نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء التاسع عشر

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء التاسع عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 303

وسليمان، والصبر في أيوب، والزهد في زكريا ويحيى وعيسى، والصدق في إسماعيل، والتضرع في يونس، والمعجزات الباهرة في موسى وهارون. ولهذا قال: لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي (1). * وقال الخطيب الشربيني بعد ذكر الاحتجاج: فثبت بهذا البيان أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، لما اجتمع فيه من الخصال التي كانت متفرقة في جميعهم (2). 3 - الاستدلال على ضوء كلام الفخر الرازي وإذا كان الأمر بالاقتداء دالا على وجود جميع صفات الأنبياء السابقين في وجود نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يكون دالا على أفضليته منهم من جهة كونه جامعا بوحده لتلك الصفات المتفرقة بينهم... فلا أقل من دلالة حديث التشبيه على أفضلية الإمام عليه السلام منهم بهذا البيان، فيكون الحديث دالا على الأفضلية بنفس المقدمات التي ذكرت في الاحتجاج بالآية على الأفضلية، بعد التنزل عما أثبتناه في الوجه السابق من الاستدلال بلا توقف على المقدمات. فيكون الحاصل حينئذ دلالة حديث التشبيه على أفضلية الإمام عليه السلام من الأنبياء السابقين، لاستجماعه ما تفرق فيهم من الخصال، وإذا كان أفضل من الأنبياء الخمسة المذكورين، ثبت أفضليته من جميع الأنبياء - سوى خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - بالإجماع المركب. بل لقد جاء في بعض ألفاظ حديث التشبيه ثبوت صفات يعقوب و

(هامش)

(1) تفسير النيسابوري - هامش الطبري 7 / 185. (2) السراج المنير 1 / 435. (*)

ص 304

يوسف وأيوب ويونس عليهم السلام، وهيبة إسرافيل، ورتبة ميكائيل، وجلالة جبرائيل... لسيدنا أمير المؤمنين عليه السلام. 4 - في علي تسعون خصلة لم تجمع في غيره وروى السيد علي الهمداني - من مشايخ والد (الدهلوي) - في كتابه الذي عده رشيد الدين الدهلوي في كتب أهل السنة المؤلفة في مناقب أهل البيت عليهم الصلاة والسلام: عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أراد أن ينظر إلى إسرافيل في هيبته، وإلى ميكائيل في رتبته، وإلى جبرئيل في جلالته، وإلى آدم في علمه، وإلى نوح في حسنه، وإلى إبراهيم في خلته، وإلى يعقوب في حزنه، وإلى يوسف في جماله، وإلى موسى في مناجاته، وإلى أيوب في صبره، وإلى يحيى في زهده، وإلى عيسى في سننه، وإلى يونس في ورعه، وإلى محمد في جسمه وخلقه، فلينظر إلى علي. فإن فيه تسعين خصلة من خصال الأنبياء، جمعها الله فيه ولم تجمع في أحد غيره. وعدد جميع ذلك في جواهر الأخبار (1). أقول: وليس هذا الحديث مجرد تشبيه، بل هو جار مجرى الحقيقة، واستجماعه لتلك الصفات، مع عدم اجتماعها في أحد غيره، نص في الأفضلية.

(هامش)

(1) مودة القربى، ينابيع المودة 2 / 306 الطبعة المحققة. (*)

ص 305

5 - دلالة الحديث في كلام ابن روزبهان وقد صرح المتعصب العنيد الفضل ابن روزبهان بدلالة حديث التشبيه على الأفضلية، فدلالته على مذهب الإمامية تامة عنده، إلا أنه يرده بالرمي بالوضع وهذا نص كلامه: وأثر الوضع على هذا الحديث ظاهر، ولا شك أنه منكر، مع ما نسب إلى البيهقي، لأنهم يوهم أن علي بن أبي طالب أفضل من هؤلاء الأنبياء، وهذا باطل، فإن غير النبي لا يكون أفضل من النبي. وأما أنه موهم لهذا المعنى، لأنه جمع فيه من الفضائل ما تفرق في الأنبياء، والجامع للفضائل أفضل ممن تفرق فيهم الفضائل. وأمثال هذا من موضوعات الغلاة (1). أقول: انظر إلى تعصب هؤلاء القوم، فمنهم من يعترف بدلالة الحديث على مذهب الشيعة، فيرده بالوضع والبطلان، كابن روزبهان، ومنهم من ينكر دلالته، كالكابلي و(الدهلوي)، فهم يتكاذبون فيما بينهم، إلا أن غرضهم إسقاط الحديث عن الصلاحية لاحتجاج الشيعة به على مذهبهم الحق، وإن لزم ما لزم... وأما إبطال ابن روزبهان أفضلية الإمام عليه السلام من هؤلاء الأنبياء، من جهة أنه ليس بنبي، وغير النبي لا يكون أفضل من النبي... فيبطله آية المباهلة والأحاديث الواردة في ذيلها، وكذا غيرها من الأحاديث الصريحة في

(هامش)

(1) إبطال الباطل. انظر: دلائل الصدق 2 / 518. (*)

ص 306

أن عليا نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما ورد في توسل آدم عليه السلام به (1) وأن الأنبياء بعثوا على ولايته (2) وحديث خلقت أنا وعلي من نور واحد قبل أن يخلق آدم... (3)، وغير هذه الأحاديث. فظهر دلالة هذا الحديث على الأفضلية، فيتم احتجاج الشيعة به، ويسقط مناقشة (الدهلوي). 6 - بيان محمد بن إسماعيل الأمير لحديث التشبيه وللعلامة النحرير محمد بن إسماعيل الأمير بيان لطيف، وتقرير متين، لحديث التشبيه، يتضح به طريق احتجاج الشيعة، ويتأيد به أسلوب استدلالهم، وهذا نص عبارته: فائدة - قد شبهه عليه السلام بخمسة من الأنبياء، كما قال المحب الطبري رحمه الله ما لفظه: ذكر تشبيه علي رضي الله عنه بخمسة من الأنبياء: عن أبي الحمراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى يحيى بن زكريا في زهده، وإلى موسى في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب. أخرجه أبو الخير الحاكمي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أراد أن ينظر إلى إبراهيم في حلمه، وإلى نوح في حكمه، وإلى

(هامش)

(1) انظر ما رووا بتفسير قوله تعالى: *(فتلقى آدم من ربه كلمات)* الدر المنثور 1 / 60. (2) انظر ما رووه بتفسير قوله تعالى: *(واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا)* ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق 2 / 97 وسنفصل الكلام فيه في الجزء اللاحق من كتابنا. (3) انظر الجزء الخامس من كتابنا. (*)

ص 307

يوسف في جماله، فلينظر إلى علي بن أبي طالب. أخرجه الملا في سيرته. إنتهى. قلت: فقد شبهه صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الخمسة الرسل، في اكتسابه للخصال الشريفة من خصالهم. فمن آدم أبي البشر العلم، فإن الله تعالى خصه بأنه علمه الأسماء كلها، ثم أبان فضله بذلك ونوه بعلمه، حيث عرض على الملائكة أسماء المسميات، وطلب منهم تعالى إنباءهم بأسمائها فعجزوا، وطلب من آدم عليه السلام إنبائهم، فأنبأهم عليه السلام بها. فهذه فضيلة من أشرف فضائل آدم عليه السلام التي شرف بها بين الملأ الأعلى. وشبهه بنوح عليه السلام في فهمه، لأنه أمره الله تعالى بصنعة الفلك، وفيها من دقائق الإحكام والإتقان ما لا تحصره الأقلام، ولا يدركه الأفهام، وكانت لم تعرف، ولا اهتدى إليها فكر قبل ذلك، وكان فيها ما كان من الإتقان، واليوت التي جوفها له ولمن معه، والأنعام والوحوش والسباع، واختلافها طولا وعرضا، فإنها كجؤجؤ الطائر، وقد جعل الله الحمل فيها من آياته، حيث قال: *(وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون)* وعد الامتنان بها في الذكر في عدة من الآيات، وناهيك أنه قرن إجراءه تعالى لها مع خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، فالمراد فهمه ما ألهمه من صنعتها، ولذلك جعل صنعتها مقيدة *(بأعيننا)* في قوله: *(واصنع الفلك بأعيننا)* وقوله في الحديث في حكمه أي في حكمه الناشي عن حكمه وقوته وصحته، ويحتمل أن يكون المراد فهمه العام في صنعة الفلك وغيره، مما فهمه عن الله تعالى وأمره. وشبهه بالخليل في حلمه، وهو من أشرف الصفات، ولذلك قيل: ما نعت

ص 308

الله الأنبياء بأقل ما نعتهم بالحلم، وذلك لعزة وجوده، ولقد نعت الله به إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: *(إن إبراهيم لأواه حليم)* *(إن إبراهيم لحليم أواه منيب)* ومن مجادلته عن لوط فقال: *(إن فيها لوطا)* في عدة من الآيات. ومن حلمه عليه السلام الذي تخف عنه رواسي الجبال: امتثاله لأمر الله تعالى بذبح ولده عليهما السلام، وإضجاعه، وكتفه له، وإمرار المدية على حلقه، لولا منع الله لها أن تقطع، فلهذا وصفه الله ووصف ولده بالحلم. وشبهه صلى الله عليه وسلم بيحيى بن زكريا عليهما السلام في زهده، ويحيى عليه السلام هو علم الزهادة في أبناء آدم، من تأخر منهم ومن تقدم، وقد ملئت الكتب باليسير من صفات زهده. وشبهه صلى الله عليه وسلم بكليم الله في بطشه، وكان موسى شديد البطش، وناهيك أنه ذكر القبطي فقضى عليه، وأراد البطش بالآخر، وهو في بلد فرعون، وتحت يده بنو إسرائيل أرقاء في يد فرعون، وكان القبط أهل الصولة والشوكة والدولة. وشبهه في الحديث الآخر بيوسف في جماله، ويوسف في جماله شمس لا يزيدها الوصف إلا خفاء، فهي أظهر من أن تظهر. وقد سبق صفة أمير المؤمنين: وإن عنقه كأنه إبريق فضة، وإنه كان أغيد، وغير ذلك من الصفات الحسنة. إذا عرفت هذا، فهذه شرائف الصفات: الحلم، والعلم، والفهم، والزهادة، والبطش، والحسن. ثم إنه حاز أكمل كل واحدة مها، فإن علم الرسل أكمل العلوم، وحلمهم أكمل الحلم، وفهمهم أتم فهم، وزهادتهم أبلغ زهادة، وبطشهم أقوى بطش. فناهيك من رجل كمله الله بهذه الصفات، وأخبر نبيه صلى الله عليه

ص 309

وسلم أنه حازها، وشابه أكمل من اتصف بها، وإن من أراد أن ينظر من كان متصفا بها من أولئك الرسل الأعلين، ويشاهده كأنه حي، نظر إلى هذا المتصف بها، لذلك قيل: يدل لمعنى واحد كل فاخر * وقد جمع الرحمن فيك المعاليا ولو أردنا سرد ما فاض عن الوصي من ثمرات هذه الصفات، وما انفجر عنه من بحور هذه الكلمات، لخرجنا عن قصدنا من بيان معنى الأبيات، والاختصار له في هذه الكلمات، ويأتي في غضون صفاته ما يدل على كمالاته، وقد شبه صلى الله عليه وسلم بعضا من الصحابة ببعض من الرسل في بعض الصفات، ولم يجمع لأحد خمسة من الأنبياء ولا ثلاثة، ولا جاء في حق أحد بهذه العبارة، أعني: من أراد أن ينظر... الخ، الدالة على كمال تمكن تلك الصفة في وصيه انتهى (1). أقول: هذا كلام هذا المحقق الكبير في معنى هذا الحديث الشهير، وقد أحسن في البيان وأجمل في التقرير، وبما ذكره يتضح وجه احتجاج الشيعة، ويظهر مدى تعصب (الدهلوي) الذي زعم أن مفاد الحديث هو التشبيه المحض، كتشبيه التراب والحصى بالدر والياقوت، وأمثال ذلك من التشبيهات الادعائية، والتمثيلات الإغراقية. هذا، ولا تغفل عن كلمات ابن طلحة، والكنجي، وشهاب الدين أحمد، في بيان معنى حديث التشبيه، فإنها تفيد ما تذهب إليه الإمامية كعبارة محمد ابن إسماعيل المزبورة...

(هامش)

(1) الروضة الندية - شرح التحفة العلوية (*)

ص 310

7 - إعتراف أبي بكر بدلالة الحديث فإن لم يقبل الخصم شيئا من الوجوه المذكورة، فقد اشتمل بعض ألفاظ الحديث على اعتراف أبي بكر بدلالة حديث التشبيه على مساواة الإمام أمير المؤمنين مع هؤلاء الأنبياء عليهم السلام في الصفات، وأفضليته منهم... ففي كتاب المناقب للخوارزمي: أخبرني شهردار هذا إجازة، قال: أخبرنا أبو الفتح عبدوس بن عبد الله ابن عبدوس الهمداني إجازة، عن الشريف أبي طالب المفضل بن محمد بن طاهر الجعفري بإصبهان، عن الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه بن فورك الإصبهاني، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا الحسن بن علي بن الحسين السلوي، قال: حدثني سويد بن مسعر بن يحيى عن الحارث الأعور صاحب راية علي، قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في جمع من أصحابه فقال: أريكم آدم في علمه، ونوحا في فهمه، وإبراهيم في حكمته. فلم يكن بأسرع من أن طلع علي. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أقست رجلا بثلاثة من الرسل! بخ بخ لهذا الرجل، من هو يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تعرفه يا أبا بكر؟! قال: الله ورسوله أعلم. قال: أبو الحسن علي بن أبي طالب. قال أبو بكر: بخ بخ لك يا أبا الحسن. وأين مثلك يا أبا الحسن! (1).

(هامش)

(1) مناقب علي بن أبي طالب: 44 - 45. (*)

ص 311

وفي (توضيح الدلائل): عن الحارث الأعور صاحب راية أمير المؤمنين كرم الله وجهه قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وآله وبارك وسلم كان في جمع من الصحابة، فقال: أريكم آدم في علمه ونوحا في فهمه، وإبراهيم في حلمه. فلم يكن بأسرع من أن طلع علي كرم الله تعالى وجهه. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله: قست رجلا بثلاثة من الرسل، بخ بخ لهذا، من هو يا رسول الله؟! قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم: يا أبا بكر، ألا تعرفه؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وعلى آله وبارك وسلم: أبو الحسن علي بن أبي طالب. قال أبو بكر رضي الله عنه: بخ بخ لك يا أبا الحسن. ورواه الصالحاني، وفي إسناده أبو سليمان الحافظ (1). ففي هذا الحديث: إعتراف صريح من أبي بكر بأن حديث التشبيه يدل على المساواة بين الإمام عليه السلام وهؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قرر ما ذكره أبو بكر، وتقريره حجة. وإنما قلنا بأن أبا بكر فهم المساواة من الحديث، لأنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: قست رجلا بثلاثة من الرسل ومعنى قست : أي: ساويت لأن قياس أحد بغيره هو بمعنى: التسوية بين الشخصين: قال الشريف الجرجاني: القياس في اللغة عبارة عن التقدير، يقال:

(هامش)

(1) توضيح الدلائل على تصحيح الفضائل - مخطوط. (*)

ص 312

قست النعل بالنعل، إذا قدرته وسويته، وهو عبارة عن رد الشيء إلى نظيره (1). وقال الجوهري: قست الشيء بغيره وعلى غيره، أقيس قيسا وقياسا، فانقاس، إذا قدرته على مثاله. وفيه لغة أخرى: قسته أقوسه قوسا وقياسا، ولا يقال: أقسته، والمقدار مقياس، وقايست بين الأمرين مقايسة وقياسا، ويقال أيضا: قايست فلانا إذا جاريته في القياس، وهو كقياس الشيء بغيره، أي: يقيسه بغيره، ويقتاس بأبيه اقتياسا، أي: يسلك سبيله ويقتدى به (2). وفي (الصحاح) أيضا: قست الشيء بالشئ: قدرته على مثاله (3). وفي (القاموس): قاسه بغيره وعليه، يقيسه قيسا وقياسا واقتاسه، قدره على مثاله، فانقاس، والمقدار: المقياس (4). وقال ابن الأثير: منه حديث أبي الدرداء: خير نسائكم التي تدخل قيسا وتخرج ميسا. يريد: أنها إذا مشت قاست بعض خطاها ببعض، فلم تفعل فعل الخرقاء ولم تبطئ، ولكنها تمشي مشيا وسطا معتدلا، فكان خطاها متساوية (5). فالعجب من (الدهلوي) كيف يحمل الحديث على التشبيه؟ وهل هذا إلا رد على أبي بكر وتسفيه؟ بل لقد سفه بصراحة - كما سيأتي من كلامه - كل من فهم المساواة من هذا الحديث... فهذا تسفيه صريح لأبي بكر. كما أن (للدهلوي) في الباب الحادي عشر من كتابه (التحفة) كلاما مفاده إخراج أبي بكر من الصبيان المميزين، ودخلوه في غير المميزين...

(هامش)

(1) التعريفات: 78. (2) الصحاح: قوس. (3) الصحاح: قيس. (4) القاموس: قيس. (5) النهاية: قيس. (*)

ص 313

وأنت تعلم عدم أهلية من كان في كمال السفاهة ومن الصبيان غير المميزين للخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لا خلاف ولا ريب بين المسلمين في اشتراط العقل والبلوغ في الخليفة... وهذا إشكال قوي لا مفر (للدهلوي) وأنصاره منه. ثم إن قول أبي بكر من مثلك يا أبا الحسن! ظاهر في أنه قد جعل هذه المساواة في الحديث دليلا على نفي مماثلة أحد مع الإمام عليه السلام، وهذا دليل آخر على الأفضلية، لا سيما بالنظر إلى تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتوهم عدم دلالة المساواة على الأفضلية باطل جدا. 8 - ابن تيمية: الأشبه بالنبي أفضل وهو يخلفه قال المتعصب العنيد ابن تيمية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وكل من كان به أشبه فهو أفضل ممن لم يكن كذلك، والخلافة كانت خلافة نبوة، لم يكن ملكا، فمن خلف النبي وقام مقام النبي كان أشبه بالنبي، ومن كان أشبه بالنبي كان أفضل، فمن يخلفه أشبه من عن غيره، والأشبه به أفضل، فالذي يخلفه أفضل (1). فنقول: إن قوله: من كان أشبه بالنبي كان أفضل كبرى مقبولة مسلمة، إذ لا ريب ولا كلام، في أن النبي أفضل الخلق، والأشبه بالأفضل هو الأفضل... وحديث التشبيه يعين المصداق الحقيقي لتلك الواقعية المسلمة، فأمير المؤمنين عليه السلام أشبه الخلق بالأنبياء السابقين الذين لا ريب أيضا في أفضليتهم من الثلاثة، وكل من كان أشبه بهم فهو أفضل، فأمير المؤمنين عليه السلام أفضل من الثلاثة وغيرهم.

(هامش)

(1) منهاج السنة 8 / 228. (*)

ص 314

وأيضا: ظاهر قوله: فمن خلف النبي... هو أن ابن تيمية يستدل بخلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقيام مقامه، على أن من قام مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أشبه به، فهو الأفضل من غيره، لكن دلالة حديث: من أراد أن ينظر... على الأشبهية أقوى من دلالة مجرد الخلافة غير المنصوصة - مبنية على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا، أما أشبهية أمير المؤمنين عليه السلام، فهي ثابتة بالنص الصريح المعتبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأين الظن غير المعتبر من النص الصريح المعتبر؟! وإنما قلنا الخلافة غير المنصوصة من جهة أن (الدهلوي) وغيره يعترفون بعدم النص على خلافة الثلاثة، ولذا لا يترتب على إثبات أشبهية الخلافة المنصوصة أي أثر وفائدة لهم، فلا ريب في أن ابن تيمية يريد غير المنصوصة. ومع غض النظر عما ذكرنا، نقول: لو ثبت أشبهية من قام مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنص أو دليل عقلي، فإن غاية ذلك التساوي بين تلك الأشبهية، مع أشبهية أمير المؤمنين عليه السلام الثابتة بالحديث الشريف، وهذه المساواة أيضا وافية بمطلوب الإمامية، لأن كل وجه أفاد أن أشبهية الخليفة بالنبي تستلزم أفضلية من غيره، فهو نفسه يفيد استلزام أشبهية الإمام عليه السلام أفضليته له من جميع أفراد الأمة بعد النبي. وأيضا: إذا كانت أشبهية الخليفة شرطا للخلافة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لزم أن يكون الخليفة معصوما مثل النبي، وبما أن الثلاثة فاقدون للعصمة، فإن خلافتهم عن النبي تكون منتفية.

ص 315

9 - تشبيه غير المعصوم بالمعصوم غير جائز إن حديث التشبيه بين الإمام عليه السلام والأنبياء، يدل على العصمة والأفضلية، وإلا لما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك... ومما يوضح هذا كلام السبكي بترجمة أبي داود، حيث قال: قال شيخنا الذهبي: تفقه أبو داود بأحمد بن حنبل، ولازمه مدة. قال: وكان يشبه به، كما كان أحمد يشبه بشيخه وكيع، وكان وكيع يشبه بشيخه سفيان، وكان سفيان يشبه بشيخه منصور، وكان منصور يشبه بشيخه إبراهيم، وكان إبراهيم يشبه بشيخه علقمة، وكان علقمة يشبه بشيخه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال شيخنا الذهبي: وروى أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة: إنه كان يشبه عبد الله بن مسعود بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله. قلت: أما أنا فمن ابن مسعود أسكت، ولا أستطيع أن أشبه أحدا برسول الله في شيء من الأشياء، ولا أستحسنه، ولا أجوزه، وغاية ما تسمح نفسي به أن أقول: وكان عبد الله يقتدي برسول الله فيما ينتهي إليه قدرته وموهبته من الله عز وجل، لا في كل ما كان رسول الله، فإن ذلك ليس لابن مسعود، ولا للصديق، ولا لمن اتخذه الله خليلا، حشرنا الله في زمرتهم (1). فأنت ترى تاج الدين السبكي لا يجوز تشبيه ابن مسعود - مع ما يذكرون له من الفضائل والمناقب الكثيرة كما في (كنز العمال) وغيره - ولا أبي بكر بن أبي قحافة، بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم... فلو لم يكن سيدنا أمير

(هامش)

(1) طبقات الشافعية 2 / 296. (*)

ص 316

المؤمنين عليه الصلاة والسلام معصوما وأفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يشبهه النبي بالأنبياء السابقين عليهم السلام في تلك الصفات الجليلة، لأنه مع عدم العصمة والأفضلية غير جائز قطعا. فثبت دلالة تشبيه الإمام عليه السلام بالأنبياء في صفاتهم على العصمة والأفضلية. ومن المعلوم أنه لو جاز حمل تشبيه الإمام عليه السلام بالأنبياء عليهم السلام على التشبيهات الشعرية المجازية، لجاز تشبيه ابن مسعود بل الأول فكيف الثاني والثالث... بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم... بلا مضائقة ولا توقف... وإذا كان السبكي يأبى عن تشبيه ابن مسعود بل الأول وغيره بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم... كيف يجرأ (الدهلوي) على أن ينسب التشبيه الفارغ المجازي إلى نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كلامه الثابت صدوره منه؟! وأيضا: يفيد كلام السبكي بطلان دعوى مساواة الثلاثة مع الأنبياء في الصفات، إذ لو كان يساوونهم أو يشابهونهم في تلك الصفات، لما امتنع السبكي من تشبيه الأول منهم بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وأيضا: عدم جواز تشبيه الأول بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يوضح بطلان الأحاديث المزعومة والموضوعة في تشبيه الشيخين بالأنبياء. وأيضا: يظهر منه فساد دعوى حمل الشيخين لكمالات الأنبياء عليهم السلام.

ص 317

10 - تحريم القاضي وغيره تشبيه بعض أحوال غير النبي بالنبي وحرم القاضي عياض تشبيه غير النبي بالنبي، بل تشبيه بعض أحوال غير النبي بالنبي، تحريما أكيدا، يستوجب الحبس والتعزير، وأقام على ذلك وجوها عديدة، واستشهد بشواهد من التأريخ والأثر، ومن أقوال المتقدمين وأفعالهم، وإليك النص الكامل لكلامه في (الشفا بتعريف حقوق المصطفى)، في الباب الأول، في بيان ما هو في حقه سب أو نقص من تعريض أو نص: فصل: الوجه الخامس - أن لا يقصد نقصا، ولا يذكر عيبا، ولا سبا، ولكنه ينزع بذكر بعض أوصافه، ويستشهد ببعض أحواله عليه السلام الجائزة عليه في الدنيا على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو لغيره، أو على التشبيه به، أو عند هضيمة نالته، أو غضاضة لحقته، ليس على طريق التأسي وطريق التحقيق، بل على مقصد الترفيع لنفسه أو لغيره، أو سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه عليه السلام، أو قصد الهزل والتبذير، بقوله كقول القائل: إن قيل في السوء فقد قيل في النبي. أو: إن كذبت فقد كذب الأنبياء. أو: إن أذنبت فقد أذنبوا. أو: أنا أسلم من ألسنة الناس ولم تسلم منهم أنبياء الله ورسله. أو: قد صبرت كما صبر أولوا العزم من الرسل، أو كصبر أيوب، أو قد صبر نبي الله من عداه، وحلم على أكثر مما صبرت، وكقول المتنبي: أنا في أمة تداركها الله * غريب كصالح في ثمود ونحوه من أشعار المتعجرفين في القول، المتساهلين في الكلام، كقول المعري: كنت موسى وافته بنت شعيب * غير أن ليس فيكما من فقير على أن آخر البيت شديد عند تدبره، وداخل في باب الإزراء والتحقير

ص 318

بموسى عليه السلام، وتفضيل حال غيره عليه، وكذلك قوله: لولا انقطاع الوحي بعد محمد * فلنا محمد من أبيه بديل هو مثله في الفضل إلا أنه * لم يأته برسالة جبريل فصدر البيت الثاني من هذا الفضل شديد، لتشبيهه غير النبي صلى الله عليه وسلم في فضله بالنبي، والعجز محتمل لوجهين، أحدهما: إن هذه الفضيلة نقصت الممدوح، والآخر استغناؤه عنها، وهذه أشد، ونحو منه قول الآخر: وإذا ما رفعت راياته * صفقت بين جناحي جبرين وقول الآخر من أهل العصر: فر من الخلد واستجار بنا * فصبر الله قلب رضوان وكقول حسان المصيصي، من شعراء الأندلس، في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد ووزيره أبي بكر بن زيدون: كأن أبا بكر أبو بكر الرضا * وحسان حسان وأنت محمد إلى أمثال هذا. وإنما أكثرنا بشاهدها مع استثقالنا حكايتها لتعريف أمثلتها، ولتساهل كثير من الناس في ولوج هذا الباب الضنك، واستخفافهم فادح هذا العبء، وقلة علمهم بعظيم ما فيه من الوزر، وكلامهم منه بما ليس لهم به علم *(ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم)* لا سيما الشعراء، وأشدهم فيه تصريحا، وللسانه تسريحا ابن هاني الأندلسي، وابن سليمان المعري، بل قد خرج كثير من كلامهما عن هذا إلى حد الاستخفاف والنقص وصريح الكفر، وقد اجتنبنا عنه. وغرضنا الآن الكلام في هذا الفصل الذي سقنا أمثلته، فإن هذه كلها وإن

ص 319

لم يتضمن شيئا، ولا أضافت إلى الملائكة والأنبياء نقصا، ولست أعني عجزي بيتي المعري، ولا قصد قائلها إزراء وغضا، فما وقر النبوة، ولا عظم الرسالة، ولا عزر حرمة الاصطفاء، ولا عزر حظوة الكرامة، حتى شبه من شبه في كرامة نالها، أو معرة قصد الانتفاء منها، أو ضرب مثل لتطييب مجلسه، أو إغلاء في وصفه لتحسين كلامه، بمن عظم الله خطره وشرف قدره، وألزم توقيره وبره، ونهى عن جهر القول له ورفع الصوت عنده. فحق هذا - إن درأ عنه القتل - الأدب والسجن، وقوة تعزيره بحسب شنعة مقاله، ومقتضى قبح ما نطق به، ومألوف عادته لمثله أو ندوره أو قرينة كلامه أو ندمه على ما سبق منه. ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن جاء، وقد أنكر الرشيد على أبي نؤاس قوله: فإن يك يأتي سحر فرعون فيكم * فإن عصى موسى بكف خصيب وقال له: يا ابن اللخناء: أنت المستهزئ بعصى موسى، وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته. وذكر القاضي القتبي: أن مما أخذ عليه أيضا وكفر فيه أو قارب، قوله في محمد الأمين، وتشبيهه إياه بالنبي: تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها * خلقا وخلقا كما قد الشراكان وقد أنكروا أيضا عليه قوله: كيف لا يدنيك من أمل * من رسول الله من نفره لأن حق الرسول، وموجب تعظيمه وإنافة منزلته، أن يضاف إليه ولا يضاف هو لغيره. فالحكم في أمثال هذا ما بسطناه في طريق الفتيا. وعلى هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك بن أنس رحمه الله

ص 320

وأصحابه، ففي النوادر من رواية يحيى بن أبي مريم عنه في رجل عير رجلا بالفقر، فقال: تعيرني بالفقر وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم؟ فقال مالك: قد عرض بذكر النبي في غير موضعه، أرى أن يؤدب. قال: ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا: قد أخطأت الأنبياء قبلنا. وقال عمر بن عبد العزيز لرجل: انظر لنا كاتبا يكون أبوه عربيا. فقال كاتب له: قد كان أبو النبي كافرا. فقال: جعلت هذا مثلا!! فعزله فقال: لا تكتب لي أبدا. وقد كره سحنون أن يصلى على النبي عند التعجب، إلا على طريق الثواب والاحتساب، توقيرا له وتعظيما، كما أمرنا الله. وسئل القابسي عن رجل قال لرجل قبيح الوجه: كأنه وجه نكير، ولرجل عبوس: كأنه وجه ملك الغضبان. فقال: أي شيء أراد بهذا؟! ونكير أحد فتاني القبر، وهما ملكان، فما الذي أراد؟! أروع دخل عليه حين رآه من وجهه؟ أم عاف النظر إليه لدمامة خلقه؟ فإن كان هذا فهو شديد، لأنه جرى مجرى التحقير والتهوين، فهو أشد عقوبة، وليس فيه تصريح بالسب للملك، وإنما السب واقع على المخاطب، وفي الأدب بالسوء والسجن نكال للسفهاء. قال: وأما ذكر مالك خازن النار فقد جفا الذي ذكره عندما أنكر من عبوس الاوخر، إلا أن يكون المعبس له يد فيرهب بعبسه، فيشبهه القائل على طريق الذم لهذا في فعله، ولزومه في صفته صفة مالك الملك المطيع لربه في فعله، فيقول: كأنه لله يغضب غضب مالك، فيكون أخف. وما كان ينبغي له التعرض لمثل هذا، ولو كان أثنى على العبوس بعبسه، واحتج بصفة مالك كان أشد، ويعاقب العقوبة الشديدة، وليس في هذا ذم للملك، ولو قصد ذمه لقتل.

ص 321

وقال أبو الحسن أيضا في شاب معروف بالخير قال لرجل شيئا، فقال له الرجل: أسكت فإنك أمي، فقال الشاب: أليس كان النبي أميا؟! فشنع عليه مقالته وكفره الناس، وأشفق الشاب مما قال، وأظهر الندم عليه. فقال أبو الحسن: أما إطلاق الكفر عليه فخطأ، لكنه مخطئ في استشهاده بصفة النبي، وكون النبي أميا آية له، وكون هذا أميا نقيصة فيه وجهالة، ومن جهالته احتجاجه بصفة النبي، لكنه إذا استغفر وتاب واعترف ولجأ إلى الله، يترك، لأن قوله لا ينتهي إلى حد القتل، وما طريقة الأدب فطوع فاعله بالندم عليه يوجب الكف عنه (1). فلو لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام معصوما، ولم يكن أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل كان مثل سائر الصحابة، ومتأخرا عن الثلاثة في الرتبة - ومعاذ الله من جميع ذلك - لما جاز تشبيهه بآدم وغيره من الأنبياء، بل كان ذلك منكرا، واللازم باطل، فالملزوم مثله... فظهر من كلمات القاضي عياض وغيره من الأعلام الذين نقل هو كلماتهم دلالة هذا التشبيه على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته دلالة صريحة واضحة. فكان كلام القاضي عياض هادما لبنيان كل شبهة واعتراض، والحمد لله رب العالمين. 11 - التشبيه يوجب العموم لقد ذكر علماء الأصول أن التشبيه محمول على العموم في كل محل يحتمله، ففي كتاب (أصول الفقه) للبزدوي: والأصل في الكلام هو الصريح، وأما الكناية ففيها ضرب قصور، من

(هامش)

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2 / 521 - 529. (*)

ص 322

حيث أنها تقصر عن البيان إلا بالنية، والبيان بالكلام هو المراد، فظهر هنا التفاوت فيما يدرأ بالشبهات، وصار جنس الكنايات بمنزلة الضرورات، ولهذا قلنا: إن حد القذف لا يجب إلا بتصريح الزنا، حتى أن من قذف رجلا بالزنا، فقال له آخر: صدقت، لم يحد المصدق، وكذلك إذا قال: لست بزان، يريد التعريض بالمخاطب، لم يحد، وكذلك في كل تعريض، لما قلنا، بخلاف من قذف رجلا بالزنا، فقال الآخر: هو كما قلت، حد هذا الرجل، وكان بمنزلة الصريح، لما عرف في كتاب الحدود (1). فقال شارحه عبد العزيز بن أحمد البخاري: قوله: وكان بمنزلة الصريح لما عرف. قال شمس الأئمة في قوله: هو كما قلت إن كاف التشبيه توجب العموم عندنا في المحل الذي يحتمله، ولهذا قلنا في قول علي رضي الله عنه: - إنما أعطيناهم الذمة وبذلوا الجزية، ليكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا - إنه مجري على العموم فيما يندرء بالشبهات كالحدود، وما ثبت بالشبهات كالأموال، فهذه الكاف أيضا موجبة العموم، لأنه حصل في محل يحتمله، فيكون نسبة له إلى الزنا قطعا، بمنزلة الكلام الأول على ما هو موجب العام عندنا (2). وعلى هذا الأساس، يكون تشبيه الإمام عليه السلام بهؤلاء الأنبياء في صفاتهم، محمولا على العموم، وذلك يثبت المساواة بالضرورة. 12 - ترتب أحكام المنزل عليه على المنزل وإذا نزل شيء منزلة شيء ترتبت أحكام المنزل عليه على المنزل، ولزمت المساواة بينهما، ولهذا الذي ذكرنا موارد كثيرة في الكتب العلمية، قال

(هامش)

(1) أصول الفقه. (2) كشف الأسرار في شرح أصول الفقه 2 / 389 - 391. (*)

ص 323

الشيح جمال الدين ابن هشام في بيان وجوه (إلا): الثاني: - أن تكون صفة بمنزلة غير، فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه، فمثال الجمع المنكر *(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)* فلا يجوز في إلا هذه أن تكون للاستثناء من جهة المعنى، إذ التقدير حينئذ: لو كان فيهما آلهة ليس فيهما الله لفسدتا، وذلك يقتضي بمفهومه: إنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا، وليس ذلك المراد، ولا من جهة اللفظ، لأن آلهة جمع منكر في الإثبات، فلا عموم له، فلا يصح الاستثناء منه، ولو قلت: قام رجال إلا زيد، لم يصح اتفاقا. وزعم المبرد: إن إلا في هذه الآية للاستثناء، وإن ما بعدها بدل، محتجا بأن لو تدل على الامتناع، وامتناع الشيء انتفاؤه، وزعم أن التفريغ ما بعدها جائز، وأن نحو لو كان معنا إلا زيد، أجود كلام. ويرده: إنهم لا يقولون: لو جاءني ديار أكرمته، ولا: لو جاءني من أحد أكرمته، ولو كان بمنزلة النافي لجاز ذلك، كما يجوز: ما فيها ديار وما جاءني من أحد، ولما لم يجز ذلك دل على أن الصواب قول سيبويه: إن إلا وما بعدها صفة (1). أقول: فظهر أن كون الشيء بمنزلة الشيء يستلزم المساواة بينهما، ومن المعلوم أن قول القائل: هذا بمنزلة هذا هو من باب التشبيه، كما صرح به أئمة أهل السنة في حديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، و(الدهلوي) نفسه معترف بذلك.

(هامش)

(1) مغني اللبيب 1 / 70. (*)

ص 324

فثبت أن التشبيه يثبت المساواة، وأنه تترتب أحكام المشبه به للمشبه بلا كلام، فثبت مساواة أمير المؤمنين مع آدم عليهما السلام في العلم، وترتب أحكام علم آدم لعلم أمير المؤمنين، وكذا في باقي الصفات المذكورة في الحديث الشريف، وهذا هو المطلوب. 13 - مجئ التشبيه للمساواة في القرآن وفي القرآن الكريم في سورة الأحقاف: *(فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)*(1). ومن البين أن المراد من هذا التشبيه هو المساواة بين صبر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وصبر أولي العزم من الرسل، لا أن يكون صبره أقل من صبرهم، والعياذ بالله. فالقول بأن فهم المساواة من التشبيه من غاية السفاهة، يكشف عن كيفية اعتقاد قائله بالنسبة إلى كلام الله المجيد. وإن دليل المفسرين في فهم المساواة من الآية، هو دليلنا على إثبات المساواة من حديث التشبيه... قال أبو السعود: *(فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)* جواب شرط محذوف، أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر، فاصبر على ما يصيبك من جهتهم، كما صبر أولوا الثبات والحزم من الرسل، فإنك من جملتهم، بل من عليتهم، ومن للتبيين، وقيل: للتبعيض، والمراد بأولي العزم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمل مشاقهم، ومعاداة الطاعنين فيها، ومشاهيرهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة

(هامش)

(1) سورة الأحقاف، الآية 35. (*)

ص 325

والسلام. وقيل: هم الصابرون على بلاد الله تعالى، كنوح صبر على أذية قومه، كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم صبر على النار، وعلى ذبح ولده، والذبيح على ذبحه، ويعقوب على فقد الولد والبصر، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضر، وموسى قال له قومه *(إنا لمدركون)* قال: *(كلا إن معي ربي سيهدين)* وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة، صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين (1). الاحتجاج بكلمات (الدهلوي) في مواضع أخرى إن في الوجوه المذكورة الدالة على دلالة حديث التشبيه على المطلوب كفاية لكل منصف جرد نفسه للتحقيق عن الحق، والعثور على مقتضى الأدلة النقلية والعقلية... ولو أن أولياء (الدهلوي) وأتباعه تعصبوا له وأبوا عن قبول الحق والتسليم له، فإنا نحتج - في الوجوه الآتية - بكلمات (الدهلوي) نفسه، تنبيها للغافلين، وإتماما للحجة على المعاندين: 1 - قال (الدهلوي) في جواب حديث: أنت مني بمنزلة هارون من موسى : وأيضا، فإن تشبيه الأمير بهارون - وهارون خليفة موسى في غيبته في زمان حياته، أما بعد حياته فقد كان خليفة موسى يوشع بن نون كما هو المعلوم - يستلزم أن يكون الأمير كذلك خليفة النبي صلى الله عليه وسلم إذا غاب في حياته لا بعد وفاته، بل يكون الآخرون خلفائه، كي يتم التشبيه. وحمل كلام الرسول على التشبيه الناقص خلاف الديانة . وهذا الوجه أخذ (الدهلوي) من (تفسير الرازي) لنفي خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا فصل، وقد

(هامش)

(1) إرشاد العقل السليم = تفسير أبي السعود 8 / 90. (*)

ص 326

جعل ما ذكره مصداق التشبيه الكامل بين أمير المؤمنين عليه السلام وهارون. وعلى ضوء ما ذكره: لنا أن نحمل حديث التشبيه على التشبيه الكامل بين أمير المؤمنين عليه السلام والأنبياء، ومن المعلوم أن التشبيه الكامل يفيد المساواة بين المشبه والمشبه به في جميع الجهات، فهو عليه السلام يساوي الأنبياء المذكورين في صفاتهم. وهو المطلوب، وحينئذ نقول: حمل (الدهلوي) وبعض أسلافه حديث التشبيه على التشبيه الناقص يخالف الديانة، وكيف يأمر (الدهلوي) بالتشبيه الكامل هناك، وينسى ذلك في هذا المقام؟! 2 - وقال (الدهلوي) في حاشية ما ذكره في جواب حديث: إني تارك فيكم الثقلين... : قال الملا يعقوب الملتاني - وهو من علماء أهل السنة - إن في تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته بالسفينة، وصحابته بالنجوم، إشارة إلى أن الشريعة يجب أن تؤخذ من الصحابة، وأن الطريقة يجب أن تؤخذ من أهل البيت، لأن الوصول إلى الحقيقة وتحصيل المعرفة يستحيل إلا باتباع الطريقة والمحافظة على الشريعة، كما لا يمكن قطع البحار إلا بركوب السفينة مع الاهتداء بالنجوم، لأن ركوب السفينة وإن كان ينجي من الغرق، لكنها لا تصل إلى المقصد إلا بالاهتداء بالنجوم، كما أن مراعاة النجوم فقط من غير ركوب لا يفيد. وهذه نكتة دقيقة. فليتأمل فيها . أقول: ولو لم يكن التشبيه دالا على المساواة، ما كان في هذه النكتة شيء من الدقة، بل لم تكن شيئا يذكر. إلا أن الشيعة يفسرون حديث أصحابي كالنجوم بأن المراد من الأصحاب هم أهل البيت كما لا يخفى على من راجع كتاب (بصائر

ص 327

الدرجات) وكتاب (معاني الأخبار)، فأهل البيت هم المتبعون في الشريعة قطعا... هذا من جهة. ومن جهة أخرى: فإن حديث أصحابي كالنجوم حديث باطل موضوع، لدى جماعة كبيرة من أئمة أهل السنة ومحققيهم، كما لا يخفى على من راجع قسم (حديث الثقلين) من كتابنا. 3 - وقال (الدهلوي) في حديث قول النبي لأمير المؤمنين عليهما السلام حربك حربي : بأن من حارب أمير المؤمنين عن بغض له وعداء فهو كافر، وأن هذا الحديث محمول على المجاز، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: حربك كأنه حربي، فهو تشبيه، ويكون حربه بمنزلة حرب النبي، ولا يجوز حمل التشبيه في كلامه صلى الله عليه وآله وسلم على المبالغة والإغراق، أو على التشبيه المحض من قبيل تشبيه التراب والحصى بالمسك والياقوت . وعلى هذا، فإن تشبيه النبي عليا بآدم عليهما السلام في العلم، معناه إحاطته بجميع ما كان لآدم من علم، وكذا في باقي الأنبياء والصفات، وهذا يدل على الأفضلية. 4 - وبالرغم من أن (الدهلوي) يسعى ويبالغ في إنكار دلالة هذا الحديث على المساواة مع الأنبياء، فإنه يحمل ما رووه في شبه أبي بكر وعمر ببعض الأنبياء في بعض الصفات على المساواة، إذ سيأتي قوله: رابعا: إن تفضيل الأمير على الخلفاء الثلاثة، إنما يثبت من هذا الحديث فيما إذا لم يكونوا مساوين للأنبياء المذكورين في تلك الصفات أو ما يماثلها، ودون هذا النفي خرط القتاد، بل إذا فحصت كتب أهل السنة لوجدت أحاديث كثيرة تدل على تشبيه الشيخين بالأنبياء، بحيث لم ترد في حق أحد من معاصريهما... . 5 - ثم إنه قال بعد كلامه المذكور: ولهذا فقد قام الشيخان بوظائف

ص 328

الأنبياء، من الجهاد مع الكفار، وترويج أحكام الشريعة، وإصلاح أمور الرعية، على أحسن حال... . وهذا متفرع على كون الشيخين حاملين لكمالات الأنبياء، المتفرع على كون التشبيه بينهما وبينهم تشبيها تاما. فتشبيه سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام بهم يدل على وجود صفاتهم فيه بقدر ما فيهم. قوله: والتشبيه كما يكون بأدواته المتعارفة، كالكاف وكأن ومثل، ونحوها، كذلك يكون بهذا الأسلوب كما تقرر في علم البيان أن من أراد أن ينظر إلى القمر ليلة البدر، فلينظر إلى وجه فلان. فهذا القسم داخل أيضا في التشبيه. الحديث يحمل على المساواة لتعذر العينية أقول: أين التصريح بكون هذه الجملة ونحوها من التشبيه؟ إنا لم نجد ما يؤيد هذا الدعوى في كتب علم البلاغة، كالمفتاح وشروحه، وتلخيص المفتاح وشروحه، فهي دعوى بلا دليل... بل لقد تقدم أن المتبادر من هذا الكلام وشبهه هو العينية، غير أنها لما كانت متعذرة في الحديث الشريف، فلا بد من حمل الحديث على أقرب المعاني إليها، وهي المساواة والمماثلة التامة القريبة من العينية، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، فلينظر إلى علي، فإنه مساو له في العلم، أو: فإنه مثله في العلم. فمع تقدير كلمة: مثل ونحوها

ص 329

يظهر المعنى الكامل للحديث ويتضح المراد منه جيدا... قال التفتازاني: [وأداته] أي أداة التشبيه [الكاف وكأن] وقد يستعمل عند الظن بثبوت الخبر من غير قصد إلى التشبيه، سواء كان الخبر جامدا أو مشتقا، نحو كأن زيدا أخوك، وكأنه قدم [ومثل وما في معناه] مما يشتق من المماثلة والمشابهة، وما يؤدي هذا المعنى [والأصل في نحو الكاف] أي في الكاف ونحوها، كلفظة نحو ومثل وشبه، بخلاف كأن ويماثل ويشابه [أن يليه المشبه به] لفظا نحو: زيد كالأسد، أو تقديرا نحو قوله تعالى *(أو كصيب من السماء)* على تقدير: أو كمثل ذوي صيب [وقد يليه] أي نحو الكاف [غيره] أي غير المشبه به [نحو *(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه)*] الآية، إذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء، ولا بمفرد آخر يتمحل تقديره، بل المراد تشبيه حالها في بهجتها ونضارتها، وما يتعقبها من الهلاك والفناء بحالة النبات الحاصل من الماء، يكون أخضر ناضرا، ثم ييبس فيطيره الرياح كأن لم يكن، ولا حاجة إلى تقدير كمثل ماء، لأن المعتبر هو الكيفية الحاصلة من مضمون الكلام المذكور بعد الكاف، واعتبارها مستغن عن هذا التقدير، ومن زعم أن التقدير كمثل ماء، وأن هنا مما يلي الكاف غير المشبه به، بناء على أنه محذوف، فقد سها سهوا بينا، لأن المشبه به الذي يلي الكاف قد يكون ملفوظا، وقد يكون محذوفا على ما صرح به في الإيضاح [وقد يذكر فعل ينبئ عنه] أي عن التشبيه [كما علمت زيدا أسدا إن قرب التشبيه] وادعى كمال المشابهة، لما في علمت من معنى التحقيق، وحسبت زيدا أسدا [أن بعد] التشبيه بأدنى تبعيد، لما في الحسبان من الإشعار بعدم التحقق والتيقن، وفي كون مثل هذه الأفعال منبئا عن التشبيه نوع خفاء، والأظهر أن الفعل ينبئ عن

ص 330

حال التشبيه في القرب والبعد (1). وقال التفتازاني أيضا: وقد يذكر فعل ينبئ عنه. أي عن التشبيه، كما في علمت زيدا أسدا، إن قرب التشبيه، وأريد أنه مشابه الأسد مشابهة قوية، لما في علمت من الدلالة على تحقق التشبيه وتيقنه، وكما في حسبت وخلت زيدا أسدا إن بعد التشبيه أدنى تبعيد، لما في الحسبان من الدلالة على الظن دون التحقيق، ففيه إشعار بأن شبهه بالأسد ليس بحيث يتيقن أنه هو هو، بل يظن ذلك ويتخيل. وفي كون هذا الفعل منبئا عن التشبيه نظر، للقطع بأنه لا دلالة للعلم والحسبان على ذلك، وإنما يدل عليه علمنا بأن أسدا لا يمكن حمله على زيد تحقيقا، وأنه إنما يكون على تقدير أداة التشبيه، سواء ذكر الفعل أو لم يذكر، كما في قولنا: زيد أسد. ولو قيل: إنه ينبئ عن حال التشبيه من القرب والبعد لكان أصوب (2). قلت: فليكن الدلالة على التشبيه أو المساواة في الحديث الشريف بالجملة المقدرة كذلك. وقال التفتازاني: [والغرض منه] أي من التشبيه [في الأغلب يعود إلى المشبه. وهو] أي الغرض العائد إلى المشبه [بيان إمكانه] يعني بيان أن المشبه أمر ممكن الوجود، وذلك في كل أمر غريب يمكن أن يخالف فيه ويدعى امتناعه [كما في قوله] أي قول أبي الطيب: [فإن تفق الأنام وأنت منهم * فإن المسك بعض دم الغزال]

(هامش)

(1) المختصر في شرح تلخيص المفتاح: 143. (2) المطول في شرح تلخيص المفتاح: 330. (*)

ص 331

فإنه أراد أن يقول: إن الممدوح قد فاق الناس، بحيث لم يبق بينه وبينهم مشابهة، بل صار أصلا برأسه وجنسا بنفسه، وهذا في الظاهر كالممتنع، لاستبعاد أن يتناهى بعض آحاد النوع في الفضائل الخاصة بذلك النوع، إلى أن يصير كأنه ليس منها، فاحتج لهذه الدعوى وبين إمكانها، بأن شبه حاله بحالة المسك الذي هو من الدماء، ثم إنه لا يعد من الدماء، لما فيه من الأوصاف الشريفة التي لا يوجد في الدم. فإن قلت: أين التشبيه في هذا البيت؟ قلت: يدل البيت عليه ضمنا، وإن لم يدل عليه صريحا، لأن المعنى: إن تفق الأنام مع أنك واحد منهم، فلا استبعاد في ذلك، لأن المسك بعض دم الغزال وقد فاقها حتى لا يعد منها، فحالك شبيهة بحال المسك، ويسمى مثل هذا تشبيها ضمنيا، أو تشبيها مكنيا عنه (1). أقول: فليكن التشبيه في الحديث مقدرا كذلك، فيكون معنى الحديث: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، فلينظر إلى علي، فإنه مساو لآدم في العلم، أو مثله في العلم. وهكذا في باقي الصفات. قوله: ومن هنا، أدخلوا في التشبيه الشعر المشهور: لا تعجبوا من بلى غلالته * قد زر أزراره على القمر

(هامش)

(1) المطول في شرح التلخيص: 330 - 331. (*)

ص 332

وكذا البيتين من شعر المتنبي: نشرت ثلاث ذوائب من خلفها * في ليلة فأرت ليالي أربعا واستقبلت قمر السماء بوجهها * فأرتني القمرين في وقت معا أقول: أولا: إن أسلوب هذه الأبيات يختلف عن أسلوب الحديث، كما هو واضح، ونحن نتكلم في دلالة هذا الأسلوب أعني: من أراد أن ينظر إلى كذا، فلينظر إلى فلان على التشبيه، فلا وجه لاستشهاده بالأبيات المذكورة. وثانيا: قوله: لا تعجبوا من بلى غلالته... إستعارة بحسب الاصطلاح، وليس تشبيها، وإن كانت الاستعارة مبنية على التشبيه، لكن كلام (الدهلوي) هنا مبني على الفرق بينهما كما يدل على ذلك قوله فيما بعد: وإن لم يكن تشبيها فاستعارة وأصلها التشبيه. ويدل على أن الشعر المذكور من الاستعارة لا التشبيه، كلام التفتازاني، وهذا نصه بطوله: واعلم أنهم اختلفوا في أن الاستعارة مجاز لغوي أو عقلي، فالجمهور على أنه مجاز لغوي، بمعنى أنها لفظ استعمل في غير ما وضع له، لعلاقة المشابهة، [ودليل أنها] أي الاستعارة [مجاز لغوي: كونها موضوعة لا للمشبه ولا للمشبه به ولا للأعم منهما] أي من المشبه والمشبه به، فأسد في قولنا: رأيت أسدا يرمي، موضوع للسبع المخصوص، لا للرجل الشجاع، ولا لمعنى أعم من الرجل والسبع كالحيوان الجري مثلا، ليكون إطلاقه عليهما حقيقة، كإطلاق الحيوان على الأسد والرجل الشجاع، وهذا معلوم بالنقل عن أئمة اللغة قطعا، فإطلاقه على الرجل الشجاع إطلاق على غير ما وضع له، مع قرينة

ص 333

مانعة عن إرادة ما وضع له، فيكون مجازا لغويا، وفي هذا الكلام دلالة على أن لفظ العام إذا أطلق على الخاص لا باعتبار خصوصه، بل باعتبار عمومه، فهو ليس من المجاز في شيء، كما إذا لقيت زيدا فقلت: لقيت رجلا أو انسانا أو حيوانا، بل هو حقيقة، إذ لم يستعمل اللفظ إلا في المعنى الموضوع له. [وقيل: إنها] أي الاستعارة [مجاز عقلي، بمعنى أن التصرف في أمر عقلي لا لغوي، لأنها لما لم تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله] أي دخول المشبه [في جنس المشبه به] بأن جعل الرجل الشجاع فردا من أفراد الأسد [كان استعمالها] أي الاستعارة في المشبه استعمالا [فيما وضعت له] وإنما قلنا إنها لم تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به، لأنها لو لم تكن كذلك لما كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة، إذ لا مبالغة في إطلاق الاسم المجرد عاريا عن معناه، ولما صح أن يقال لمن قال: رأيت أسدا، وأراد زيدا أنه جعله أسدا، كما لا يقال لمن سمى ولده أسدا أنه جعله أسدا، لأن جعل إذا كان متعديا إلى مفعولين، كان بمعنى صير ، ويفيد إثبات صفة لشيء، حتى لا يقال: جعله أميرا، إلا وقد أثبت فيه صفة الإمارة، وإذا كان نقل اسم المشبه به تابعا لنقل معناه إليه، بمعنى أنه أثبت له معنى الأسد الحقيقي ادعاء، ثم أطلق عليه اسم الأسد، كان الأسد مستعملا فيما وضع له، فلا يكون مجازا لغويا بل عقليا، بمعنى أن العقل جعل الرجل الشجاع من جنس الأسد، وجعل ما ليس واقعا في الواقع واقعا مجاز عقلي. [ولهذا] أي، ولأن إطلاق اسم المشبه به على المشبه إنما يكون بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه صح التعجب في قوله (شعر): قامت تظللني أي توقع الظل علي [من الشمس نفس أعز علي من نفسي] ومن عجب شمس - أي غلام - كالشمس في الحسن والبهاء تظللني من الشمس. فلولا أنه ادعى

ص 334

لذلك الغلام معنى الشمس الحقيقي جعله شمسا على الحقيقة، لما كان لهذا التعجب معنى، إذ لا تعجب في أن يظلل إنسان حسن الوجه إنسانا آخر]. [والنهي عنه] أي، ولهذا صح النهي عن التعجب في قوله (شعر): [لا تعجبوا من بلى غلالته] هي شعار تلبس تحت الثوب وتحت الدرع أيضا [قد زر أزراره على القمر] تقول: زررت القميص عليه أزرره، إذا شددت أزراره عليه، فلولا أنه جعله قمرا حقيقيا لما كان للنهي عن التعجب معنى، لأن الكتان إنما يسرع إليه البلى بسبب القمر الحقيقي، لا بملابسة إنسان كالقمر في الحسن. لا يقال: القمر في البيت ليس باستعارة، لأن المشبه مذكور، وهو الضمير في غلالته و أزراره . لأنا نقول: لا نسلم أن الذكر على هذا الوجه ينافي الاستعارة، كما في قولنا: سيف زيد في يد أسد، فإن تعريف الاستعارة صادق على ذلك. [ورد] هذا الدليل [بأن الادعاء] أي ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به [لا يقتضي كونها] أي الاستعارة مستعملة [فيما وضعت له]، للعلم الضروري بأن أسدا في قولنا: رأيت أسدا يرمي، مستعمل في الرجل الشجاع، والموضوع له هو السبع المخصوص. وتحقيق ذلك: أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به، مبني على أنه جعل أفراد الأسد بطريق التأويل قسمين، أحدهما: المتعارف، وهو الذي له غاية الجرأة في مثل تلك الجثة المخصوصة، والهيكل المخصوص، والثاني: غير المتعارف، وهو الذي له تلك الجرأة، لكن لا في تلك الجثة والهيكل المخصوص، ولفظ الأسد إنما هو موضوع للمتعارف، فاستعماله في غير المتعارف استعمال له في غير ما وضع له، والقرينة مانعة عن إرادة المعنى

ص 335

المتعارف، فيتعين المعنى غير المتعارف. وبهذا يندفع ما يقال: إن الإصرار على دعوى الأسدية للرجل الشجاع، ينافي نصب القرينة المانعة عن إرادة السبع المخصوص. وأما التعجب والنهي عنه كما في البيتين المذكورين، فللبناء على تناسي التشبيه، قضاء لحق المبالغة، ودلالة على أن المشبه، بحيث لا يتميز عن المشبه أصلا، حتآى أن كل ما يترتب على المشبة به، من التعجب والنهي عن التعجب، يترتب على المشبه أيضا، وفي الحاشية المنهية على قوله: ينافي الاستعارة الخ وإنما يكون منافيا إذا كان ذكره على وجه ينبئ عن التشبيه (1). وثالثا: إن إطلاق القمر في قوله: لا تعجبوا... الخ إنما هو على سبيل الاستعارة، وكذا إطلاق الليالي على الذوائب واطلاق القمر على وجه المحبوبة في البيتين، استعارة لا تشبيه. ومن المعلوم: أن كون هذه الإطلاقات من قبيل الاستعارة، وعدم كونها من قبيل التشبيه، ليس فيه ضرر بالنسبة إلى غرض (الدهلوي) وهو كون الحديث الشريف من قبيل التشبيه، فلا وجه لدعوى (الدهلوي) إدخال هذه الإطلاقات في التشبيه، إلا تخديع العوام كي يتوهموا ضعف دلالة التشبيه على المساواة، وتنظير الحديث بتلك الأشعار الفارغة عن المعنى الحقيقي. قوله: ولو تجاوزنا عن ذلك لكان استعارة مبناها على التشبيه.

(هامش)

(1) المطول في شرح التلخيص: 360 - 362. (*)

ص 336

إن كان الحديث من الاستعارة فدلالته أبلغ أقول: وعلى فرض كون الحديث الشريف من باب الاستعارة، فإن دلالته على المساواة تكون آكد وأبلغ، قال التفتازاني: فصل - أطبق البلغاء على أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح، لأن الانتقال فيهما [من الملزوم إلى اللازم، فهو كدعوى الشيء ببينة] فإن وجود الملزوم يقتضي وجود اللازم، لامتناع انفكاك الملزوم عن لازمه [و] أطبقوا أيضا على [أن الاستعارة] التحقيقية والتمثيلية [أبلغ من التشبيه، لأنها نوع من المجاز] وقد علم أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وليس معنى كون كل من المجاز والكناية أبلغ، أن شيئا منهما يوجب أن يحصل في الواقع زيادة في المعنى لا توجد في الحقيقة والتصريح، بل المراد أنه يفيد زيادة تأكيد للإثبات، ويفهم من الاستعارة أن الوصف في المشبه بالغ حد الكمال كما في المشبه به، وليس بقاصر فيه كما يفهم من التشبيه، والمعنى لا يتغير حاله في نفسه، بأن يعبر عنه بعبارة أبلغ. وهذا مراد عبد القاهر بقوله: ليست مزية قولنا: رأيت أسدا، على قولنا: رأيت رجلا هو والأسد سواء في الشجاعة: أن الأول أفاد زيادة في مساواته الأسد في الشجاعة لم يفدها الثاني، بل الفضيلة هي: أن الأول أفاد تأكيدا لإثبات تلك المساواة له لم يفده الثاني. والله أعلم (1). فظهر أن التشبيه و الاستعارة كليهما يفيدان المساواة بين المشبه والمشبه به، إلا أن في الاستعارة زيادة تأكيد لإثبات المساواة، فلها مزية

(هامش)

(1) المختصر في شرح تلخيص المفتاح: 186. (*)

ص 337

على التشبيه . وعلى هذا الأساس أيضا يكون الحديث - بناء على كونه استعارة - دالا على المساواة، بل هو في هذه الصورة أدل وأبلغ من أن يقال: آدم وعلي عليهما السلام سواء في العلم وهكذا في باقي الصفات. فنفي دلالة الحديث على المساواة - على تقدير كونه من باب الاستعارة - بل تسفيه من فهم المساواة منه، هو في الحقيقة تسفيه للشيخ عبد القاهر الجرجاني وسائر أئمة علوم البلاغة ومهرة الفنون الأدبية... وكأن (الدهلوي) لا يبالي بما يترتب على كلماته، وإنه يحاول نقض استدلالات الإمامية وإن لزم منه تسفيه وتكذيب كبار الأساطين من علماء مذهبه، أو غير ذلك من اللوازم الفاسدة، وليته قد استعار الفهم والعقل من بعض العقلاء فلم ينف دلالة الاستعارة على المساواة!! وأيضا، يشترط في الاستعارة وجود أمر يختص بالمشبه به فيقصد إثبات ذلك الأمر للمشبه، وعلى هذا الأساس نقول: إذا كان الحديث من قبيل الاستعارة، فقد أثبت فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم العلم المختص بآدم عليه السلام لأمير المؤمنين، وهكذا سائر الصفات، وإلا لم يكن استعارة، لفقد الشرط، فيبطل جعل (الدهلوي) الحديث من قبيل الاستعارة. أما اشتراط الشرط المذكور، فهو صريح أئمة فن البلاغة، قال التفتازاني: فصل - في بيان الاستعارة بالكناية، والاستعارة التخييلية، لما كانت عند المصنف أمرين معنويين غير داخلين في تعريف المجاز، أورد لهما فصلا على حده، ليستوفي المعاني التي يطلق عليها لفظ الاستعارة، فقال: [قد يضمر التشبيه في النفس] أي في نفس معنى اللفظ، أو نفس المتكلم [فلا يصرح بشيء من أركانه سوى المشبه]. وأما وجوب ذكر المشبه به فإنما هو في التشبيه المصطلح، وقد عرفت أنه غير الاستعارة بالكناية، ويدل عليه - أي على ذلك

ص 338

التشبيه المضمر في النفس - بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، من غير أن يكون هناك أمر متحقق حسا أو عقلا، يطلق عليه ذلك الأمر، فيسمى التشبيه المضمر في النفس استعارة بالكناية، أو مكنيا عنها، أما الكناية فلأنه لم يصرح به، بل إنما دل عليه بذكر خواصه ولوازمه، وأما الاستعارة فمجرد تسمية خالية عن المناسبة، ويسمى إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه للمشبه استعارة تخييلية، لأنه قد استعير للمشبه ذلك الأمر الذي يختص بالمشبه به، وبه يكون كمال المشبه به أو قوامه في وجه الشبه، ليخيل أن المشبه من جنس المشبه به (1). قوله: وفهم المساواة بين المشبه والمشبه به من كمال السفاهة. أقول: هذا الكلام يدل على نهاية متانة هذا الرجل وكثرة ديانته!! فقد عرفت وجود استعمال التشبيه في المساواة، في القرآن والحديث واستعمالات العلماء، فكلام الرجل رد في الحقيقة على الكتاب والسنة والعلماء، وسائر أرباب الفهم وأصحاب البلاغة... إن كل من يراجع الكتب العلمية ككتب الصرف والنحو، والمعاني والبيان، والحكمة والمنطق، والفقه وأصوله، يجدها مليئة بذكر التمثيلات للقواعد الكلية بأدوات التشبيه، مثل الكاف ونحو ومثل ونحوها، فيقال مثلا: كل فاعل مرفوع، نحو: قام زيد، وكل مفعول منصوب، كأكرمت زيدا... ولا شك في أن المراد من

(هامش)

(1) المختصر في شرح التلخيص: 170. (*)

ص 339

هذا التشبيه والتمثيل هو المساواة والمطابقة التامة بين المثال والقاعدة الكلية. فبناء على ما ذكره (الدهلوي) يكون جميع أرباب العلوم، والمصنفون في الفنون المختلفة، حمقى سفهاء، لأنهم يفهمون من التشبيه المساواة بين المشبه والمشبه به!! وأيضا، لا ريب في أن جميع العقلاء يفهمون من قول القائل: زيد كعمرو في العلم المساواة بينهما، فعلى ما ذكره يكون جميع العلماء سفهاء حمقى!! إعتراف الكابلي بدلالة التشبيه على المساواة ومن هنا ترى (الكابلي) يعترف - على ما هو عليه من التعصب والعناد - بكون المساواة من معاني التشبيه ، لكن (الدهلوي) يجعل فهم المساواة من التشبيه من كمال السفاهة وهذا نص عبارة (الكابلي) في جواب حديث التشبيه: ولأنه ورد على سبيل التشبيه، والمشبه لا يلزم أن يساوي المشبه به، وكثيرا ما يشبه الأضعف بالأقوى، والأدنى بالأعلى، فيقال: ترب كالمسك، وحصى كالياقوت، ومن أراد أن ينظر إلى القمر ليلة البدر فلينظر إلى وجه سعدى، ولا يلزم أن يكون لوجه سعدى نور يساوي نور القمر. قال الشاعر: أرى بارقا بالأبرق الفرد يومض * ويذهب جلباب الدجى ثم يغمض كأن سليمى من أعاليه أشرفت * تمد لنا كفا خضيبا وتقبض فإنه شبه الكف الخضيب لسليمى بالبارق، وأين هذا من ذاك؟ فلو قيل: من أراد أن ينظر إلى البارق فلينظر إلى الكف الخضيب لسليمى إذا مدته من أعالي الأكمة وقبضته، فإنه لا يدل على مساواة كف خضيب للبارق، وهو من الظهور بمحل.

ص 340

وقد يشبه الأقوى بالأضعف، والأعلى بالأدنى كثيرا، نحو: در كثغر الحبيب. ومنه قوله تعالى: *(مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة)* وكما يقال: البارق ككف خضيب عشيقة مدته من سطح قصرها وقبضته. والشعر يحتمله. وقد يشبه أحد المتساويين بالآخر، نحو: زيد في حسنه كعمرو، إذا كانا متساويين في الحسن. فلا يوجب الخبر مساواته للأنبياء (1). فإنه ذكر مجئ التشبيه دالا على المساواة، واعترف بذلك بصراحة، وإن كان قد ذكر هذا المعنى بعنوان قد وجعله مذكورا في نهاية البحث وآخر أقسام التشبيه، مما يوحي بتعصبه ضد الحق، كما لا يخفى، لما عرفت من أن المساواة معنى حقيقي للتشبيه للتبادر، وصحة سلب التشبيه من غير المساوي، وإنه قد ورد التشبيه ل‍ المساواة في الكتاب والسنة وغيرهما. وعلى كل حال، فإن (الكابلي) يعترف - ولو في الجملة - بمجئ التشبيه للدلالة على المساواة . أما (الدهلوي) فقد أنكر هذا المعنى ونفاه، بالرغم من أخذه كل ما ذكره في هذا الموضع من (الكابلي) كسائر المواضع، وكأنه يعلم أن هذا المقدار من الاعتراف بالحق أيضا ينفع الإمامية في استدلالهم بالحديث الشريف على ما ذهبوا إليه، فلا يكتفي بإنكاره، بل ينسب من يدعي إفادة التشبيه ل‍ المساواة ، ومن يفهم المساواة من التشبيه إلى كمال السفاهة . بل إنه يجعل فهم المساواة من التشبيه من جملة الأوهام ويقول بأن هذا الوهم يكون من الصبيان الصغار لا من الصبيان المميزين جاء ذلك

(هامش)

(1) الصواقع الموبقة - مخطوط. (*)

ص 341

في النوع التاسع عشر، من الباب الحادي عشر، من كتابه (التحفة)، فانظر بماذا يصف كبار العلماء، ومهرة الفنون، وأساطين العلوم!! التشبيه للمساواة في كلام (الدهلوي) نفسه بل إن ما ذكره من الطعن في الذين يفهمون المساواة من التشبيه من العلماء وغيرهم لينطبق على نفسه، فقد علمت أن (الدهلوي) نفسه قد فهم المساواة من التشبيه في مقامات عديدة، بل في نفس هذا الكلام الذي وصف فيه من فهم ذلك بما وصف، فقد جاء فيه النوع التاسع عشر: - جعل تشبيه شيء بشيء موجبا للمساواة بين المشبه والمشبه به. وهذا من أوهام الصبيان الصغار لا الصبيان المميزين، وقد وقع هذا الوهم من الشيعة بكثرة، مثل أنهم يقولون بأن حضرة الأمير قد شبه بالأنبياء أولي العزم في الزهد والتقى والحلم... . فترى أنه في نفس هذا الكلام يأتي بتشبيه، ويريد منه المساواة قطعا، حيث يقول: مثل أنهم يقولون... ، فإن كلمة مثل موضوعة للتشبيه، وهو يذكر بهذه الكلمة موضعا من مواضع الوهم الواقعة من الشيعة بحسب زعمه. بل إنه استعمل التشبيه وأراد به المساواة و المطابقة في مواضع من كلامه - في نفس هذا المقام - في الجواب عن دلالة حديث التشبيه، ألا ترى إلى كلامه في الوجه الرابع حيث يقول: والتشبيه كما يكون بأدواة التشبيه المتعارفة، مثل: الكاف، وكأن ومثل، ونحو، كذلك يكون بهذا الأسلوب، كما تقرر في علم البيان،: من أراد أن ينظر إلى القمر ليلة البدر، فلينظر إلى وجه فلان . ففي هذه العبارة استعمل التشبيه وأراد منه المطابقة في ثلاثة مواضع:

ص 342

الأول: قوله: كما يكون... فإن هذا من ألفاظ التشبيه، ولا ريب أنه يريد المطابقة، لا كتشبيه الترب بالمسك... والثاني: قوله: مثل الكاف وكأن... والثالث: قوله: كما تقرر في علم البيان... وأنت إذا تأملت في سائر كلامه وقفت على مواضع أخرى. عدم جواز حمل ألفاظ النبي على الكلام الركيك قوله: وقد راج واشتهر في الأشعار التشبيه... أقول: إن هذا تعصب جاء من جراء متابعة (الكابلي) وتقليده على غير بصيرة، أفيقاس كلام أشرف الخلائق من الأولين والآخرين بأشعار الشعراء وتمثيلاتهم الخرافية الجزافية؟! إن مفاد هذا الكلام هو أن لا يكون أي وجه للشبه بين أمير المؤمنين والأنبياء في صفاتهم، فضلا عن المساواة، والعياذ بالله... ولو جاز ما ذكره هذا الرجل، لجاز أن يقال في حق أحد من الناس ولو كان عاريا حتى عن الإسلام: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه فلينظر إلى فلان... لكن لا ريب في أن قياس كلام أفضل البشر، بتشبيه الترب بالمسك والحصى بالدرر، تعصب قبيح أو جهل فضيح، فلو لم يدل حديث التشبيه على إثبات تلك الصفات لأمير المؤمنين، للحق كلامه صلى الله عليه وآله وسلم

ص 343

بالكلام الركيك والفارغ، وذلك غير جائز. قال أبو حامد الغزالي: مسألة - قال القاضي: حمل كلام الشارع على ما يلحق بالكلام الرث محال، ومن هذا الفن قول أصحابنا في قوله تعالى: *(وأرجلكم إلى الكعبين)* مكسورة اللام، لقرب الجوار، ردا على الشيعة، إذ قالوا: الواجب فيه المسح، وهو كقوله: *(وحور عين)* وكقول العرب: جحر ضب خرب، وكقول الشاعر: كأن ثبيرا في عرانين وبله * كبير أناس في بجاد مزمل معناه: مزمل به، لأنه من نعت الكبير، وهو مرفوع، لكن كسر لقرب الجوار. وليس الأمر كما ظنوه في هذه المواضع، بل سببه: إن الرفع أبين من الكسر، فاستثقلوا الانتقال من حركة خفيفة إلى ثقيلة، فوالوا بين الكسرتين. وأما النصب في قوله: *(وأرجلكم)* فنصب في المعنى، والنصب أخف الحركات، والانتقال إليه أولى من الجمع بين الكسرتين الثقيلتين بالنسبة إلى النصب، فلم يبق لقرب الجوار معنى، إلا مراعاة التسجيع والتفقية، وذلك لا يليق بالقرآن، نعم حسن النظم محبوب من الفصيح، إذا لم يخل بالمقصود. فأما الإخلال بالمعنى واتباع التقفية، فمن ركيك الكلام (1). ولو لم يدل التشبيه في الحديث على المساواة، وجاز حمل تشبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تشبيه الترب بالمسك ونحوه، جاز أن يقال في حق شيخ من شيوخ (الدهلوي) أو تلميذ من تلامذته: إنه مثل إبليس، أو يقال في حق (الدهلوي) نفسه أو والده: إنه مثل أبي لهب أو مثل أبي جهل أو يقال ذلك في حق كبار أهل السنة، أو في حق الخلفاء الثلاثة وأعوانهم...

(هامش)

(1) المنخول في علم الأصول: 201 - 203. (*)

ص 344

النقض بما وضعوه في حق الشيخين وإذا كان تشبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتشبيه التراب بالمسك والحصى باللؤلؤ والياقوت، فقد بطلت مساعي أسلاف (الدهلوي) الوضاعين وجهود مشايخه المفترين، في اختراع فضائل فيها تشبيه الشيخين بالأنبياء، وذهبت أدراج الرياح، وكانت هباء منثورا، فالعجب من هذا الرجل كيف يحت بمثل هذه الأحاديث ويدعي كثرتها كما سيأتي؟! إذ من الجائز أن تكون تلك التشبيهات - بعد تسليم أسانيدها - من قبيل تشبيه التراب بالمسك والحصى باللؤلؤ والياقوت، فكما لا مناسبة أصلا بين المسك والثرى، ولا مماثلة بين اللؤلؤ والحصى، فكذلك حال الشيخين بالنسبة إلى الأنبياء، على نبينا وآله وعليهم آلاف التحية والثنا، فأين الثريا من الثرى، وأين الدر من الحصى؟! قوله: قال الشاعر: أرى بارقا بالأبرق الفرد يومض * فيكشف جلباب الدجى ثم يغمض كأن سليمى من أعاليه أشرفت * تمد لنا كفا خضيبا وتقبض أقول: قد عرفت عدم جواز هذا القياس بين كلام النبي صلى الله عليه وآله المعصومين، وأشعار الشعراء المتشدقين... لكنه ينسج على منوال (الكابلي) ويقلده على غير هدى وبصيرة...

ص 345

دحض المعارضة بما وضعوه في تشبيه الشيخين بالأنبياء

ص 347

قوله: وقد روي في الأحاديث الصحيحة لأهل السنة: تشبيه أبي بكر بإبراهيم وعيسى، وتشبيه عمر بنوح، وتشبيه أبي ذر بعيسى... أقول: هذه المعارضة باطلة، فإن الاحتجاج بأحاديث أهل السنة في مقابلة الإمامية لا يصغى إليه، لمخالفته لقانون المناظرة، أما الإمامية فإنهم يحتجون بأحاديث أهل السنة في الرد عليهم، من باب الإلزام، طبقا لقانون المناظرة. واستدلال أهل السنة بأحاديثهم في مقابلة الإمامية، يشبه استدلال أهل الكتاب بكتبهم الموضوعة المكذوبة أو المحرفة، في الدفاع عن دينهم والجواب على مطاعن المسلمين وإشكالاتهم في مذاهبهم وعقائدهم. ولعل من هنا لم يحتج (الكابلي) بتلك الأحاديث المزعومة في مقام الجواب على حديث التشبيه... فهذه الفقرة من كلام (الدهلوي) في هذا المقام غير مأخوذ من كلام (الكابلي)، بل أخذ ذلك من كلام والده ولي الله الدهلوي في كتابه (قرة العينين) حيث قال في الجواب على استدلالات الشيح نصير الدين الطوسي رحمه الله في (التجريد): ومساواة الأنبياء. إعلم أنه عليه السلام قد شبه الصحابة في أحاديث كثيرة بالأنبياء، والغرض من هذا التشبيه هو الإشارة إلى وجود وصف من

ص 348

أوصاف المشبه به في المشبه، كتشبيه أبي ذر بعيسى في الزهد، وتشبيه الصديق بعيسى في الرفق بالأمة، وتشبيه الفاروق بنوح في الشدة على الأمة، وتشبيه أبي موسى بداود في حسن الصوت. عن عبد الله بن مسعود في قصة استشارة النبي أبا بكر في أسارى بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء؟ إن هؤلاء كمثل إخوة لهم كانوا من قبلهم. قال نوح: *(رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا)* وقال موسى: *(ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم)* الآية. وقال إبراهيم: *(فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم)* وقال عيسى: *(إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)* أخرجه الحاكم. وعن أبي موسى: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا موسى، لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود. متفق عليه. وعن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر شبيه عيسى بن مريم - يعني في الزهد - أخرجه الترمذي. وفي الاستيعاب: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: أبو ذر في أمتي شبه عيسى بن مريم في زهده. وروي: من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر. أخرجه أبو عمر . هذا كلام والد (الدهلوي)، وهذه هي الأحاديث، وقد أخذ الولد هذا الكلام وتصرف فيه من جهات: 1 - زعم الوالد تشبيه الصحابة في أحاديث كثيرة بالأنبياء. و(الدهلوي)

ص 349

زعم تشبيه الشيخين بهم في أحاديث كثيرة. 2 - لم يدع الوالد صحة هذه الأحاديث بصراحة. و(الدهلوي) ادعى صحة الأحاديث الكثيرة التي شبه فيها الشيخان بالأنبياء. 3 - لم يدع الوالد تصحيح الحاكم حديث ابن مسعود، لكن (الدهلوي) زعم ذلك أيضا. فهذه تصرفات (الدهلوي) في كلام والده، وإنما أخذ كلام والده هنا، لأن (الكابلي) لم يتعرض لهذه الأحاديث في هذا المقام، كما أشرنا من قبل، فكلمات (الدهلوي) ومناقشاته مع الإمامية ملفقة من كلمات (الكابلي) ووالده شاه ولي الله الدهلوي. وليته لم يتعرض لهذه الأحاديث تبعا للكابلي، لكنه الجهل والتعصب، وذلك لأنه قد أجاب عن حديث التشبيه بأنه تشبيه محض، كما يشبه التراب بالمسك، والحصى بالدر والياقوت، فلو سلمنا صحة هذه الأحاديث سندا، لكفى في الجواب عنها كلام (الدهلوي) نفسه، فاستناده إليها تبعا لوالده في مقابلة الشيعة الإمامية سفاهة منهما على حد تعبير (الدهلوي) نفسه وشيخه. قوله: ولكن لما كان لأهل السنة حظ من العقل من الله لم يحملوا ذلك التشبيه على المساواة أصلا... أقول: صريح هذا الكلام: أن دعوى المساواة بين الشيخين والأنبياء سفاهة وقلة عقل، فكيف يدعي ذلك في نفس الوقت؟ وهل هذا إلا تناقض وتهافت في

ص 350

كلام واحد؟ وهذا من خصائص (الدهلوي) إذ تراه يطعن في شيء، ثم يستند إليه ويحتج به، وإن وجد هذا في كلام غيره من علمائهم فقليل... أضف إلى ذلك، أن تلك الفرقة لو رزقت شيئا من العقل، لما جوزت صدور القبائح من الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ولما نفت الحسن والقبح العقليين. ولما ذهبت إلى الجبر. ولما أثبتت وقوع العبث من الله العزيز الحكيم. ولما قالت بصدور التكليف بما لا يطاق من الله العظيم. ولما اعتقدت الصوفية منهم الاتحاد بين الله وخلقه. إلى غير ذلك من آرائهم الفاسدة، ومقالاتهم الباطلة. قوله: بل إن محط إشارة التشبيه في هذا القسم من الكلمات وجود وصف في هذا الشخص من الأوصاف المختصة بذاك النبي، وإن لم يكن بمرتبته. أقول: هذا إعتراف بسقوط دعوى مساواة الشيخين للأنبياء في الصفات المذكورة في الأحاديث المزعومة. قوله: عن عبد الله بن مسعود... أخرجه الحاكم وصححه.

ص 351

أقول: هنا وجوه من النظر: الوجه الأول: نقل هذا الحديث عن الحاكم يدل على الاعتماد على روايته، وإذا كان مقبولا، فلماذا يبطل (الدهلوي) حديث الطير، وحديث الولاية، وحديث مدينة العلم، مع إخراج الحاكم لها، لا سيما الأخير، إذ صححه بعد أن أخرجه؟! فهل يختص توثيق الحاكم والاعتماد عليه بفضائل الشيخين، وأمثالهما، ويسقط عن الاعتبار في فضائل أمير المؤمنين؟! الوجه الثاني: إن الحاكم من رواة حديث التشبيه كما عرفت، و(الدهلوي) يبالغ في إبطال هذا الحديث، حتى أنه يلتجأ إلى معارضته بالروايات الموضوعة. أفيجوز أن نعتمد على الحاكم في باب فضائل الشيخين، ولا نعتمد عليه في باب فضائل الأمير؟! لماذا هذا التفريق؟ لا سيما مع موافقة عبد الرزاق الصنعاني، وأحمد، وغيرهما، معه في إخراج حديث التشبيه، وعدم موافقتهما معه في رواية هذا الحديث المزعوم... الوجه الثالث: لم يدع والد الدهلوي تصحيح الحاكم لهذا الحديث، لكن ولده أضاف تصحيح الحاكم من غير دليل ولا شاهد له على ذلك، ولو كان صادقا لذكر والده ذلك. الوجه الرابع: أين تشبيه الشيخين بالأنبياء في هذا الحديث؟ بل لا يشتمل الحديث على مدح لهما أصلا، كما لا يخفى. الوجه الخامس: إنه لم يشبه الشيخان في هذا الحديث بالأنبياء في شيء من صفاتهم الكمالية، كالعلم والفهم والتقوى... والدعاء على الكافرين أو

ص 352

الاستغفار لهم، لا يقتضي المساواة بين الأنبياء وغيرهم، فالحديث على فرض صحته لا يعارض حديث التشبيه أبدا. ثم إن بعض الوضاعين أضاف إلى الحديث جملة تفيد بعض الشبه، إلا أنه - بعد تسليم سنده - لا يصلح للمعارضة كذلك، فقد نص ابن تيمية على أنه يفيد الشبه في الشدة في الله واللين في الله فقط، ولا يفيد المماثلة في كل شيء، وهذا نص عبارته: وقول القائل: هذا بمنزلة هذا، وهذا مثل هذا، هو كتشبيه الشيء بالشئ، وتشبيه الشيء بالشئ بحسب ما دل عليه السياق لا يقتضي المساواة في كل شيء، ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيحين من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأسارى، لما استشار أبا بكر، فأشار بالفداء، واستشار عمر فأشار بالقتل. قال: سأخبركم عن صاحبيكم، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال: *(فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم)* ومثل عيسى إذ قال: *(إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)* ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: *(رب لا تذر على الأرض للكافرين ديارا)* ومثل موسى إذ قال: *(ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم)*. فقوله لهذا: مثلك مثل إبراهيم وعيسى، ولهذا مثلك مثل نوح وموسى، أعظم من قوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، فإن نوحا وإبراهيم وعيسى أعظم من هارون، وقد جعل هذين مثلهم، ولم يرو أنهما مثلهم في كل شيء، لكن فيما دل عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله (1). هذا كلام ابن تيمية في جواب حديث: أنت مني بمنزلة هارون من

(هامش)

(1) منهاج السنة 7 / 330. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء التاسع عشر

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب