى الحجاج يستشيره فيمن يوليه
مكة والمدينة، فأشار عليه بخالد بن عبد الله القسري وعثمان بن حيان، فولى خالدا مكة
وولى عثمان ابن حيان المدينة، وعزل عمر بن عبد العزيز عنهما...
ص 241
قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة: كان مسلمة بن
مروان واليا على أهل مكة، فبينا هو يخطب على المنبر إذ أقبل خالد ابن عبد الله
القسري من الشام واليا عليها، فدخل المسجد، فلما قضى مسلمة خطبته صعد خالد المنبر،
فلما ارتقى في الدرجة الثالثة تحت مسلمة أخرج طومارا ففضه ثم قرأه على الناس وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك ابن مروان أمير المؤمنين إلى أهل مكة: أما
بعد، فإني وليت عليكم خالد بن عبد الله القسري، فاسمعوا له وأطيعوا، ولا يجعلن أحد
على نفسه سبيلا، فإنما هو القتل لا غيره، وقد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير.
والسلام. ثم التفت إليهم خالد فقال: والذي يحلف به ويحج إليه، لا أجده في دار أحد
إلا قتلته، وهدمت داره ودار كل من جاوره، واستبحت حرمه، وقد أجلت لكم فيه ثلاثة
أيام. ثم نزل. ودعا مسلمة برواحله ولحق بالشام. فأتى رجل إلى خالد وقال له: إن سعيد
بن جبير بوادي كذا من أودية مكة مختفيا بمكان كذا. فأرسل خالد في طلبه، فأتاه
الرسول، فلما نظر إليه قال: إني أمرت بأخذك، وأتيت لأذهب بك، وأعوذ بالله من ذلك،
فالحق بأي بلد شئت، وأنا معك. فقال سعيد بن جبير: ألك ههنا أهل وولد؟ قال: نعم.
قال: إنهم يؤخذون بعدك، وينالهم من المكروه مثل الذي كان ينالني. قال: فإني أكلهم
إلى الله عز وجل. قال سعيد: لا يكون هذا. فأتى به إلى خالد، فشده وثاقا، ثم بعث به
إلى الحجاج. فقال رجل من أهل الشام: إن الحجاج قد أنذر به وأشعر به قبلك فما عرض
له، فلو جعلته بينك وبين الله لكان أزكى من كل عمل يتقرب به إلى الله تعالى. قال
خالد - وظهره إلى الكعبة قد استند إليها - والله لو علمت أن عبد الملك لا يرضى عني
إلا بنقض هذا البيت حجرا حجرا لنقضته في مرضاته .
ص 242
وهذه العبارة التي نقلها ابن فهد عن (الإمامة والسياسة) موجودة في نسخ هذا الكتاب.
قال ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة): ذكر قتل سعيد بن جبير: وذكروا أن مسلمة بن
عبد الملك كان واليا على أهل مكة، فبينا هو يخطب على المنبر إذ أقبل خالد بن عبد
الله القسري من الشام واليا عليها فدخل المسجد، فلما قضى مسلمة خطبته صعد خالد
المنبر، فلما ارتقى في الدرجة الثالثة تحت مسلمة أخرج طومارا ففضه ثم قرأه على
الناس: بسم الله الرحمن الرحيم... (1). فثبت كون الكتاب لابن قتيبة. ولله الحمد
على ذلك. (2) ونسب صاحب (غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام) وهو الشيخ العلامة
عز الدين عبد العزيز بن عمر بن فهد... كتاب (الإمامة والسياسة) إلى ابن قتيبة، بلا
أي شك وترديد... وهذه عبارته: وروى العتبي عن رجل قال: خطب خالد بن عبد الله
القسري بواسط فقال: إن أكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوا من عفا عن
قدرة، وأوصل الناس من وصل عن قطيعة. وبنى خالد لأمه كنيسة وكانت نصرانية، وهجي
بأبيات. إنتهى. وقال الوالد: لخالد القسري حديث في ثالث المخلص الكبير. وفي المنتقى
من سبعته. وفي مسند عبد بن حميد وهو من سماع الحجاز، حدثني عمرو بن عون، حدثنا
هشيم، عن سيار أبي الحكم، عن خالد بن عبد الله القسري، عن أبيه، عن جده: إن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال له: يا يزيد أحب للناس ما تحب لنفسك. إنتهى.
(هامش)
(1) الإمامة والسياسة 2 / 51. (*)
ص 243
قلت: وذكر ما تقدم في ترجمة مسلمة بن عبد الملك عن ابن قتيبة في الإمامة والسياسة
(1). ولا يخفى أن الشيخ عبد العزيز المذكور هو شيخ قطب الدين النهرواني صاحب
(الإعلام بأعلام بيت الله الحرام)، والمترجم له في (ريحانة الألباء) للعلامة الشهاب
الخفاجي. (3) والشاهد الثالث هو: العلامة تقي الدين محمد بن أحمد الفاسي صاحب
(العقد الثمين) - والمترجم له في الضوء اللامع وغيره - فإنه نقل عن (الإمامة
والسياسة) واعتمد عليه كذلك من غير تشكيك في نسبته إلى ابن قتيبة... حيث قال بترجمة
مسلمة بن عبد الملك بن مروان: أمير مكة، ذكر ولايته عليها ابن قتيبة في الإمامة
والسياسة... (2). (4) وهناك شاهد رابع - وهو متقدم على الشهود الثلاثة - وهو
الشيخ أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي صاحب كتاب (ألف باء) المذكور في (كشف الظنون)
بقوله: ألف باء في المحاضرات. للشيخ أبي الحجاج يوسف بن محمد البلوي الأندلسي
المعروف بابن الشيخ، وهو مجلد ضخم أوله: إن أفصح كلام سمع وأعجز حمد الله تعالى
بنفسه... ذكر فيه أنه جمع فوائد بدائع العلوم لابنه عبد الرحيم بعد موته، إذ لم
يلحق بعد لصغره إلى درجة النبلاء، وسمى ما جمعه لهذا الطفل المربى بكتاب ألف با...
- حيث قال: فصل - وأما ابن جبير ففضله أيضا مشهور، وفي الدواوين مذكور: ذكر ابن
قتيبة في الإمامة والسياسة: إنه لما قدم على الحجاج سعيد بن جبير قال له: ما اسمك؟
قال: أنا سعيد بن جبير. فقال الحجاج: بل أنت شقي بن كسير.
(هامش)
(1) غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام. ترجمة خالد بن عبد الله بن يزيد
القسري. (2) العقد الثمين بأخبار البلد الأمين 7 / 194. (*)
ص 244
قال سعيد: أمي أعلم باسمي واسم أبي. قال الحجاج: شقيت وشقيت أمك. قال سعيد: العلم
يعلمه غيرك. قال: لأوردنك حياض الموت. قال سعيد: أصابت أمي إذا اسمي... . (5) وممن
ينقل عن (الإمامة والسياسة) كثيرا: أبو المجد محمد محبوب عالم في تفسيره المعروف ب
(تفسير شاهي) الذي نص على اعتباره واعتمد عليه (الدهلوي) في الباب الثالث من
(تحفته) (1)، وكذا تلميذه الرشيد في (إيضاحه)... فإنه ينقل عنه في غير موضع منه،
منها: بتفسير قوله تعالى: *(وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين)*(2) حيث يقول:
في كتاب الإمامة والسياسة: قام علي كرم الله تعالى وجهه خطيبا فقال: أيها الناس، إن
القوم إنما فروا من كتاب الله ثم بدا لهم أن دعونا إليه، وإني أكره أن أكون من
الفريق المتولي عن كتاب الله. إن الله عز وجل يقول *(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا
من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون وإن يكن
لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا...)*. ومنها: بتفسير قوله
تعالى: *(وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين)*(3) قال: ... وفي كتاب الإمامة
والسياسة: لما قتل علي بن أبي طالب - كرم الله تعالى وجهه - ثار الناس إلى الحسن بن
علي - رضي الله تعالى عنهما - فلما بايعوه قال لهم: تبايعون لي على السمع والطاعة،
وتحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت... (4).
(هامش)
(1) التحفة الاثنا عشرية: 97. (2) سورة النور: 49. (3) سورة الأنبياء: 111. (4)
انظر: الإمامة والسياسة 1 / 163. (*)
ص 245
*(20)* الأفضلية من منازل هارون

إنه لا ريب لأحد في أن من منازل هارون هو أفضليته
من جميع الأمة الموسوية، فلا ريب أيضا في أفضلية أمير المؤمنين من جميع الأمة
المحمدية... لقد نص شاه ولي الله الدهلوي - في (إزالة الخفا) - على أنه لم يكن في
زمن موسى من يناله مقام الوزارة لموسى إلا هارون، وأنه إنما طلب موسى من الله أن
يجعل أخاه هارون وزيرا وردءا له لا لكونه أخاه، بل لعدم وجود أحد غيره يصلح لهذا
المقام. ودلالة ذلك على الأفضلية واضحة... كما نص القاضي عياض على أنه لم يكن في
زمن موسى نبي غيره، إلا أخاه هارون حيث قال بعد حديث يتعلق بقصة موسى والخضر:
وهذا الحديث إحدى حجج القائلين بنبوة الخضر، لقوله فيه: أنا أعلم من موسى، ولا يكون
الولي أعلم من النبي، وأما الأنبياء فيتفاضلون في المعارف، وبقوله: ما فعلته عن
أمري، فدل أنه بوحي. ومن قال إنه ليس بنبي قال: يحتمل أن يكون فعله بأمر نبي آخر.
وهذا يضعف، لأنه ما علمنا أنه كان في زمن موسى عليه السلام نبي غيره إلا أخاه
هارون، وما نقل أحد من أهل الأخبار في ذلك شيئا يعول عليه (1).
(هامش)
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى. وانظر 2 / 283. (*)
ص 246
ودلالة ذلك على الأفضلية واضحة كذلك، إذ النبي أفضل من غيره بلا كلام ولا خلاف.
وعلى الجملة، فإن حديث المنزلة يدل على أن أمير المؤمنين عليه السلام عند النبي -
صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل وأشرف من كل أحد سواه، إذ من الواضح جدا أنه لو
قيل: زيد عند بكر بمنزلة فلان الوزير عند السلطان فلان - وكان الوزير أفضل الناس
عند السلطان - فهم أفضلية زيد عند بكر من جميع الناس... وهذا من الوضوح بمكان بحيث
يعد منكره معاندا مكابرا... ولا يجوز عاقل كون علي عليه السلام عند النبي صلى الله
عليه وآله وسلم بمنزلة هارون عند موسى - عليهما السلام -، مع فرض كونه في المرتبة
الرابعة في الأفضلية - والعياذ بالله. على أن شاه ولي الله الدهلوي جعل المعتبر في
المشابهة هو الأوصاف المشهورة المذكورة على الألسنة، وهو يعترف بكون هارون هو أفضل
القوم في أمة موسى، ومن الواضح جدا أن الأفضلية من أجلى تلك الأوصاف، ولعل لوضوح
ذلك وثبوته لم يعدها ولي الله منها. بل إن ولي الله نفسه يصرح بدلالة حديث المنزلة
على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول في مبحث فضائله: وكان خليفته في
غزوة تبوك على المدينة المنورة، وهناك ظهرت فضيلته العظمى بقوله: أنت مني بمنزلة
هارون من موسى (1) لأنه وصف الفضيلة ب العظمى وهذه الكلمة تأنيث الأعظم
بلحاظ لفظ الفضيلة ولو قال الفضل لقال الأعظم . فأمير المؤمنين صاحب
الفضل الأعظم بحديث المنزلة، فهو الأفضل . وبما ذكره شاه ولي الله يبطل ما
لفقه بعضهم لإنكار دلالة الحديث الشريف
(هامش)
(1) قرة العينين. مبحث فضائل علي. (*)
ص 247
على أفضلية الإمام عليه السلام من غيره. وكما يثبت دلالته على الأفضلية من كلام ولي
الله الدهلوي، كذلك يثبت من كلام نجله (الدهلوي)، لأنه قد حرم حمل الحديث الشريف
على التشبيه الناقص، ومن المعلوم أنه لو أنكرت أفضليته بل ادعي كونه مفضولا
للثلاثة، فقد حمل الحديث على التشبيه الناقص... هذا كله، مضافا إلى ما تقدم من أدلة
عموم المنزلة... فإنها تقتضي أن يكون أمير المؤمنين أفضل الأمة، كما كان المشبه به
أعني هارون أفضل الأمة... تحريم القاضي عياض وغيره تشبيه غير النبي بالنبي وعلى
الجملة، فمقتضى أدلة عموم التنزيل، وكذا ما ذكره (الدهلوي) ووالده، هو دلالة حديث
المنزلة على أفضلية الأمير في الأمة، كما كان هارون هو الأفضل في أمة موسى. ومما
يؤكد ما ذكرنا كلام القاضي عياض، في باب بيان ما هو في حق النبي عليه السلام سب أو
نقص: فصل. الوجه الخامس - أن لا يقصد نقصا ولا يذكر عيبا ولا سبا، ولكنه ينزع
بذكر بعض أوصافه، ويستشهد ببعض أحواله عليه السلام الجائزة عليه في الدنيا على طريق
ضرب المثل والحجة، لنفسه أو لغيره، أو على التشبيه به عند هضيمة نالته أو غضاضة
لحقته، ليس على طريق التأسي وطريق التحقيق، بل على مقصد الترفع لنفسه أو لغيره أو
سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه عليه السلام، أو قصد الهزل والتبذير بقوله، كقول
القائل: إن قيل في السوء فقد قيل في النبي، أو إن كذبت فقد كذب الأنبياء، وإن أذنبت
فقد أذنبوا، أو أنا أسلم من ألسنة الناس ولم تسلم منهم أنبياء الله ورسله؟ أو قد
صبرت كما صبر أولوا العزم
ص 248
من الرسل، أو كصبر أيوب، أو قد صبر نبي الله من عداه وحلم على أكثر مما صبرت. وكقول
المتنبي: أنا في أمة تداركها الله * غريب كصالح في ثمود ونحوه من أشعار المتعجرفين
في القول، المتساهلين في الكلام، كقول المعري: كنت موسى وافته بنت شعيب * غير أن
ليس فيكما من فقير على أن آخر البيت شديد عند تدبره، وداخل في باب الإزراء والتحقير
بموسى عليه السلام، وتفضيل حال غيره عليه. وكذلك قوله: لولا انقطاع الوحي بعد محمد
* فلنا محمد من أبيه بديل هو مثله في الفضل إلا أنه * لم يأته برسالة جبريل فصدر
البيت الثاني من هذا الفصل شديد، لتشبيهه غير النبي في فضله بالنبي، والعجز محتمل
لوجهين: أحدهما: إن هذه الفضيلة نقصت الممدوح، والآخر: استغناؤه عنها، وهذه أشد.
ونحو منه قول الآخر: وإذا ما وقعت راياته * خفقت بين جناحي جبرين وقول الآخر من أهل
العصر: فر من الخلد واستجار بنا * فصبر الله قلب رضوان وكقول حسان المصيصي من شعراء
الأندلس، في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد ووزيره أبي بكر بن زيدون: كأن أبا بكر
أبو بكر الرضا * وحسان حسان وأنت محمد إلى أمثال هذا. وإنما أكثرنا بشاهدها مع
استثقالنا حكايتها، لتعريف أمثلتها، ولتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك
واستخفافهم فادح
ص 249
هذا العب ء، وقلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر، وكلامهم منه بما ليس لهم به علم،
ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم. لا سيما الشعراء، وأشدهم فيه تصريحا وللسانه
تسريحا ابن هاني الأندلسي، وابن سليمان المعري، بل قد خرج كثير من كلامهما عن هذا
إلى حد الاستخفاف والنقص وصريح الكفر، وقد اجتنبنا عنه. وغرضنا الآن الكلام في هذا
الفصل الذي سقنا أمثلته، فإن هذه كلها وإن لم تتضمن سبا ولا أضافت إلى الملائكة
والأنبياء نقصا، ولست أعني عجزي بيتي المعري، ولا قصد قائلها إزراء وغضا، فما وقر
النبوة ولا عظم الرسالة، ولا غزر حرمة الاصطفاء، ولا عزز حظوة الكرامة، حتى شبه من
شبه في كرامة نالها أو معرة قصد الانتفاء منها، أو ضرب مثل لتطييب مجلسه أو إغلاء
في وصفه لتحسين كلامه بمن عظم الله خطره وشرف قدره، وألزم توقيره وبره ونهى عن جهر
القول له ورفع الصوت عنده. فحق هذا - إن درء عنه القتل - الأدب والسجن، وقوة
تعزيره، بحسب شنعة مقاله ومقتضى قبح ما نطق به، ومألوف عادته لمثله أو ندوره أو
قرينة كلامه أو ندمه على ما سبق منه. ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء،
وقد أنكر الرشيد على أبي نؤاس قوله: فإن يك يأتي سحر فرعون فيكم * فإن عصى موسى بكف
خصيب وقال له: يا ابن اللخناء، أنت المستهزئ بعصا موسى، وأمر بإخراجه عن عسكره من
ليلته. وذكر القاضي القتيبي: أن مما أخذ عليه أيضا وكفر فيه أو قارب، قوله في محمد
الأمين وتشبيهه إياه بالنبي صلى الله عليه وسلم:
ص 250
تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها * خلقا وخلقا كما قد الشراكان وقد أنكروا أيضا عليه
قوله: كيف لا يدنيك من أمل * من رسول الله من نفره لأن حق الرسول وموجب تعظيمه
وإنافة منزلته أن يضاف إليه ولا يضاف هو لغيره. فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه في
طريق الفتيا، وعلى هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس رحمه الله
وأصحابه... (1). وحاصل هذا الكلام تحريم تشبيه غير النبي بالنبي، بل تحريم تشبيه
بعض أحوال غير النبي ببعض أحوال نبي من الأنبياء، وأن فعل ذلك يستوجب التعزير إن لم
يستوجب القتل... فلو لم يكن علي عليه السلام معصوما عن الخطأ، ولم يكن الأفضل في
الأمة بعد النبي، بل كان كغيره من الأصحاب... كان تشبيهه بهارون عليه السلام محرما،
واللازم باطل فالملزوم مثله... إذا، فتشبيه أمير المؤمنين عليه السلام بهارون عليه
السلام دليل العصمة والأفضلية... والحمد لله رب العالمين. لكن التعصب يحمل القاضي
عياض على أن ينفي دلالة حديث المنزلة على الأفضلية، ويسعى وراء إنكار مدلوله الذي
كان مقتضى عبارته المذكورة الإذعان به؟
(هامش)
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2 / 521 - 526. (*)
ص 251
تصريح شعبة بن الحجاج بدلالة الحديث على الأفضلية
وقد صرح إمام جليل من أئمتهم
واعترف بما ذكرناه من دلالة حديث المنزلة على الأفضلية المطلقة لأمير المؤمنين عليه
السلام... ألا وهو شعبة بن الحجاج... فقد نقل الحافظ محمد بن يوسف الكنجي الشافعي
في (كفاية الطالب) بعد حديث المنزلة قال: قال الحاكم النيسابوري: هذا حديث دخل في
حد التواتر. وقد نقل عن شعبة بن الحجاج أنه قال في قوله - صلى الله عليه وسلم -
لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى: وكان هارون أفضل أمة موسى، فوجب أن يكون علي
أفضل من كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، صيانة لهذا النص الصريح (1). الكنجي
الشافعي وكتابه وقد ذكر كاشف الظنون كتاب (كفاية الطالب) في موضعين: ففي حرف الكاف:
كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب. للشيخ الحافظ أبي عبد الله محمد بن يوسف
بن محمد الكنجي الشافعي المتوفى سنة 658 وفي حرف الميم: مناقب علي بن أبي طالب
- رضي الله تعالى عنه - للإمام أحمد بن حنبل ذكرها في فضائل العشرة، ولأبي المؤيد
موفق بن أحمد الخوارزمي المتوفى سنة 568، ولأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي
الحافظ المتوفى سنة 303. وفيه كفاية الطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب، لأبي
عبد الله محمد بن يوسف الكنجي .
(هامش)
(1) كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب: 283. (*)