ص 353
موسى وهو صريح فيما قلناه، فلا يليق هذا ا لحديث - إن صح - للمعارضة. لكن لا يخفى
عليك اشتمال هذا الكلام على كذبة، وهي أنه نسب هذا الحديث أي الصحيحين، والحال أنه
لا أثر له فيهما ولا عين. وكأن الغرض من هذه النسبة المكذوبة جعل التساوي بين هذا
الحديث، وحديث المنزلة المخرج في الصحيحين... على أنه لو سلم، فقد ثبت عموم حديث
المنزلة، أما هذا الحديث فهو لا يفيد المماثلة إلا في الشدة واللين كما اعترف هو
بذلك. فلا يصلح هذا الحديث للمعارضة مع حديث المنزلة، فلا تغفل. قوله: وعن أبي
موسى: لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود. رواه البخاري ومسلم. أقول: إن عمر بن
الخطاب لم يقبل من أبي موسى الأشعري حديثه في مسألة الاستيذان - يتعلق بأمر من
المندوبات الشرعية - كما هو صريح البخاري في (صحيحه)، فكيف تقبل الإمامية حديثه في
فضل نفسه؟! على أن كونه واجدا لمزمار من مزامير آل داود لا يعارض حديث التشبيه، وهل
أن حسن الصوت كالعلم والحلم والتقى... من الصفات الكمالية؟! قوله: وقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: من سره أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي
ذر. كذا في الاستيعاب.
ص 354
ورواه الترمذي بلفظ آخر قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر
شبه عيسى بن مريم. يعني: في الزهد. أقول: هذا الحديث غير ثابت من طرق الإمامية، فلا
يصلح لأن يعارض به حديث التشبيه الذي رواه الفريقان. فهذا أولا. وثانيا: إن صاحب
الاستيعاب يروي حديث الولاية بسند صحيح، و(الدهلوي) لا يلتفت إلى روايته، ويدعي
بطلانه، تبعا لبعض المتعصبين، فكيف يعتمد على روايته هنا؟! وأيضا: روى صاحب
الاستيعاب حديث الطير، في كتابه (بهجة المجالس)، و(الدهلوي) لم يعبأ بروايته.
وثالثا: الترمذي من رواة حديث الولاية وحديث الطير، فكيف لا يعبأ بروايته للحديثين،
ويعتمد على روايته لهذا الحديث؟ ورابعا: لا ريب في أن عثمان قد ظلم أبا ذر، وأساء
معاملته، ونفاه إلى الربذة - مع ما وصف عثمان من قبل أهل السنة باللين والرأفة،
ورقة القلب، ورغم ما ورد في مدح أبي ذر من الأحاديث، كما في (كنز العمال) وغيره -
فماذا يقولون في حق عثمان؟ وبم يصححون أفعاله تلك؟
ص 355
شبهات الدهلوي حول دلالة الحديث على الأفضلية واستلزامها للإمامة

ص 357
قوله: الثالث: إن المساواة بالأفضل في صفة لا تكون موجبة لأفضلية المساوي، لأن ذلك
الأفضل له صفات أخر قد صار بسببها أفضل. أقول: إن مماثلة أمير المؤمنين عليه السلام
للأنبياء المذكورين في الحديث ومساواته لهم في صفاتهم، تدل على أنه عليه السلام
يساوي كل واحد من الأنبياء في صفته، ويكون أفضل منهم، لجمعه للصفات المتفرقة فيهم،
على غرار ما تقدم من الاحتجاج بالآية الكريمة على أفضلية نبينا من جميع الأنبياء
عليه وآله وعليهم الصلاة والسلام. ولما كان كل واحد من هؤلاء الأنبياء أفضل من
الثلاثة، بالإجماع المحقق بين جميع المسلمين، فإن المساوي للأفضل يكون أفضل
بالضرورة. فأمير المؤمنين عليه السلام أفضل من الثلاثة - ولا يخفى ما في قولنا:
أفضل من الثلاثة من المسامحة -، وعليه يندفع جميع شبهات (الدهلوي) حول دلالة الحديث
على أفضليته منهم، وللزيادة في التوضيح والبيان، نذكر الوجوه الآتية: 1 - دلالته
على الأفضلية على غرار دلالة الآية على أفضلية النبي إن منع دلالة مساواة الأفضل -
بعد تسليم المساواة بين الإمام والأنبياء في صفاتهم بالحديث - على أفضلية الإمام
عليه السلام من الثلاثة، في غاية
ص 358
الوهن والسقوط، لما تقدم عن الرازي من احتجاج العلماء بقوله تعالى: *(أولئك الذين
هدى الله فبهداهم اقتده)* على أفضلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأنبياء
المذكورين في الآية، وملخص الاحتجاج هو جامعية النبي للصفات المتفرقة في أولئك
الأنبياء، ولا ريب في أن الجامع لها أفضل من جميعهم، لأن كل واحد منهم حصل على
واحدة منها أو ثنتين، وهذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوحده حصل على جميعها.
فإذا كان جمع الصفات المتفرقة في الأنبياء دليلا على الأفضلية منهم، فقد جمع أمير
المؤمنين عليه السلام - كما في حديث التشبيه - جميع صفات الأنبياء المذكورين في
الحديث كذلك، فيكون أفضل منهم بنفس الطريق في الاحتجاج - إلا نبينا صلى الله عليه
وآله وسلم، فهو الأفضل بإجماع المسلمين - وإذا كان أفضل من الأنبياء فهو أفضل من
الثلاثة، بالأولوية القطعية. 2 - اعتراف ابن روزبهان ودلالة الحديث على المطلوب -
كما ذكرنا - أصبحت من الوضوح بحيث التجأ الفضل بن روزبهان إلى الاعتراف بها، ولم
يتجاسر على ما تفوه به (الدهلوي) على ما هو من التعصب والعناد، ومن هنا تعرف إلى أي
درجة من الحقد والعناد للحق وأهله وصل (الدهلوي). 3 - الحديث نص في الأعلمية ثم إن
حديث التشبيه نص في أعلمية علي عليه السلام من الثلاثة وغيرهم، لأنه قد ساوى آدم
عليه السلام في العلم، والأعلم أفضل بالضرورة، والمساوي للأفضل أفضل قطعا.
ص 359
وأيضا: فإنه أتقى من الثلاثة، لأنه قد ساوى نوحا في تقواه، ونوح أتقى منهم
بالضرورة، والأتقى أفضل لقوله تعالى: *(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)* والمساوي
للأفضل أفضل. وكذا الكلام في كونه أعبد و أحلم و أشد بطشا . 4 - جامعية
علي لأشرف الصفات ثم إن العلم والحلم والعبادة والتقوى والشجاعة، هي أشرف الصفات
الحسنة، وهي تجمع جميع الخصال الحميدة، وقد كان علي عليه السلام حائزا لجميعها في
أعلى مراتبها، فهو جامع لجميع الصفات الشريفة في أعلى مراتبها، ومن كان كذلك، كان
أفضل من جميع الخلائق - عدا نبينا كما تقدم - فضلا عن الثلاثة. 5 - جمعه لتسعين
خصلة من خصال الأنبياء بل إنه عليه السلام قد جمع تسعين خصلة من خصال الأنبياء
عليهم السلام، كما في رواية السيد علي الهمداني المتقدمة في الكتاب، فأين من لم
يحصل على خصلة من خصال الأنبياء من الذي جمع تسعين؟! وأين الصفة التي يدعيها
(الدهلوي) في الثلاثة ليكونوا أفضل بها من الإمام؟! فليثبت (الدهلوي) ذلك، ودونه
خرط القتاد. 6 - إتصاف الثلاثة بأضداد هذه الصفات بل إن الثلاثة كانوا متصفين
بأضداد هذه الصفات الجليلة، كما لا يخفى على من راجع الكتب المصنفة في بيان هذا
الشأن، ككتاب (تشييد المطاعن) وغيره.
ص 360
أفلا يكون المساوي للأنبياء في صفاتهم الجميلة، أفضل ممن اتصف بأضدادها، فضلا عن
الاتصاف بشيء منها؟! قوله: وأيضا: ليست الأفضلية موجبة للزعامة الكبرى. أقول: إن من
الأصول الأخلاقية المتبعة أن لا يكذب الخلف سلفه، فكيف بتكذيب الولد لوالده! لقد
كان الأحرى بالرجل أن لا يكذب أباه، الأب الذي وصفه هو بكونه معجزة من معاجز الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم... لقد أثبت شاه ولي الله الدهلوي في كتابه (إزالة الخفا)
- الذي طالما اعتمد عليه (الدهلوي) أيضا - أن الأفضلية تستلزم الزعامة الكبرى
والخلافة العظمى، واستدل لذلك بالكتاب والسنة والآثار عن الصحابة، فراجع كلامه
هناك. قوله: كما مر غير مرة. أقول: نعم مر إثبات استلزام الأفضلية للإمامة غير مرة.
ص 361
دحض مزاعم الدهلوي لإثبات مساواة الثلاثة للأنبياء

ص 363
ثم إن (الدهلوي) ذكر أن تفضيل الإمام عليه السلام على الثلاثة عن طريق المساواة
للأنبياء في صفاتهم بالحديث الشريف، يتوقف على عدم مساواة الثلاثة لهم كذلك،
فاستنكر هذا النفي، وتشبث بأشياء واهية لإثبات المساواة، حتى لا تثبت الأفضلية
للإمام عليه السلام، ونحن نذكر كلماته ونفندها بالتفصيل: قوله: الرابع: إن تفضيل
الأمير على الخلفاء الثلاثة من هذا الحديث يثبت إذا لم يكن أولئك الخلفاء مساوين
للأنبياء في الصفات المذكورة أو في مثلها. أقول: لقد أثبتنا دلالة الحديث على أن
الإمام أفضل من الأنبياء عليه وعليهم السلام، فلا حاجة إلى إثبات دلالته على
أفضليته من الثلاثة، الذين لا سبيل إلى إثبات مساواتهم لهم. وقد مر عليك، أن أبا
بكر لما سمع هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم استغرب ثم قال: بخ بخ لك
يا أبا الحسن، وأين مثلك يا أبا الحسن! و(الدهلوي) نفسه يعترف بعدم اعتقاد أهل
السنة ذلك في حق الشيخين.. وإن شئت الوقوف على حلم عمر، فراجع حديث قصته مع أزواج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في (البخاري) و(المشكاة). وإن شئت الوقوف على
ص 364
شجاعة الشيخين فراجع أحاديث وقعة خيبر وغيرها في (كنز العمال)، وإن شئت الوقوف على
علمهما وتقواهما، فراجع كتاب (تشييد المطاعن). قوله: ودون هذا النفي خرط القتاد.
أقول: قد ثبت - والحمد لله - أن هذا النفي صحيح باعتراف المخاطب، وأن زعم مساواة
الشيخين للأنبياء دونه خرط القتاد. قوله: ولو تتبعنا الأحاديث الدالة على تشبيه
الشيخين بالأنبياء، لبلغت مبلغا لم يثبت مثله لمعاصريهما. خبر واحد موضوع أقول:
يكذب هذا الزعم إعتراف أبي بكر بعدم وجود مثيل للإمام عليه السلام، ثم إن على
(الدهلوي): أولا: أن يثبت للشيخين أكثر من تسعين خصلة من خصال الأنبياء، كما ثبت
لعلي بالحديث. وثانيا: أن يذكر حديثا واحدا يعارض به حديث اعتراف أبي بكر المذكور،
وأنى له بذلك.
ص 365
وثالثا: أن يذكر وجه الاحتجاج بموضوعات طائفته في مقابلة الشيعة الإمامية. ومن
العجيب أن (الدهلوي) يدعي وجود الأحاديث الكثيرة، مع أنه لم يذكر إلا حديثا واحدا
قد عرفت مدى دلالته، وليته ذكر حديثا واحدا اشتمل على الخصال الخمس المذكورة
للشيخين، ولو من كتب قومه، ليعارض به حديث التشبيه. نعم هناك حديث واحد اعترفوا
بوضعه، قال السيوطي في (ذيل الموضوعات): ابن عساكر: أخبرنا أبو محمد الأكفاني،
حدثنا عبد العزيز بن أحمد، أنا إسحاق بن إبراهيم بن محمد القرميني، حدثنا عمر بن
علي بن سعيد، حدثنا يوسف بن الحسن البغدادي، ثنا محمد بن القاسم، حدثنا أبو يعلى
أحمد بن علي ابن المثنى، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا أبي، عن ثابت، عن أنس بن مالك
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن ينظر إلى إبراهيم في خلته،
فلينظر إلى أبي بكر في سماحته، ومن أحب أن ينظر إلى نوح في شدته، فلينظر إلى عمر بن
الخطاب في شجاعته، ومن أحب أن ينظر إلى إدريس في رفعته، فلينظر إلى عثمان في رحمته،
ومن أحب أن ينظر إلى يحيى بن زكريا في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب في
طهارته. قال ابن عساكر: هذا حديث شاذ بمرة. وفي إسناده غير واحد مجهول .
ص 366
نسبة باطلة إلى الصوفية قوله: ولهذا ذكر المحققون من أهل التصوف أن الشيخين كانا
حاملين لكمالات النبوة، وكان الأمير حاملا لكمالات الولاية. أقول: لا يخفى على أهل
العلم: أن الغرض المهم (للدهلوي) هو الحط من قدر الإمام عليه السلام وشأنه، وذكر
اختصاص الإمام عليه السلام بالكمالات الولوية - خلافا لوالده - ليس إلا لتخديع
العوام وتغريرهم. إن أهل الفضل يعلمون بأن الشيخ فريد الدين العطار النيسابوري -
وهو من مشايخ الصوفية - ضمن معنى حديث التشبيه، في شعر له، وأن الحكيم السنائي قد
شبه الإمام عليه السلام بنوح، في شعر له كذلك. وأيضا، فإن بعض أكابر الصوفية -
كالسيد علي الهمداني، وأمير ملا - يروون حديث التشبيه، بل لقد روى السيد علي
الهمداني حديثا فيه: إن الإمام عليه السلام قد جمع تسعين خصلة من خصال الأنبياء لم
تجمع في غيره. وأيضا، فإن أبا نعيم الحافظ الإصفهاني - وهو من أئمة الصوفية كما هو
معلوم - ممن أخرج بإسناده حديث التشبيه، وكذا الطالقاني. فمن الغريب نسبة (الدهلوي)
هذا الكلام إلى المحققين من الصوفية، من غير أن يذكر اسم لقائل، وهؤلاء مشايخ
الصوفية وأئمتهم قد رووا حديث التشبيه وأثبتوه.
ص 367
عدم حجية أقوال أهل السنة على الإمامية

ولما ثبت وتحقق جمع الإمام عليه السلام للكمالات النبوية، من العلم، والحلم، والتقوى، والزهد، والشجاعة، وغيرها، برواية
أكابر علماء أهل السنة وأئمة مشايخ الصوفية منهم، فإنا لا نصغي إلى ما قاله
(الدهلوي) من عند نفسه، مع عزوه إلى محققي الصوفية. ثم إنه لا يجوز إلزام الإمامية
بأقوال أحد من أهل السنة، مفسرا كان أو محدثا، أو متكلما أو فقيها، صوفيا أو عارفا،
وذلك: أولا: لأنه إذا كانت أقوال أهل السنة حجة على الإمامية، فلا بد من أن تكون
أقوال الشيعة حجة على أهل السنة كذلك. وثانيا: لأن احتجاج (الدهلوي) بشيء من أقاويل
أهل طائفته، يخالف التزامه في أول كتابه (التحفة) من نقل أقوال الشيعة ورواياتهم،
لإلزامهم بها. وثالثا: لأنه صرح في ديباجة كتابه (التحفة) بأن لكل فرقة أن لا تثق
بأحاديث الفرقة الأخرى، فلا بد من إلزام كل فرقة بأحاديث نفس تلك الفرقة المروية في
كتبها، بل في خصوص الكتب المعتبرة عندهم منها. ورابعا: لتصريح والده في كتاب (قرة
العينين) بعدم جواز إلزام الشيعة الإمامية والزيدية، بأحاديث أهل السنة، حتى أحاديث
الصحيحين. وخامسا: لتصريح تلميذه رشيد الدين الدهلوي، بأن من حق كل فرقة أن تقدح في
أحاديث الفرقة التي ينتمي إليها الخصم، ولا تسلم بها. فبناء على هذا كله، لا يجوز
الاحتجاج بأقاويل الصوفية من أهل السنة في مقام البحث والمناظرة مع الشيعة
الإمامية. وعلى هذا الأساس أيضا، لا مناص لأهل السنة من قبول الأحاديث التي يتمسك
بها الإمامية لإثبات مطلوبهم، محتجين بإخراج علماء أهل السنة
ص 368
لها في كتبهم المعتمدة، كحديث الطير، وحديث الولاية، وحديث أنا مدينة العلم، وحديث
التشبيه، وأمثالها... ومن هنا يظهر أن من لا يقبل هذه الأحاديث ويردها، (كالدهلوي)
والكابلي، وابن حجر المكي، وابن تيمية، وأمثالهم، يخالف القواعد المقررة للبحث
والمناظرة، من غير مجوز لذلك، فليس إلا التعصب الشديد، والتعنت المقيت، نعوذ بالله
منه. دعوى صدور وظائف الأنبياء من الشيخين وبطلانها قوله: ومن ثمة، صدر من الشيخين
الأمور التي تصدر من الأنبياء، كالجهاد مع الكفار... أقول: إن أراد من جهاد
الشيخين، جهادهما في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالواقع أنه لم يكن منهما
إلا الفرار المخزي، كما لا يخفى على المطلع بأخبار خيبر، وحنين، وأحد، بل ذلك كله
مشهور ولا حاجة إلى بيانه. وإن أراد ما كان من الفتح في زمانهما - فمع غض النظر عن
وقوع الفتح في زمن الثالث، بل زمن معاوية، فيثبت لهما ما يدعي ثبوته للشيخين، بل
ليزيد بن معاوية ومن بعده من السلاطين، لوقوع الفتوح في زمانهم - نقول: بأن الفتح
لا يدل على غرضه، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله يؤيد هذا
الدين بالرجل الفاجر . وقوله: إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم
وقوله: إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله أخرج ذلك البخاري ومسلم
والترمذي والطبراني وغيرهم.
ص 369
قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في (فيض القدير): إن الله ليؤيد الدين. أي الدين
المحمدي، بدليل قوله في الخبر الآتي: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، واللام
للعهد، والمعهود الرجل المذكور، أو للجنس. ولا يعارضه خبر مسلم الآتي: إنا لا
نستعين بمشرك. إذ هو خاص بذلك الوقت، وحجة النسخ شهود صفوان بن أمية حنينا مشركا.
قال ابن المنير: فلا يتخيل في إمام أو سلطان فاجر إذا حمى بيضة الإسلام أنه مطروح
في الدين لفجوره، فيجوز الخروج عليه وخلعه، لأن الله تعالى قد يؤيد دينه وفجوره على
نفسه، فيجب الصبر عليه وطاعته في غير إثم، ومنه جوزوا الدعاء للسلطان بالنصر
والتأييد مع جوره. قاله لما رآى في غزوة خيبر رجلا يدعي الإسلام يقاتل شديدا، هذا
من أهل النار، فخرج وقتل نفسه من شدة وجعه، فذكره. أو المراد الفاسق المجاهد في
سبيل الله. طب عن عمر بن النعمان بن مقرن بضم الميم وفتح القاف وشدة الواو بالنون،
المزني، قال ابن عبد البر: له صحبة، وأبوه من جملة الصحابة، قتل النعمان شهيدا
بوقعة نهاوند، سنة إحدى وعشرين، ولما جاء نعيه خرج عمر فنعاه على المنبر وبكى.
وظاهر صنيع المصنف أن هذا لا يوجد مخرجا في الصحيحين، ولا أحدهما، وهو ذهول شنيع
وسهو عجيب، فقد قال الحافظ العراقي: إنه متفق عليه من حديث أبي هريرة، بلفظ: إن
الله تعالى يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وقال المناوي: رواه البخاري في القدر
وغزوة خيبر، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة مطولا قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم حنينا فقال لرجل ممن يدعي
ص 370
الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل قتالا شديدا، فأصابته جراحة،
فقيل: يا رسول الله الرجل الذي قتل آنفا إنه من أهل النار، قاتل اليوم قتالا شديدا،
وقد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: في النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب،
فبينما هم كذلك إذ قيل إنه لم يمت لكن به جرحا شديدا، فلما كان الليل لم يصبر على
الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الله أكبر، أشهد أني عبد
الله ورسوله، ثم أمر بلالا فنادى في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن
الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. وممن رواه الترمذي في العلل عن أنس مرفوعا، ثم
ذكر أنه سئل عنه البخاري فقال: حديث حسن حدثناه محمد بن المثنى انتهى. فعزو المصنف
الحديث للطبراني وحده لا يرتضيه المحدثون فضلا عمن يدعي الاجتهاد (1). وقال: إن
الله ليؤيد، يقوي وينصر، من الأيد وهو القوة، كأنه يأخذ معه بيده في الشيء الذي
يقوى فيه، وذكر اليد مبالغة في تحقق الوقوع الإسلام برجال ما هم من أهله، أي من أهل
الدين لكونهم كفارا أو منافقين أو فجارا، على نظام دبره وقانون أحكمه في الأزل،
يكون سببا لكف القوي عن الضعيف، إبقاء لهذا الوجود على هذا النظام على الحد الذي
حده. وهذا يحتمل أنه أراد به رجالا في زمنه، ويحتمل أنه أخبر بما سيكون، فيكون من
معجزاته، فإنه إخبار عن غيب وقع. والأول هو الملائم للسبب الآتي، وقد يقال الأقرب
الثاني، لأن العبرة بعموم اللفظ. طب عن عمرو بن العاص، قال الهيثمي وفيه: عبد
الرحمان بن زياد بن
(هامش)
(1) فيض القدير - شرح الجامع الصغير 2 / 259. (*)
ص 371
أنعم، هو ضعيف بغير كذب فيه (1). وقال الصالحي: قال محمد بن عمر: ذكر للنبي صلى
الله عليه وسلم أن رجلا كان بحنين قاتل قتالا شديدا حتى اشتدت به الجراح، فقال: إنه
من أهل النار، فارتاب بعض الناس من ذلك، ووقع في بعضهم ما الله تعالى به أعلم، فلما
آذته جراحته أخذ مشقصا من كنانته فانتحر به، فأمر رسول الله صلى الله عليه بلالا
نادى: ألا لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله تعالى يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر
(2). وقال ابن حزم في (المحلى): وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ينصر
هذا الدين بقوم لا خلاق لهم، كما أنا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، نا أحمد
بن شعيب، أخبرني عمران بن بكار بن راشد أبو اليمان، أخبرنا شعيب هو ابن أبي حمزة،
عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. ونا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن
معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرنا محمد بن سهل بن عسكر، نا عبد الرزاق، أخبرنا رباح
بن زيد، عن معمر بن راشد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم . وقال
الغزالي: فإن قلت: في الرخصة في المناظرة فائدة، وهي ترغيب الناس في طلب العلم،
إذ لولا حب الرياسة لا ندرس العلم، فقد صدقت فيما ذكرته من وجه، ولكنه غير مفيد، إذ
لولا الوعد بالكرة والصولجان واللعب بالعصافير ما رغب الصبيان في المكتب، وذلك لا
يدل على أن الرغبة فيه
(هامش)
(1) فيض القدير - شرح الجامع الصغير 2 / 259. (2) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير
العباد 5 / 333. (*)
ص 372
محمودة، ولولا حب الرياسة لا ندرس العلم لا يدل ذلك على أن طالب الرياسة ناج من
الفتن، بل هو من الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يؤيد هذا
الدين بأقوام لا خلاق لهم، قال صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يؤيد هذا الدين
بالرجل الفاجر. فطالب الرياسة في نفسه هالك، وقد يصلح بسببه غيره إن كان يدعو إلى
ترك الدنيا، وذلك فيمن كان حاله في ظاهر الأمر حال علماء السلف، ولكنه يضمر قصد
الجاه، ومثاله مثال الشمع الذي يحترق في نفسه ويستضئ به غيره، فصلاح غيره في هلاكه،
وأما إذا كان يدعو إلى طلب الدنيا فمثاله مثال النار المحرقة تأكل نفسها وغيرها.
فالعلماء ثلاثة، إما مهلك نفسه وغيره، وهم المصرحون بطلب الدنيا والمقبلون عليها،
وإما مسعد نفسه وغيره، وهم الداعون إلى الله عز وجل المعرضون عن الدنيا ظاهرا
وباطنا، وإما مهلك نفسه ومسعد غيره، وهو الذي يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا في
ظاهره وقصده في البواطن إقبال الخلق وإقامة الجاه الخ (1). بل لقد زعم (الدهلوي)
في كتاب (التحفة) أن مجرد وقوع الفتح في خيبر على يد علي عليه السلام، لا يوجب له
فضيلة وعظمة (2). فإذا كان فتح خيبر لا يوجب فضيلة لعلي، فهل يكون في فتح الشام في
عصر الشيخين فضيلة لهما؟ وقال الواقدي: لقد بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه
كان يخرج كل يوم إلى ظاهر
(هامش)
(1) إحياء العلوم 4 / 433. (2) التحفة الإثنا عشرية: 216. (*)
ص 373
المدينة يتجسس الأخبار، فبينما هو كذلك إذ قدم عليه عبد الرحمان بن حميد الجمحي،
فلما أشرف عليهم تسابقت إليه الصحابة وقالوا: من أين؟ فقال: من الشام، فبشروا
الصديق بذلك، وأن الله قد نصر المسلمين، فسجد لله شكرا، فأقبل عبد الرحمان وقال:
السلام عليك يا خليفة رسول الله، إرفع رأسك فقد أقر الله عينك بالمسلمين، فرفع أبو
بكر رضي الله عنه رأسه وسلم إليه الكتاب، وكان بخط أبي عبيدة رضي الله عنه، فقرأ
أبو بكر الكتاب سرا، فلما فهم ما فيه قرأه على الناس جهرا، وتزاحم الناس وشاع الخبر
في المدينة. قال: فأتى الناس يهرعون إلى باب المسجد، فقرأه أبو بكر رضي الله عنه
ثالثة. قال: وتسامع الناس من أهل المدينة بما فتح الله على أيدي المسلمين وما ملكوا
من الأموال، فتبايعوا للخروج رغبة في الثواب وسكنى الشام. وبلغت الأخبار إلى أهل
مكة، فأقبل المدينة من أهل مكة عظماؤهم وأكابرهم بالخيل والحديد والبأس الشديد، على
أوائلهم أبو سفيان صخر بن حرب، والعيداق بن هاشم، ونظراؤهم، فأقبلوا يستأذنون أبا
بكر في الخروج إلى الشام، ذكره عمر بن الخطاب خروجهم إلى الشام وقال لأبي بكر: إن
هؤلاء القوم لنا في قلوبهم طرائد وحقائد، والحمد لله الذي كانت كلمة الله هي العليا
وكلمتهم هي السفلى، وهم على كفر، وأرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله
إلا أن يتم نوره، ونحن نقول إذ ذاك: ليس مع الله آلهة أخرى، وهم يقولون إن معه آلهة
أخرى، فلما أن أعز الله ديننا ونصر شريعتنا أسلموا خوفا للسيف، ولما سمعوا أن جند
الله قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم إلى الأعداء، ليقاسموا السابقين المهاجرين
والأنصار، والصواب أن لا ننفذهم. فقال أبو بكر رضي الله عنه: إني لا أخالف لك قولا
ولا أعصي لك أمرا. قال: وبلغ أهل مكة ما تكلم به عمر، فأقبلوا بأجمعهم إلى أبي بكر
ص 374
الصديق رضي الله عنه إلى المسجد، فوجدوا حوله جماعة من المسلمين وهم يتذاكرون ما
فتح الله على المسلمين، وما أظهرهم على المشركين، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه عن
يمينه وعمر بن الخطاب عن يساره، والناس حوله، فأقبلت قريش إلى أبي بكر الصديق رضي
الله عنه، فسلموا عليه وجلسوا بين يديه، وتقاولوا من يكون أولهم كلاما. فكان أول من
تكلم أبو سفيان صخر بن حرب، أقبل على عمر بن الخطاب وقال: يا عمر قد كنت لنا مبغضا
في الجاهلية وقاليا وكنت تحد علينا ونحد عليك، فلما هدانا الله إلى الإسلام هدم لك
ما في قلوبنا، لأن الإيمان هدم الشرك والبغيضة والكياد، وأنت تعلم بعد اليوم تشنانا
وتبغضنا، ألسنا إخوانكم في الإسلام وبني أبيكم في النسب؟ فما هذه العداوة منك إلينا
يا بن الخطاب قديما وحديثا؟ إما أن تغسل ما بقلبك لنا من الحقد والتباغض، وإنا نعلم
أنك أفضل منا وأسبق في الإيمان والجهاد، ونحن بذلك عارفون وله غير منكرين. فسكت عمر
بن الخطاب واستحيى حتى كلله العرق ثم قال: وأيم الله ما أردت بقولي إلا انفصال الشر
وحقن الدماء، لأن حمية الجاهلية في رؤوسكم وأنتم تطاولون في نسبتكم على من سبقكم في
الإسلام. فقال أبو سفيان: أنا أشهدكم وأشهد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أني
قد حبست نفسي في سبيل الله، وكذلك تكلم سادات مكة، فرضي الإمام عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، وقال أبو بكر: اللهم بلغهم أفضل ما يؤمنون، وآجرهم بأحسن ما يعملون،
وارزقهم النصر على عدوهم ولا تمكنهم من نواصيهم (1). فإذا كان خروج الصحابة من
مكة إلى المدينة للاستيذان وذهابهم إلى
(هامش)
(1) فتوح الشام 1 / 61 مع اختلاف في بعض الأسامي والألفاظ. (*)
ص 375
الجهاد، غير مقبول لدى عمر بن الخطاب، فكيف يكون جهودهم وفتحهم مقبولا لدى
الإمامية؟ هذا كله بالنسبة إلى جهاد الشيخين. وأما دعوى قيامهما بترويج أحكام
الشرع، وإصلاح أمور الأمة، فبغض النظر عن إخراجه ثالثهما من البحث - كان الأحرى
(بالدهلوي) أن لا يتطرق إلى مثل هذا، لأن لازم هذا الكلام سلب ما ذكر عن علي عليه
السلام، وكل ذلك ينافي الواقع ويصادم الحقيقة، فإن رجوع الشيخين وبالأخص الثاني
منهما - إلى علي عليه السلام في المعضلات، والمسائل المشكلة، مما اشتهر وأذعن به
المخالفون، فكثيرا ما قال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر وطالما قال: قضية
ولا أبا حسن لها ولقد شاع عنه وذاع قوله: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو
الحسن . هذا، على أن الشيعة الإمامية لا تعتقد بخلافتهما. وهذا يقتضي أن كلما قام
به الشيخان من جهاد وترويج وإصلاح، كما يدعي (الدهلوي)، كان تصرفا غير جائز لا
يستحق المدح عليه. قوله: وظهر من الأمير ما يتعلق بالأولياء، من تعليم الطريقة...
أقول: نقل (الدهلوي) هذا عن بعض الصوفية، إلا أنه زعم وجوده في الروايات، كي لا يرد
عليه أنه خالف والده الذي فضل الشيخين في (قرة العينين) في تعليم الطريقة، والحث
على المثل الخلقية الكريمة، وترهيب الناس عن الصفات الرديئة السيئة.
ص 376
الاستدلال على وجود الملكات بالأفعال الصادرة عنه

قوله: وفي حكم العقل أنه يستدل
على وجود الملكات النفسانية بصدور الأفعال المختصة بتلك الملكات. أقول: هذا صحيح،
فلننظر إلى الأفعال الصادرة عن الشيخين، لنهتدي بها إلى الملكات النفسانية الموجودة
فيهما، فهل صدرت منهما أفعال الأنبياء كي يستدل على وجود الملكات النبوية فيهما؟ إن
كان (الدهلوي) يدعي ذلك فعليه الإثبات، ودونه خرط القتاد. قوله: فمثلا: يستدل من
ثبات الشخص في مختلف المعارك في مقابلة الأقران ووقع الرماح والسيوف على شجاعته
النفسانية. أقول: نعم، ولكن قد علم الكل عدم ثبات الشيخين - والثالث - في المعارك
والغزوات، وقد أصبح فرارهما من القضايا الضرورية التي علم بها حتى ربات الخدور فضلا
عن الرجال، بل تضرب بفرارهما عن ميادين القتال الأمثال على مدى الأجيال...
ص 377
قوله: وكذلك الحال في الحب والبغض والخوف والرجاء وغيرهما... أقول: نعم، لقد قاما
بأعمال تكشف عن حقائق أحوالهما، ودلت قضاياهم مع أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم على بغضهما له ولهم، وحبهما للجاه والرئاسة الدنيوية... إلا أن ما ذكره
(الدهلوي) هنا يتنافى مع قوله في بعض المواضع الأخرى بأن العزم والنية من الأمور
القلبية، فلا يمكن لأحد أن يطلع على ذلك سوى الله عز وجل... قال هذا في الجواب عن
أحد مطاعن عمر بن الخطاب... ألا وهو جلبه للنار لإحراق باب دار فاطمة الزهراء سلام
الله عليها... فحمل (الدهلوي) فعلة عمر هذه على محض التهديد، وأنه لم يكن لينفذ ما
قاله... لكن الصحيح ما ذكره هنا، فإن النداء بالنار، وجمع الناس على باب الدار،
وغير ذلك من القرائن والآثار... ينبئ عن عزمه الباطني وقصده الواقعي... قوله: فمن
هذا الطريق أيضا يتوصل إلى الكمالات الباطنية في الأشخاص ليعرف أنها من جنس كمالات
الأنبياء أو من جنس كمالات الأولياء.
ص 378
أقول: هذا أيضا ينافي ما ذكره في مواضع عديدة، وهو الذي أشرنا إليه قريبا.
الاستدلال بحديث صحيح مع حمله على معنى باطل قوله: وقد دل على هذه التفرقة حديث
رواه الشيعة في كتبهم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم... أقول: دعوى دلالة هذا الحديث
الشريف على التفريق بين من حمل الصفات النبوية الباطنية، ومن حمل الصفات الولوية
الباطنية، في غاية الوهن والسقوط، لوضوح دلالة الحديث على عكس هذه الدعوى، فإن مفاد
هذا الحديث هو المساواة بين حرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحرب مولانا علي
عليه السلام، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم شبه حرب علي حربه، وقد تقدم أن التشبيه
يفيد المساواة. فحاصل معنى الحديث هو: إنه كما أن حرب رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم كفر، فكذلك حرب علي كفر، وكما أن النبي قاتل لإعلاء كلمة الله، فعلي كذلك قاتل
لإعلاء كلمة الله، فمن حارب عليا فهو كافر كمن حارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فيكون الإمام عليه السلام حائزا للكمالات النبوية، وأنه قام بما قام به النبي،
فناسب أن يكون زمن خلافته قطعة من زمن نبوة النبي.
ص 379
ولقد اعترف رشيد الدين الدهلوي في (الإيضاح) بأن أمير المؤمنين عليه السلام، إنما
خاض الحروب، وقاتل أشد القتال، لإعلاء كلمة الله ودينه، وفي سبيل الله سبحانه
وتعالى. قوله: لأن مقاتلات الشيخين كانت كلها على تنزيل القرآن... أقول: ثبت العرش
ثم انقش... فإن كون مقاتلات الشيخين على تنزيل القرآن فرع لوقوعها منهما، وقد علم
الكل من غير خلاف بأنه لم يكن منهما على عصر النبي إلا الهزيمة والفرار، وأما بعده،
فلم يرو حضور أحد منهما - وكذا ثالثهما - حربا من الحروب، ولا شهدا واقعة من
الوقائع، فضلا عن الجهاد والقتال. وإذا كان مجرد الإعداد، وحث الناس على الجهاد...
جهادا ومقاتلة ونصرة للدين، وترويجا للإسلام... فقد مر أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم يقول: إن الله لينصر هذا الدين ولو بالرجل الكافر. ولقد بين في محله من هذه
الموسوعة، أن قتال الخلفاء - على فرض ثبوته ووقوعه - لم يكن لا على التنزيل ولا على
التأويل، وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه النسائي والحاكم وغيرهما:
إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله. فقال أبو بكر: هو أنا
يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا.
ص 380
فقال عمر: هو أنا يا رسول الله؟ فقال: لا. ولكن خاصف النعل (1). فلو كان قتالهما
- على فرض كونه - على تنزيل القرآن أو تأويله، لما قال في جوابهما: لا. إن المقاتلة
على التأويل - كما قاتل هو على التنزيل - مختصة بأمير المؤمنين عليه السلام، الذي
كان يخصف نعل النبي في ذلك الوقت، مع أنه عليه السلام لم يسأل النبي كما سألاه.
قوله: فكأن عهدهما من بقية زمان النبوة. أقول: هذا تنزل من (الدهلوي) عما ادعاه من
كون الشيخين حاملين لصفات النبوة، وإن لم يرد التنزل عن ذلك بقوله فكأنما... ،
بل أراد المساواة، فقد سبق منه إنكار فهم المساواة من التشبيه. ولقد كان الأحرى
(بالدهلوي) أن يثبت أولا: وقوع مقاتلات من الشيخين على تنزيل القرآن، وبرضى من
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يقول: إن زمان الشيخين امتداد لزمان النبي. ولو
كان مجرد وقوع الفتح في عصر أحد دليلا لأن يكون زمانه امتدادا لزمان النبي وعصر
النبوة، كان اللازم أن يكون زمن معاوية ويزيد، ومن بعدهما
(هامش)
(1) الخصائص: 131، المستدرك 3 / 123، مسند أحمد 3 / 33، ومصادر أخرى كثيرة. (
ص 381
من السلاطين، الذين فتحت البلاد في أيامهم، امتدادا لأيام النبوة، واللازم باطل
قطعا وبالإجماع، فالملزوم مثله. قوله: وزمن خلافة الأمير كان مبدء لدورة الولاية.
أقول: قد أراد (الدهلوي) بهذا الكلام نفي الكمالات النبوية من علي عليه السلام، ثم
تخديع الإمامية بأن زمان الإمام عصره وأيامه هي أيام ولاية وإمامة، لكن الإمامية لا
تنخدع بذلك، وترى ثبوت جميع الكمالات النبوية لعلي عليه السلام ووجودها فيه.
الاستدلال بانتهاء سلاسل الصوفية إلى الإمام قوله: ولهذا جعله شيوخ الطريقة وأرباب
المعرفة والحقيقة فاتح باب الولاية... أقول: قد عرفت أن جملة من أكابر أهل السنة،
الذين يعتقدون بكونهم شيوخ التصوف والعرفان، قد أثبتوا لأمير المؤمنين عليه السلام
جميع ما ثبت لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين، من كمالات النبوة
والولاية معا، ولا يتجاسر على نفي ذلك إلا الناصبي المعاند البغيض. أضف إلى ذلك قول
السيد علي الهمداني بشرح شعر ابن الفارض: لها البدر كأس وهي شمس
ص 382
يديرها * هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم قال: المراد من البدر هو الروح
المحمدية... ومن الهلال: علي، وهو ساقي كؤوس شراب حب الله، وموصل عطاشى الآمال إلى
وصال الله، فإنه الذي ورد في حقه: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وبما أن الهلال لا
يختلف عن البدر، بل هو جزء منه، فقد كان لسيد الأولياء ما كان لسيد الأنبياء، ففي
الحديث: خلقت أنا وعلي من نور واحد، علي مني وأنا منه، ومن امتزاج أحكام الشرائع
المصطفوية، وأعلام الحقائق المرتضوية، ظهرت نجوم مشارب أذواق أعيان الأولياء، وذاك
قول سيد الأنبياء بحق سيد الأصفياء: أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فإنه إشارة إلى هذا
المعنى، لأنه منبع أسرار معارف التوحيد، ومطلع أنوار معالم التحقيق. وإن حصول كمال
درجات الأسرار لجميع أهل الكشف والشهود، إنما كان ولا يزال وسيكون من ينبوع هدايته،
إذ قال: أنا المنذر وبك يا علي يهتدي المهتدون. وإذا انكشف لك هذا السر فاعلم بأن
طوالع أنوار الحقائق لكل ولي من الأولياء، إنما هي مقتبسة من مشكاة ولاية علي، وإنه
مع وجود الإمام الهادي فلا يتبع غيره إلا أحول العينين . وكذا قال اللاهيجي
النوربخشي في (شرح گلشن راز). والهمداني واللاهيجي من أعلام الصوفية كما هو معروف.
قوله: ومن هنا، فإن سلاسل جميع فرق أولياء الله تنتهي إليه.
ص 383
أقول: هذا إعتراف من (الدهلوي) بأحد مقامات أمير المؤمنين عليه السلام، وبجانب من
كمالاته المختصة به، وإن كان غرضه من هذا الكلام نفي وجود صفات الأنبياء فيه، عليه
وعليهم السلام. بل قد ذكر (الدهلوي) في موضع من كتابه (التحفة) بأن مقام الولاية
والإمامة في الطريقة أفضل من كل مقام، فقد ذكر في الباب الثاني منه، في المكيدة
الخامسة والثمانين من المكائد، ما تعريبه: المكيدة الخامسة والثمانون: إفتراؤهم
على أهل السنة والجماعة بأنهم يختارون مذهب أبي حنيفة، ومذهب الشافعي، ومذهب مالك،
ومذهب أحمد ويتركون مذهب الأئمة، على أن الأئمة أحق وأولى بالاتباع لوجوه: أحدها:
إن الأئمة بضعة الرسول، وقد تربوا في حجره، وتعلموا الأحكام الشرعية منذ الصغر، وقد
اشتهر المثل: أهل البيت أدرى بما فيه. والثاني: الأمر باتباعهم في الحديث الصحيح
المعتبر عند أهل السنة كذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: إني تارك فيكم الثقلين
ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنهما
غرق. والثالث: وقوع الاتفاق بين السنة والشيعة على عظمة أهل البيت وعلمهم وتقواهم
وزهدهم، وأما غيرهم فقد وقع الاختلاف فيه، ولا ريب في أولوية من اتفق عليه في
الصفات المذكورة بالاتباع ممن اختلف فيه. والجواب على هذه المكيدة هو: إن الإمام
نائب عن النبي، والنائب عن
ص 384
النبي ليس بصاحب مذهب، بل هو صاحب الشريعة، لأن المذهب طريق فهم الأحكام، حيث يقرر
صاحب المذهب قواعد عقلية يستنبط منها المسائل الشرعية، ولذلك يحتمل الخطأ والصواب
فيه. أما الإمام فهو معصوم من الخطأ، وحكمه حكم النبي، فلا يصح نسبة مذهب إليه، ومن
هنا ينسب المذهب إلى غير الله وجبريل والملائكة والأنبياء، بل لا ينسب إلى فقهاء
الصحابة وهم أفضل من أبي حنيفة والشافعي عند أهل السنة... وفي الحقيقة: إن الحكمة
من نصب الإمام هو إصلاح الأرض، وإزالة الفساد عنها، فيكمل الإمام موارد النقص في
الفنون، ويترك ما صح منها على صحته، لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وإهمال الأمور
الضرورية. فقام الأئمة في أيامهم بأهم الأمور، وهو وضع مقدمات السلوك والطريقة،
ووضعوا القيام بأمور الشريعة على عواتق الصحابة، وتوجهوا نحو العبادة والرياضة،
وتزكية الباطن، وقراءة الأذكار والأدعية والصلوات، وتهذيب الأخلاق، وتعليم أسرار
السلوك، وإرشاد الناس إلى الحقائق ومعارف الكتاب والسنة، وآثروا العزلة والخلوة...
(1). فكلام (الدهلوي) صريح في أن هداية الناس إلى الحقائق الباطنية، وإرشادهم إلى
المعارف المعنوية، أهم من استنباط الأحكام الشرعية، وبيان الوظائف الظاهرية... ولا
ريب في أن من يقوم بالأمر الأفضل، أفضل ممن لا يقدر على ذلك الأمر فيشتغل بغيره...
فهذه جهة. ومن جهة أخرى: صرح (الدهلوي) بأن حكم أئمة أهل البيت حكم
(هامش)
(1) التحفة الإثنا عشرية: 72. (*)
ص 385
النبي، وأنهم معصومون كالنبي... ولا ريب في استلزام ذلك الأفضلية من غير المعصوم.
ومن جهة ثالثة: ذكر (الدهلوي) في (تفسيره) أن أئمة أهل البيت ساووا جدهم رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في العصمة والحفظ والفتوة والسماحة، وبأنهم المظاهر
الكاملة لصفات النبي، وهذا هو السر في انتهاء جميع سلاسل أولياء الله إليهم... ذكر
هذا الكلام بتفسير قوله تعالى: *(وحملناكم في الجارية)* من سورة الحاقة... دعوى
والد الدهلوي انتهاء السلاسل إلى الشيخين فهذه كلمات (الدهلوي) في موارد مختلفة من
بحوثه، ولكن هل تعلم بأن هذه الكلمات بمثابة الرد الصريح لكلمات والده؟! إن والده
زعم أن الشيخين هما المرجع لأولياء الله، وأنهما المؤسسان لأصول الطريقة والسلوك،
وأن أبا بكر هو أول صوفي، وهو محيي طريقة الصوفية... إلى غير ذلك مما قال في كتابه
(قرة العينين). لقد بالغ والد (الدهلوي) في الاستدلال على هذه المزاعم، لكن عبارات
ولده جعلتها كهشيم تذروه الرياح... إنكار ابن تيمية انتهاء السلاسل إلى علي وليس
ولي الله الدهلوي أول من نفى عن أمير المؤمنين عليه السلام علم الطريقة، بالإضافة
إلى نفيه عنه علم الشريعة، فلقد سبقه ابن تيمية في هذا المضمار، حيث قال في جواب
قول العلامة الحلي رحمه الله: أما علم الطريقة
ص 386
فإليه منسوب، فإن الصوفية كلهم يسندون الخرقة إليه قال ابن تيمية: والجواب أن
يقال أولا: أما أهل المعرفة وحقائق الإيمان، المشهورون في الأمة بلسان الصدق، فكلهم
متفقون على تقديم أبي بكر، وأنه أعظم الأمة في الحقائق الإيمانية والأحوال
العرفانية، وأين من يقدمونه في الحقائق التي هي أفضل الأمور عندهم إلى من ينسب إليه
لباس الخرقة، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى لله عليه وسلم أنه قال: إن الله لا
ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فأين حقائق القلوب من
لباس الأبدان. ويقال ثانيا: الخرق متعددة، أشهرها خرقتان، خرقة إلى عمر، وخرقة إلى
علي، فخرقة عم إسنادان، إسناد إلى أويس القرني، وإسناد إلى مسلم الخولاني. وأما
الخرقة المنسوبة إلى علي، فإسنادها إلى الحسن البصري، والمتأخرون يصلونها بمعروف
الكرخي، فإن الجنيد رضي الله عنه صحب السري، والسري صحب معروف الكرخي بلا ريب. وأما
الإسناد من جهة معروف فمنقطع، فتارة يقولون: إن معروفا صحب علي بن موسى الرضا، وهذا
باطل قطعا، لم يذكره المصنفون لأخبار معروف، بالإسناد الثابت المتصل، كأبي نعيم،
وأبي الفرج ابن الجوزي، في كتابه الذي صنفه في فضائل معروف. ومعروف كان منقطعا في
الكرخ، وعلي بن موسى كان المأمون قد جعله ولي العهد بعده، وجعل شعاره لباس الخضرة،
ثم رجع عن ذلك، وأعاد شعار السواد، ومعروف لم يكن ممن يجتمع بعلي بن موسى، ولا نقل
عنه ثقة أنه اجتمع به، أو أخذ عنه شيئا، بل ولا يعرف أنه رآه، ولا كان معروف بوابه،
ولا أسلم على يديه، فهذا كله كذب. وأما الإسناد الآخر فيقولون: إن معروفا صحب داود
الطائي، وهذا أيضا
ص 387
لا أصل له، وليس في أخباره المعروفة ما يذكر فيها أخذه عن داود الطائي شيئا، وإنما
نقل عنه الأخذ عن بكر بن خنيس العابد الكوفي، وفي إسناد الخرقة أيضا أن داود الطائي
صحب حبيب العجمي، وهذا أيضا لم يعرف له حقيقة، وفيها أن حبيبا العجمي صحب الحسن
البصري، وهذا صحيح، فإن الحسن كان له أصحاب كثيرون، مثل أيوب السختياني، ويونس بن
عبيد، وعبد الله بن عون، ومحمد بن واسع، ومالك بن دينار، وحبيب العجمي، وفرقد
السنجي، وغيرهم من عباد أهل البصرة. وفي الخرقة: إن الحسن البصري صحب عليا. وهذا
باطل باتفاق أهل المعرفة، فإنهم متفقون على أن الحسن لم يجتمع بعلي، وإنما أخذ عن
أصحاب علي، أخذ عن الأحنف بن قيس، وقيس بن عباد، وغيرهما، عن علي. وهكذا رواه أهل
الصحيح... وقد كتبت أسانيد الخرقة، لأنه كان لنا فيها أسانيد، فبينتها ليعرف الحق
من الباطل. ولهم إسناد ثالث بالخرقة المنسوبة إلى جابر، وهو أيضا منقطع جدا. وقد
علم بالنقل المتواتر: إن الصحابة لم يكونوا يلبسون مريديهم خرقة، ولا يقصون شعورهم،
ولا التابعون لهم بإحسان، ولكن هذا فعله بعض مشايخ المشرق من المتأخرين. وكذا أصحاب
معاذ بن جبل كانوا يأخذون عن عبد الله بن مسعود وغيره، وكذلك أصحاب ابن عباس يأخذون
عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما، وكذلك أصحاب زيد بن ثابت، يأخذون عن أبي هريرة
وغيره. وقد انتفع بكل منهم من نفعه الله به. وكلهم متفقون على دين واحد، وطريقة
واحدة، وسبيل واحد، يعبدون
ص 388
الله، ويطيعون رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ومن بلغهم من الصادقين عن النبي
شيئا قبلوه، ومن فهمهم من القرآن والسنة ما دل عليه القرآن والسنة استفادوه، ومن
دعاهم إلى الخير الذي يحبه الله والرسول أجابوه. ولم يكن أحد منهم يجعل شيخه ربا،
يستغيث به كالإله الذي يسأله، ويرغب إليه، ويعبده، ويتوكل عليه، ويستغيث به حيا
وميتا، ولا كالنبي الذي تجب طاعته في كل ما أمر... وأكثر المسلمين بالمشرق والمغرب،
لم يأخذوا عن علي شيئا، فإنه رضي الله عنه كان ساكنا بالمدينة. وأهل المدينة لم
يكونوا يحتاجون إليه، كما يحتاجون إلى نظائره، كعثمان في مثل قضية تشاورهم فيها
عمر، ونحو ذلك. ولما ذهب إلى الكوفة، كان أهل الكوفة قبل أن يأتيهم قد أخذوا الدين
عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وأبي
موسى الأشعري، وغير هؤلاء، ممن أرسله إلى الكوفة. وأهل البصرة أخذوا الدين عن عمران
بن حصين، وأبي بكر، وعبد الرحمن بن سمرة، وأنس بن مالك، وغيرهم من الصحابة. وأهل
الشام أخذوا الدين عن معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وبلال بن رباح،
وغيرهم من الصحابة. والعباد، والزهاد، من أهل هذه البلاد، أخذوا الدين عمن شاهدوه
من الصحابة، فكيف يجوز أن يقال: إن طريق الزهد والتصوف متصل به دون غيره، وهذه كتب
الزهد، مثل الزهد للإمام أحمد بن حنبل، والزهد لعبد الله بن المبارك، والزهد لوكيع
بن الجراح، والزهد لهناد بن السري، ومثل كتب أخبار الزهاد، كحلية الأولياء، وصفوة
الصفوة، وغير ذلك، فيها من أخبار الصحابة والتابعين،
ص 389
أمور كثيرة، وليس الذي فيها لعلي أكثر مما فيها لأبي بكر، وعمر، ومعاذ بن جبل، وابن
مسعود، وأبي بن كعب، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وأبي أمامة، وأمثالهم من الصحابة
(1). وهذه العبارة - وإن أبطلها (الدهلوي) في كلامه الذي نص فيه على انتهاء جميع
السلاسل والطرق إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وفيه غنى وكفاية - تشتمل على هفوات
كثيرة، بل لقد وصف ابن تيمية من يقدم الإمام عليه السلام على أبي بكر في علم الباطن
بالملاحدة وقال: والملاحدة المنتسبون إلى التصوف، كابن سبعين، وابن عربي،
والتلمساني، وأمثالهم، وإن كانوا يعظمون الخلفاء الثلاثة، فهم يميلون إلى التشيع،
وعامتهم يفضلون عليا على أبي بكر، إما مطلقا، وإما في علم الباطن، كما فعل ذلك أبو
الحسن الجزلي وطائفة من نمطه، فاشترك جنس الملحدين في التشيع . فكان ابن تيمية
ينسب (الدهلوي) الذي نص على انتهاء السلاسل إلى الإمام عليه السلام - بعد إنكار
الكلمات النبوية ونفيها عنه - تخديعا للعوام، إلى الرفض والإلحاد!! بالإضافة إلى ما
تقدم من مخالفة (الدهلوي) لوالده، مع اعتقاده فيه أشد الاعتقاد!! رد المولوي حسن
زمان على ابن تيمية ووالد الدهلوي ولقد أحسن العلامة المولوي حسن زمان، في الرد على
كلمات ابن تيمية وأجاد، فمن المناسب نقل كلامه - في (القول المستحسن في فخر الحسن)
- بطوله حيث قال: وصل - لما تم الكلام في المرام، من تحقيق الاتصال بالإمكان،
الذي
(هامش)
(1) منهاج السنة 8 / 43 - 50. (*)
ص 390
كاد أن يكون وجوبا، واللقاء والسماع وذكر ما تيسر من عداد من أثبته من الأئمة
الحفاظ، والمحدثين الأيقاظ، رضي الله عنهم، فأراد محمد المشتهر بفخر الدين أن يشير
إلى أناس ينكرونه، فقد وجد بعد التفتيش والفحص شرذمة من المتقدمة، وفرقة من
المتأخرة. فمن الأولى: من يقول: لم يثبت سماعه منه، أي عنده. قال السيوطي في زاد
المسير: الحفاظ مختلفون في سماع الحسن البصري من علي رضي الله تعالى عنهما، فمنهم
من لم يثبته كالبخاري، ويحيى ابن معين. ونقل في إتحاف الفرقة عن ابن حجر في تهذيب
التهذيب: قال يحيى بن معين: لم يسمع الحسن من علي بن أبي طالب، قيل: لم يسمع من
عثمان، قال: يقولون عنه: رأيت عثمان قام خطيبا. وقال غير واحد: لم يسمع من علي رضي
الله عنه انتهى. وسئل أبو زرعة: هل سمع الحسن أحدا من البدريين؟ قال: رآهم رؤية،
رأى عثمان وعليا، فقيل: سمع منهما شيئا؟ قال: لا. وقال البزار: روى عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنهما ولم يسمع منه، وبينهما قيس بن عباد وابن الكوا. ولم يثبت له
سماع من أحد من أهل بدر. قلت: قد صح عند سائر أئمة الشأن، بوجوه ثابتة، سماعه من
عثمان زمان اجتماعهما هما وعلي، في مكان، وكذا اجتمع بالمرتضى بعده إلى مدة، فقد
سمع منه علوما جمة لا محالة، كما مضى في المقدمة، وكفى ردا على ابن معين وموافقيه،
برواية صاحبه أبي يعلى الصحيحة على شرطه، وتشديد هؤلاء العلماء في الأسانيد،
واعتمادهم على استقرائهم، معلوم لا يحتاج إلى بيان. قال الذهبي، في فصل ذكره بعد
تصنيف الميزان - عقب نقل كلام ابن معين في الإمام الشافعي - فقد آذى ابن معين نفسه
بذلك، ولم يلتفت أحد إلى كلامه
ص 391
في الشافعي، ولا إلى كلامه في جماعة من الأثبات. إنتهى. وكذا كلام البخاري في
الأئمة، كشيخنا عبد الواحد، وفقيهنا أبي حنيفة. والبزار - قال أبو أحمد الحاكم -:
يخطئ في الإسناد والمتن، جرحه النسائي. وقال حمزة السهمي عن الدارقطني: كان ثقة
يخطئ كثيرا ويتكل على حفظه. وقال أبو الشيخ عقب الثناء عليه: وغرائب حديثه وما
ينفرد به كثير. ومع هذا كله فكيف يقبل نفيهم مطلقا، سيما وقد عارضه أثبات الأثبات،
بالححج البينات. ومنها - من يقول: لا نعرف ولا نعلم سماع الحسن من علي كرم الله
وجهه. كالترمذي. فلا يلزم من عدم ثبوته عندهم، أو عدم معرفتهم، عدمه في الوجود، فهم
فيه معذورون. ومن الأخرى: من يسلك طريقة المتعصبة، فيقول مجازفة من غير استقراء
وتتبع أقوال الأفاضل: إن الاجتماع والسماع كليهما باطل، باتفاق الأماثل. منهم:
أعجوبة وقته ابن تيمية الحنبلي، غفر الله له، ونحى نحوه صاحب القرة (1). وقد
قال شيخ الإسلام الإمام الحافظ أبو الفضل ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة
في ترجمته - بعد ذكر مناقبه ومثالبه: كالقول بحرمة زيارة قبر النبي صلى الله عليه
وسلم، وقد نحا نحوه صاحب القرة في الحجة (2)، فإنه قال في حديث: لا تشدوا
الرحال، بعد ذكر الحكمة فيه من سد الفساد، والذريعة لعبادة غير الله تعالى: والحق
عندي: إن القبر، ومحل عبادة ولي من أولياء الله تعالى، والطور، كل ذلك سواء في
النهي. ثم لم يذكر في المناسك شيئا مما ثبت
(هامش)
(1) يعني قرة العينين لولي الله الدهلوي (2) يعني الحجة البالغة لولي الله الدهلوي
(*)
ص 392
من أحاديث الزيارة النبوية، على صاحبها الصلاة والتحية، مع التزامه هنالك لذكر نحو
ذلك، فهو مع ابن تيمية بلا ريبة، والعجب أنه مع هذا قال في حديث زيارة القبور: كان
نهى عنها، لأنها تفتح باب العبادة لها، فلما استقرت الأصول الإسلامية، واطمأنت
نفوسهم على تحريم العبادة لغير الله، أذن فيها. إنتهى. وعدم صحة إسلام علي المرتضى،
كرم الله وجهه، لكونه صبيا، بل التدارك عليه، وعلى الذرية الطاهرة، باعتراضات سخيفة
مردودة، وقد نحى نحوه صاحب القرة، بتلويحات قريبة من التصريحات، وإشارات شبيهة
بالعبارات، بأدنى تغيير مما للنواصب، مع ذكر علي المرتضى كرم الله وجهه، في كل موضع
منها بلفظ المرتضى . وكذا وضع في كتابه: إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء
أشياء تسميه إزالة الخلافة والهداية عن خاتم الخلافة وفاتح الولاية، لا نستبيح ذكر
شيء منها. والكتابان بين ظهراني الناس الآن، وكفى ردا لما فيهما من هذا، بكلمات
ولده صاحب التحفة الإثنا عشرية وغيره، نسأل الله السلامة والعصمة. وأما تصحيح
إسلام المرتضى وهو صغير، فقال الجاحظ: مستنبط من كونه أقر على ذلك. قال الشيخ قاسم
بن قطلوبغا الحنفي في تخريج أحاديث الاختيار: أوضح من هذا ما روى ابن سعد في
الطبقات: أنا إسماعيل بن أبي أويس، ثني أبي، عن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن
أبي طالب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليا إلى الإسلام وهو ابن تسع سنين،
ويقال: دون التسع، ولم يعبد وثبا قط لصغره. إنتهى. قال: فلو لم يكن الإسلام مقبولا
منه لما دعاه إليه. إنتهى. قلت: وكذا دعا شرذمة من أطفال الصحابة إلى الإسلام،
وقبله منهم، كما يظهر من كتب الأثر، وقد بايع عبد الله بن الزبير، وجعفر بن الزبير،
وعبد الله بن
ص 393
جعفر، وهم أبناء سبع سنين. رواه أبو نعيم وابن عساكر وغيرهما. وللطبراني بسند جيد
جدا عن الإمام محمد الباقر: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بايع الحسن والحسين
وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر، وهم صغار لم يعقلوا، ولم يبلغوا، ولم يبايع
صغيرا إلا منا. إنتهى. وإنما المرد في ذلك كله في علم الحكم إلى الفهم. وأوضح من
ذلك كله في صحة إسلام المرتضى صبيا ما في أحاديث في مقام تفضيله أنه أولهم إسلاما.
ونسبة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه إلى حب المال. ورد الأحاديث
الموجودة في السنن، وإن كانت ضعيفة، وتبعه صاحب القرة، بل قد ترقى فرد الدواوين
الإسلامية، غير الكتب الخمسة والموطأ ومسند أحمد. وذكر إختلاف العلماء الكرام في
حقه، وقال -: إنا لا نعتقد في حقه عصمة، بل إنا نخالفه في مسائل أصلية وفرعية. وقال
في لسان الميزان في ترجمة ابن المطهر الرافضي: وصنف كتابه في فضائل علي رضي
الله عنه، فنقضه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتاب كبير، وقد أشار الشيخ تقي الدين
السبكي إلى ذلك في أبياته المشهورة حيث قال: وابن المطهر لم يظهر خلافه ولابن تيمية
رد عليه واستيفاء أجوبة (1). لكنه يذكر بقية الأبيات، فيما يعاتب به ابن تيمية من
العقيدة، طالعت الرد المذكور، فوجدته كما قال السبكي في الاستيفاء، لكن وجدته كثير
التحامل إلى الغاية في رد الأحاديث التي يوردها ابن المطهر، وإن كان معظم ذلك من
الموضوعات
(هامش)
(1) أصل البيتين في الدرر الكامنة، المظهرين للأحقاد الكامنة هكذا: وابن المطهر لم
تطهر خلائقه * داع إلى الرفض غال في تعصبه ولابن تيمية رد عليه له * أجاد في الرد
واستيفاء أضربه (*)
ص 394
والواهيات، لكنه رد في رده كثيرا من الأحاديث الجياد، إلى قوله: يهم ويصل من
ممانعته لتوهين كلام الرافضي أحيانا إلى تنقيص علي. والترجمة لا تحتمل إيضاح ذلك،
وإيراد أمثلته. قلت: ومع ذلك، كونه لم يذكره في اللسان كالذهبي في الميزان
مع ذكر الأجلاء فيهما، من عجائب الزمان. وقال الإمام أبو عبد الله الذهبي رحمه الله
في تاريخه - مع كونه من أتباعه في كثير، كما لا يخفى، بعد ذكر نحوها -: فهو بشر
له ذنوب وخطايا. وكذا ذكر الإمام اليافعي، وغير واحد من الأئمة. وقال العلامة ابن
حجر المكي في الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم : من ابن تيمية متى ينظر إليه
أو يعول في شيء من أمور الدين عليه؟! وهل هو إلا - كما قال جماعة من الأئمة الذين
تعقبوا كلماته الفاسدة، وحججه الكاسدة، حتى أظهروا عوار سقطاته، وقبائح أوهامه
وغلطاته، كالعز ابن جماعة - عبد أضله الله وأغواه، وألبسه رداء الخزي وأرداه وبواه،
من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان، وأوجب له الحرمان. ولقد تصدى شيخ الإسلام،
وعالم الأنام، المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته، التقي السبكي، قدس الله
روحه ونور ضريحه، الرد عليه في تصنيف مستقل، أفاد فيه وأجاد، وأصاب وأوضح بباهر
حجبه طريق الصواب، فشكر الله مسعاه، وأدام عليه شآبيب رحمته ورضاه. ومن عجائب
الوجود ما تجاسر عليه بعض الشرفاء من الحنابلة، فغبر في وجوه مخدراته الحسان، التي
لم يطمثهن إنس قبله ولا جان، وأتى ما دل على جهله، وأظهر به عوار غباوته وعدم
فضله... وتدارك ابن تيمية سيما الخلفاء الراشدين، باعتراضات سخيفة شهيرة، وأتى من
نحو هذه الخرافات بما تمجد
ص 395
الأسماع، وتنفر منه الطباع. وهكذا ذكر العلامة المحدث البرنسي في إتحاف أهل
العرفان برؤية الأنبياء والملائكة والجان . وقال العلامة الحافظ الشامي صاحب
السيوطي، في سيرته المسماة ب سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد صلى الله
عليه وسلم: مشروعية السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله الأمجاد: قد ألف
فيها الشيخ تقي الدين السبكي، والشيخ كمال الدين ابن الزملكاني، والشيخ داود أبو
سليمان صاحب كتاب الانتصار، وابن جملة، وغيرهم من الأئمة، وردوا على الشيخ تقي
الدين ابن تيمية، فإنه أتى في ذلك بشيء منكر لا يغسله البحار. وممن رده عليه من
أئمة عصره: العلامة محمد بن يوسف الزرندي المدني المحدث، في بغية المرتاح إلى طلب
الأرباح . ثم في هذا كله رد جيد على ما وقع للقاري (1)، من الإشارة إلى تأويل
مذهبه هذا، وحمله على محامل بعيدة من مقصود، على مراحل، وزعمه أنه من أولياء الله،
فلا حول ولا قوة إلا بالله. قال الشيخ العلامة شهاب الدين أبو عبد الله أحمد
البرنسي المالكي الشاذلي المعروف برزوق في شرح حزب البحر : فإن قلت: قد أنكر ابن
تيمية هذه الأحزاب، وردها ردا شنيعا، فما جوابه؟ قلنا: ابن تيمية رجل مسلم له باب
الحفظ والإتقان، مطعون عليه في عقائد الإيمان، ملموز بنقص العقل فضلا عن العرفان،
وقد سئل عنه الشيخ الإمام تقي الدين السبكي فقال: هو رجل علمه أكبر من عقله. قلت:
ومقتضى ذلك أن يعتبر بنقله لا بتصرفه في العلم، قلت: بل ينبغي أن
(هامش)
(1) يعني الشيخ علي بن سلطان القاري. (*)
ص 396
لا يعتبر من نقله، إلا بما تخلص فيه من التعصب والتعسف، لا مطلقا، يتضح لك ذلك مما
نقله هنالك. وقد بالغ بعض علماء الظاهر، فأطلق أن: من سمى ابن تيمية بشيخ الإسلام
كافر، ولا يخفى ما فيه، ولذا ألف ابن ناصر الدين الشافعي عليه كتابه: الرد الوافر
ولكني لم أقف عليه إلى الآن. وبالجملة، فالفقهاء والعرفاء ليسوا أشد تغليظا على
أحد من أهل العلم منهم عليه، فثناء من أثنى عليه من العلماء فيما نقله ابن ناصر
الدين في التبيان بعضه يرجع إلى علمه، وبعضه وقع من عدم الوقوف على سقمه من فضائحه
وقبائحه. قال ابن تيمية في منهاج السنة: (قال الرافضي: وأما علم الطريقة فإليه
منسوب، فإن الصوفية كلهم يسندون الخرقة إليه. والجواب: أولا: أما أهل المعرفة
وحقائق الإيمان المشهورون في الأمة بلسان الصدق، فكلهم متفقون على تقديم أبي بكر،
وأنه أعظم الأمة في الحقائق الإيمانية والأحوال العرفانية). أما نقل ابن تيمية
اتفاق أهل المعرفة على تقديم أبي بكر على علي رضي الله عنهما في الطريقة وعلم
الحقيقة، فلا أصل له أصلا... قال الجنيد رضي الله تعالى عنه: صاحبنا في هذا الأمر
الذي أشار إلى ما تضمنته القلوب، وأومئ إلى حقائقه وأوله - بعد نبينا صلى الله عليه
وآله وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ذلك امرؤ أعطي علما لدنيا، يعني علم
التصوف. وقال أيضا رضي الله عنه: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لو
تفرغ إلينا من الحروب لنقل إلينا عنه من هذا العلم - يعني علم الحقائق والتصوف - ما
لا تقوم له القلوب. أوردهما الإمام أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي الحافظ شيخ الحاكم
ص 397
والبيهقي وأمثالهما. ونقلهما عنه الشيخ محمد البخاري، ثم المدني المعروف بخواجه
فارسا الحنفي، في فصل الخطاب . وقال الإمام علي بن عثمان بن علي الجلابي
الغزنوي، المحدث، الفقيه الحنفي، الصوفي، في كشف المحجوب قال سيد الطائفة
الجنيد رضي الله عنه: شيخنا في الأصول والبلاء علي المرتضى - يعني إن إمامنا في علم
الطريقة ومعاملاتها هو علي المرتضى كرم الله وجهه. فإن أهل الطريقة يسمونها الأصول
ومعاملاتها كلها بلاء. إنتهى مترجما. وأما مقالة ابن تيمية: (وأين من يقدمونه في
الحقائق التي هي أفضل الأمور عندهم إلى من ينسب إليه لباس الخرقة، وقد ثبت في
الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم
وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فأين حقائق القلوب من لباس الأبدان). فمردودة،
بأنها ليست حقيقة لبسة الخرقة الفخرية هذا الذي يفهمه، بل هي كناية عن الولاية
الباطنية، كما أن السلاطين الظاهرية إذا يولون الولاة يجعلون عليهم ملابس نفائس،
إكراما لهم وإعلاما بتوليتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: من كنت مولاه
فعلي مولاه عممه بعمامته. وسيأتي تمام تحقيقه مني، بالتعليم الفخري العلوي
اللدني، إن شاء الله العزيز القوي. (ويقال ثانيا: الخرق متعددة أشهرها خرقتان، خرقة
إلى عمر، وخرقة إلى علي، فخرقة عمر رضي الله عنه لها إسنادان، إسناد إلى أويس
القرني وإسناد إلى أبي مسلم الخولاني). قلت: خرقة الخولاني كالخبر الشاذ الذي لا
يعرف، وليس لها ذكر عند جماهير أهل هذه المعرفة والمعاملة الصوفية، وإنما رواها
الآحاد. ولا يخفى أن نسبة الخرقة الأويسية إلى الحضرة العلوية، أشهر عند أهلها، وهم
الصوفية، من
ص 398
نسبتها إلى الحضرة العمرية، وصحبته عليا أكثر من اجتماعه بعمر، وروايته عنه أعرف
وأظهر من روايته عنه. (وأما الخرقة المنسوبة إلى علي، فإسنادها إلى الحسن البصري).
من المشهور المذكور، المعلوم للخصوم، إسناد الخرقة الكميلية والشريحية كليهما إلى
الحضرة العلوية خاصة، بلا شبهة في اتصالها، وفوقها كلها الطريقة الحسنية والحسينية،
اللتان يقال لكل منهما السلسلة الذهبية، وهذه السلاسل ينتظم فيها جم غفير من سلاسل
الصوفية، فلا أدري أن الحامل لابن تيمية على عدم ذكرها، كالأويسية المرتضوية، الجهل
بها، أم محضة عصبية ردية؟ وقد تبعه صاحب القرة كما مضى، فتنبه. ومن المقرر
المحرر عند أهل السير والعلم بالخبر: إن الخرق العلوية، والطرق المرتضوية، قد استند
إليها، وتخرج فيها، عالم من أولياء الله لا يحصون كثرة، بل أولياء الدنيا مطلقا، من
الچشتية بشعبها، والمكية بشعبها، والقشيرية بشعبها، والهروية بشعبها، والأحمدية
الغزالية بشعبها، والمحمدية الغزالية بشعبها، والشطارية بشعبها، والرفاعية بشعبها،
والقادرية بشعبها، والمدنية بشعبها، والسهروردية بشعبها، واليسوية بشعبها،
والكبروية بشعبها، والأكبرية بشعبها، والشاذلية بشعبها، والنقشبندية بشعبها في
الغالب، والشريحية بسلاسلها وشعبها، وسلاسل آخر. وإنما ينتسب إلى غيرها آحاد،
كالباب الكبار والخوخة الصغيرة للمدينة والدار، فأنصف ولا تعتسف. (والمتأخرون
يصلونها بمعروف الكرخي). لم يذكر ما يصلها المتقدمون به، وهو إمامنا إبراهيم
البلخي، عن الإمام الفضيل، عن الإمام عبد الواحد، عن الإمام الحسن البصري رضي الله
عنه، فإن هذه الطريقة متصلة بلا شبهة عنده، وبالله العصمة.
ص 399
وقال صاحب القرة بعد إيراد تلك الكلمات في السلسلة المرتضوية: إذا اتضحت هذه
المقدمات، فلزم أن نقرر رفع سلاسل الصوفية من جهات متعددة، فنقول: مثلا صحب إبراهيم
والفضيل سفيان، وحصلا منه تهذيب النفس، وهو من الأعمش، وهو من أصحاب ابن مسعود.
قلت: يا سبحان الله، هل يركب الأسانيد من عنده، من غير أن يكون لذلك عند من يستعمل
هذه الروايات أصل؟! وهل معنى وضع الإسناد غير هذا؟! ولم يتذكر قوله: ينبغي أن يذكر
في المطالب النقلية الوقوع لا الإمكان، والله المستعان. قال: وهذه المقالة أصدق
وأحق من قولهم: إن الفضيل أخذ هذا الفن عن عبد الواحد بن زيد، وهو عن الحسن، وهو عن
أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، لأن انتساب الفضيل إلى سفيان أظهر في كتب الحديث
وطبقات الصوفية من انتسابه إلى عبد الواحد. قلت: ليست كتب الحديث موضع رواية أخذ
الصوفية علم الباطن عن شيوخهم، حتى يذكر ذلك فيها، وينكر ما ينافيها، وكتب طبقات
الصوفية التي ألفها من لا يسند الطريقة إلى الفضيل، فضلا عن أن يكون أعلم بروايته
من غيره، كالقشيري والهروي، ليست بحجة، مع كونهم لم ينفوا ذلك، على أن المثبت مقدم
على النافي، ولم يتعرض لإسناد إبراهيم عن الفضيل، ولا لإسناد عبد الواحد عن الحسن،
لأنه مستعمل عند الكل فتأمل. ثم أطال المقال من هذا النمط، في غاية السقط والغلط،
نعوذ بالحق مما يستحق منه السخط. (فإن الجنيد رضي الله عنه صحب السري، والسري صحب
معروفا الكرخي بلا ريب. وأما الإسناد من جهة معروف فمنقطع، فتارة يقولون إن معروفا
صحب علي بن موسى الرضا).
ص 400
لا يخفى ما فيه من رائحة نسبة الأصفياء الأولياء إلى الكذب بالتردد، وإنما هو ونحوه
في السند من التعدد، ولكن لا طب للتبلد مع التشدد في التمرد والتعند، ونسأل الله
الصمد الود لأوليائه والتودد، والمدد في ذلك للتوكد. (وهذا باطل قطعا. لم يذكره
المصنفون لأخبار معروف بالإسناد الثابت المتصل، كأبي نعيم وأبي الفرج ابن الجوزي في
كتابه الذي صنفه في فضائل معروف). قلت: إن لم يرووه لم ينفوه أيضا، مع أن المثبت
مقدم على النافي، ومن حفظ وذكر حجة على من لم يحفظ ولم يذكر، على أن هذا باطل قطعا،
وأنى أحاط علمه وحفظه جميع الكتب المفردة في أخبار معروف المعروفة، حتى يدعي هذه
الدعوى المصروفة؟! هذا الإمام الحافظ الناقد أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري،
عصري أبي نعيم، بل الأكبر منه، المتوفى قبله بثمان عشرة سنة، وصاحبهما الإمام
المحدث المحقق، من شيوخ الخطيب البغدادي، الحافظ أبو القاسم القشيري، الأكثر اعتناء
ومعرفة بأحوال أمثال معروف، من مثل ابن الجوزي، قد أورده بسنده كل منهما في ترجمة
معروف، من كتابهما غير المفرد في أخباره. قال الإمام القشيري: هو من موالي علي بن
موسى الرضا رضي الله عنهما، سمعت محمد بن الحصين رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد
الله الرازي يقول: سمعت علي بن محمد الدلال يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت
أبي يقول: رأيت معروف الكرخي في النوم بعد وفاته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال:
غفر لي، فقلت: بزهدك وورعك؟ فقال: لا بل بقبولي موعظة ابن السماك ولزومي الفقر،
ومحبتي الفقراء. وموعظة ابن السماك ما قال معروف: كنت مارا بالكوفة، فوقفت على رجل
يقال له: ابن السماك، وهو يعظ
ص 401
الناس، فقال في خلال كلامه: من أعرض عن الله بكليته، أعرض الله عنه جملة، ومن أقبل
على الله بقلبه أقبل الله إليه برحمته، وأقبل بجميع وجوه الخلق إليه، ومن كان مرة
ومرة فالله يرحمه وقتا ما. فوقع كلامه على قلبي، وأقبلت على الله، وجميع ما كنت
عليه تركت، إلا خدمة مولاي علي بن موسى الرضا. وذكرت هذا الكلام لمولاي، فقال:
يكفيك بهذا موعظة إن اتعظت به. أخبرني بهذه الحكاية محمد بن الحسين، قال: سمعت عبد
الرحيم بن علي الحافظ ببغداد، قال: سمعت محمد بن عمر بن الفضل يقول: سمعت علي بن
عيسى يقول: سمعت سري السقطي يقول: سمعت معروفا يقول ذلك. (ومعروف كان منقطعا في
الكرخ). يعني: ما كان يدخل على الخلق، ولا كان يخرج من الكرخ قط. وهذا دعوى بلا
دليل، فهو غير مقبول، مع أنه باطل في نفسه، لما مضى آنفا. (وعلي بن موسى كان
المأمون قد جعله ولي العهد بعده). لا تعلق له بالمقصود، فإن الإمام عليا الرضا كما
ذكر أهل السير والعلم بالخبر، جعل ولي العهد بمرو من بلاد خراسان، قبل شهادته نحو
سنة تخمينا، فلا يصلح هذا حجة لعدم لقيه معروف مدة عمره، وإن الذي عند الصوفية إنما
هو صحبة معروف للرضا قبل آخر عمره، ومعروف قد توفي إلى رحمة الله تعالى قبل قصة
الولاية، سنة مائتين على الصحيح، وقيل: إحدى ومائتين. (وجعل شعاره لباس الخضرة، ثم
رجع عن ذلك، وأعاد شعار السواد). إيراد ذلك لا يمس إليه المراد هنالك. (ومعروف لم
يكن ممن يجتمع بعلي بن موسى). تكرار بلا فائدة، وإعادة بلا عائدة. (ولا نقل عنه ثقة
أنه اجتمع به، أو أخذ شيئا عنه، بل ولا يعرف أنه رآه،
ص 402
ولا كان معروف بوابه، ولا أسلم على يديه. فهذا كله كذب). قد مضى بعض تكذيب بعضه،
ويأتي تكذيب بعضه، إن شاء الله العلي القوي. (وأما الإسناد الآخر، فيقولون: إن
معروفا صحب داود الطائي، وهذا أيضا لا أصل له، وليس في أخباره المعروفة ما يذكر فيه
أخذه عن داود الطائي شيئا). هذا باطل بما مضى في رواية الحديث المسلسل بالتلقيم،
بسند جيد قويم، وقد قال الإمام القشيري في الرسالة في باب الصحبة: وكان الأستاد
أبو علي يقول: أخذت هذا الطريق عن النصر آبادي، والنصر آبادي عن الشبلي، والشبلي عن
الجنيد، والجنيد عن السري، والسري عن معروف الكرخي، ومعروف عن داود الطائي. قلت:
الظاهر أن كل واحد منهم قد تلقى من صاحبه أنه تلقاه من صاحبه، فإن كل واحد قد لازم
صاحبه دهرا، وكلهم مع كونهم أهل الولاية والهداية، هم أهل الرواية والدراية
المحققين، لا كالمتصوفين الضعفاء، ولذا اعتمده صاحب مجمع الأحباب، وشرطه معلوم، وفي
طبقات شيخ الإسلام والحفاظ الهروي: وكان معروف قد صحب داود الطائي. فإن قيل: قد ولد
الإمام الرضا لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، سنة ثلاث وخمسين ومائة على الأصح،
وقيل: في شوال. وقيل: سنة ست. وقد قال محمد بن عبد الله بن نمير: مات داود سنة خمس
وستين ومائة، ورجحه الهروي، وقيل: سنة ستين ورجحه ابن حجر، وقيل: إحدى وستين، وقيل:
اثنتين وستين، وقال أبو داود الطيالسي: مات إسرائيل وداود في أيام وأنا بالكوفة.
وقال أبو نعيم وقعنب بن المحرر: مات إسرائيل سنة ستين ومائة، وقال
ص 403
دبيس وغيره: سنة إحدى وستين وقيل: اثنتين وستين، وهو أكثر ما قيل. فعلى هذا: الراجح
في متوفى داود سنة ستين أو إحدى وستين أو اثنتين وستين، فيكون سن الإمام الرضا إذ
ذاك ثمان سنين أو تسعا أو عشرا، فكيف يتصور أن يكون معروف قد أسلم على يديه، ثم أتى
داود، واستند إليه. قلت: ماذا الذي فيه يستبعد؟ فقد علم من رواية ابن الجوزي وغيره:
أنه كان معروف قد ناداه الله تعالى بالاجتباء في الصباء، حتى كان يرد قول المؤدب
له: أب وابن ثالث ثلاثة، فيقول: بل هو الله الواحد القهار أحد أحد، حتى هرب إذ ضرب
المؤدب، وغاب سنين، فكيف لا يتصور أن يكون باجتباء الله إياه قد علم فراسة من نور
الله: أن الإمام الرضا قد آتاه الله تعالى صبيا الحكمة والمعرفة، فإنه شعبة من شجرة
الاجتباء والاصطفاء والارتضاء، وعلم أنه على يديه يستخرج ويستكمل أمره، وألهم ذلك
من الله تعالى، كما ألهم التوحيد قبل ذلك. فأتى الإمام الرضا، وأحكم الإسلام على
يديه، ثم لما رجع لقى بالكوفة الإمام داود، واستفاد منه أشياء، فلما توفي الإمام
داود إلى رحمة الله تعالى، ومعروف لم يكمل أمره، وسمع نصيحة بعض أصحاب داود، وموعظة
ابن السماك، فعاد إلى المولى الرضا، ولازم خدمته، واستفاد منه، إلى أن فاز بالمراد
والإرشاد والرشاد من الله الهاد. (وإنما نقل عنه الأخذ عن بكر بن خنيس العابد
الكوفي). وفي القشيرية قال معروف الكرخي: قال لي بعض أصحاب داود الطائي: إياك أن
تترك العمل. ولا يخفى أنه لا يقتضي أن لا يكون معروف قد روى عن داود مشافهة. (وفي
إسناد الخرقة أيضا أن داود الطائي صحب حبيبا العجمي، وهذا لم يعرف له حقيقة).