ص 154
وأما نكارة الحديث، ففي أي فقرة منه؟! أفي حديث الشجرة؟! أو في قوله صلى الله عليه
وآله وسلم: لو أن عبدا... ؟! أو في تلاوة آية المودة في هذا الموضع؟! أما حديث
الشجرة، فقد رواه من أئمة الحديث كثيرون (1)، وإليه أشار أمير المؤمنين (2) ولم يقل
أحد بنكارته. وأما تلاوة الآية هنا، فقد عرفت أنها نازلة في علي وفاطمة وابنيهما.
بقي قوله: ولو أن عبدا... وأظنه يريد هذا، وهو كلام جليل، ومعناه دقيق، وخلاصة
بيانه أن الحب هو وسيلة الاتباع والقرب، والعمل بلا درك حب النبي وآله صلى الله
عليه وآله وسلم غير مقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وكل عمل عبادي لا تقرب فيه إليه
فهو باطل، وصاحبه من أهل النار وبئس القرار. هذا إذا أخذنا الكلام على ظاهره. وأما
إذا كان كناية عن البغض، فالأمر أوضح، لأن بغض النبي وأهل بيته مبعد عن الله عز
وجل، ولا ينفع معه عمل... اللهم اجعلنا من المحبين للنبي وآله، ومن المتقربين بهم
إليك.
(هامش)
(1) راجع الجزء الخامس من كتابنا. (2) نهج البلاغة: 162. (*)
ص 155
الفصل الثالث: في دفع شبهات المخالفين

وإذا ثبتت صحة الأحاديث الدالة على نزول الآية
المباركة في أهل البيت حتى التي تكلم في أسانيدها، بعد بيان سقوط ما تذرعوا به،
تندفع جميع الشبهات التي يطرحونها في المقام. ولكنا مع ذلك نذكر ما قالوه في هذا
الباب، ونجيب عنه بالأدلة والشواهد القويمة المتينة، *(ليهلك من هلك عن بينة ويحيى
من حي عن بينة)*. ولعل أشد القوم مخالفة في المقام هو ابن تيمية في منهاج السنة
فلنقدم كلماته: * يقول ابن تيمية: ثبت في الصحيح عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس
سئل عن قوله تعالى: *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)* قال: فقلت:
إلا أن تودوا قربى محمد، فقال ابن عباس: عجلت! إنه لمن يكن بطن من قريش إلا لرسول
الله فيهم قرابة فقال: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في القرابة التي بيني
وبينكم. فابن عباس كان من كبار أهل البيت وأعلمهم بتفسير القرآن، وهذا تفسيره
الثابت عنه. ويدل على ذلك أنه لم يقل: إلا المودة لذوي القربى، وإنما قال: إلا
ص 156
المودة في القربى. ألا ترى أنه لما أراد ذوي قرباه قال: *(واعلموا أنما غنمتم من
شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى)*. ولا يقال: المودة في ذوي القربى، وإنما
يقال: المودة لذوي القربى، فكيف وقد قال *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في
القربى)*؟! ويبين ذلك: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسأل أجرا أصلا، إنما أجره
على الله، وعلى المسلمين موالاة أهل البيت لكن بأدلة أخرى غير هذه الآية، وليست
موالاتنا لأهل البيت من أجر النبي في شيء. وأيضا، فإن هذه الآية مكية، ولم يكن علي
قد تزوج بفاطمة، ولا ولد له أولاد (1). * وقال ابن تيمية: وأما قوله: وأنزل
الله فيهم *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)* فهذا كذب ظاهر، فإن هذه
الآية في سورة الشورى، وسورة الشورى مكية بلا ريب، نزلت قبل أن يتزوج علي بفاطمة...
وقد تقدم الكلام على الآية وأن المراد بها ما بينه ابن عباس... رواه البخاري وغيره.
وقد ذكر طائفة من المصنفين من أهل السنة والجماعة والشيعة، من أصحاب أحمد وغيرهم،
حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية لما نزلت قالوا: يا رسول الله، من
هؤلاء؟ قال: علي وفاطمة وابناهما. وهذا كذب باتفاق أهل المعرفة (2)!
(هامش)
(1) منهاج السنة 4 / 25 - 27. (2) منهاج السنة 4 / 562 - 563. (*)
ص 157
* وكرر ابن تيمية: تكذيب الحديث المذكور... وأن الآية في سورة الشورى وهي مكية، وأن
عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة... وأن التفسير الذي في الصحيحين يناقض ذلك الحديث،
قال: سئل ابن عباس... وأنه قال: *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)*
ولم يقل: إلا المودة للقربى، ولا المودة لذوي القربى كما قال: *(واعلموا...)*. وأن
النبي لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجرا ألبتة، بل أجره على الله... وأن القربى
معرفة باللام، فلا بد أن تكون معروفة عند المخاطبين، وقد ذكرنا أنها لما نزلت لم
يكن قد خلق الحسن ولا الحسين، ولا تزوج علي بفاطمة، فالقربى التي كان المخاطبون
يعرفونها يمتنع أن تكون هذه، بخلاف القربى التي بينه وبينهم، فإنها معروفة عندهم
(1). * وابن حجر العسقلاني: يذكر في (تخريج الكشاف) إلا المعارضة قال: وقد
عارضه ما هو أولى منه، ففي البخاري... (2) وكذا في (فتح الباري) وأضاف: ويؤيد
ذلك أن السورة مكية (3). * وقال ابن كثير: وذكر نزول الآية في المدينة بعيد،
فإنها مكية، ولم يكن إذ ذاك لفاطمة
(هامش)
(1) منهاج السنة 7 / 95 - 103. (2) الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف - مع الكشاف
- 4 / 220. (3) فتح الباري في شرح البخاري 8 / 458. (*)
ص 158
رضي الله عنها أولاد بالكلية، فإنها لم تتزوج بعلي - رضي الله عنه - إلا بعد بدر من
السنة الثانية من الهجرة، والحق تفسير هذه الآية بما فسرها حبر الأمة... (1). *
وقال القسطلاني: والآية مكية، ولم يكن إذ ذاك لفاطمة أولاد بالكلية، فإنها لم
تتزوج بعلي إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة. وتفسير الآية بما فسر به حبر
الأمة وترجمان القرآن ابن عباس أحق وأولى (2). * والشوكاني: اقتصر على المعارضة
وترجيح الحديث عن طاووس عن ابن عباس (3). * وابن روزبهان: ما قال إلا: ظاهر الآية
على هذا المعنى شامل لجميع قرابات النبي صلى الله عليه وسلم (4). * وقال عبد
العزيز الدهلوي ما حاصله: إنه وإن أخرج أحمد والطبراني ذلك عن ابن عباس، لكن
جمهور المحدثين يضعفونه، لكون سورة الشورى بتمامها مكية، وما خلق الحسن والحسين
حينذاك، ولم يتزوج علي بعد بفاطمة... والحديث في طريقه بعض الشيعة الغلاة، وقد وصفه
المحدثون بالصدق، والظن الغالب أنه لم يكذب وإنما نقل الحديث بالمعنى، إذ كان لفظه
أهل بيتي فخصهم الشيعي بالأربعة... والمعنى المذكور لا يناسب مقام النبوة،
وإنما ذلك من شأن أهل الدنيا،
(هامش)
(1) تفسير القرآن العظيم 4 / 101. (2) إرشاد الساري في شرح البخاري 7 / 331. (3)
فتح القدير 4 / 537. (4) إبطال الباطل - المطبوع مع إحقاق الحق - 3 / 20. (*)
ص 159
وأيضا ينافيه الآيات الكثيرة كقوله تعالى: *(ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا
على الله)* فلو كان خاتم الأنبياء طالبا للأجر لزم أن تكون منزلته أدنى من سائر
الأنبياء، وهو خلاف الإجماع (1). فهذه شبهات أعلام القوم في هذا المقام، فلنذكر
الشبهات بالترتيب ونتكلم عليها: 1 - سورة الشورى مكية والحسنان غير موجودين ولعل
هذه أهم الشبهات في المسألة، وهي الأساس... ونحن تارة نبحث عن الآية المباركة
بالنظر إلى الروايات، وأخرى بقطع النظر عنها، فيقع البحث على كلا التقديرين. أما
على الأول: فإن الآية المباركة بالنظر إلى الروايات المختلفة الواردة - سواء
المفسرة بأهل البيت، أو القائلة بأنها نزلت بمناسبة قول الأنصار كذا وكذا - مدنية،
ولذا قال جماعة بأن سورة الشورى مكية إلا آيات: قال القرطبي: سورة الشورى مكية في
قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. قال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها أنزلت
بالمدينة: *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)* إلى آخرها (2). وقال
أبو حيان: قال ابن عباس: مكية إلا أربع آيات، من قوله تعالى: *(قل لا أسألكم عليه
أجرا إلا المودة في القربى)* إلى آخر الأربع آيات، فإنها نزلت بالمدينة (3).
(هامش)
(1) التحفة الإثنا عشرية: 205. (2) تفسير القرطبي 16 / 1. (3) البحر المحيط 7 /
507. (*)
ص 160
وقال الشوكاني: وروي عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا أربع آيات منها، أنزلت
بالمدينة: *(قل لا أسألكم...)* (1). وقال الآلوسي: وفي البحر: هي مكية إلا أربع
آيات من قوله تعالى: *(قل لا أسألكم عليه أجرا)* إلى آخر أربع آيات. وقال مقاتل:
فيها مدني، قوله تعالى: *(ذلك الذي يبشر الله عباده...)* واستثنى بعضهم قوله تعالى:
*(أم يقولون افترى)*... وجوز أن يكون الإطلاق باعتبار الأغلب (2). وبهذا القدر
كفاية. ووجود آيات مدنية في سورة مكية أو بالعكس كثير، ولا كلام لأحد في ذلك. وأما
على الثاني: فالآية دالة على وجوب مودة القربى أي: أقرباء النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، والخطاب للمسلمين لا لغيرهم. أما أنها دالة على وجوب مودة قربى
النبي، فلتبادر هذا المعنى منه، وقد أذعن بها التبادر غير واحد من الأئمة، نذكر
منهم: الكرماني، صاحب (الكواكب الدراري في شرح البخاري) (3). والعيني، صاحب (عمدة
القاري في شرح البخاري). قال العيني بشرح حديث طاووس: وحاصل كلام ابن عباس: إن
جميع قريش أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المراد من الآية بنو هاشم ونحوهم
كما يتبادر الذهن إلى قول سعيد بن جبير (4).
(هامش)
(1) فتح القدير 4 / 524. (2) روح المعاني 25 / 10. (3) الكواكب الدراري في شرح صحيح
البخاري 18 / 80. (4) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 19 / 159. (*)
ص 161
وأما أن الخطاب للمسلمين، فلوجوه، منها: السياق، فإن الله سبحانه وتعالى يقول:
*(ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في
روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير * ذلك الذي يبشر الله
عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى
ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور * أم يقولون افترى على الله
كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات
الصدور * وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون *
ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد)*.
فقد جاءت الآية المباركة بعد قوله تعالى: *(ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا
وعملوا الصالحات)*. فإن قلت: فبعدها: *(أم يقولون افترى على الله كذبا...)*؟! قلت:
ليس المراد من ذلك المشركين، بل المراد هم المسلمون ظاهرا المنافقون باطنا، يدل على
ذلك قوله بعده: *(هو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون)*
فالخطاب ليس للمشركين، ولم تستعمل التوبة في القرآن إلا في العصاة من المسلمين.
فإن قلت: فقد كان في المسلمين في مكة منافقون؟!
ص 162
قلت: نعم، فراجع (سورة المنافقون) و(سورة المدثر) وما قاله المفسرون (1). وعلى هذا،
فقد كان الواجب على المسلمين عامة مودة أقرباء النبي صلى الله عليه وآله
وسلم... فهل - يا ترى - أمروا حينذاك بمودة أعمامه وبني عمومته؟! أما المشركون
منهم... فلا، قطعا... وأما المؤمنون منهم وقت نزول الآية أو بعده... فأولئك لم يكن
لهم أي دور يذكر في مكة... بل المراد علي عليه السلام، فإنه الذي كان المشركون
يبغضونه ويعادونه، والمنافقون يحسدونه ويعاندونه، والمؤمنون يحبونه ويوادونه. ولا
يخفى ما تدل عليه كلمتا المودة و يقترف . ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم لما
سئل - في المدينة - عن المراد من القربى في الآية المباركة قال: علي وفاطمة
والحسن والحسين . 2 - الرسول لا يسأل أجرا إن الرسول من قبل الله سبحانه وتعالى لا
يسأل الناس أجرا على تبليغ الرسالة إليهم أصلا، وإنما أجره على الله، وهكذا كان
الأنبياء السابقون: قال نوح لقومه: *(إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون *
وما
(هامش)
(1) يراجع بهذا الصدد: تفاسير الفريقين، خاصة في سورة المدثر، المكية عند الجميع،
ويلاحظ اضطراب كلمات أبناء العامة وتناقضها، في محاولات يائسة لصرف الآيات الدالة
على ذلك عن ظواهرها، فرارا من الإجابة عن السؤال ب من هم إذا؟ !! أما الشيعة...
فقد عرفوا المنافقين منذ اليوم الأول... وللتفصيل مكان آخر، ولو وجدنا متسعا لوضعنا
في هذه المسألة القرآنية التاريخية المهمة جدا رسالة مفردة، وبالله التوفيق. (*)
ص 163
أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين)*(1). وقال هود: *(يا قوم لا
أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون)*(2). وقال صالح: *(إني
لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب
العالمين)*(3). ومن هنا أصر بعضهم على أن الاستثناء منقطع، وجوز بعضهم - كالزمخشري
وجماعة - أن يكون متصلا وأن يكون منقطعا. أقول: ونبينا أيضا كذلك كما جاء في آيات
عديدة، منها: *(... قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين * إن هو إلا ذكر
للعالمين)*(4). *(قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء
شهيد)*(5). *(قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا)*(6). وقد
أجاب المفسرون من الفريقين عن هذه الشبهة بأكثر من وجه، وفي
(هامش)
(1) سورة الشعراء 26: 107 - 109. (2) سورة هود 11: 51. (3) سورة الشعراء 26: 143 -
145. (4) سورة الأنعام 6: 90. (5) سورة سبأ 34: 47. (6) سورة الفرقان 25: 57. (*)
ص 164
تفسيري الخازن والخطيب الشربيني منها وجهان... ولكن يظهر - بالدقة - أن الآيات في
الباب بالنسبة إلى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على أربعة أنحاء: 1 - ما اشتمل
على عدم سؤال الأجر. 2 - ما اشتمل على سؤال الأجر، لكنهم لكم . 3 - ما اشتمل على
عدم سؤال الأجر، وطلب اتخاذ السبيل إلى الله عن اختيار. 4 - ما اشتمل على سؤال
الأجر، وهو المودة في القربى . وأي تناف بين هذه الآيات؟! يا منصفون! إنه صلى
الله عليه وآله وسلم لا يسأل الناس أجرا، إنما يريد منهم أن يتخذوا سبيلا إلى الله،
وهو ما لا يتحقق إلا بمودة أهل البيت، وهو لهم... ولذا ورد عنهم عليهم السلام:
نحن السبيل (1)... نعم هم السبل، وخاصة إذا صارت الدنيا هرجا ومرجا، وتظاهرت
الفتن، وتقطعت السبل... (2). فإذن... هم.. السبيل... وهذا معنى هذه الآية في محكم
التنزيل، ولا يخفى لوازم هذا الدليل، فافهم واغتنم، و*(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة
والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن...)* وحسبنا الله ونعم الوكيل. 3 - لماذا لم
يقل: إلا المودة للقربى؟ وطرح هذه الشبهة من مثل الدهلوي غير بعيد، لكنه من مثل ابن
تيمية الذي يدعي العربية عجيب!! وليته راجع كلام أهل الفن:
(هامش)
(1) فرائد السمطين، عنه في ينابيع المودة: 22. (2) مجمع الزوائد 9 / 165. (*)
ص 165
قال الزمخشري: يجوز أن يكون استثناء متصلا، أي: لا أسألكم أجرا إلا هذا، وهو أن
تودوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة، لأن قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم
لازمة لهم في المروءة. ويجوز أن يكون منقطعا، أي: لا أسألكم أجرا قط، ولكنني أسألكم
أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. فإن قلت: هلا قيل: إلا مودة القربى،
أو: إلا المودة للقربى؟ وما معنى قوله: *(إلا المودة في القربى)*؟ قلت: جعلوا مكانا
للمودة ومقرا لها، كقولك: لي في آل فلان مودة، ولي فيهم هوى وحب شديد. تريد: أحبهم
وهم مكان حبي ومحله، وليست في بصلة للمودة كاللام إذا قلت: إلا المودة للقربى،
إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس. وتقديره: إلا المودة
ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. والقربى مصدر كالزلفى والبشرى، بمعنى قرابة،
والمراد: في أهل القربى. وروي أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء
الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما. ويدل عليه ما روي عن علي رضي
الله عنه: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي، فقال: أما ترضى أن
تكون رابع أربعة: أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا
وشمائلنا، وذريتنا خلف أزواجنا! (1). وأجاب الفخر الرازي بأن قال: جعلوا مكانا
للمودة ومقرا لها، كقولك: لي في آل فلان مودة، ولي فيهم هوى وحب شديد. تريد أحبهم
وهم مكان
(هامش)
(1) الكشاف في تفسير القرآن 4 / 219 - 220. (*)
ص 166
حبي ومحله (1). وكذا أبو حيان واستحسنه (2). وقال النيسابوري: ثم أمر الله
رسوله بأن يقول: *(قل لا أسألكم)* على هذا التبليغ *(أجرا إلا المودة)* الكائنة
*(في القربى)* جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها، ولهذا لم يقل: مودة القربى، أو:
المودة للقربى، وهي مصدر بمعنى القرابة، أي: في أهل القربى، وفي حقهم (3). وقال
أبو السعود بعد أن جعل الاستثناء متصلا: وقيل: الاستثناء منقطع والمعنى: لا
أسألكم أجرا قط ولكن أسألكم المودة. و*(في القربى)* حال منها. أي: المودة ثابتة في
القربى متمكنة في أهلها أو في حق القرابة. والقربى مصدر كالزلفى، بمعنى القرابة.
روي: أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله، من قرابتك... (4). وراجع أيضا تفاسير:
البيضاوي والنسفي والشربيني، وغيرهم. 4 - المعارضة وهذه هي الشبهة الأخيرة، وهي
تتوقف على اعتبار ما أخرج أحمد وغيره عن طاووس عن ابن عباس، والجواب عنها بالتفصيل
في الفصل الرابع..
(هامش)
(1) التفسير الكبير 27 / 167. (2) البحر المحيط 7 / 516. (3) تفسير النيسابوري -
هامش الطبري - 25 / 33. (4) تفسير أبي السعود 8 / 30. (*)
ص 167
الفصل الرابع: الأخبار والأقوال

قد ظهر إلى الآن أن نزول الآية المباركة في أهل
البيت هو المتبادر من لفظها، وأن القول بذلك مستند إلى أدلة معتبرة في كتب السنة،
وأنه محكي عن أئمة أهل البيت: أمير المؤمنين عليه السلام، وهو أعلم الأصحاب بكتاب
الله بالإجماع، والحسن السبط عليه السلام، والحسين الشهيد عليه السلام، والإمام
السجاد علي بن الحسين عليه السلام، والإمام الباقر عليه السلام، والإمام الصادق
عليه السلام. ورواه عدة من كبار الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال به ابن عباس، في ما رواه عنه سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي وغيرهم، بل أرسله
عنه أبو حيان إرسال المسلم، وسنذكر عبارته. وهو قول: سعيد بن جبير، وعمرو بن شعيب، والسدي، وجماعة. أدلة وشواهد أخرى للقول بنزول الآية في أهل البيت وقد ذكر هذا
القول غير واحد من المفسرين وغيرهم فلم يردوه. بل لم يرجحوا عليه غيره، بل ذكروا له
أدلة وشواهد ومؤيدات، من الأخبار والروايات. * كالزمخشري، فإنه ذكر هذا القول، وروى
فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قيل: يا رسول الله، من قرابتك...
قال: ويدل عليه ما
ص 168
روي عن علي... الحديث، وقد تقدم، ثم قال بعده: وعن النبي صلى الله عليه وسلم:
حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد
عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة. وروي: إن
الأنصار قالوا: فعلنا وفعلنا... الحديث، وقد تقدم. قال: وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات
مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات
مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر
ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها،
ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل
محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة
والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة (1). * والرازي حيث
قال: روى الكلبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إن النبي صلى الله عليه
وسلم لما قدم المدينة، كانت تعروه نوائب وحقوق، وليس في يده سعة، فقال الأنصار: إن
هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم، فاجمعوا له طائفة
من أموالكم، ففعلوا، ثم أتوه به فرده عليهم، فنزل قوله تعالى: *(قل لا أسألكم عليه
أجرا)* أي على الإيمان إلا أن تودوا أقاربي، فحثهم على مودة أقاربه . ثم إنه أورد
الرواية عن الزمخشري قائلا، نقل صاحب الكشاف عن
(هامش)
(1) الكشاف في تفسير القرآن 4 / 220 - 221. (*)
ص 169
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من مات على حب آل محمد... إلى آخره. ثم قال:
وأنا أقول: آل محمد هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل
كانوا هم الآل، ولا شك أن فاطمة وعليا والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول
الله صلى الله عليه وسلم أشد التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن
يكونوا هم الآل. وأيضا: اختلف الناس في الآل، فقيل: هم الأقارب، وقيل: هم أمته. فإن
حملناه على القرابة فهم الآل، وإن حملناه على الأمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا
الآل، فثبت أن على جميع التقديرات هم الآل، وأما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟
فمختلف فيه. وروى صاحب الكشاف: إنه لما نزلت هذه الآية قيل: يا رسول الله، من
قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال: علي وفاطمة وابناهما. فثبت أن هؤلاء
الأربعة أقارب النبي. وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم، ويدل عليه
وجوه: الأول: قوله تعالى: *(إلا المودة في القربى)* ووجه الاستدلال به ما سبق.
الثاني: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب فاطمة عليها السلام، قال صلى
الله عليه وسلم: فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما يؤذيها. وثبت بالنقل المتواتر عن رسول
الله أنه كان يحب عليا والحسن والحسين. وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله لقوله:
*(واتبعوه لعلكم تهتدون)* ولقوله سبحانه: *(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)*.
ص 170
الثالث: إن الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة،
وهو قوله: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد. وهذا التعظيم لم
يوجد في حق غير الآل، فكل ذلك يدل على أن حب آل محمد واجب. وقال الشافعي رضي الله
عنه: يا راكبا قف بالمحصب من منى * واهتف بساكن خيفها والناهض سحرا إذا فاض الحجيج
إلى منى * فيضا كما نظم الفرات الفائض إن كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان أني
رافضي (1)* وذكر النيسابوري محصل كلام الرازي قائلا: ولا ريب أن هذا فخر عظيم،
وشرف تام، ويؤيده ما روي... (2). * وقال القرطبي: وقيل: *(القربى)* قرابة
الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: لا أسألكم أجرا إلا أن تودوا قرابتي وأهل بيتي، كما
أمر بإعظامهم ذوي القربى. وهذا قول علي بن حسين وعمرو بن شعيب والسدي. وفي رواية
سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما أنزل الله عز وجل *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا
المودة في القربى)* قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين نودهم؟ قال: علي وفاطمة
وأبناؤهما. ويدل عليه أيضا ما روي عن علي رضي الله عنه قال: شكوت إلى النبي حسد
الناس... وعن النبي: حرمت الجنة... وكفى قبحا بقول من يقول: إن التقرب إلى الله
بطاعته ومودة نبيه صلى الله عليه وسلم وأهل بيته منسوخ، وقد قال النبي: من مات على
حب آل محمد مات شهيدا، ومن مات على حب آل محمد جعل الله زوار قبره الملائكة
(هامش)
(1) التفسير الكبير 27 / 166. (2) تفسير النيسابوري - هامش الطبري - 25 / 33. (*)
ص 171
والرحمة (1) ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس اليوم
من رحمة الله، ومن مات على بغض آل محمد لم يرح رائحة الجنة، ومن مات على بغض آل
بيتي فلا نصيب له في شفاعتي. قلت: وذكر هذا الخبر الزمخشري في تفسيره بأطول من هذا،
فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكره... (2). * وقال الخطيب
الشربيني: فقيل: هم فاطمة وعلي وابناهما. وفيهم نزل: *(إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)* (3). * وقال الآلوسي: وقيل: علي وفاطمة
وولدها رضي الله تعالى عنهم، وروي ذلك مرفوعا: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم
والطبراني وابن مردويه، من طريق ابن جبير عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية
*(قل لا أسألكم)* إلى آخره. قالوا: يا رسول الله... وقد تقدم. إلا أنه روي عن جماعة
من أهل البيت ما يؤيد ذلك... . فروى خبر ابن جرير عن أبي الديلم لما جئ بعلي بن
الحسين... وخبر زاذان عن علي عليه السلام... وأورد قول الكميت الشاعر والهيتي أحد
أقاربه... وقد تقدم ذلك كله. ثم روى حديث الثقلين، ثم قال: وأخرج الترمذي وحسنه
والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس، قال: قال عليه الصلاة والسلام:
أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمة، وأحبوني لحب الله تعالى، وأحبوا أهل بيتي
لحبي.
(هامش)
(1) كذا. (2) تفسير القرطبي 16 / 23. (3) السراج المنير 3 / 537 - 538. (*)
ص 172
وأخرج ابن حبان والحاكم، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
والذي نفسي بيده، لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار. إلى غير ذلك
مما لا يحصى كثرة من الأخبار، وفي بعضها يدل على عموم القربى وشمولها لبني عبد
المطلب: أخرج أحمد والترمذي - وصححه - والنسائي، عن المطلب بن ربيعة، قال: دخل
العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث، فإذا
رأونا سكتوا، فغضب رسول الله ودر عرق بين عينيه، ثم قال: والله لا يدخل قلب امرئ
مسلم إيمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي. وهذا ظاهر إن خص *(القربى)* بالمؤمنين
منهم، وإلا فقيل: إن الحكم منسوخ. وفيه نظر. والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة
والسلام من حيث إنهم قرابته كيف كانوا، وما أحسن ما قيل: داريت أهلك في هواك وهم
عدى * ولأجل عين ألف عين تكرم وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد،
فمودة العلويين ألزم من محبة العباسيين على القول بعموم *(القربى)*، وهي على القول
بالخصوص قد تتفاوت أيضا باعتبار تفاوت الجهات والاعتبارات، وآثار تلك المودة
التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتم قيام، وقد تهاون كثير من الناس بذلك
حتى عدوا من الفرض السلوك في هاتيك المسالك، وأنا أقول قول الشافعي الشافي العي: يا
راكبا قف بالمحصب من منى... الأبيات (1).
(هامش)
(1) روح المعاني 25 / 31 - 32. (*)
ص 173
أقول: هذا هو القول الأول، وهو الحق، أعني نزول الآية المباركة في خصوص: علي وفاطمة
والحسنين، وعلى فرض التنزل وشمولها لجميع قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما
ورد في خصوص أهل البيت يخصصها. فهذا هو القول الأول. الرد على الأقوال الأخرى وفي
مقابله أقوال: أحدها: إن المراد من *(القربى)* القرابة التي بينه صلى الله عليه
وآله وسلم وبين قريش فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة . والثاني:
إن المراد من *(القربى)* هو القرب والتقرب إلى الله، أي: إلا أن تودوا إلى الله في
ما يقربكم إليه من التودد إليه بالعمل الصالح. والثالث: إن المراد من *(القربى)* هو
الأقرباء ولكن لا أقرباء النبي مطلقا، بل المعنى: إلا أن تودوا قرابتكم وتصلوا
أرحامكم. والرابع: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: *(قل ما سألتكم عليه من أجر فهو
لكم)*(1). أقول: أما القول الأخير فقد رده الكل، حتى نص بعضهم على قبحه، وقد بينا
أن لا منافاة بين الآيتين أصلا، بل إحداهما مؤكدة لمعنى الأخرى.
(هامش)
(1) سورة سبأ 34: 47. (*)
ص 174
وأما الذي قبله، فلا ينبغي أن يذكر في الأقاويل، لأنه قول بلا دليل، ولذا لم يعبأ
به أهل التفسير والتأويل. وأما القول بأن المراد هو التقرب فقد حكي عن الحسن
البصري (1) وظاهر العيني اختياره له (2). واستدل له في (فتح الباري) بما أخرجه أحمد
من طريق مجاهد عن ابن عباس أيضا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قل لا أسألكم
عليه أجرا على ما جئتكم به من البينات والهدى إلا أن تقربوا إلى الله بطاعته . لكن
قال ابن حجر: وفي إسناده ضعف (3). وهو مردود أيضا بأنه خلاف المتبادر من الآية،
وأن النصوص على خلافه... وهو خلاف الذوق السليم. وأما القول الأول من هذه الأقوال،
فهو الذي اقتصر عليه ابن تيمية، فلم يذكر غيره، واختاره ابن حجر، ورجحه الشوكاني...
والدليل عليه ما أخرجه أحمد والشيخان وغيرهم، عن طاووس عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس، وقد تقدم في أول أخبار المسألة. ويقع الكلام على هذا الخبر في جهتين: الجهة
الأولى: جهة السند فإن مدار الخبر على شعبة بن الحجاج وقد كان هذا الرجل ممن
يكذب ويضع على أهل البيت، فقد ذكر الشريف المرتضى رحمه الله (4) أنه روى
(هامش)
(1) تفسير الرازي 27 / 165، فتح الباري 8 / 458 وغيرهما. (2) عمدة القاري 19 / 157.
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8 / 458. (4) الشافي في الإمامة 4 / 116. (*)
ص 175
عن جعفر بن محمد أنه كان يتولى الشيخين! فمن يضع مثل هذا لا يستبعد منه أن يضع على
ابن عباس في نزول الآية. ثم إن الراوي عن شعبة عند أحمد يحيى بن عباد الضبعي
البصري قال الخطيب: نزل بغداد وحدث بها عن شعبة... روى عنه أحمد بن حنبل...
(1). وقد أورد ابن حجر هذا الرجل فيمن تكلم فيه من رجال البخاري، فنقل عن الساجي
أنه ضعيف، وعن ابن معين أنه ليس بذاك وإن صدقه (2). وروى الخطيب بإسناده عن ابن
المديني، قال: سمعت أبي يقول: يحيى ابن عباد ليس ممن أحدث عنه، وبشار الخفاف أمثل
منه. وبإسناده عن يحيى بن معين: لم يكن بذاك، قد سمع وكان صدوقا، وقد أتيناه، فأخرج
كتابا، فإذا هو لا يحسن أن يقرأه، فانصرفنا عنه. وبإسناده عن الساجي: ضعيف، حدث عنه
أهل بغداد. سمعت الحسن بن محمد الزعفراني يحدث عنه عن الشعبي وغيره، لم يحدث عنه
أحد من أصحابنا بالبصرة، لا بندار ولا ابن المثنى. وقد أورده الذهبي في ميزانه
مقتصرا على تضعيف الساجي (3). والراوي عن شعبة عند البخاري محمد بن جعفر - غندر
وقد أدرجه ابن حجر فيمن تكلم فيه، بمناسبة قول أبي حاتم: يكتب حديثه عن غير شعبة
ويحتج به (4)، وبهذه المناسبة أيضا أورده الذهبي في ميزانه (5). والراوي عنه:
محمد بن بشار وهو أيضا ممن تكلم فيه غير واحد من
(هامش)
(1) تاريخ بغداد 14 / 144. (2) مقدمة فتح الباري: 452. (3) ميزان الاعتدال 4 / 387.
(4) مقدمة فتح الباري: 437. (5) ميزان الاعتدال 3 / 502. (*)
ص 176
أئمتهم، وأدرجه ابن حجر فيمن تكلم، فيه فذكر تضعيف الفلاس، وأن يحيى بن معين كان
يستضعفه، وعن أبي داود: لولا سلامة فيه لترك حديثه (1). لكن في ميزان الاعتدال:
كذبه الفلاس وروى عن الدورقي: كنا عند يحيى بن معين فجرى ذكر بندار، فرأيت يحيى
لا يعبأ به ويستضعفه قال: ورأيت القواريري لا يرضاه وكان صاحب حمام (2).
أقول: لقد كان هذا حال عمدة أسانيد حديث طاووس عن ابن عباس، والإنصاف أنه لا يصلح
للاحتجاج فضلا عن المعارضة، على أن كلام الحاكم في كتاب التفسير صريح في رواية
البخاري ومسلم هذا الحديث عن طريق طاووس عن ابن عباس باللفظ الدال على القول الحق،
وهذا نص كلامه: إنما اتفقا في تفسير هذه الآية على حديث عبد الملك بن ميسرة
الزراد عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه في قربى آل محمد صلى الله عليه
وآله وسلم . وأرسل ذلك أبو حيان عن ابن عباس إرسال المسلم، فإنه بعد أن ذكر القول
الحق قال: وقال بهذا المعنى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب واستشهد بالآية حين
سيق إلى الشام أسيرا، وهو قول ابن جبير والسدي وعمرو ابن شعيب. وعلى هذا التأويل
قال ابن عباس: قيل: يا رسول الله، من قرابتك الذين أمرنا بمودتهم؟ فقال: علي وفاطمة
وابناهما (3).
(هامش)
(1) مقدمة فتح الباري: 437. (2) ميزان الاعتدال 3 / 490. (3) البحر المحيط 7 / 516.
(*)
ص 177
والجهة الثانية: في فقه الحديث وفيه: أولا: إن من غير المعقول أن يخاطب الله ورسوله
المشركين بطلب الأجر على أداء الرسالة، فإن المشركين كافرون ومكذبون لأصل هذه
الرسالة، فكيف يطلب منهم الأجر؟! وثانيا: إن هذه الآية مدنية، وقد ذكرت في سبب
نزولها روايات تتعلق بالأنصار. وثالثا: على فرض كونها مكية، فالخطاب إنما هو
للمسلمين لا للمشركين كما بينا. وبعد، فلو تنزلنا وجوزنا الأخذ سندا ودلالة بما جاء
في المسند وكتابي البخاري ومسلم عن طاووس عن ابن عباس، فلا ريب في كونه نصا في ذهاب
سعيد بن جبير إلى القول الحق. وأما رأي ابن عباس فمتعارض، والتعارض يؤدي إلى
التساقط، فلا يبقى دليل للقول بأن المراد هو القرابة بين النبي وقريش، لأن
المفروض أن لا دليل عليه إلا هذا الخبر. لكن الصحيح أن ابن عباس - وهو من أهل البيت
وتلميذهم - لا يخالف قولهم، وقد عرفت أن أمير المؤمنين عليه السلام ينص على نزول
الآية فيهم، وكذا الإمام السجاد... ولم يناقش أحد في سند الخبرين، وكذا الإمامان
السبطان والإمامان الصادقان... فكيف يخالفهم ابن عباس في الرأي؟! لكن قد تمادى بعض
القوم في التزوير والتعصب، فوضعوا على لسان ابن عباس أشياء، ونسبوا إليه المخالفة
لأمير المؤمنين عليه السلام في قضايا،
ص 178
منها قضية المتعة، حتى وضعوا حديثا في أن عليا عليه السلام كان يقول بحرمة المتعة،
فبلغه أن ابن عباس يقول بحليتها، فخاطبه بقوله: إنك رجل تائه ! ومع ذلك لم يرجع
ابن عباس عن القول بالحلية (1)! ولهذا نظائر لا نطيل المقام بذكرها... والمقصود أن
القوم لما رأوا رواية غير واحد من الصحابة - وبأسانيد معتبرة - نزول الآية المباركة
في أهل البيت ووجدوا أئمة أهل البيت عليهم السلام مجمعين على هذا القول...
حاولوا أولا تضعيف تلك الأخبار، ثم وضع شيء في مقابلها عن واحد من علماء أهل البيت
ليعارضوها به، وليلقوا الخلاف بينهم بزعمهم... ثم يأتي مثل ابن تيمية - ومن تبعه -
فيستدل بالحديث الموضوع، ويكذب الحديث الصحيح المتفق عليه بين المسلمين. تنبيهان
الأول قد تنبه الفخر الرازي إلى أن ما ذكره في ذيل الآية من الأدلة على وجوب محبة
أهل البيت وإطاعتهم واحترامهم، وحرمة بغضهم وعدائهم... يتنافى مع القول بإمامة
الشيخين وتعظيم الصحابة قاطبة... ولا سيما بالنظر إلى ما كان من القوم بالنسبة إلى
أهل البيت وصدر منهم تجاههم، فحاول أن يتدارك ذلك فقال: قوله: *(إلا المودة في
القربى)* فيه منصب عظيم للصحابة!! لأنه تعالى قال: *(والسابقون السابقون * أولئك
المقربون)*. فكل من أطاع الله كان مقربا عند الله تعالى، فدخل تحت قوله: *(إلا
المودة في القربى)*!
(هامش)
(1) راجع: رسالتنا في المتعتين، في كتابنا (الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة في
كتب السنة). (*)
ص 179
والحاصل: إن هذه الآية تدل على وجوب حب آل رسول الله وحب أصحابه، وهذا المنصب لا
يسلم إلا على قول أصحابنا أهل السنة والجماعة الذين جمعوا بين حب العترة والصحابة.
وسمعت بعض المذكرين قال: إنه صلى الله عليه وسلم قال: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح،
من ركب فيها نجا. وقال: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، ونحن الآن في بحر
التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات، وراكب البحر يحتاج إلى أمرين: أحدهما:
السفينة الخالية عن العيوب والثقب. والثاني: الكواكب الظاهرة الطالعة النيرة، فإذا
ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجاء السلامة غالبا. فكذلك
ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة، فرجوا من
الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة (1)!! وكذلك
النيسابوري، فإنه قال: قال بعض المذكرين: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل
أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق. وعنه صلى الله عليه
وسلم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. فنحن نركب سفينة حب آل محمد ونضع
أبصارنا على الكواكب النيرة، أعني آثار الصحابة، لنتخلص من بحر التكليف وظلمة
الجهالة، ومن أمواج الشبهة والضلالة (2)!! وكذلك الآلوسي، فإنه قال مثله وقد
استظرف ما حكاه الرازي، قال الآلوسي بعد ما تقدم نقله عنه في وجوب محبة أهل البيت
ومتابعتهم وحرمة
(هامش)
(1) تفسير الرازي 27 / 166. (2) تفسير النيسابوري - هامش الطبري - 25 / 35. (*)
ص 180
بغضهم ومخالفتهم: ومع هذا، لا أعد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة
- رضي الله تعالى عنهم - دينا، وأرى حبهم فرضا علي مبينا، فقد أوجبه أيضا الشارع،
وقامت على ذلك البراهين السواطع. ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكرين...
(1). أقول: لقد أحسن النيسابوري والآلوسي إذ لم يتبعا الفخر الرازي في ما ذكره في
صدر كلامه، فإني لم أفهم وجه ارتباط مطلبه بآية المودة... على أن فيه مواضع للنظر،
منها: استدلاله بقوله تعالى: *(والسابقون السابقون * أولئك المقربون)* والحال أن
الآية فسرت في كتب الفريقين في هذه الأمة بعلي أمير المؤمنين عليه السلام (2). وأما
الحكاية الظريفة عن بعض المذكرين، فإن من سوء حظ هذا المذكر - وهؤلاء المذكرين!! -
تنصيص عشرات من الأئمة المعتمدين على بطلان حديث النجوم ووضعه وسقوطه كما سيأتي.
الثاني: قال الرازي - في الوجوه الدالة على اختصاص الأربعة الأطهار بمزيد التعظيم
-: الثالث: إن الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في
الصلاة وهو قوله: اللهم صل... وقد تعقب بعض علمائنا هذا
(هامش)
(1) روح المعاني 24 / 32. (2) مجمع الزوائد 9 / 102 وسيأتي البحث عن هذه الآية
بالتفصيل. (*)
ص 181
الكلام بما يعجبني نقله بطوله، قال: فائدة: قال القاضي النعمان: أجمل الله في
كتابه قوله: *(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه
وسلموا تسليما)* فبينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته، ونصب أولياءه لذلك من
بعده، وذلك مفخر لهم لا يوجد إلا فيهم، ولا يعلم إلا منهم، فقال حين سألوا عن
الصلاة عليه قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم،
إنك حميد مجيد. فالصلاة المأمور بها على النبي وآله ليست هي الدعاء لهم كما تزعم
العامة، إذ لا نعلم أحدا دعا للنبي فاستحسنه، ولا أمر أحدا بالدعاء له، وإلا لكان
شافعا فيه، ولأنه لو كان جواب قوله تعالى *(صلوا عليه)* اللهم صل على محمد وآل
محمد، لزم أن يكون ذلك ردا لأمره تعالى، كمن قال لغيره: إفعل كذا، فقال: إفعل أنت.
ولو كانت الصلاة الدعاء، لكان قولنا: اللهم صل على محمد وآل محمد، بمعنى: اللهم ادع
له، وهذا لا يجوز. وقد كان الصحابة عند ذكره يصلون عليه وعلى آله، فلما تغلب بنو
أمية قطعوا الصلاة عن آله في كتبهم وأقوالهم، وعاقبوا الناس عليها بغضا لآله
الواجبة مودتهم، مع روايتهم أن النبي سمع رجلا يصلي عليه ولا يصلي على آله فقال: لا
تصلوا علي الصلاة البترة، ثم علمه بما ذكرناه أولا. فلما تغلب بنو العباس أعادوها
وأمروا الناس بها، وبقي منهم بقية إلى اليوم لا يصلون على آله عند ذكره. هذا فعلهم،
ولم يدركوا أن معنى الصلاة عليهم سوى الدعاء لهم - وفيه شمة لهضم منزلتهم حيث أن
فيه حاجة ما إلى دعاء رعيتهم - فكيف لو فهموا أن معنى الصلاة هنا المتابعة؟! ومنه
المصلي من الخيل، فأول من صلى النبي، أي
ص 182
تبع جبريل حين علمه الصلاة، ثم صلى علي النبي، إذ هو أول ذكر صلى بصلاته، فبشر الله
النبي أنه يصلي عليه بإقامة من ينصبه مصليا له في أمته، وذلك لما سأل النبي بقوله:
*(واجعل لي وزيرا من أهلي)* عليا *(أشدد به أزري)* ثم قال تعالى: *(صلوا عليه)* أي:
اعتقدوا ولاية علي وسلموا لأمره. وقول النبي: قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد.
أي: اسألوا الله أن يقيم له ولاية ولاة يتبع بعضهم بعضا كما كان في آل إبراهيم،
وقوله: وبارك عليهم، أي: أوقع النمو فيهم، فلا تقطع الإمامة عنهم. ولفظ الآل وإن عم
إلا أن المقصود هم، لأن في الأتباع والأهل والأولاد فاجر وكافر لا تصلح الصلاة
عليه. فظهر أن الصلاة عليه هي اعتقاد وصيته والأئمة من ذريته، إذ بهم كمال دينهم
وتمام النعمة عليهم، وهم الصلاة التي قال الله إنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، لأن
الصلاة الراتبة لا تنهى عن ذلك في كثير من الموارد (1). دلالة الآية سواء كان
الاستثناء متصلا أو منقطعا وتلخص: إن الآية المباركة دالة على وجوب مودة أهل
البيت ... * سواء كانت مكية أو مدنية، بغض النظر عن الروايات أو بالنظر إليها. *
وسواء كان الاستثناء منقطعا كما ذهب إليه غير واحد من علماء العامة وبعض أكابر
أصحابنا كالشيخ المفيد البغدادي رحمه الله، نظرا إلى أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لا يطلب أجرا على تبليغ الرسالة، قال رحمه الله: لا يصح القول بأن الله
تعالى جعل أجر نبيه مودة أهل بيته عليهم السلام، ولا أنه جعل ذلك من أجره عليه
السلام، لأن أجر النبي في التقرب إلى
(هامش)
(1) الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1 / 190 - 191. (*)
ص 183
الله تعالى هو الثواب الدائم، وهو مستحق على الله تعالى في عدله وجوده وكرمه، وليس
المستحق على الأعمال يتعلق بالعباد، لأن العمل يجب أن يكون لله تعالى خالصا، وما
كان لله فالأجر فيه على الله تعالى دون غيره. هذا، مع أن الله تعالى يقول: *(ويا
قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله)* وفي موضع آخر: *(ويا قوم لا أسألكم
عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني)*. فإن قال قائل: فما معنى قوله: *(قل لا
أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)*؟ أو ليس هذا يفيد أنه قد سألهم مودة
القربى لأجره على الأداء؟ قيل له: ليس الأمر على ما ظننت، لما قدمنا من حجة العقل
والقرآن، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة، لكنه استثناء منقطع، ومعناه:
قل لا أسألكم عليه أجرا لكن ألزمكم المودة في القربى وأسألكموها، فيكون قوله: *(قل
لا أسألكم أجرا)* كلاما تاما قد استوفى معناه، ويكون قوله: *(إلا المودة في
القربى)* كلاما مبتدأ فائدته: لكن المودة في القربى سألتكموها، وهذا كقوله: *(فسجد
الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس)* والمعنى فيه: لكن إبليس، وليس باستثناء من جملة.
وكقوله: *(فإنهم عدو لي إلا رب العالمين)* معناه: لكن رب العالمين ليس بعدو لي، قال
الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس (1)* أو كان متصلا كما
جوزه آخرون، من العامة كالزمخشري والنسفي (2) وغيرهما. ومن أعلام أصحابنا كشيخ
الطائفة، قال: في هذا الاستثناء قولان:
(هامش)
(1) تصحيح الاعتقاد - مصنفات الشيخ المفيد -: 140 - 142. (2) الكشاف في تفسير
القرآن 4 / 221، تفسير النسفي - هامش الخازن - 4 / 94. (*)
ص 184
أحدهما: أنه استثناء منقطع، لأن المودة في القربى ليس من الأجر، ويكون التقدير: لكن
أذكركم المودة في قرابتي، الثاني: إنه استثناء حقيقة، ويكون: أجري المودة في القربى
كأنه أجر وإن لم يكن أجر (1). وكالشيخ الطبرسي، قال: وعلى الأقوال الثلاثة، فقد
قيل في *(إلا المودة)* قولان، أحدهما: إنه استثناء منقطع، لأن هذا مما يجب بالإسلام
فلا يكون أجرا للنبوة. والآخر: إنه استثناء متصل، والمعنى: لا أسألكم عليه أجرا إلا
هذا فقد رضيت به أجرا، كما أنك تسأل غيرك حاجة فيعرض المسؤول عليك برا فتقول له:
إجعل بري قضاء حاجتي. وعلى هذا يجوز أن يكون المعنى: لا أسألكم عليه أجرا إلا هذا،
ونفعه أيضا عائد عليكم، فكأني لم أسألكم أجرا، كما مر بيانه في قوله: *(قل ما
سألتكم من أجر فهو لكم)*. وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدثني عثمان بن عمير،
عن سعيد ابن جبير، عن عبد الله بن عباس، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين
قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول الله فنقول له:
تعروك أمور، فهذه أموالنا... (2). * هذا، ولكن قد تقرر في محله، أن الأصل في
الاستثناء هو الاتصال، وأنه يحمل عليه ما أمكن، ومن هنا اختار البعض - كالبيضاوي
حيث ذكر الانقطاع قولا - الاتصال، بل لم يجوز بعض أصحابنا الانقطاع، فقد قال السيد
الشهيد التستري: تقرر عند المحققين من أهل العربية والأصول أن الاستثناء المنقطع
مجاز، واقع على خلاف الأصل، وأنه لا يحمل على المنقطع إلا لتعذر المتصل، بل ربما
عدلوا عن ظاهر اللفظ الذي هو المتبادر إلى الذهن مخالفين
(هامش)
(1) التبيان في تفسير القرآن 9 / 158. (2) مجمع البيان في تفسير القرآن 9 / 29. (*)
ص 185
له، لغرض الحمل على المتصل الذي هو الظاهر من الاستثناء، كما صرح به الشارح العضدي
حيث قال: واعلم أن الحق أن المتصل أظهر، فلا يكون مشتركا ولا للمشترك، بل حقيقة
فيه ومجاز في المنقطع، ولذلك لم يحمله علماء الأمصار على المنفصل، إلا عند تعذر
المتصل، حتى عدلوا للحمل على المتصل من الظاهر وخالفوه، ومن ثم قالوا في قوله: له
عندي مائة درهم إلا ثوبا، وله علي إبل إلا شاة، معناه: إلا قيمة ثوب أو قيمة شاة،
فيرتكبون الإضمار وهو خلاف الظاهر ليصير متصلا، ولو كان في المنقطع ظاهرا لم
يرتكبوا مخالفة ظاهر حذرا عنه. إنتهى (1).
(هامش)
(1) إحقاق الحق وإزهاق الباطل 3 / 21 - 22. (*)
ص 186
الفصل الخامس: دلالة الآية على الإمامة والولاية

وكيف كان... فالآية المباركة تدل
على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام من وجوه: 1 - القرابة
النسبية والإمامة إنه حتى لو لم يكن للقرابة النسبية دخل وأثر في الإمامة والخلافة،
فلا ريب في تقدم أمير المؤمنين عليه السلام، إذ كلما يكون وجها لاستحقاقها فهو
موجود فيه على النحو الأتم الأكمل الأفضل... لكن لها دخلا وأثرا كما سنرى... ولقد
أجاد السيد ابن طاووس الحلي حيث قال - ردا على الجاحظ في رسالته العثمانية - ما
نصه: قال: وزعمت العثمانية: إن أحدا لا ينال الرئاسة في الدين بغير الدين. وتعلق
في ذلك بكلام بسيط عريض يملأ كتابه ويكثر خطابه، بألفاظ منضدة، وحروف مسددة كانت أو
غير مسددة. بيان ذلك: إن الإمامية لا تذهب إلى أن استحقاق الرئاسة بالنسب، فسقط
جميع ما أسهب فيه الساقط، ولكن الإمامية تقول: إن كان النسب وجه الاستحقاق فبنو
هاشم أولى به، ثم علي أولاهم به، وإن يكن بالنسب، فعلي أولى به، إذ كان صهر رسول
الله صلى الله عليه وآله، وإن يكن بالتربية فعلي أولى به، وإن يكن
ص 187
بالولادة من سيدة النساء فعلي أولى به، وإن يكن بالهجرة فعلي مسببها بمبيته على
الفراش، فكل مهاجري بعد مبيته في ضيافته عدا رسول الله، إذ الجميع في مقام عبيده
وخوله، وإن يكن بالجهاد فعلي أولى به، وإن يكن بحفظ الكتاب فعلي أولى به، وإن يكن
بتفسيره فعلي أولى به على ما أسلفت، وإن يكن بالعلم فعلي أولى به، وإن يكن بالخطابة
فعلي أولى به، وإن يكن بالشعر فعلي أولى به. قال الصولي فيما رواه: كان أبو بكر
شاعرا وعمر شاعرا وعلي أشعرهم. وإن يكن بفتح أبواب المباحث الكلامية فعلي أولى به،
وإن يكن بحسن الخلق فعلي أولى به، إذ عمر شاهد به، وإن يكن بالصدقات فعلي - على ما
سلف - أولى به، وإن يكن بالقوة البدنية فعلي أولى به، بيانه: باب خيبر، وإن يكن
بالزهد فعلي أولى به، في تقشعه وبكائه وخشوعه وفنون أسبابه وتقدم إيمانه، وإن يكن
بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في فضله فعلي أولى به، بيانه: ما رواه ابن
حنبل وغيره على ما سلف، وإن يكن بالقوة الواعية فعلي أولى به، بيانه: قول النبي صلى
الله عليه وآله: إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك وتعي، وحق على الله
أن تعي ، وإن يكن بالرأي والحكم فعلي أولى به، بيانه: شهادة رسول الله صلى الله
عليه وآله له على ما مضى بالحكمة، وغير ذلك مما نبهنا عليه فيما مضى. وإذ تقرر هذا،
بان معنى التعلق لمن يذكر النسب إذا ذكره، ولهذا تعجب أمير المؤمنين عليه السلام
حيث يستولى على الخلافة بالصحابة، ولا يستولى عليها بالقرابة والصحابة. ثم إني
أقول: إن أبا عثمان أخطأ في قوله: إن أحدا لا ينال الرئاسة في الدين بغير الدين
.
ص 188
بيانه: أنه لو تخلى صاحب الدين من السداد ما كان أهلا للرئاسة، وهو منع أن ينالها
أحد إلا بالدين، والاستثناء من النفي إثبات حاضر في غير ذلك من صفات، ذكرتها في
كتابي المسمى بالآداب الحكمية متكثرة جدا، ومنها ما هو ضروري، ومنها ما هو دون
ذلك. ومن بغي عدو الإسلام أن يأتي متلفظا بما تلفظ به، وأمير المؤمنين عليه السلام
الخصم، وتيجان شرفه المصادمة، ومجد سؤدده المدفوع، إذ هو صاحب الدين، وبه قام
عموده، ورست قواعده، وبه نهض قاعده، وأفرغت على جيد الإسلام قلائده. وأقول بعد هذا:
إن للنسب أثرا في الرئاسة قويا. بيانه: أنه إذا تقدم على أرباب الشرف النسبي من لا
يدانيهم، وقادهم من لا يقاربهم ولا يضاهيهم، كانوا بالأخلق عنه نافرين آنفين، بل
إذا تقدم على أهل الرئيس الفائت غير عصبته، وقادهم غير القريب الأدنى من لحمته،
كانوا بالأخلق عنه حائدين متباعدين، وله قالين، وذلك مظنة الفساد في الدين والدنيا،
وقد ينخرم هذا اتفاقا، لكن المناط الظاهر هو ما إليه أشرت، وعليه عولت. وأقول: إن
القرآن المجيد لما تضمن العناية بالأقربين من ذرية رسول الله صلى الله عليهم
ومواددتهم، كان ذلك مادة تقديمهم مع الأهلية التي لا يرجح غيرهم عليهم فيها، فكيف
إذا كان المتقدم عليهم لا يناسبهم فيها ولا يدانيها؟! قال الثعلبي بعد قوله تعالى:
*(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)* بعد أن حكى شيئا ثم قال: فأخبرني
الحسين بن محمد، [قال:] حدثنا برهان بن علي الصوفي، [قال:] حدثنا حرب بن الحسن
الطحان، [قال:] حدثنا حسين الأشقر، عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير،
ص 189
عن ابن عباس، قال: لما نزلت *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)*
قالوا: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين أوجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة
وابناهما. وروى فنونا جمة غير هذا من البواعث على محبة أهل البيت، فقال: أخبرنا أبو
حسان المزكي، [قال:] أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق، [قال:] حدثنا الحسن بن علي
بن زياد السري، [قال:] حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، [قال:] حدثنا حسين
الأشقر، [قال:] حدثنا قيس، [قال:] حدثنا الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
قال: لما نزلت *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)* فقالوا: يا رسول
الله، من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودتهم؟ قال: علي وفاطمة وولدهما. وقال: أخبرنا
أبو بكر بن الحرث، [قال:] حدثنا أبو السبح، [قال:] حدثنا عبد الله بن محمد بن
زكريا، [قال:] أخبرنا إسماعيل بن يزيد، [قال:] حدثنا قتيبة بن مهران، [قال:] حدثنا
عبد الغفور أبو الصباح، عن أبي هاشم الرماني، عن زاذان، عن علي رضي الله عنه، قال:
فينا في آل حم، إنه لا يحفظ مودتنا إلا كل مؤمن، ثم قرأ *(قل لا أسألكم عليه أجرا
إلا المودة في القربى)*. وقال الكلبي: قل لا أسألكم على الإيمان جعلا إلا أن توادوا
قرابتي، وقد رأيت أن أذكر شيئا من الآي الذي يحسن أن تتحدث عنده (1). أقول: لا
ريب في أن للنسب والقرب النسبي تأثيرا، وأن للعناية الإلهية
(هامش)
(1) بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية: 387 - 391. (*)
ص 190
ب القربى - أي: بعلي والزهراء بضعة النبي وولديهما - حكمة، وفي السنة النبوية
على ذلك شواهد وأدلة نشير إلى بعضها بإيجاز: أخرج مسلم والترمذي وابن سعد وغيرهم عن
واثلة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله عز وجل اصطفى كنانة
من ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني
هاشم، واصطفاني من بني هاشم (1). قال النووي بشرحه: استدل به أصحابنا على أن
غير قريش من العرب ليس بكف ء لهم، ولا غير بني هاشم كف ء لهم إلا بني المطلب، فإنهم
هم وبنو هاشم شيء واحد، كما صرح به في الحديث الصحيح (2). وعقد الحافظ أبو نعيم:
الفصل الثاني: في ذكر فضيلته صلى الله عليه وسلم بطيب مولده وحسبه ونسبه وغير ذلك
فذكر فيه أحاديث كثيرة بالأسانيد، منها ما تقدم، ومنها الرواية التالية: إن
الله عز وجل حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه، ثم حين خلق القبائل جعلني في خير
قبيلتهم، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم، ثم حين خلق البيوت جعلني من خير
بيوتهم، فأنا خيرهم أبا وخيرهم نفسا (3). وذكر الحافظ محب الدين الطبري بعض هذه
الأحاديث تحت عنوان ذكر اصطفائهم و ذكر أنهم خير الخلق (4).
(هامش)
(1) جامع الأصول 9 / 396 عن مسلم والترمذي، الطبقات الكبرى 1 / 20، الشفا بتعريف
حقوق المصطفى. (2) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 15 / 36. (3) دلائل النبوة
1: 66 / 16. (4) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 10. (*)
ص 191
وقال القاضي عياض: الباب الثاني في تكميل الله تعالى له المحاسن خلقا وخلقا،
وقرانه جميع الفضائل الدينية والدنيوية فيه نسقا فذكر فيه فوائد جمة في كلام طويل
(1). إذن، هناك ارتباط بين آية المودة و آية التطهير وأحاديث الاصطفاء
و أنهم خير خلق الله . ثم إن في أخبار السقيفة والاحتجاجات التي دارت هناك بين من
حضرها من المهاجرين والأنصار، ما يدل على ذلك دلالة واضحة، فقد أخرج البخاري أن أبا
بكر خاطب القوم بقوله: لن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط
العرب نسبا ودارا (2) ولا يستريب عاقل في أن عليا عليه السلام هو الأشرف، من
المهاجرين والأنصار كلهم - نسبا ودارا، فيجب أن يكون هو الإمام. بل روى الطبري
وغيره أنه قال كلمة أصرح وأقرب في الدلالة، فقال الطبري إنه قال في خطبته: فخص
الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والإيمان به والمواساة له والصبر معه على
شدة أذى قومهم لهم ولدينهم، وكل الناس لهم مخالف زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة
عددهم وشنف الناس لهم وإجماع قومهم عليهم. فهم أول من عبد الله في الأرض وآمن به
وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم في ذلك
إلا ظالم (3). وفي رواية ابن خلدون: نحن أولياء النبي وعشيرته، وأحق الناس
(هامش)
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى 1 / 137. (2) صحيح البخاري / كتاب الحدود - الباب
31، وانظر: الطبري 3 / 203، سيرة ابن هشام 2 / 657، غيرهما. (3) تاريخ الطبري 3 /
219. (*)
ص 192
بأمره، ولا ننازع في ذلك (1). وفي رواية المحب الطبري عن موسى بن عقبة عن ابن
شهاب: فكنا - معشر المهاجرين - أول الناس إسلاما، ونحن عشيرته وأقاربه وذوو رحمه،
ونحن أهل الخلافة، وأوسط الناس أنسابا في العرب، ولدتنا العرب كلها، فليس منهم
قبيلة إلا لقريش فيها ولادة، ولن تصلح إلا لرجل من قريش... (2). وهل اجتمعت هذه
الصفات - وفي أعلى مراتبها وأسمى درجاتها - إلا في علي عليه السلام؟! إن عليا عليه
السلام هو الذي توفرت فيه هذه الصفات واجتمعت الشروط... فهو عشيرة النبي و ذو
رحمه و وليه وهو أول من عبد الله في الأرض وآمن به فهو أحق الناس بهذا
الأمر من بعده و لا ينازعه في ذلك إلا ظالم !! ومن هنا نراه عليه السلام يحتج
على القوم في الشورى ب الأقربية فيقول: أنشدكم بالله، هل فيكم أحد أقرب إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الرحم مني، ومن جعله نفسه وأبناءه أبناءه
ونساءه نساءه؟! قالوا: اللهم لا الحديث (3). وهذا ما اعترف به له عليه السلام
طلحة والزبير، حين راجعه الناس بعد قتل عثمان ليبايعوه، فقال - في ما روي عن ابن
الحنفية -: لا حاجة لي في ذلك، عليكم بطلحة والزبير. قالوا: فانطلق معنا. فخرج
علي وأنا معه في جماعة من الناس، حتى أتينا طلحة بن عبيد الله فقال له: إن الناس قد
اجتمعوا ليبايعوني ولا حاجة لي
(هامش)
(1) تاريخ ابن خلدون 2 / 854. (2) الرياض النضرة 1 / 213. (3) الصواعق المحرقة: 93
عن الدارقطني. (*)
ص 193
في بيعتهم، فابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله. فقال له طلحة: أنت أولى
بذلك مني وأحق، لسابقتك وقرابتك، وقد اجتمع لك من هؤلاء الناس من قد تفرق عني. فقال
له علي: أخاف أن تنكث بيعتي وتغدر بي! قال: لا تخافن ذلك، فوالله لا ترى من قبلي
أبدا شيئا تكره. قال: الله عليك كفيل. ثم أتى الزبير بن العوام - ونحن معه - فقال
له مثل ما قال لطلحة، ورد عليه مثل الذي رد عليه طلحة (1). هذا، وقد كابر الجاحظ
في ذلك، في رسالته التي وضعها للدفاع عن العثمانية، فرد عليه السيد ابن طاووس الحلي
- طاب ثراه - قائلا: وتعلق بقوله تعالى: *(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)*. وليس
هذا دافعا كون القرابة إذا كان ذا دين وأهلية، أن يكون أولى من غيره وأحق ممن سواه
بالرئاسة. وتعلق بقول رسول الله لجماعة من بني عبد المطلب: إني لا أغني عنكم من
الله شيئا. وهي رواية لم يسندها عن رجال، ولم يضفها إلى كتاب. ومما يرد عليها ما
رواه الثعلبي، قال: وأخبرنا يعقوب بن السري، [قال:] أخبرنا محمد بن عبد الله
الحفيد، [قال:] حدثنا عبد الله بن أحمد بن عامر، [قال:] حدثني أبي، حديث علي بن
موسى الرضا عليه السلام، قال: حدثني أبي موسى بن جعفر، [قال:] حدثني أبي جعفر بن
محمد، [قال:] حدثنا أبي محمد بن علي، [قال:] حدثنا أبي علي بن الحسين، [قال:]
(هامش)
(1) كنز العمال 5 / 747 - 750. (*)
ص 194
حدثنا أبي الحسين بن علي، [قال:] حدثنا أبي علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي،
ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها، فأنا جازيه غدا إذا
لقيني في القيامة. ومن كتاب الشيخ العالم أبي عبد الله محمد بن عمران بن موسى
المرزباني (في ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام) ما
يشهد بتكذيب قصد الجاحظ ما حكايته: ومن سورة النساء، حدثنا علي بن محمد، قال: حدثني
الحسين بن الحكم الحبري، قال: حدثنا حسن بن حسين، قال: حدثنا حيان بن الكلبي، عن
أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله تعالى: *(واتقوا الله الذي تساءلون به
والأرحام)*... الآية، نزلت في رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته وذوي أرحامه،
وذلك أن كل سبب ونسب منقطع [يوم القيامة] إلا ما كان من سببه ونسبه، *(إن الله كان
عليكم رقيبا)*. والرواية عن عمر شاهدة بمعنى هذه الرواية، حيث ألح بالتزويج عند
أمير المؤمنين صلوات الله عليه. وتعلق بقوله تعالى: *(واتقوا يوما لا تجزي نفس عن
نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون)*. أقول: إن الجاحظ
جهل أو تجاهل، إذ هي في شأن الكافرين، لا في سادات المسلمين أو أقرباء رسول رب
العالمين. بيانه: قوله تعالى: *(ولا هم ينصرون)*. وتعلق بقوله تعالى: *(يوم لا يغني
مولى عن مولى شيئا)* ولم يتمم الآية، تدليسا وانحرافا، أو جهلا، أو غير ذلك،
والأقرب بالأمارات الأول، لأن
ص 195
الله تعالى تمم ذلك بقوله: *(ولا هم ينصرون * إلا من رحم الله إنه هو العزيز
الرحيم)*. وخلصاء الذرية والقرابة مرحومون بالآي والأثر، فسقط تعلقه، مع أن هذا
جميعه ليس داخلا في كون ذي الدين والأهلية لا يكون له ترجيح في الرئاسة وتعلق له
بالرئاسة. وتعلق بقوله تعالى: *(يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب
سليم)* وليس هذا مما يدخل في تقريره الذي شرع فيه، وإن كان حديثا خارجا عن ذلك،
فالجواب عنه: بما أن المفسرين أو بعضهم قالوا في معنى قوله تعالى: *(سليم)* أي: لا
يشرك، وهذا صحيح. وتعلق بقوله تعالى: *(اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن
ولده ولا مولود)* وليس هذا من الرئاسة الدنياوية في شيء. وبعد، فهو مخصوص بقرابة
النبي عليه السلام بالأثر السالف عن الرضا. وبعد، فإن المفسرين قالوا عند قوله
تعالى: *(عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا)* قالوا: الشفاعة، وإذا كان الرسول شافعا
في عموم الناس فأولى أن يشفع في ذريته ورحمه، وكذا قيل في قوله تعالى: *(ولسوف
يعطيك ربك فترضى)* إنها الشفاعة. وتعلق بقوله تعالى: *(واتل عليهم نبأ ابني آدم)*
وليس هذا مما حاوله من سابق تقريره في شيء. وتعلق في قصة نوح وكنعان، وليس هذا مما
نحن فيه في شيء، أين كنعان من سادات الإسلام؟! وتعلق بقوله تعالى: *(لا ينال عهدي
الظالمين)* وللإمامية في هذا مباحث سديدة، إذ قالوا: من سبق كفره، ظالم لا محالة
فيما مضى، فلا يكون
ص 196
أهلا للرئاسة، فهذه واردة على الجاحظ لا له. ورووا في شيء من ذلك الرواية من طرق
القوم، وسابق ما لا صيور له فيما نحن بصدده (1). 2 - وجوب المودة يستلزم وجوب
الطاعة إنه ليس المراد من المودة هو المحبة المجردة ، لا سيما في مثل الآية
المباركة *(ذلك الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم
عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة...)* فإنه قد جعلت المودة -
بناء على اتصال الاستثناء - أجرا للرسالة، ومن المعلوم أنه لولا التساوي والتناسب
بين الشيء ومقابله لم يصدق على الشيء عنوان الأجر ، وحينئذ، فإذا لاحظنا عظمة
الرسالة المحمدية عند الله وعند البشرية اهتدينا إلى عظمة هذا الأجر وهو المودة
في القربى . وكذا بناء على الانقطاع، لأن الروايات قد دلت على أن المسلمين اقترحوا
عليه صلى الله عليه وآله وسلم أن يدفعوا إليه في مقابل أداء الرسالة من الأموال ما
يكون معه في سعة، فأجاب - بناء على هذا القول - بالرد وأنه لا يسألهم أجرا أصلا، ثم
قال: ولكن المودة في القربى فجعلها هي الشيء المطلوب منهم والواجب عليهم...
فإيجاب المودة - في مثل هذا المقام، دون غيرها مما كان بالإمكان أن يطلبه منهم -
يدل على أن هذا الأمر أهم الأشياء عند الله والرسول. وعلى الجملة... ليس المراد
مجرد المودة والمحبة، بل هي المحبة
(هامش)
(1) بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية: 391 - 397. (*)
ص 197
المستتبعة للإنقياد والطاعة، قال تعالى: *(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم
الله)*(1) والاتباع يعني إطاعة الأمر كما في الآية المباركة: *(وإن ربكم الرحمن
فاتبعوني وأطيعوا أمري)*(2). والاتباع، والانقياد التام، والإطاعة المطلقة، هو معنى
الإمامة والولاية... قال العلامة الحلي: الرابعة: قوله تعالى: *(قل لا أسألكم
عليه أجرا إلا المودة في القربى)* روى الجمهور... ووجوب المودة يستلزم وجوب الطاعة
(3). وقال أيضا: البرهان السابع: قوله تعالى: *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا
المودة في القربى)* روى أحمد بن حنبل... وغير علي من الصحابة والثلاثة لا تجب
مودته، فيكون علي أفضل فيكون هو الإمام، ولأن مخالفته تنافي المودة، وبامتثال
أوامره تكون مودته، فيكون واجب الطاعة، وهو معنى الإمامة (4). 3 - وجوب المحبة
المطلقة يستلزم الأفضلية وأيضا، فإن عليا ممن وجبت محبته ومودته على نحو الإطلاق،
ومن وجبت محبته كذلك كان هو الأحب، ومن كان أحب الناس إلى الله ورسوله كان أفضلهم،
ومن كان أفضل كان هو الإمام... فعلي عليه السلام هو الإمام بعد رسول الله. أما
المقدمة الأولى فواضحة جدا من الآية المباركة.
(هامش)
(1) سورة النساء 4: 31. وراجع التفاسير كالرازي 8 / 17. (2) سورة النور 24: 54. (3)
نهج الحق: 175. (4) منهاج الكرامة - المطبوع في آخر المجلد الثاني من منهاج السنة
-: 74. (
ص 198
وأما المقدمة الثانية فواضحة كذلك، ومما يدل على أن عليا عليه السلام أحب الخلق إلى
الله ورسوله: حديث الطائر، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وقد أهدي
إليه طائر -: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، فجاء علي فأكل معه رواه عنه من
الصحابة: 1 - علي أمير المؤمنين عليه السلام. 2 - عبد الله بن العباس. 3 - أبو سعيد
الخدري. 4 - سفينة. 5 - أبو الطفيل عامر بن واثلة. 6 - أنس بن مالك. 7 - سعد بن أبي
وقاص. 8 - عمرو بن العاص. 9 - أبو مرازم يعلى بن مرة. 10 - جابر بن عبد الله
الأنصاري. 11 - أبو رافع. 12 - حبشي بن جنادة. ورواه عنهم من التابعين عشرات
الرجال. ومن مشاهير الأئمة والحفاظ والعلماء في كل قرن، أمثال: أبي حنيفة، إمام
المذهب. وأحمد بن حنبل، إمام المذهب. وأبي حاتم الرازي. وأبي عيسى الترمذي.
ص 199
وأبي بكر البزار. وأبي عبد الرحمن النسائي. وأبي الحسن الدارقطني. وأبي عبد الله
الحاكم النيسابوري. وأبي بكر ابن مردويه. وأبي نعيم الأصفهاني. وأبي بكر البيهقي.
وأبي عمر ابن عبد البر. وأبي محمد البغوي. وأبي الحسن العبدري. وأبي القاسم ابن
عساكر. وابن حجر العسقلاني. وجلال الدين السيوطي. وعلى الجملة، فهذا الحديث نص في
أن عليا أحب الخلق إلى الله ورسوله (1). وأما المقدمة الثالثة فهي واضحة جدا كذلك،
وقد نص غير واحد منهم على ذلك أيضا: قال ولي الدين ابن العراقي، في كلام له، نقله
الحافظ القسطلاني وابن حجر المكي عنه: المحبة الدينية لازمة للأفضلية، فمن كان
أفضل كانت محبتنا الدينية له أكثر (2).
(هامش)
(1) وهو يشكل الجزئين الثالث عشر والرابع عشر من كتابنا. (2) المواهب اللدنية
بالمنح المحمدية، الصواعق المحرقة: 97. (*)