نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء التاسع عشر

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء التاسع عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 255

14 - ابن قاضي شهبة: الإمام الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي، الخسروجردي، سمع الكثير ورحل وجمع وحصل وصنف... وكان كثير التحقيق والإنصاف، حسن التصنيف... قال عبد الغافر... وقال إمام الحرمين... (1). 15 - الخطيب التبريزي: كان أوحد دهره في الحديث والتصانيف ومعرفة الفقه، وهو من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله. قالوا: سبعة من الحفاظ أحسنوا التصنيف، وعظم الانتفاع بتصانيفهم: أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني، ثم الحاكم أبو عبد الله النيسابوري، ثم أبو محمد عبد الغني الأزدي حافظ مصر، ثم أبو نعيم أحمد بن عبد الله الإصفهاني، ثم أبو عمرو ابن عبد البر النمري حافظ أهل المغرب، ثم أبو بكر أحمد بن حسين البيهقي، ثم أبو بكر أحمد الخطيب البغدادي... (2). 16 - السيوطي: البيهقي الإمام الحافظ العلامة، شيخ خراسان... لزم الحاكم وتخرج به، وأكثر منه جدا، وهو من كبار أصحابه، بل زاد عليه بأنواع من العلوم، كثير الحديث وحفظه من صباه، برع وأخذ في الأصول وانفرد بالإتقان والضبط والحفظ، ورحل... وعمل كتبا لم يسبق إليها... وبورك له في علمه، لحسن قصده وقوة فهمه وحفظه، وكان على سيرة العلماء، قانعا باليسير، مات في عاشر جمادى الأولى 455 بنيسابور، ونقل في تابوت إلى بيهق مسيرة يومين (3).

(هامش)

(1) طبقات الشافعية 1 / 226. (2) الإكمال في أسماء الرجال - ط مع المشكاة. (3) طبقات الحفاظ: 433. (*)

ص 256

أقول: وهكذا تجد الثناء عليه وعلى مصنفاته في غير هذه الكتب، فراجع مثلا: (فيض القدير) و(المرقاة) و(شرح المواهب اللدنية) و(مقاليد الأسانيد) و(التاج المكلل) وغيرها، ولولا خوف الإطالة لأوردنا كل ذلك، ولكنا حاولنا الاختصار بقدر الإمكان. وعلى الجملة، فإنك إذا وضعت يدك على أي كتاب ترجم فيه للبيهقي، فلا تجد إلا الثناء عليه وعلى سائر آثاره ومصنفاته، فكلهم يصفونه بالحفظ والإتقان والإمامة والديانة والورع وأمثال ذلك من الأوصاف الحميدة، ويصفون مصنفاته بالجودة والتهذيب والاعتبار... وقد رأيت كيف أقبل حفاظ عصره والمتأخرون عنه على مصنفاته وتناقلوها وسمعوها... وناهيك بالرؤيا التي رآها أحد معاصريه من الأعلام، تلك الرؤيا التي قال الذهبي وغيره هي حق ... أقول: فثبت أن البيهقي لا يروي في الفضائل الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة كما زعم ابن تيمية، ولكن الحقيقة هي أن من يروي شيئا من مناقب علي عليه السلام يتهم بأنواع التهم وإن وافقه في روايته الجم الغفير والجمع الكثير من الأعلام والمشاهير، كما هو الشأن في حديث التشبيه الذي رواه من أعلام القوم من عرفت، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح. هذا، ولا يخفى التناقض الموجود في كلام ابن تيمية، فإنه بعد أن أخرج البيهقي من زمرة أهل العلم بالحديث لروايته هذا الحديث الموضوع بزعمه، ذكر أن أهل العلم بالحديث لا

ص 257

يذكرونه لكونه موضوعا، وصرح منهم باسم النسائي والترمذي، ومعنى كلامه هنا أن كتابيهما مجردان عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة. لكنه يعلم بوجود بعض المناقب فيهما، فحمله تعصبه على أن يناقض نفسه فيدعي وجود ما هو ضعيف بل هو موضوع في كتابيهما أيضا. فالعياذ بالله من التعصب والعناد. كما ثبت أن حديث التشبيه من الأحاديث التي أخرجها البيهقي، فلا شك في صحة نسبة العلامة الحلي رواية الحديث إليه. فظهر بطلان ما ذكره (الدهلوي) تبعا للكابلي. ولقد تبع القاضي ثناء الله الهندي أيضا الكابلي في هذه الدعوى، فأنكر وجود الحديث في كتب البيهقي، حيث قال بعد أن ذكره في (السيف المسلول): والجواب: إن هذا الحديث ليس من أحاديث أهل السنة، وقد أورده ابن المطهر الحلي في كتبه، فعزاه تارة إلى البيهقي وأخرى إلى البغوي. وهو غير موجود في كتبهما . وقد عرفت كذب هذه الدعوى. والحمد لله. غلط القوم في فهم عبارة العلامة الحلي وأما دعوى (الدهلوي) عزو العلامة الحلي قدس سره حديث التشبيه إلى البغوي، فهي ناشئة من سوء الفهم... وإن أول من وقع في هذا الاشتباه والغلط هو (الفضل بن روزبهان) صاحب الرد على (نهج الحق) للعلامة الحلي، ثم تبعه على ذلك (الكابلي) صاحب الصواقع، ثم (الدهلوي) و(القاضي ثناء الله الهندي). ولكي تتضح حقيقة الأمر ننقل نص عبارة العلامة الحلي طاب ثراه في (نهج الحق وكشف الصدق) فإنه قال: المطلب الثاني: العلم. والناس كلهم -

ص 258

بلا خلاف - عيال علي عليه السلام، في المعارف الحقيقية والعلوم اليقينية والأحكام الشرعية والقضايا النقلية، لأنه عليه السلام كان في غاية الذكاء والحرص على التعلم، وملازمته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أشفق الناس عليه، لا ينفك عنه ليلا ونهارا، فيكون بالضرورة أعلم من غيره. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقه: أقضاكم علي. والقضاء يستلزم العلم والدين. وروى الترمذي في صحيحه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وذكر البغوي في الصحاح: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنا دار الحكمة وعلي بابها. وفيه عن أبي الحمراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى يحيى بن زكريا في زهده، وإلى موسى بن عمران في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب. وروى البيهقي بإسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب . هذا نص عبارة العلامة ابن المطهر الحلي، وليس فيها تصريح ولا تلويح بنسبته الحديث إلى البغوي، وهم قد توهموا ذلك من قوله وفيه عن أبي الحمراء... جاعلين (البغوي) مرجع الضمير، ولم يلتفتوا إلى أن مرجع الضمير هو (علي عليه السلام)... كما أنه مرجع الضمير في كلمة في حقه . وحديث أبي الحمراء هذا هو الحديث الذي رواه القوم في كتبهم، كالخوارزمي في (المناقب)، ونقله عن الخوارزمي الشيخ الإربلي رحمه الله في (كشف الغمة).

ص 259

هذا كله في دفع هذا التوهم، ولا بأس بإيراد بعض كلمات القوم في الثناء على العلامة الحلي. ترجمة العلامة ابن المطهر الحلي فإن العلامة الحلي - رحمه الله - موصوف في كلمات بعض رجالات العلم من أهل السنة بالأوصاف الحميدة والألقاب الفائقة: [1] - قال أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي الحنفي في كتاب (نقود وردود): أما بعد، فلما كان توقف استنباط الأحكام الشرعية من مسالكها، واستخراج الأوامر السمعية من مداركها، على معرفة الصانع والتصديق بصفاته، والنظر في أمر النبوة وتحقيق معجزاته، وكان علم الكلام هو المتكفل بهذا المرام، لا جرم بعد الفراغ من كتاب الكواشف البرهانية في شرح المواقف السلطانية اشتغلت بعلم أصول الفقهيات ومدارك الفرعيات، الذي هو العروة الوثقى للطالب المستمسك والسعادة العظمى للراغب المتمسك، ما استضاء بنوره ذو روية إلا أصاب واهتدى، وما استنار بضوءه ذو بصيرة إلا فاز وارتقى. وكان خير الكتب المؤلفة فيه عند أصحاب هذا العلم وذويه (منتهى السئول والأمل) الذي صنفه الإمام العلامة الشيخ جمال الدين أبو عمرو ابن الحاجب، بلغه الله أعلى المراتب - في علم الأصول والجدل، ولهذا صار مشتهرا في مشارق الأرض ومغاربها كالشمس في وسط النهار، مستهترا إليه أصحاب الفقهاء الأربعة وأرباب مذاهبها، استهتارا أي استهتار. وخير شروحها المشهورة شهرة المتن، جامعا للضروريات ولخاصيات الفن: الشرح الذي لأستاذي وأستاذ الكل في الكل، الإمام ابن الإمام ابن الإمام، أفضل علماء الإسلام، عضد الملة والدين، عبد الرحمن الصديقي،

ص 260

الذي أعلى الله بكلمته كلمة الدين، وعضد به الإيمان والمؤمنين، جزاه الله أفضل مجازاته، رافعا في أعلى عليين درجاته، إذ هو ملازم لتفسير نصوصه، محققا لدقائقه، مداوم على تقرير فصوصه، مدققا لحقائقه، كاشف مخبيات مشكلاته، مصححا لمقاصده، مشيرا إلى مكنيات مفصلاته، منقحا لفرائده، حتى صار كتابه مجموعا مستحقا لأن يكون على الرأس محمولا وعلى العين موضوعا. فيالها من المناقب، ما أحسن مناصبه بين المناصب، وما يعرفه إلا من حقق كلام غيره تحقيقا، وجرى في ميدانه أشواطا وعرق فيه تعريقا، وهو ملي كثير البضاعة طويل الباع في هذه الصناعة: إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه. وقد وقع إلي من الشروح عشرة أخرى، حرية بأن تكتب على الأحداق، بل أحرى، أشهرها السبعة السيارة في الآفاق، المنسوبة إلى أكابر الفضلاء بالاستحقاق: المولى الأعظم شيخ الدنيا قطب الدين الشيرازي قدس نفسه. والمولى السيد ركن الدين الموصلي روح رمسه. والمولى الشيخ جمال الدين الحلي طابت تربته. والمولى القدوة زين الدين الخنجي زيدت درجته. والمولى العلامة شمس الدين الإصفهاني نور الله مضجعه. والمولى الأفضل بدر الدين التستري عطر مهجعه. والمولى الأعلم شمس الدين الخطيبي طيب مريعه. المذكور أسماء هؤلاء العلماء الكرام البررة المعظمة على ترتيب وجود الشروح التي كأنها صحف مكرمة. واتفق لي قراءته على مؤلفه مرة والاستماع عنه أخرى، مقتبسا من أشعة أنوار فوائده بمقدار مقدرتي القصرى، فرأيته وإن كان شرحا - كتابا مستقلا، وإن جعل فرعا كان أصلا أصيلا، يحتاج ألفاظه في جلها لا بل كلها إلى حلها، مما يزيل من مسالك شعابه صعابها، ويكشف عن وجوه فرائده

ص 261

نقابها، فتوجهت تلقاء مدين تشريحه، ووجهت مطايا الفكر إلى توضيحه، جاعلا إياه سدى الأبحاث، ملحما له بما في السبعة بل وبما في الثلاث، فما وافق الأستاذ غيره خليناه وسبيله فمرحبا بالوفاق، وما خالفه أشرنا إليه في دقيقه وجليله، إما بالكساد أو النفاق... واكتفيت في أسماء الشراح السبعة بما اشتهروا به، اختصارا، لا حطا لمراتبهم العلية واحتقارا، ومن لم يعظم غيره لا يعظم... . فترى البابرتي يثني على العلامة الحلي وكتابه، وإن كان ما ذكر أقل قليل من مناقب جنابه... و البابرتي المذكور من مشاهير علماء القوم ومحققيهم الأعلام، وإليك جملا من الثناء عليه: ترجمة البابرتي مادح العلامة 1 - السيوطي: أكمل الدين محمد بن محمد بن محمود البابرتي، علامة المتأخرين وخاتمة المحققين، برع وساد، ودرس وأفاد، وصنف شرح الهداية، وشرح المشارق، وشرح المنار، وشرح البزدوي، وشرح مختصر ابن الحاجب، وشرح تلخيص المعاني والبيان، وشرح ألفية ابن معطي، وحاشية على الكشاف، وغير ذلك. وولي مشيخة الشيخونية أول ما فتحت، وعرض عليه القضاء فأبى. مات في رمضان سنة 786 (1). 2 - أيضا: وكان: علامة، فاضلا، ذا فنون، وافر العقل، قوي النفس، عظيم الهيبة، مهابا (2).

(هامش)

(1) حسن المحاضرة 1 / 471. (2) بغية الوعاة 1 / 239. (*)

ص 262

3 - الداودي: أخذ عن أبي حيان والإصفهاني، وسمع الحديث من الدلاصي وابن عبد القادر، وقرره شيخون في مشيخة مدرسته، وعظم عنده جدا وعند من بعده، بحيث كان الظاهر برقوق يجئ إلى شباك الشيخونية فيكلمه وهو راكب، وينتظره حتى يخرج فيركب معه، وكان علامة فاضلا... (1). 4 - القاري، ذكره في (الأثمار الجنية في طبقات الحنفية). 5 - وكذا كمال باشا زاده في (طبقات الحنفية). [2] - وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر بترجمة العلامة الحلي رحمه الله: ولد في سنة بضع وأربعين وستمائة، ولازم النصير الطوسي مدة، واشتغل في العلوم العقلية فمهر فيها، وصنف في الأصول والحكمة، وكان صاحب أموال وغلمان وحفدة، وكان رأس الشيعة في الحلة، وشهرت تصانيفه، وتخرج به جماعة، وشرح على مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن، في حل ألفاظه وتقريب معانيه، وصنف في فقه الإمامية، وكان قيما بذلك داعية إليه، وله كتاب في الإمامة رد عليه ابن تيمية بالكتاب المشهور المسمى بالرد على الرافضي، وقد أطنب فيه وأسهب وأجاد في الرد، إلا أنه تحامل في مواضع عديدة، ورد أحاديث موجودة وإن كانت ضعيفة بأنها مختلقة... (2). [3] - وابن روزبهان المتعصب العنيد، يصف العلامة في ديباجة كتابه في الرد عليه ب‍ المولى الفاضل... .

(هامش)

(1) طبقات المفسرين 2 / 251. (2) الدرر الكامنة بأعلام المائة الثامنة 2 / 71. (*)

ص 263

قوله: ولا يتأتى إلزام أهل السنة بالافتراء... أقول: نعم لا يجوز إلزام أحد بشيء مفترى عليه وإن لم يكن متشرعا بشريعة من الشرائع، بل وإن كان ملحدا... لكن لما كان الافتراء والكذب - كسائر القبائح والفواحش - من فعل الله عند أهل السنة - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا - فأي مانع من إلزام أهل السنة بفعل الله؟ وأيضا: فما أكثر محاولة (الدهلوي) إلزام أهل الحق بالمفتريات والأكاذيب، فيا ليته ما يقوله هنا في تلك المواضع، وارتدع عن ذلك... على أن بعض الكرامية وبعض المتصوفة من أهل السنة يبيحون وضع الأحاديث على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لغرض الترهيب والترغيب بزعمهم، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: والحامل للواضع على الوضع، إما عدم الدين كالزنادقة، أو غلبة الجهل كبعض المتعبدين، أو فرط العصبية كبعض المقلدين، أو اتباع هوى بعض الرؤساء، أو الإغراب لقصد الاشتهار. وكل ذلك حرام بإجماع من يعتد به، إلا أن بعض الكرامية وبعض المتصوفة نقل عنهم إباحة الوضع في الترغيب والترهيب، وهو خطأ من قائله، نشأ عن جهل، لأن الترغيب والترهيب من جملة الأحكام الشرعية، واتفقوا على أن تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر (1).

(هامش)

(1) نزهة النظر - شرح نخبة الفكر: 445 بشرح القاري. (*)

ص 264

وقال السيوطي: والواضعون أقسام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع، أعظمهم ضررا قوم ينسبون إلى الزهد، وضعوه حسبة، أي احتسابا للأجر عند الله، في زعمهم الفاسد، فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم وركونا إليهم، لما نسبوا إليه من الزهد والصلاح... (1). نموذج من أكاذيب (الدهلوي) وأما أكاذيب (الدهلوي)، فذكر جميعها أو أكثرها ولو إجمالا يفضي إلى التطويل، ويوجب الخروج عن البحث، ويمكنك الوقوف على جملة منها في غضون مجلدات كتابنا، ونكتفي هنا بنقل كلام له في الباب الحادي عشر من (التحفة)، يشتمل على عدة أكاذيب، قال (الدهلوي): ثم لما تأملنا وجدنا أن رؤساء أهل السنة قد أخذوا علومهم - فقها وأصولا وسلوكا، بل وتفسيرا وحديثا - من أهل البيت، واشتهروا بتتلمذهم عليهم، وقد كان أهل البيت يلاطفونهم وينبسطون إليهم دائما، بل لقد بشروهم، وهذا المعنى كله مذكور في كتب الإمامية، وقد اعترف أكابر علمائهم لما رأوا عدم إمكان إخفائه بثبوته وصحته. واعترف ابن المطهر الحلي في نهج الحق ومنهج الكرامة، بأن أبا حنيفة ومالكا قد أخذا من الصادق، والشافعي تلميذ مالك، وأحمد بن حنبل تلميذ الشافعي... وأيضا، فقد تتلمذ أبو حنيفة على الباقر وزيد الشهيد. والشيعة يعتقدون في عصر غيبة الإمام بوجوب إطاعة مجتهديهم، فكيف لا يكون مذهب المجتهد الذي حضر على الأئمة وفاز بإجازة الاجتهاد والإفتاء منهم أولى بالاتباع؟

(هامش)

(1) تدريب الراوي - شرح تقريب النواوي 1 / 238. (*)

ص 265

لقد أجاز الباقر وزيد الشهيد والصادق أبا حنيفة في الفتوى، باعتراف الشيخ الحلي، فهو جامع لشرائط الاجتهاد بنص من الإمام، فمن رد عليه فقد رد على إمامه المعصوم، وهو كفر، خصوصا في زمن الغيبة، فمذهب هذا المجتهد أولى بالأخذ والاتباع من مذهب ابن بابويه وابن عقيل وابن المعلم. فإن لم تكن أخبار أهل السنة في هذا الباب مقبولة عندهم، فلا محيص لهم عن قبول أخبارهم: روى أبو المحاسن الحسن بن علي، بإسناده إلى أبي البختري، قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه السلام، فلما نظر إليه الصادق قال: كأني أنظر إليك وأنت تحيي سنة جدي بعد ما اندرست، وتكون مفزعا لكل ملهوف، وغياثا لكل مهموم، بك يسلك المتحيرون إذا وقفوا، وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيروا، ذلك من الله العون والتوفيق، حتى يسلك الربانيون بك الطريق. وروى الإمامية بأجمعهم أنه لما دخل أبو حنيفة على خليفة وقته أبي جعفر المنصور العباسي، وكان عنده عيسى بن موسى، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين هذا عالم الدنيا اليوم، فقال المنصور: يا نعمان ممن أخذت العلوم؟ قال: عن أصحاب علي عن علي، وعن أصحاب عبد الله بن عباس عن ابن عباس. فقال المنصور: لقد استوثقت من نفسك يا فتى. وفي كتب الإمامية أيضا: إن أبا حنيفة كان جالسا في المسجد الحرام، وحوله زحام كثير من كل الآفاق، قد اجتمعوا يسألونه من كل جانب فيجيبهم، وكانت المسائل في كمه فيخرجها فيناولها، فوقف عليه الإمام أبو عبد الله، ففطن به أبو حنيفة فقام. ثم قال: يا ابن رسول الله، لو شعرت بك أولا ما وقفت، لا أراني الله جالسا وأنت قائم. فقال له أبو عبد الله: إجلس أبا حنيفة وأجب الناس، فعلى هذا أدركت آبائي.

ص 266

وهذان الخبران موجودان في شرح التجريد لابن المطهر الحلي، في مسألة تفضيل حضرة الأمير. فإن وسوس شيطان الشيعة فقالوا: إذا كان أبو حنيفة وأمثاله من مجتهدي أهل السنة تلامذة حضرات الأئمة، فلماذا أفتوا على خلافهم في مسائل كثيرة؟ فأقول: إن جواب هذا مذكور في مجالس المؤمنين للقاضي نور الله التستري، فإنه قال: كان ابن عباس تلميذ حضرة الأمير، وكان قد بلغ مرتبة الاجتهاد، وكان يجتهد في محضر من حضرة الأمير، ويخالفه في بعض المسائل، فلا يعترض عليه حضرة الأمير في ذلك . أقول: إن هذا الكلام الذي ذكره (الدهلوي) حسبة، يشتمل على أكاذيب غريبة وافتراءات عجيبة: فأولها: ما نسبه إلى كتب الإمامية من اعتراف أكابرهم بملاطفة أهل البيت لأئمة أهل السنة، في الفقه والأصول والعقائد والسلوك والتفسير والحديث، لا سيما دعوى كون ذلك على الدوام، وثبوته عند الإمامية بطرق صحيحة. والثاني: ما نسبه إلى كتب الإمامية من انبساط الأئمة عليهم السلام في حق أئمة أهل السنة، لا سيما دعوى كونه على الدوام، وثبوت ذلك عند أكابر الإمامية وتصحيحهم له. والثالث: ما نسبه إلى كتب الإمامية من أن الأئمة عليهم السلام بشروا أئمة أهل السنة، وأن أكابر علماء الإمامية يعترفون بذلك وبصحته. ولا ريب في أن دعوى صحة وثبوت ملاطفات الأئمة عليهم السلام،

ص 267

وانبساطهم لأئمة أهل السنة، وذلك على الدوام والاستمرار، وأيضا، دعوى بشارتهم لهم... في كتب الإمامية... كل ذلك كذب وافتراء. والرابع: ما نسبه إلى العلامة الحلي في (نهج الحق) من الاعتراف بإجازة الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام وزيد الشهيد أبا حنيفة بالإفتاء. والغريب أنه ينسب هذا إلى العلامة كذبا، ومع ذلك يقصد إثبات كذب العلامة في نقل حديث التشبيه، أعاذنا الله من الوقاحة والضلالة. والخامس: دعوى أن ما حكاه أبو المحاسن حسن بن علي بإسناده عن أبي البحتري... من روايات الإمامية... فإنها كذب محض... والأصل في هذه الأكذوبة هو أبو المؤيد الخوارزمي صاحب (جامع مسانيد أبي حنيفة)، رواها بطريق أخطب خوارزم، وقد أخذ الكابلي الرواية من (جامع المسانيد)، لكنه حذف السند حتى أبي المحاسن، وأسقط السند من أبي المحاسن إلى أبي البختري، وإليك نص ما جاء في (جامع مسانيد أبي حنيفة) حيث قال: وأخبرني سيد الوعاظ إسماعيل بن محمد الحجي بخوارزم إجازة قال: أخبرني الصدر العلامة صدر الأئمة أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي قال: أخبرني الإمام أبو المحاسن الحسن بن علي في كتابه، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الزاهد الصفار، ثنا أبو علي الحسن بن علي الصفار، أنا أبو نصر محمد ابن مسلم، أنا أبو عبد الله محمد بن عمر، أنا الأستاد أبو محمد عبد الله بن محمد ابن يعقوب الحارثي البخاري، بإسناده إلى أبي البحتري قال: دخل أبو حنيفة على جعفر الصادق رضي الله عنه، فلما نظر إليه جعفر قال: كأني أنظر إليك وأنت تحيي سنة جدي صلى الله عليه وسلم بعد ما اندرست، وتكون مفزعا لكل ملهوف، وغياثا لكل مهموم، بك يسلك المتحيرون إذا وقفوا، وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيروا، فلك من الله العون

ص 268

والتوفيق، حتى يسلك الربانيون بك الطريق (1). وهذه عبارة الكابلي في (الصواقع): روى أبو المحاسن الحسن بن علي، بإسناده إلى أبي البختري قال: دخل أبو حنيفة على جعفر بن محمد الصادق، قال: كأني أنظر إليك وأنت تحيي سنة جدي بعد ما اندرست، وتكون مفزعا لكل ملهوف، وغياثا لكل مهموم، بك يسلك المتحيرون إذا وقفوا وتهديهم إلى واضح الطريق إذا تحيروا، فلك من الله العون والتوفيق حتى يسلك الربانيون بك الطريق . والسادس: نسبة ما حكاه من مدح عيسى بن موسى لأبي حنيفة، والكلام الذي جرى بينه وبين المنصور، إلى جميع الإمامية... وقد ذكر هذه الرواية النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) باختلاف يسير. على أنه لا علاقة لهذه الرواية بمطلوبه، وهو كون أبي حنيفة مقبولا لدى أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، إذ لا يثبت منها مدح من أحد منهم لأبي حنيفة. والسابع: نسبة الرواية المتضمنة لأمر الإمام الصادق عليه السلام أبا حنيفة بأن يجلس ويجيب الناس، إلى كتب الإمامية، فإنها كذب محض، والكابلي ذكر هذه الرواية - ورواية دخول أبي حنيفة على المنصور المتقدمة - فلم يجرأ على نسبتها إلى الإمامية. والثامن: نسبة كلتا الروايتين إلى شرح التجريد للعلامة الحلي. والتاسع: قوله: هما مذكوران في شرح التجريد للعلامة الحلي في مسألة تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام. وهذا من أعاجيب الأكاذيب، كيف ينسب روايتين إلى كتاب، ويعين

(هامش)

(1) جامع مسانيد أبي حنيفة 1 / 19. (*)

ص 269

موضعهما منه، وهذه نسخ كتاب شرح التجريد للعلامة منتشرة في كل مكان، فليلاحظ مبحث التفضيل منه بكل إمعان وتدبر... والعاشر: ما نسبه إلى كتاب (مجالس المؤمنين) من اجتهاد ابن عباس في محضر أمير المؤمنين، وإذن الإمام له في ذلك، وأنه ربما كان يخالف الإمام... كذب وافتراء... ولمخاطبنا (الدهلوي) في خصوص حديث (التشبيه) أكاذيب: 1 - زعم فساد مبادي الاستدلال بحديث التشبيه ومقدماته، من الرأس إلى القدم. 2 - نفي كون هذا الحديث من روايات أهل السنة. 3 - إنه لا أثر لهذا الحديث في كتب البيهقي. 4 - إن القاعدة المقررة لدى أهل السنة هي عدم جواز الاحتجاج بحديث لم يخرجه أحد من أئمة الحديث، في كتاب التزم فيه بالصحة، كالبخاري ومسلم، وسائر أصحاب الصحاح، أو لم ينص مخرجه أو غيره من المحدثين الثقات على صحته بالخصوص. 5 - إن الديلمي والخطيب وابن عساكر جمعوا الأحاديث بطريق البياض، لكي ينظروا فيها، لكنهم لم يوفقوا لهذا الأمر المهم، لقلة الفرص وقصر الأعمار. 6 - إنهم - يعني الديلمي والخطيب وابن عساكر وأمثالهم - صرحوا بالغرض المذكور في مقدمات جوامعهم. 7 - إن هذا الحديث ليس من الأحاديث المروية في كتاب من كتب أهل السنة ولو بطريق ضعيف. 8 - إن هذا الحديث تشبيه محض...

ص 270

9 - إن استفادة التساوي بين المشبه والمشبه به، من غاية السفاهة. 10 - إن الأفضلية لا تستلزم الزعامة الكبرى. 11 - إنه دون نفي مساواة الخلفاء الثلاثة للأنبياء في الصفات المذكورة أو مثلها، خرط القتاد. 12 - إنه لو تفحص في كتب أهل السنة، لعثر على أحاديث كثيرة دالة على التشبيه بالأنبياء في حق الشيخين، بحيث لم يثبت ذلك في حق أحد من معاصريهم. 13 - إن الإمامة الباقية في أولاد الوصي، التي كان كل منهم خلفا للآخر فيها، هي القطبية والإرشاد... 14 - إنه لم يرو عن الأئمة الأطهار إلزام كافة الخلائق بأمر الإمامة. هذا، وقد عرفت أن هذا الحديث (حديث التشبيه) موجود في كتب أهل السنة، وفي كتب البيهقي، وأن جماعة كبيرة من مشاهير أئمتهم رووه وأثبتوه، وأن ممن اعترف به والد (الدهلوي). فظهر كذب (الدهلوي) في كل مورد من هذه الموارد، بل ظهر تجاسره على تكذيب هذه الكثرة من علماء طائفته، لا سيما والده. قوله: مع أن القاعدة المقررة عند أهل السنة: أن كل حديث رواه بعض أئمة الحديث في كتاب غير ملتزم فيه بالصحة... أقول: كأن (الدهلوي) تنبه من نومته وغفلته!! إنه بعد أن نفى كون الحديث من

ص 271

روايات البيهقي وغيره من أهل السنة، عاد فذكر هذه القاعدة، لئلا يفتضح وينكشف جهله أو تجاهله... لكن ذكر هذه القاعدة المزعومة هنا، يوجب الطعن في هذا الجم الغفير من أعلام المحدثين، الذين أخرجوا هذا الحديث في كتبهم أو أثبتوه أو أرسلوه إرسال المسلمات... والأصل في دعوى وجود هذه القاعدة هو الكابلي، لكن (الدهلوي) زاد في طنبور الكابلي نغمة، فنسب هذه القاعدة إلى أهل السنة، وجعلها قاعدة مقررة بينهم... وهذا نص عبارة الكابلي: السادس - ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في خلته، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب. فإنه أوجب مساواته للأنبياء في صفاتهم، والأنبياء أفضل من غيرهم، فكان علي أفضل من غيرهم. وهو باطل، لأنه ليس من أحاديث أهل السنة، وقد أورده ابن المطهر الحلي في كتبه، وعزى روايته تارة إلى البيهقي وأخرى إلى البغوي، ولم يوجد في كتبهما، والحلي لا يصدق أثره. ولأن الخبر الذي رواه بعض أئمة الحديث في كتاب لم يلتزم صحة جميع ما أورده فيه، ولم يصرح بصحته هو أو غيره من المحدثين، لا يحتج به . الحديث الصحيح حجة وإن لم يخرج في صحيح وكلام (الدهلوي) هذا باطل بوجوه: الأول: لا ريب في وجود الأحاديث قبل البخاري ومسلم وسائر أرباب الكتب الموسومة بالصحاح، وقد كانت دائرة بين العلماء، يستندون إليها

ص 272

ويحتجون بها، ولم يكن الاحتجاج بها موقوفا على تنصيص أحد على الصحة، بل كل حديث جمع شروط الاعتبار والحجية، فهو حجة. فدعوى إن كل خبر لم يكن في كتاب التزم فيه بالصحة أو لم يصرح بصحته لا يحتج به ، لا وجه لها من الصحة، ويبطلها عمل العلماء السابقين من الفقهاء والمحدثين. الثاني: مقتضى هذه القاعدة سقوط كل حديث جامع لشرائط الحجية لم يخرج في كتاب التزم فيه بالصحة، ولم ينص على صحته أحد من المحدثين، عن درجة الاعتبار، وعدم صلوحه للاحتجاج والاستناد. وهذا باطل، لأن الملاك صحة الحديث بحسب القواعد والموازين المقررة، فكل حديث وثق رجاله وجمع شرائط الصحة جاز الاحتجاج به، وإن لم يروه أحد ممن التزم بالصحة، وإن لم يصرح بصحته أحد من المحدثين. الثالث: مقتضى هذا الكلام عدم قابلية الحديث الحسن للاحتجاج به، وإن صرح بحسنه أئمة الحديث. والحال أن الحسن يحتج به. الحديث الحسن يحتج به الرابع: إن الحديث الجامع لشروط الحسن يحتج به، وإن لم يصرح أحد من أئمة الحديث بحسنه... وقد نص على هذا أكابر المحققين من أهل السنة، بل عن الخطابي أن مدار أكثر الحديث على الحديث الحسن: فهذه القاعدة المزعومة من الكابلي و(الدهلوي) توجب ضياع أكثر أحاديث أهل السنة، فهما كمن بنى قصرا وهدم مصرا. وإليك بعض الكلمات الصريحة في حجية الحديث الحسن : قال الزين العراقي: والحسن المعروف مخرجا وقد * اشتهرت رجاله بذاك حد

ص 273

حمد وقال الترمذي ما سلم * من الشذوذ مع راو ما اتهم بكذب ولم يكن فردا ورد * قلت وقد حسن بعض ما انفرد وقيل ما ضعف قريب محتمل * فيه وما بكل ذا حد حصل إختلف أقوال أئمة الحديث في حد الحديث الحسن، فقال أبو سليمان الخطابي - وهو حمد المذكور في أول البيت الثاني - الحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلماء ويستعمله عامة الفقهاء . قال: والفقهاء كلهم تستعمله * والعلماء الجل منهم تقبله وهو بأقسام الصحيح ملحق * حجية وإن يكن لا يلحق البيت الأول مأخوذ من كلام الخطابي، وقد تقدم نقله عنه، إلا أنه قال: عامة الفقهاء. وعامة الشيء مطلقا بإزاء معظم الشيء وبإزاء جميعه، والظاهر أن الخطابي أراد الكل، ولو أراد الأكثر لما فرق بين العلماء والفقهاء. وقوله: حجية. نصب على التمييز، أي الحسن ملحق بأقسام الصحيح في الاحتجاج به، وإن كان دونه في الرتبة (1). وقال ابن حجر العسقلاني: وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ، هو الصحيح لذاته. وهذا أول تقسيم المقبول إلى أربعة أنواع، لأنه إما أن يشتمل من صفات القبول على أعلاها أو لا، الأول: الصحيح لذاته، والثاني: إن وجد فيه ما يجبر ذلك القصور، ككثرة الطرق، فهو الصحيح أيضا. لكن لا لذاته، وحيث لا جبر، فهو الحسن لذاته، وإن قامت

(هامش)

(1) شرح ألفية الحديث للعراقي وراجع أيضا: فتح المغيث في شرح الألفية للسخاوي: 1 / 71. (*)

ص 274

قرينة ترجح جانب قبول ما يتوقف فيه، فهو الحسن أيضا، لكن لا لذاته (1). وقال ابن حجر أيضا بعد شرح تعريف الصحيح: فإن خف الضبط، أي قل، يقال خف القوم خفوفا قلوا، والمراد مع بقية الشروط المتقدمة في حد الصحيح، فهو الحسن لذاته، لا لشيء خارج، وهو الذي يكون حسنه بسبب الاعتضاد نحو الحديث المستور إذا تعددت طرقه، وخرج باشتراط باقي الأوصاف الضعيف. وهذا القسم من الحسن مشارك للصحيح في الاحتجاج به، وإن كان دونه، ومشابه له في انقسامه إلى مراتب بعضها فوق بعض (2). وقال محمد بن محمد بن علي الفارسي - في (جواهر الأصول) -: الحسن حجة كالصحيح وإن كان دونه، ولهذا أدرجه بعض أهل الحديث فيه ولم يفرده . وقال جلال الدين السيوطي بعد أن ذكر الحديث الحسن وتعريفه: قال البدر ابن جماعة: وأيضا فيه دور، لأنه عرفه بصلاحيته للعمل به، وذلك يتوقف على معرفة كونه حسنا. قلت: ليس قوله: ويعمل به من تمام الحد، بل زائد عليه لإفادة أن يجب العمل به كالصحيح، ويدل على ذلك أنه فصله من الحد حيث قال: وما فيه ضعف قريب محتمل فهو الحديث الحسن، ويصلح البناء عليه والعمل به (3). وقال السيوطي أيضا: ثم الحسن كالصحيح في الاحتجاج به وإن كان دونه في القوة، ولهذا أدرجه طائفة في نوع الصحيح، كالحاكم وابن حبان وابن خزيمة، مع قولهم بأنه دون الصحيح المبين أولا. ولا بدع في الاحتجاج

(هامش)

(1) نزهة النظر - شرح نخبة الفكر: 243 بشرح القاري. (2) المصدر: 291. (3) تدريب الراوي - شرح تقريب النواوي 1 / 122. (*)

ص 275

بحديث له طريقان لو انفرد كل منهما لم يكن حجة، كما في المرسل إذا ورد من وجه آخر مسندا لوافقه مرسل آخر بشرطه كما سيجئ. قال ابن الصلاح وقال في الاقتراح: ما قيل من أن الحسن يحتج به، فيه إشكال، لأن ثم أوصافا يجب معها قبول الرواية إذا وجدت، فإن كان هذا المسمى بالحسن مما وجد فيه أقل الدرجات التي يجب معها القبول، فهو صحيح، وإن لم يوجد لم يجز الاحتجاج به وإن سمي حسنا. اللهم إلا أن يرد هذا إلى أمر اصطلاحي، بأن يقال: إن هذه الصفات لها مراتب ودرجات، فأعلاها وأوسطها يسمى صحيحا، وأدناها يسمى حسنا، وحينئذ يرجع الأمر في ذلك إلى الاصطلاح ويكون الكل صحيحا في الحقيقة (1). وقال السيوطي بعد ذكر الحديث الصحيح: فإن خف الضبط - أي قل - مع وجود بقية الشروط، فحسن، وهو يشارك الصحيح في الاحتجاج به، وإن كان دونه وتفاوته، فأعلاه ما قيل بصحته، كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومحمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر... (2). وفي هذه الكلمات غنى وكفاية. الخامس: إن الحديث الضعيف إذا تعددت طرقه، ارتقى إلى درجة الاحتجاج به، كما بيناه في مجلد (حديث الولاية). فراجع. فلا وجه لنفي جواز الاحتجاج به في هذه الحالة. ثم لا يخفى أن الكابلي و(الدهلوي) - اللذين اخترعا هذه القاعدة - قد غفلا أو تغافلا عن قاعدتهما هذه في موارد كثيرة، فاحتجا بأخبار غير مروية فيما التزم فيه بالصحة من الكتب، وبأخبار لم يصرح أحد من أئمة الحديث

(هامش)

(1) تدريب الراوي - شرح تقريب النواوي 1 / 128. (2) إتمام الدراية لقراء النقاية: 55 ط هامش مفتاح العلوم. (*)

ص 276

بصحتها، فاحتجا بهكذا أخبار - بالرغم من القاعدة التي زعم (الدهلوي) تقررها لدى أهل السنة - لأجل مقابلة الشيعة الإمامية بها!! وهل هذا إلا تناقض وتهافت!! والأشنع من ذلك: احتجاجهما بأخبار نص أئمتهم في الحديث والرجال على وضعها واختلاقها... أما إذا كان البحث في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، فلا يأخذان بهذه القاعدة المرفوضة التي ذكراها هنا، فيكذبان - مثلا - حديث الولاية، وحديث الطير، وحديث مدينة العلم... هذه الأحاديث التي صرح أئمة الحديث بصحتها، فجاز الاحتجاج بها ووجب قبولها - بحسب القاعدة المذكورة -. فظهر بطلان هذه القاعدة المصنوعة، من كلمات الكابلي و(الدهلوي) طردا وعكسا، وذلك من العجب العجاب المحير للألباب. رأي الدهلوي في كتب الديلمي والخطيب وابن عساكر قوله: وذلك لأن جماعة من المحدثين من أهل السنة في الطبقات المتأخرة، كالديلمي والخطيب وابن عساكر، لما رأوا... أقول: هذا التعليل العليل من زيادات (الدهلوي) على الكابلي، وهو مردود بوجوه: الأول: إنه لا علاقة له بالدعوى أصلا، لأن الدعوى هي: إن كل حديث ليس في كتاب التزم فيه بالصحة، ولم يصرح أحد من أئمة الحديث بصحته، لا

ص 277

يحتج به. وأي مناسبة بين هذه الدعوى وبين ما ذكره من أن هؤلاء المحدثين المتأخرين جمعوا في مجاميعهم الحديثية الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمقلوبة الأسانيد والمتون...؟ فلا يستلزم ثبوت الثاني ثبوت الأول، ولا انتفاؤه يستلزم انتفائه... فإن كان ما ذكره بالنسبة إلى كتب هؤلاء المحدثين حقا، لم يستلزم ذلك حصر الاحتجاج بالأحاديث المخرجة في الكتب الملتزم فيها بالصحة، أو الأحاديث المنصوص على صحتها بالخصوص، وإن لم يكن ما ذكره في حقها حقا، لم يلزم عدم الحصر المذكور... وهذا بين جدا. الثاني: ظاهر هذا الدليل اعتبار كتب الطبقة المتقدمة على من ذكرهم، وأن أحاديثهم يحتج بها. وقد عرفت رواية عبد الرزاق (211) وأحمد بن حنبل (241) وأبي حاتم (277) وابن شاهين (385) وابن بطة (387) والحاكم (405) وابن مردويه (410) وأبي نعيم (430) والبيهقي (458) لحديث التشبيه. وهؤلاء كلهم متقدمون على الديلمي والخطيب وابن عساكر، لأن تاريخ وفاة آخرهم - وهو البيهقي - سنة (458). وتاريخ وفاة الديلمي سنة (509) وابن عساكر سنة (571).

ص 278

فيكون حديث التشبيه بهذا البيان، قابلا للاحتجاج والاستدلال. وإذا كان هذا حال كتب الديلمي والخطيب وابن عساكر في رأي (الدهلوي)، فكيف يستند إلى بعض أخبار الديلمي - بتقليد من الكابلي - عند الجواب على المطعن العاشر من مطاعن عثمان، مما هو مكذوب قطعا؟! ويستند إلى بعض خرافات الديلمي في فضل عثمان، لا سيما مع تنصيص بعض أكابرهم على كونه موضوعا؟! وإذا كان ما ذكره هو حال كتب ابن عساكر، فلماذا يستند إلى حديث موضوع، يرويه ابن عساكر في وجوب حب أبي بكر وشكره؟ ويحتج بالحديث الموضوع: حب أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما نفاق عن ابن عساكر، في جواب عن آية المودة *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)*!! الثالث: ظاهر هذا الكلام، أن الأحاديث الحسان صالحة للاحتجاج كالأحاديث الصحاح، ولو لم تكن قابلة لذلك، لم يكن وجه لعناية المتقدمين بضبط الأحاديث الحسان وجمعها كالصحاح... لكنه أفاد سابقا بعدم حجية الأحاديث الحسان... وهذا تهافت صريح. الرابع: ظاهر قوله: لميزوا الموضوعات من الحسان لغيرها أن أحاديث المتأخرين هي بين موضوعات وبين حسان لغيرها، مع العلم بأن الأحاديث الضعيفة - التي يشتمل عليها كتب المتأخرين - أعم من الحسان لغيرها والضعاف غير الحسان لغيرها التي لم تصل حد الوضع، فما وجه ترك القسم الثالث، وهو الأحاديث الضعيفة غير الحسان لغيرها وغير الموضوعات؟! الخامس: إن رواية الأحاديث الموضوعة حرام بالإجماع، فإثبات رواية الديلمي والخطيب وابن عساكر وأمثالهم للموضوعات مع علمهم بذلك،

ص 279

هو في الحقيقة تفسيق لهؤلاء الأساطين. السادس: قال السمعاني في (ذيل تاريخ بغداد): والخطيب في درجة القدماء من الحفاظ والأئمة الكبار كيحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن أبي خيثمة، وطبقتهم، وكان علامة العصر، اكتسى به هذا الشأن غضارة وبهجة ونضارة (1). وهذا الكلام يبطل ما ذكره (الدهلوي) من جعل الخطيب من المحدثين المتأخرين المخلطين، فلا تغفل. قوله: إلا أنه لقلة الفرصة عندهم وقصر أعمارهم، لم يتمكنوا من ذلك... أقول: نعم، لقد صرف (الدهلوي) عمره الطويل في طلب الشهرة وتحصيل الجاه، وتخديع العوام، فلم تبق له فرصة لأن يلقي نظرة ثانية على كتابه المنتحل من خرافات الكابلي، فيميز بها الموضوعات الصريحة والمكذوبات الفضيحة، من الكلمات المليحة والإفادات الصحيحة... لكن المتأخرين عنه - خصوصا تلميذه الرشيد الدهلوي - حاولوا الاحتراز عن الخط الذي مشى عليه (الدهلوي)، كيلا يتورطوا كما تورط، ولا يقعوا في الهوة السحيقة التي وقع فيها، إلا أن لكل منهم توهمات غريبة وأكذوبات ظاهرة، كما لا يخفى على من نظر في الأجوبة والردود المكتوبة على مؤلفاتهم.

(هامش)

(1) أنظر: الوافي بالوفيات 7 / 194. (*)

ص 280

وبعد، فإن كلمات أعلام القوم في وصف الديلمي والخطيب وابن عساكر وكتبهم الحديثية، لتكشف عن بطلان ما ذكره (الدهلوي)، من ذلك قول الحافظ الذهبي في ترجمة الخطيب: قد كان رئيس الرؤساء تقدم إلى الخطباء والوعاظ أن لا يرووا حديثا حتى يعرضوه عليه، فما صححه رووه وما رده لم يذكروه (1). وقد أورد (الدهلوي) أيضا هذا المطلب بترجمة الخطيب من كتابه (بستان المحدثين). فهل يعقل أن يكون للخطيب فرصة النظر في الأحاديث التي يعرضها عليه الخطباء والوعاظ وغيرهم من علماء عصره ومحدثي وقته، حتى لا يرووا للناس الأحاديث الموضوعة والأشياء الباطلة، ثم يترك مؤلفاته مشتملة على الموضوعات والمكذوبات، من غير إفراز لها عن الأحاديث الصحيحة والمعتبرة، فيكون مصداقا لقوله عز وجل: *(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)* وقوله *(كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)*؟! رأي الدهلوي في كتب ابن الجوزي والسخاوي والسيوطي قوله: ثم جاء من بعدهم، فميز الموضوعات عن غيرها، كما فعل ابن الجوزي في كتابه (الموضوعات) والسخاوي الذي جمع الحسان لغيرها في كتابه (المقاصد الحسنة) وكذلك السيوطي...

(هامش)

(1) سير أعلام النبلاء 18 / 280، تذكرة الحفاظ 3 / 1141. (*)

ص 281

أقول: مراد (الدهلوي) من لفظ (الامتياز) هو (التمييز)، والقول بأن هؤلاء ميزوا الأحاديث بعضها عن بعض، يضره ولا ينفعه، لوجود الأحاديث الكثيرة التي نقلها هؤلاء المتأخرون - كالمتقدمين عليهم - تؤيد الشيعة وتثبت مطلوبهم... ألا ترى أن السخاوي الحافظ، أورد حديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها) في كتابه (المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة) وذهب إلى القول بصحته، واستشهد بكلام الحافظ العلائي في تصحيحه، خلافا لمن اقتدى به (الدهلوي) وذهب إلى بطلانه، فإذا كان السخاوي قد ميز الحسان من غيرها - كما يقول هنا - فقد سقط وبطل ما ذكر هناك. وأيضا، إذا كان السيوطي من نقاد الحديث، وأنه قد جمع في (الدر المنثور) الأحاديث الحسان لغيرها - كما تفيد عبارته هذه -، فإن كتابه (الدر المنثور) يشتمل على كثير من الأحاديث المؤيدة لمذهب الإمامية، والمبطلة لمزاعم مخالفيهم، كما لا يخفى على من لاحظ مثلا ما ذكره السيوطي في الآية: *(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيموا الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)* والآية: *(إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)* وفي تفسير سورة البراءة... وغيرها... وأما ابن الجوزي، فالسبب في جعله من نقاد الحديث والمميزين لحقه من باطله، هو - والعياذ بالله - إبطاله لكثير من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام، والتي أوردها هذا الرجل في (الموضوعات) مثل: حديث الطير، وحديث أنا مدينة العلم... لكن (الدهلوي) لن يتحقق غرضه من نقل آراء ابن الجوزي في مناقب

ص 282

الإمام مع وصفه بما وصفه، لثبوت صحة الحديثين المذكورين وغيرهما، بتصريح كبار أئمة أهل السنة على ذلك، ولأن كبار علماء القوم في علم الحديث ينصون على اشتمال كتاب (الموضوعات لابن الجوزي) على الصحاح والحسان من الأحاديث، بل قيل باشتمال الكتاب المذكور على ستمائة حديث غير موضوع، ومنها أحاديث أخرجها الشيخان وغيرهما من أرباب الصحاح والمسانيد والسنن... ومن هنا ترى المحققين من أهل السنة، لا يعتبرون بكلام ابن الجوزي وبحكمه بالوضع في كثير على طائفة من الأحاديث... وإذا كان ابن الجوزي من نقاد الحديث... فقد أورد في كتاب (الموضوعات) طائفة كبيرة من مناقب الشيخين وغيرهما، وصرح بأنه قد ترك ذكر أحاديث كثيرة شائعة على ألسنة العوام وهي من الموضوعات، وأن من الأحاديث التي أدرجها في كتابه المذكور هو: ما صب الله في صدري شيئا إلا وصببته في صدر أبي بكر وحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة رجل، فلم يصل عليه، فقيل له: يا رسول الله، ما رأيناك تركت الصلاة على أحد إلا هذا! قال: إنه كان يبغض عثمان... وحديث المنام الذي وضعوه على ابن عباس، الذي جاء فيه عن النبي: إن عثمان بن عفان أصبح عروسا في الجنة وقد دعيت إلى عرسه ... لقد أدرج ابن الجوزي الناقد للحديث - كما ذكر (الدهلوي) هنا - هذه الأحاديث، في كتابه في (الموضوعات)، لكن (الدهلوي) تمسك بهذه الأباطيل والموضوعات في كتابه (التحفة) في مقابلة الشيعة!!... هذا، والجدير بالذكر أن (الدهلوي) قد أخذ كل ما ذكره حول الديلمي والخطيب وابن عساكر... وحول السخاوي وابن الجوزي والسيوطي... أخذ

ص 283

كل ذلك من عبارة والده في (قرة العينين)، مع تصرفات له فيها، كإسقاطه اسم (الحاكم) من طبقة البخاري ومسلم والترمذي... ولعل السبب في هذا الإسقاط هو تصحيح الحاكم لجملة من الأحاديث، كحديث الولاية، وحديث الطير، وحديث مدينة العلم... فلهذا حذف اسمه، لأن الاعتراف بكونه من نقدة الحديث - كالبخاري ومسلم - ينافي السعي في إبطال هذه الأحاديث وردها!! قوله: وقد نص أولئك الجامعون لتلك الأحاديث... أقول: يعني: إنه قد صرح أولئك الجامعون للأحاديث، في مقدمات جوامعهم، بأنهم قد جمعوا تلك الأحاديث في كتبهم، مع اشتمالها على الموضوعات والضعاف أيضا، حتى يميزوا في مرحلة أخرى بعضها عن بعض، ويستخرجوا من بينها الحسان... ودعوى تصريح القوم بذلك، لا أساس لها من الصحة، بل لم يجرأ عليها الكابلي أيضا، فهي من خصائص (الدهلوي). ويظهر بطلان هذه الدعوى، من كلام الديلمي في خطبة كتاب (الفردوس) فإنه قد شنع الديلمي بشدة على رواة القصص والمكذوبات. ويظهر بطلانها أيضا، من احتجاج الكابلي بما أخرجه الديلمي وابن عساكر، في المواضع المختلفة، من كتابه (الصواقع). بل (الدهلوي) نفسه، يحتج بأحاديث هؤلاء العلماء والحفاظ، إلا أنه

ص 284

يعمد إلى توهين كتبهم وإسقاط أخبارهم عن الاعتبار، لأجل الرد على الشيعة، ولغرض التفوق عليهم في البحث... فإن كان ما ذكره (الدهلوي) حول هؤلاء صحيحا، وما قاله عن كتبهم حقا، وقع التكاذب والتناقض بينه وبين تلك المدائح الجليلة من كبار العلماء في حقهم. وقد تقدم سابقا ذكر بعض ما قيل في كتاب الفردوس. الثناء على مصنفات الخطيب وهذه كلمات من أعلام القوم في مدح تصانيف الخطيب البغدادي: 1 - قال ابن جزلة - في كلام له حول علم الحديث -: قد صنف الناس في ذلك، ومعرفة الرجال، وأكثروا وعنوا وبالغوا، وميزوا الثقة من المتهم، والضعيف من القوي، وما أعظم فائدته وأحمد موقعه، لكثرة ما دس الملحدة والزنادقة من الأحاديث الموضوعة البشعة المنفرة، التي فسد بسماعها خلق من الناس، واعتقد الغر عند سماعها أنها من قول صاحب الشرع، فهلك وتسرع إلى الكذب، ومال إلى الخلاعة، نعوذ بالله من الشقاء والبلاء. وهذا الكتاب الذي صنفه الشيخ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، الحافظ البغدادي رحمه الله، وسماه (تاريخ بغداد)، كتاب جليل في هذا العلم، نفيس، قد تعب فيه، وسهر، وأطال الزمان، والله تعالى يثيبه ويحسن إليه، إلا أنه طويل، وللإطالة آفات، أقربها الملل، والملل داعية الترك، وقد استخرت الله تعالى واختصرته،... (1). 2 - السمعاني: بترجمة الخطيب: صنف قريبا من مائة مصنف، صارت

(هامش)

(1) مختار تاريخ بغداد لابن جزلة البغدادي - مخطوط. (*)

ص 285

عمدة لأصحاب الحديث، منها التاريخ الكبير لمدينة السلام بغداد (1). 3 - ابن خلكان: أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن يحيى بن مهدي ابن ثابت البغدادي، المعروف بالخطيب، صاحب تاريخ بغداد وغيره من المصنفات المفيدة. كان من الحفاظ المتقنين والعلماء المتبحرين. ولو لم يكن له سوى (التاريخ) لكفاه، فإنه يدل على اطلاع عظيم (2). 4 - الذهبي: قال الحافظ ابن عساكر: سمعت الحسين بن محمد يحكي عن ابن خيرون أو غيره: إن الخطيب ذكر أنه لما حج، شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله تعالى ثلاث حاجات، أن يحدث (تاريخ بغداد) بها، وأن يملي الحديث بجامع المنصور، وأن يدفن عند بشر الحافي. فقضيت له الثلاث (3). وقال الذهبي أيضا: قال غيث الأرمنازي، قال مكي الرميلي: كنت نائما ببغداد، في ربيع الأول سنة ثلاث وستين وأربعمائة، فرأيت أنا اجتمعنا عند أبي بكر الخطيب في منزله، لقراءة التأريخ على العادة، فكأن الخطيب جالس، والشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي عن يمينه، وعن يمين نصر رجل لم أعرفه، فسألت عنه فقيل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء يسمع التاريخ، فقلت في نفسي: هذه جلالة أبي بكر، إذ يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت: هذا رد لقول من يعيب التاريخ، ويذكر أن فيه تحاملا على أقوام (4). 5 - السبكي: قال أبو الفرج الإسفرائني، وأسنده عنه الحافظ ابن

(هامش)

(1) الأنساب 5 / 151. (2) وفيات الأعيان 1 / 92. (3) سير أعلام النبلاء - ترجمة الخطيب 18 / 279. (4) سير أعلام النبلاء - ترجمة الخطيب 18 / 288، تذكرة الحفاظ 3 / 1145. (*)

ص 286

عساكر في التبيين، قال أبو القاسم مكي بن عبد السلام المقدسي: كنت نائما في منزل الشيخ أبي الحسن الزعفراني ببغداد، فرأيت في المنام عند السحر، كأنا اجتمعنا عند الخطيب لقراءة التاريخ في منزله على العادة، وكأن الخطيب جالس وعن يمينه الشيخ نصر المقدسي، وعن يمين الفقيه نصر رجل لا أعرفه، فقلت: من هذا الذي لم تجر عادته بالحضور معنا! فقيل لي: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء يسمع التاريخ، فقلت في نفسي: هذه جلالة الشيخ أبي بكر، إذ حضر النبي صلى الله عليه وسلم مجلسه، وقلت في نفسي: هذا أيضا رد لمن يعيب التاريخ، ويذكر أن فيه تحاملا على أقوام، وشغلني التفكر في هذا عن النهوض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤاله عن أشياء كنت قد قلت في نفسي أسأله عنها، فانتبهت في الحال ولم أكلمه صلى الله عليه وسلم (1). 6 - الذهبي: أنشدني أبو الحسين الحافظ، أنشدنا جعفر بن منير، أنشدنا السلفي لنفسه: تصانيف ابن ثابت الخطيب * ألذ من الصبا الغض الرطيب تراها إذ رواها من حواها * رياضا للفتى اليقظ اللبيب ويأخذ حسن ما قد ضاع منها * بقلب الحافظ الفطن الأريب وأية راحة ونعيم عيش * يوازي كتبها بل أي طيب رواها السمعاني في تاريخه عن يحيى بن سعدون عن السلفي (2). والعجيب، أن (الدهلوي) نفسه يكثر من الثناء على (تاريخ بغداد) وغيره من مصنفات الخطيب، فقد ذكر في (بستان المحدثين): أن مصنفات الخطيب

(هامش)

(1) طبقات الشافعية 4 / 34. (2) سير أعلام النبلاء - ترجمة الخطيب 18 / 292. (*)

ص 287

تزيد على ستين كتابا، منها تاريخ بغداد والكفاية... وغير ذلك من التصانيف المفيدة التي هي بضاعة المحدثين وعروتهم في فنهم ثم أورد أشعار الحافظ أبي طاهر السلفي المذكورة، وذكر شرب الخطيب من ماء زمزم، والمنام الذي تقدم عن الذهبي وغيره... الثناء على مصنفات ابن عساكر وأما تصانيف الحافظ ابن عساكر: 1 - فقد قال ابن خلكان: وصنف التصانيف المفيدة، وخرج التخاريج، وكان حسن الكلام على الأحاديث، محفوظا في الجمع والتآليف، صنف التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلدة، أتى فيه بالعجائب، وهو على نسق تاريخ بغداد. قال شيخنا الحافظ العلامة أبو محمد عبد العظيم المنذري حافظ مصر أدام الله به النفع - وقد جرى ذكر هذا التاريخ، وأخرج لي منه مجلدا، وطال الحديث في أمره واستعظامه - ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع الإنسان فيه مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه. ولقد قال الحق، ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول، ومتى يتسع للإنسان الوقت حتى يضع مثله! وهذا الذي ظهر له هو الذي أختاره، وما صح له إلا بعد مسودات لا يكاد ينضبط حصرها، وله غيره تواليف حسنة وأجزاء ممتعة (1). 2 - اليافعي: وقال بعض العلماء بالحديث والتاريخ: ساد أهل زمانه في الحديث ورجاله، وبلغ فيه إلى الذروة العليا، ومن تصفح تاريخه علم منزلة

(هامش)

(1) وفيات الأعيان 3 / 309. (*)

ص 288

الرجل في الحفظ. قلت: بل من تأمل تصانيفه ومن حيث الجملة، علم مكانه في الحفظ والضبط للعلم والاطلاع وجودة الفهم والبلاغة والتحقيق والاتساع في العلوم، وفضائل تحتها من المنافع والمحاسن كل طائل (1). 3 - السبكي: له تاريخ الشام في ثمانين مجلدة وأكثر، أبان فيه عما لم يكتمه غيره وإنما عجز عنه، ومن طالع هذا الكتاب عرف إلى أي مرتبة وصل هذا الإمام، واستقل الثريا وما رضي بدر التمام، وله: الأطراف، وتبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبو الحسن الأشعري، وعدة تصانيف وتخاريج، وفوائد ما الحافظ إليها إلا محاويج، ومجالس أملاها من صدره يخر لها البخاري ويسلم بمسلم ولا يرتدا، ويعمل في الرحلة إليها هزل المهادي (2). قوله: فمع العلم بواقع حال تلك الكتب كما صرح به أصحابها، كيف يجوز الاحتجاج بتلك الأحاديث. أقول: لم نقف على كلام لأصحاب تلك الكتب يفيد ما نسب إليها، ولا على كلام لغير أصحابها يتضمن تلك النسبة... بل وجدناهم - على العكس مما زعم (الدهلوي) - يمدحون (الفردوس) و(تاريخ بغداد) و(تاريخ دمشق)، كما وجدناهم يستدلون بأخبار هذه الكتب ويعتمدون عليها، بل وجدنا (الدهلوي) نفسه يثني على كتب الخطيب في (بستان المحدثين) ويستدل بروايات الديلمي وابن عساكر في كتابه (التحفة).

(هامش)

(1) مرآة الجنان 3 / 393. (2) طبقات الشافعية 7 / 251. (*)

ص 289

فلماذا لا يجوز للشيعة الاحتجاج بأحاديث هؤلاء الأعاظم، من حفاظ أهل السنة؟ قوله: ولهذا، فقد نقل صاحب جامع الأصول أن الخطيب قد روى أحاديث الشيعة عن الشريف المرتضى... أقول: أما أولا: فإنه لم يذكر الموضع الذي نقل عنه هذا الكلام لكي نراجعه. وأما ثانيا: مجرد رواية الخطيب لأحاديث الشيعة عن السيد المرتضى، لا يوجب القدح في كتابه (تاريخ بغداد) وغيره، لجواز أنه قد كتب أحاديث الشيعة في بياض يخصها، ولم يدرجها في كتاب (تاريخ بغداد) المقبول لدى أساطين العلماء، فلا مانع من الاحتجاج بروايات التاريخ ونحوه من الكتب السائرة، كما اتفق (للدهلوي) في الباب الحادي عشر من كتابه، تقليدا للكابلي. وأما ثالثا: إن ما ذكره يدل على جلالة قدر السيد المرتضى رحمه الله. وبذلك أيضا يظهر ما في تهجين (الدهلوي) للسيد المذكور في باب النبوة من كتابه (التحفة). قوله: وعلى الجملة، فإن هذا الحديث ليس من تلك الأحاديث أيضا، فإنه لا وجود له في شيء من كتب أهل السنة، ولو بطريق ضعيف.

ص 290

أقول: لقد كرر (الدهلوي) هذه المزعمة المكذوبة مرة أخرى... سبحانك هذا بهتان عظيم... لكنك قد عرفت وجود هذا الحديث الشريف في: كتاب السنة. لابن شاهين البغدادي. وتاريخ نيسابور. للحاكم النيسابوري. والإبانة. لابن بطة العكبري. وفضائل الصحابة. لأبي نعيم الأصبهاني. وفضائل الصحابة. لأبي بكر البيهقي. ومناقب علي بن أبي طالب. لابن المغازلي الواسطي. وفردوس الأخبار. لشيرويه بن شهردار الديلمي. وزين الفتى في تفسير سورة هل أتى. للعاصمي. والخصائص العلوية. لأبي الفتح النطنزي. ومسند الفردوس. لشهردار بن شيرويه الديلمي. وكتاب مناقب علي بن أبي طالب. للخطيب الخوارزمي. ومعجم الأدباء. لياقوت الحموي. ووسيلة المتعبدين. لملا عمر. ومطالب السئول. لابن طلحة النصيبي. وكفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب. للكنجي. والرياض النضرة. وذخائر العقبى. لمحب الدين الطبري. والمودة في القربى. للسيد علي الهمداني. وتوضيح الدلائل. للسيد شهاب الدين أحمد.

ص 291

وهداية السعداء. لشهاب الدين الهندي. والفصول المهمة. لابن الصباغ المالكي. والفواتح - شرح ديوان أمير المؤمنين. للحسين الميبدي. وزينة المجالس. للصفوري. والاكتفاء. لإبراهيم الوصابي اليمني. والأربعين. لجمال الدين المحدث الشيرازي. ووسيلة المآل. لأحمد بن الفضل المكي. وسير الأقطاب. للشيخ الله ديا. ومفتاح النجا. لميرزا محمد البدخشاني. ومعارج العلى. لمحمد صدر العالم. والروضة الندية. لمحمد بن إسماعيل اليماني. وغيرها من كتب أهل السنة. فما هذا الجحود والإنكار؟ ولماذا لا يحتفل هذا الرجل بمؤاخذة المطلعين على كتب الأخبار؟ لقد ظهر وجود هذا الحديث الشريف في كتب أهل السنة ظهور الشمس في رابعة النهار، فلا أثر لإنكار المنكرين وجحد الجاحدين. والحمد لله رب العالمين.

ص 293

دلالة حديث التشبيه

ص 295

قد عرفت أن هذا الحديث من أخبار أهل السنة في طائفة من مصادرهم المعتبرة، وأن مناقشات (الدهلوي) حول سنده والكتب التي أخرجته لا أساس لها من الصحة... ثم شرع في المناقشة في دلالة الحديث، وسيتضح للقارئ الكريم سقوط جميع مناقشاته في هذه الناحية كذلك: قوله: الثاني: إن ما ذكر محض تشبيه لبعض صفات الأمير ببعض صفات أولئك الأنبياء. من وجوه دلالة الحديث على المساواة أقول: إن نفي دلالة هذا الحديث الشريف على مساواة أمير المؤمنين عليه السلام للأنبياء الكرام المذكورين في الصفات المذكورة في الحديث، وحمل الحديث على مجرد التشبيه بين الطرفين... مكابرة واضحة لكل عارف بأساليب الكلام... ولمزيد البيان والوضوح نذكر الوجوه الآتية: 1 - إفادة هذا التركيب للعينية إن أصل هذا التركيب - أعني: من أراد أن ينظر... - يفيد عينية ما يراد

ص 296

النظر إليه لما أمر بالنظر إليه، فهو مثل: من أراد أن ينظر إلى أفضل رجل في البلد فلينظر إلى فلان، ولا ريب أنه لا مساغ للتشبيه في مثل هذا الكلام، بأن يكون المراد: إن من أمر بالنظر إليه مشابه للأفضل من في البلد، وليس الأفضل حقيقة. إنه لا مساغ لأن يراد ذلك، أو يدعي كونه المراد، في مثل الكلام المذكور، بل المراد كون هذا الشخص هو الأفضل حقيقة. إلا أنه لما كانت العينية في الحديث الشريف متعذرة، فلا مناص من حمله على أقرب الأمور أي العينية، وهو المساواة، فيكون المعنى: من أراد أن ينظر إلى آدم ويلحظ علمه فلينظر إلى علي بن أبي طالب، فإنه الذي يماثله ويساويه في العلم، بمعنى أن جميع العلوم الحاصلة لآدم عليه السلام حاصلة لعلي عليه السلام. وهكذا في باقي الصفات المذكورة في الحديث. فظهر، أن المراد هو المساواة، وإلا لسقط الكلام النبوي عن البلاغة اللائقة به. ويشهد بما ذكرنا: ما جاء في كلام المحبي بترجمة عيسى بن محمد المغربي صاحب (مقاليد الأسانيد) حيث قال: وكان للناس فيه اعتقاد عظيم، حتى أن العارف بالله السيد محمد بن باعلوي كان يقول في شأنه: إنه زروق زمانه. وكان السيد عمر باعلوي يقول: من أراد أن ينظر إلى شخص لا يشك في ولايته فلينظر إليه. وكفى بذلك فخرا له، ومن يشهد له خزيمة (1). فإن ظاهر كلام باعلوي في حق عيسى المغربي هو ما ذكرناه، إذ لو كان مفاده التشبيه فقط - نظير تشبيه الحصى باللؤلؤ مثلا - لما دل على الولاية الثابتة

(هامش)

(1) خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر 3 / 240. (*)

ص 297

القطعية للمغربي، ولم يكن لقول المحبي: وكفى بذلك فخرا له ومن شهد له خزيمة وجه أصلا. 2 - المتبادر من التشبيه هو المساواة إن المتبادر من التشبيه في قولك: زيد كعمرو في العلم أو الحسن أو المال... هو المساواة بينهما في تلك الأمور، ولا يشك في ذلك إلا المنكر للواضحات، الدافع للبديهيات... فلو فرضنا تقدير حرف التشبيه في هذا الحديث الشريف - دون لفظ مساو - لأفاد المساواة كذلك، بحكم التبادر المذكور، بلا صارف ومانع عنه. ويوضح هذا التبادر: صحة سلب التشبيه في صورة عدم المساواة بين الطرفين، فإذا لم يكن زيد مساويا لعمرو في الحسن مثلا، صح أن يقال: زيد ليس كعمرو في الحسن، ولو لم يكن التشبيه دليلا على المساواة، لما صح سلب التشبيه في حال عدم المساواة. وأيضا: ترى العلماء يقولون في بحوثهم حول الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحو ذلك... يقولون: كذا في الآية الكريمة، وكذا في الحديث الشريف... فإن احتجوا بحديث من الأحاديث قالوا: كذا ذكره مسلم، وكذا أخرجه البخاري... وإذا دار بحثهم حول بعض الفروع الفقهية قالوا: كذا قال الشافعي، أو كذا قال أبو حنيفة... وهكذا ما لا يحصى كثرة... ولا ريب في أنهم يريدون التساوي والمساواة، وهو المتبادر منه إلى ذهن السامعين، فلولا المطابقة التامة لعرض القائل نفسه للمؤاخذة والاعتراض الشديد. فظهر ضرورة حمل التشبيه على المساواة في أمثال هذه العبارات...

ص 298

هكذا المشابهة بين الإمام عليه السلام والأنبياء، في الصفات المذكورة في الحديث الشريف... فإنه يجب حملها على المطابقة التامة، والمماثلة الكاملة، والمساواة الدقيقة... ولا يجوز غير ذلك أبدا. أفضلية نبينا من سائر الأنبياء في القرآن ولقد استدل كبار العلماء بالآية الآمرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاقتداء بهدى الأنبياء، على أنه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين... فكذلك هذا الحديث الدال على وجود صفات الأنبياء عليهم السلام في أمير المؤمنين عليه السلام، فإنه يدل على أفضليته منهم، وإذا ثبتت أفضليته عليه السلام من الأنبياء الكرام، فما ظنك بثبوت أفضليته من الثلاثة الحائزين لصفات تتحير فيها الأفهام!! ولنذكر أولا الآية الكريمة، ثم نتبعها بكلمات بعض المفسرين في بيان وجه الاستدلال بها على ما أشرنا إليه، فالآية هي: *(ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون * أولئك آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا

ص 299

أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكر للعالمين)*(1). * قال الرازي بتفسير *(فبهداهم اقتده)*: في الآية مسائل: الأولى - لا شبهة في أن قوله *(أولئك الذين هدى الله)* هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء، ولا شك في أن قوله *(فبهداهم اقتده)* أمر لمحمد عليه الصلاة والسلام. وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمدا أن يقتدي فيه بهم. فمن الناس من قال: المراد إنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات. وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في شرائعهم، إلا ما خصه الدليل، وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلا على أن شرع من قبلنا يلزمنا. وقال آخرون: إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة، ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك، مجاهدين بإبطاله، بدليل أنه ختم الآية بقوله: *(ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون)* ثم أكد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله: *(فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بهم قوما ليسوا بها بكافرين)* ثم قال في هذه الآية: *(أولئك الذين هدى الله)* أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد، وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب. وقال آخرون: اللفظ مطلق، فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل. قال القاضي: يبعد حمل الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء عليهم السلام المتقدمين في شرائعهم لوجوه: أحدها - إن شرائعهم مختلفة متناقضة، فلا يصح مع تناقضها أن يكون مأمورا بالاقتداء بهم في تلك الأحكام المتناقضة.

(هامش)

(1) سورة الأنعام، الآيات 83 - 90. (*)

ص 300

وثانيها: إن الهدى عبارة عن الدليل، دون نفس العمل، وإذا ثبت هذا فنقول: دليل إثبات شرعهم كان مخصوصا بتلك الأوقات، لا في غير تلك الأوقات، فكان الاقتداء بهم في ذلك الهدى هو أن يعلم بوجوب تلك الأفعال في تلك الأوقات فقط، وكيف يستدل بذلك على اتباعهم في شرائعهم في كل الأوقات؟ وثالثها: إن كونه عليه الصلاة والسلام متبعا لهم في شرائعهم، يوجب أن يكون منصبه أقل من منصبهم، وذلك باطل بالاجماع. فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على وجوب الاقتداء بهم في شرائعهم. والجواب عن... الثالث: إنه تعالى أمر الرسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصفات الحميدة والأخلاق الشريفة، وذلك لا يوجب كونه أقل مرتبة منهم، بل يوجب كونه أعلى مرتبة من الكل، على ما سيجئ تقريره بعد ذلك إن شاء الله تعالى. فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا. المسألة الثانية: - إحتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام، وتقريره هو: أنا بينا أن خصال الكمال وصفات الشرف كانت متفرقة فيهم بأجمعهم: فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة. وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء. ويوسف كان مستجمعا لهاتين الحالتين. وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة، والمعجزات الظاهرة. وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس، كانوا أصحاب الزهد.

ص 301

وإسماعيل كان صاحب الصدق. ويونس كان صاحب التضرع. فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء، لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف. ثم إنه تعالى لما ذكر الكل، أمر محمدا عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهم بأسرهم، فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت متفرقة فيهم بأجمعهم. ولما أمره الله تعالى بذلك امتنع أن يقال أنه قصر في تحصيلها، فثبت أنه حصلها. ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه اجتمع فيه من خصال الخير ما كان متفرقا فيهم بأسرهم. ومتى كان الأمر كذلك، وجب أن يقال: إنه أفضل منهم بكليتهم. والله أعلم (1). أقول: وبنفس هذا التقرير الذي ذكره العلماء، للاحتجاج بالآية الكريمة على أفضلية نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من سائر الأنبياء... نحتج بحديث التشبيه على أفضلية سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام من الأنبياء، فلا يبقى أي ريب في دلالة حديث التشبيه على مذهب الشيعة. بل الأمر هنا أوضح من هناك، لأنه إذا كان الأمر بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين عليهم السلام دالا على أفضلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن

(هامش)

(1) تفسير الرازي 13 / 69 - 71. (*)

ص 302

إثبات صفات الأنبياء السابقين لأمير المؤمنين عليه السلام - الأمر الذي يدل على الحديث بصراحة - يدل على أفضلية الإمام عليه السلام منهم، بالأولوية. على أن الاحتجاج بالآية، كان يتوقف على مقدمات، أحدها: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر بالاقتداء، امتنع أن يقال إنه ترك الاقتداء. والثاني: إن المراد من هدى الأنبياء السابقين هو جميع الخصال الخاصة بكل واحد منهم. والثالث: إن الاقتداء لا يمنع كونه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من الأنبياء السابقين. أما في حديث: من أراد أن ينظر إلى آدم... فلا حاجة إلى شيء من المقدمات، بل إن الحديث يثبت صفات الأنبياء السابقين للإمام بلا مقدمة، إذ ليس فيه أمر بالاقتداء حتى يحتاج إلى مقدمة أنه قد أطاع هذا الأمر قطعا، وقد ذكر في الحديث صفات الأنبياء بصراحة وهي - في بعض الألفاظ - العلم، والحلم، والعبادة، والتقوى، والبطش وليس فيه لفظ الهدى حتى يحتاج إلى مقدمة يذكر فيها أن المراد من الهدى هو الصفات... كما أنه لا حاجة هنا إلى القول بأن الاقتداء لا ينافي الأفضلية، إذ لا أمر بالاقتداء هنا. فظهر، أن دلالة هذا الحديث على مساواة صفات الإمام عليه السلام لصفات الأنبياء السابقين عليه السلام، أوضح من دلالة الأمر بالاقتداء على ذلك. وقد ذكر النيسابوري أيضا الاحتجاج المذكور بالآية على أفضلية نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر أقوال العلماء في تفسير الهدى ثم كلام القاضي وما قيل في الجواب عن الوجوه التي ذكرها القاضي، فصرح: بأنه يلزم أن يكون منصبه أجلا من منصبهم، لأنه أمر باستجماع خصال الكمال وصفات الشرف التي كانت متفرقة فيهم، كالشكر في داود

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء التاسع عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب