ص 253
كوفي وليس بثقة، كذاب. سألت أبي عنه، فقال: متروك الحديث (1). وأورده ابن حجر
الحافظ في (لسانه) فذكر الكلمات فيه: البخاري: ليس بثقة، كان يكذب. يحيى بن معين:
ليس بثقة، كان يكذب. أبو داود: كذاب. النسائي وغيره: متروك الحديث. ابن المديني: لا
أرضاه في شيء. أبو زرعة: ليس بشيء. العجلي: كذاب. الساجي: كان يكذب. أحمد: صاحب
أخبار وتدليس. الحاكم والنقاش: حدث عن الثقات بأحاديث منكرة. محمود بن غيلان: أسقطه
أحمد ويحيى وأبو خيثمة. ذكره ابن السكن وابن شاهين وابن الجارود والدارقطني في
الضعفاء. كذب الحديث - لكون الهيثم فيه - جماعة كالطحاوي في مشكل الحديث
والبيهقي في السنن والنقاش والجوزجاني في ما صنفا من الموضوعات (2).
(هامش)
(1) الجرح والتعديل 9 / 85. (2) لسان الميزان 6 / 209. (*)
ص 254
أقول: هب أن ابن عساكر روى هذا الخبر الموضوع في كتابه تاريخ دمشق فإن هذا
الكتاب فيه موضوعات كثيرة، كما نص عليه ابن تيمية (1) وغيره، فما بال السيوطي ومن
تبعه يذكرونه بتفسير القرآن الكريم وبيان المراد من آية من كلام الله الحكيم؟!!
(هامش)
(1) منهاج السنة 7 / 40. (*)
ص 255
الفصل الثالث: في دلالة آية المباهلة على الإمامة

إعلم أن يوم مباهلة النبي صلوات
الله عليه وآله لنصارى نجران كان يوما عظيم الشأن، اشتمل على عدة آيات وكرامات. فمن
آياته: إنه كان أول مقام فتح الله جل جلاله فيه باب المباهلة الفاصلة في هذه الملة
الفاضلة عند جحود حججه وبيناته. ومن آياته: إنه أول يوم ظهرت لله جل جلاله ولرسوله
صلوات الله عليه وآله العزة، بإلزام أهل الكتاب من النصارى الذلة والجزية، ودخولهم
عند حكم نبوته ومراداته. ومن آياته: إنه كان أول يوم أحاطت فيه سرادقات القوة
الإلهية والقدرة النبوية بمن كان يحتج عليه بالمعقول والمنقول والمنكرين لمعجزاته.
ومن آياته: إنه أول يوم أشرقت شموسه بنور التصديق لمحمد صلوات الله عليه من جانب
الله جل جلاله، بالتفريق بين أعدائه وأهل ثقاته. ومن آياته: إنه يوم أظهر فيه رسول
الله صلى الله عليه وآله تخصيص أهل بيته بعلو مقاماتهم. ومن آياته: إنه يوم كشف
الله جل جلاله لعباده أن الحسن والحسين عليهما أفضل السلام، - مع ما كانا عليه من
صغر السن - أحق بالمباهلة من صحابة رسول الله صلوات الله عليه والمجاهدين في
رسالاته. ومن آياته: إنه يوم أظهر الله جل جلاله فيه أن ابنته المعظمة فاطمة
ص 256
صلوات الله عليها أرجح في مقام المباهلة من أتباعه وذوي الصلاح من رجاله وأهل
عناياته. ومن آياته: إنه يوم أظهر الله جل جلاله فيه أن مولانا علي بن أبي طالب نفس
رسول الله صلوات الله عليهما، وأنه من معدن ذاته وصفاته، وأن مراده من مراداته، وإن
افترقت الصورة فالمعنى واحد في الفضل من سائر جهاته. ومن آياته: إنه يوم وسم كل من
تأخر عن مقام المباهلة بوسم يقتضي أنه دون من قدم عليه في الاحتجاج لله عز وجل ونشر
علاماته. ومن آياته: إنه يوم لم يجر مثله قبل الإسلام في ما عرفنا من صحيح النقل
ورواياته. ومن آياته: إنه يوم أخرس ألسنة الدعوى، وعرس في مجلس منطق الفتوى، بأن
أهل المباهلة أكرم على الله جل جلاله من كل من لم يصلح لما صلحوا له من المتقربين
بطاعاته وعباداته. ومن آياته: إن يوم المباهلة يوم بيان برهان الصادقين، الذين أمر
الله جل جلاله باتباعهم في مقدس قرآنه وآياته. ومن آياته: إن يوم المباهلة يوم شهد
الله جل جلاله لكل واحد من أهل المباهلة بعصمته مدة حياته. ومن آياته: إن يوم
المباهلة أقرب في تصديق صاحب النبوة والرسالة من التحدي بالقرآن، وأظهر في الدلالة،
الذين تحداهم صلوات الله عليه بالقرآن قالوا: *(لو نشاء لقلنا مثل هذا)*(1)، وإن
كان قولهم في مقام البهتان، ويوم المباهلة ما أقدموا على دعوى الجحود، للعجز عن
مباهلته، لظهور حجته وعلاماته.
(هامش)
(1) سورة الأنفال 8: 31. (*)
ص 257
ومن آياته: إنه يوم أطفأ الله به نار الحرب، وصان وجوه المسلمين من الجهاد والكرب،
وخلصهم من هيجان المخاطرة بالنفوس والرؤوس، وعتقها من رق الغزو والبؤس لشرف أهل
المباهلة الموصوفين فيها بصفاته. ومن آياته: إن البيان واللسان والجنان اعترفوا
بالعجز عن كمال كراماته (1). واستدل علماء الإمامية بآية المباهلة، وأن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم دعا إليها الإمام عليا وفاطمة والحسن والحسين فقط... على إمامة
أمير المؤمنين عليه السلام. * استدلال الإمام الرضا عليه السلام وأما وجه دلالة
الآية على الإمامة، فإن الإمامية أخذت ذلك من الإمام أبي الحسن علي الرضا عليه
السلام، فقد قال الشريف المرتضى الموسوي طاب ثراه: حدثني الشيخ - أدام الله عزه -
أيضا، قال: قال المأمون يوما للرضا عليه السلام: أخبرني بأكبر فضيلة لأمير المؤمنين
عليه السلام يدل عليها القرآن. قال: فقال له الرضا عليه السلام: فضيلته في
المباهلة، قال الله جل جلاله: *(فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا
ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله
على الكاذبين)*. فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن والحسين فكانا
ابنيه،
(هامش)
(1) الإقبال بصالح الأعمال: 514. (*)
ص 258
ودعا فاطمة فكانت - في هذا الموضع - نساءه، ودعا أمير المؤمنين فكان نفسه بحكم الله
عز وجل. وقد ثبت أنه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجل من رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وأفضل، فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم
بحكم الله عز وجل. قال: فقال له المأمون: أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع،
وإنما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنيه خاصة، وذكر النساء بلفظ الجمع،
وإنما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته وحدها، فلم لا جاز أن يذكر
الدعاء لمن هو نفسه وبكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره، فلا يكون لأمير
المؤمنين عليه السلام ما ذكرت من الفضل؟! قال: فقال له الرضا عليه السلام: ليس
بصحيح ما ذكرت - يا أمير المؤمنين - وذلك أن الداعي إنما يكون داعيا لغيره، كما
يكون الآمر آمرا لغيره، ولا يصح أن يكون داعيا لنفسه في الحقيقة، كما لا يكون آمرا
لها في الحقيقة، وإذا لم يدع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا في المباهلة
إلا أمير المؤمنين عليه السلام، فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه،
وجعل حكمه ذلك في تنزيله. قال: فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال (1). *
وقال الشيخ المفيد - بعد أن ذكر القصة -: وفي قصة أهل نجران بيان عن فضل أمير
المؤمنين عليه السلام، مع ما فيه من الآية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعجز
الدال على نبوته. ألا ترى إلى اعتراف النصارى له بالنبوة، وقطعه عليه السلام على
(هامش)
(1) الفصول المختارة من العيون والمحاسن: 38. (*)
ص 259
امتناعهم من المباهلة، وعلمهم بأنهم لو باهلوه لحل بهم العذاب، وثقته عليه وآله
السلام بالظفر بهم والفلج بالحجة عليهم، وأن الله تعالى حكم في آية المباهلة لأمير
المؤمنين عليه السلام بأنه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كاشفا بذلك عن
بلوغه نهاية الفضل، ومساواته للنبي عليه وآله السلام في الكمال والعصمة من الآثام،
وأن الله جل ذكره جعله وزوجته وولديه - مع تقارب سنهما - حجة لنبيه عليه وآله
السلام وبرهانا على دينه، ونص على الحكم بأن الحسن والحسين أبناؤه، وأن فاطمة عليها
السلام نساؤه المتوجه إليهن الذكر والخطاب في الدعاء إلى المباهلة والاحتجاج؟! وهذا
فضل لم يشركهم فيه أحد من الأمة، ولا قاربهم فيه ولا ماثلهم في معناه، وهو لاحق بما
تقدم من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام الخاصة به، على ما ذكرناه (1). * وهكذا
استدل الشريف المرتضى، حيث قال: لا شبهة في دلالة آية المباهلة على فضل من دعي
إليها وجعل حضوره حجة على المخالفين، واقتضائها تقدمه على غيره، لأن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم لا يجوز أن يدعو إلى ذلك المقام ليكون حجة فيه إلا من هو في غاية
الفضل وعلو المنزلة. وقد تظاهرت الرواية بحديث المباهلة، وأن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم دعا إليها أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وأجمع أهل
النقل وأهل التفسير على ذلك... ونحن نعلم أن قوله *(وأنفسنا وأنفسكم)* لا يجوز أن
يعني بالمدعو فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه هو الداعي، ولا يجوز أن يدعو
الإنسان نفسه، وإنما يصح أن يدعو غيره، كما لا يجوز أن يأمر نفسه وينهاها،
(هامش)
(1) الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 1 / 169. (*)
ص 260
وإذا كان قوله تعالى: *(وأنفسنا وأنفسكم)* لا بد أن يكون إشارة إلى غير الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم، وجب أن يكون إشارة إلى أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه لا
أحد يدعي دخول غير أمير المؤمنين وغير زوجته وولديه عليهم السلام في المباهلة
(1). * وقال الشيخ الطوسي: أحد ما يستدل به على فضله عليه السلام، قوله تعالى:
*(قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل...)*
إلى آخر الآية. ووجه الدلالة فيها: أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
دعا أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إلى المباهلة، وأجمع أهل
النقل والتفسير على ذلك، ولا يجوز أن يدعو إلى ذلك المقام ليكون حجة إلا من هو في
غاية الفضل وعلو المنزلة، ونحن نعلم أن قوله: *(وأنفسنا وأنفسكم)* لا يجوز أن يعني
بالمدعو فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه هو الداعي، ولا يجوز أن يدعو
الإنسان نفسه، وإنما يصح أن يدعو غيره، كما لا يجوز أن يأمر نفسه وينهاها. وإذا كان
قوله تعالى: *(وأنفسنا وأنفسكم)* لا بد أن يكون إشارة إلى غير الرسول، وجب أن يكون
إشارة إلى أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه لا أحد يدعي دخول غير أمير المؤمنين
وغير زوجته وولده عليهم السلام في المباهلة... (2). وقال بتفسير الآية: واستدل
أصحابنا بهذه الآية على أن أمير المؤمنين عليه السلام كان أفضل الصحابة من وجهين:
(هامش)
(1) الشافي في الإمامة 2 / 254. (2) تلخيص الشافي 3 / 6 - 7. (*)
ص 261
أحدهما: إن موضوع المباهلة ليتميز المحق من المبطل، وذلك لا يصح أن يفعل إلا بمن هو
مأمون الباطن، مقطوعا على صحة عقيدته، أفضل الناس عند الله. والثاني: إنه صلى الله
عليه وآله وسلم جعله مثل نفسه بقوله: *(وأنفسنا وأنفسكم...)*(1). * وقال الإربلي:
ففي هذه القضية بيان لفضل علي عليه السلام، وظهور معجز النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، فإن النصارى علموا أنهم متى باهلوه حل بهم العذاب، فقبلوا الصلح ودخلوا تحت
الهدنة، وإن الله تعالى أبان أن عليا هو نفس رسول الله كاشفا بذلك عن بلوغه نهاية
الفضل، ومساواته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكمال والعصمة من الآثام، وإن
الله جعله وزوجته وولديه - مع تقارب سنهما - حجة لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم
وبرهانا على دينه، ونص على الحكم بأن الحسن والحسين أبناؤه، وأن فاطمة عليها السلام
نساؤه المتوجه إليهن الذكر والخطاب في الدعاء إلى المباهلة والاحتجاج، وهذا فضل لم
يشاركهم فيه أحد من الأمة ولا قاربهم (2). * وقال العلامة الحلي: أجمع المفسرون
على أن *(أبناءنا)* إشارة إلى الحسن والحسين، و*(أنفسنا)* إشارة إلى علي عليه
السلام، فجعله الله نفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد المساواة، ومساوي
الأكمل الأولى بالتصرف أكمل وأولى بالتصرف، وهذه الآية أدل دليل على علو رتبة
مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه تعالى حكم بالمساواة لنفس رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وأنه تعالى عينه في استعانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(هامش)
(1) التبيان في تفسير القرآن 2 / 485. (2) كشف الغمة في معرفة الأئمة 1 / 233. (*)
ص 262
في الدعاء، وأي فضيلة أعظم من أن يأمر الله نبيه بأن يستعين به على الدعاء إليه
والتوسل به؟! ولمن حصلت هذه المرتبة؟! (1). أقول: وعلى هذا الغرار كلمات غيرهم من
علمائنا الكبار في مختلف الأعصار... فإنهم استدلوا على إمامة أمير المؤمنين عليه
السلام بطائفتين من الأدلة، الأولى هي النصوص، والثانية هي الدالة على الأفضلية،
والأفضلية مستلزمة للإمامة، وهو المطلوب. وخلاصة الاستدلال بالآية هو: 1 - إن الآية
المباركة نص في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، لأنها تدل على المساواة بين النبي
وبينه عليه السلام، ومساوي الأكمل الأولى بالتصرف، أكمل وأولى بالتصرف. 2 - إن قضية
المباهلة وما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم - قولا وفعلا - تدل على أفضلية
أمير المؤمنين عليه السلام، وذلك لوجوه منها: أولا: إن هذه القضية تدل على أن عليا
وفاطمة والحسنين عليهم السلام، أحب الناس إلى رسول الله، والأحبية تستلزم الأفضلية.
قال البيضاوي: أي يدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى
المباهلة... (2). فقال الشهاب الخفاجي في حاشيته: ألصقهم بقلبه، أي: أحبهم
وأقربهم إليه .
(هامش)
(1) نهج الحق وكشف الصدق: 177. (2) تفسير البيضاوي بحاشية الشهاب 3 / 32. (*)
ص 263
وقال: قوله: وإنما قدمهم...، يعني: أنهم أعز من نفسه، ولذا يجعلها فداء لهم، فلذا
قدم ذكرهم اهتماما به. وأما فضل آل الله والرسول فالنهار لا يحتاج إلى دليل (1).
وكذا، قال الخطيب الشربيني (2)، والشيخ سليمان الجمل (3)، وغيرهما. وقال القاري:
فنزله منزلة نفسه لما بينهما من القرابة والأخوة (4). وثانيا: دلالة قوله صلى
الله عليه وآله وسلم لأهل البيت، لما أخرجهم للمباهلة: إذا أنا دعوت فأمنوا .
قال أسقفهم: إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من جباله لأزاله، فلا
تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة (5). فإن ذلك يدل
على دخل لهم في ثبوت نبوته وصدق كلامه، وفي إذلال الخصوم وهلاكهم لو باهلوا... فكان
لهم الأثر الكبير والسهم الجزيل في نصرة الدين ورسول رب العالمين، ولا ريب أن من
كان له هذا الشأن في مباهلة الأنبياء كان أفضل ممن ليس له ذلك. قال القاساني: إن
لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إياهم به،
وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري، فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال
بدننا من روحنا في الهيئات الواردة
(هامش)
(1) حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي 3 / 32. (2) السراج المنير في تفسير القرآن 1
/ 222. (3) الجمل على الجلالين 1 / 282. (4) المرقاة في شرح المشكاة 5 / 589. (5)
الكشاف 1 / 369، تفسير الخازن 1 / 242، السراج المنير في تفسير القرآن 1 / 222،
المراغي 3 / 175، وغيرهم ممن تقدم أو تأخر. (*)
ص 264
عليه، كالغضب، والحزن، والفكر في أحوال المعشوق، وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند حدوث
الإرادات والعزائم، وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من
هيئات أرواحنا، فإذا اتصل نفس قدسي به كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي
تأثير ما يتصل به، فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد.
ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه السلام بالخوف، وأحجمت عن المباهلة
وطلبت الموادعة بقبول الجزية؟ (1). أقول: فكان أهل البيت عليهم السلام شركاء مع
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا التأثير العظيم، وهذه مرتبة لم يبلغ عشر
معشارها غيرهم من الأقرباء والأصحاب. وعلى الجملة، فإن المباهلة تدل على أفضلية
أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأفضل هو
المتعين للإمامة بالاتفاق من المسلمين، كما اعترف به حتى مثل ابن تيمية (2). ونتيجة
الاستدلال بالآية المباركة وما فعله النبي وقاله، هو أن الله عز وجل أمر رسوله بأن
يسمي عليا نفسه، كي يبين للناس أن عليا هو الذي يتلوه ويقوم مقامه في الإمامة
الكبرى والولاية العامة، لأن غير الواجد لهذه المناصب لا يأمر الله ورسوله بأن
يسميه نفسه. هذا، وفي الآية دلالة على أن الحسنين ابنا رسول الله صلى الله عليه
(هامش)
(1) تفسير القاسمي 2 / 857. (2) نص عليه في مواضع من منهاجه، انظر مثلا: 6 / 475 و8
/ 228. (*)
ص 265
وآله وسلم، وهذا ما نص عليه غير واحد من أكابر القوم (1). وقد جاء في الكتب أن عليا
عليه السلام كان الكاتب لكتاب الصلح (2) وأنه توجه بعد ذلك إلى نجران بأمر النبي
لجمع الصدقات ممن أسلم منهم وأخذ الجزية ممن بقي منهم على دينه (3). ثم إن أصحابنا
يعضدون دلالة الآية الكريمة على المساواة بعدة من الروايات: كقوله صلى الله عليه
وآله وسلم لبريدة بن الحصيب عندما شكا عليا عليه السلام: يا بريدة! لا تبغض عليا
فإنه مني وأنا منه ولعموم المسلمين في تلك القصة: علي مني وأنا من علي، وهو
وليكم من بعدي (4). وقوله وقد سئل عن بعض أصحابه، فقيل: فعلي؟! قال: إنما
سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي (5). وقوله: خلقت أنا وعلي من نور واحد .
وقوله: خلقت أنا وعلي من شجرة واحدة (6). وقوله - في جواب قول جبرئيل في أحد:
يا محمد! إن هذه لهي المواساة -: يا جبرئيل، إنه مني وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا
منكما (7).
(هامش)
(1) تفسير الرازي وغيره من التفاسير، بتفسير الآية. (2) سنن البيهقي 10 / 120،
وغيره. (3) شرح المواهب اللدنية 4 / 43. (4) هذا حديث الولاية، وقد بحثنا عنه
بالتفصيل سندا ودلالة في الجزء الخامس عشر من كتابنا. (5) كفاية الطالب في مناقب
علي بن أبي طالب: 155. (6) حديث النور، وحديث الشجرة، بحثنا عنهما بالتفصيل سندا
ودلالة في الجزء الخامس من كتابنا. (7) مسند أحمد 4 / 437، المستدرك على الصحيحين 3
/ 11، تاريخ الطبري 3 / 17، الكامل في التاريخ 2 / 63 ومصادر أخرى في التاريخ
والحديث. (*)
ص 266
أقول: وستأتي أحاديث أخر فيما بعد، إن شاء الله. ومما يستدل به أيضا: قوله صلى الله
عليه وآله وسلم: فاطمة بضعة مني... حيث استدل به غير واحد من أئمة القوم
بأفضلية فاطمة على أبي بكر وعمر، لكونها بضعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
وهو أفضل منهما بالإجماع (1)، فإن عليا عليه السلام أفضل منها بالإجماع كذلك. ثم إن
غير واحد من أعلام أهل السنة اعترف بدلالة القصة على فضيلة فائقة لأهل البيت عليهم
السلام. قال الزمخشري: وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم
السلام (2). وقال ابن روزبهان: لأمير المؤمنين علي عليه السلام في هذه الآية
فضيلة عظيمة وهي مسلمة، ولكن لا تصير دالة على النص بإمامته (3). أقول: فلا أقل
من الدلالة على الأفضلية، لأن هذه الفضيلة غير حاصلة لغيره، فهو أفضل الصحابة،
والأفضلية تستلزم الإمامة. ومن هنا نرى الفخر الرازي لا يقدح في دلالة الآية على
أفضلية علي على سائر الصحابة، وإنما يناقش الشيخ الحمصي في استدلاله بها على
(هامش)
(1) فتح الباري 7 / 132، فيض القدير 4 / 421، المرقاة في شرح المشكاة 5 / 348. (2)
الكشاف 1 / 370. (3) إبطال الباطل - مع إحقاق الحق - 3 / 63. (*)
ص 267
أفضليته على سائر الأنبياء، وسيأتي كلامه في الفصل الخامس. وتبعه النيسابوري وهذه
عبارته: أي: يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ويأت هو بنفسه وبمن هو كنفسه إلى
المباهلة، وإنما يعل إتيانه بنفسه من قرينة ذكر النفس ومن إحضار من هم أعز من
النفس، ويعلم إتيان من هو بمنزلة النفس من قرينة أن الإنسان لا يدعو نفسه. *(ثم
نبتهل)*: ثم نتباهل... وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين - وهما ابنت البنت -
يصح أن يقال: إنهما ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم
وعد أن يدعو أبناءه ثم جاء بهما. وقد تمسك الشيعة قديما وحديثا بها في أن عليا أفضل
من سائر الصحابة، لأنها دلت على أن نفس علي مثل نفس محمد إلا في ما خصه الدليل.
وكان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي - وكان متكلم الاثني عشرية - يزعم
أن عليا أفضل من سائر الأنبياء سوى محمد. قال: وذلك أنه ليس المراد بقوله:
*(وأنفسنا)* نفس محمد، لأن الإنسان لا يدعو نفسه، فالمراد غيره، وأجمعوا على أن
الغير كان علي بن أبي طالب... وأجيب بأنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن
محمدا أفضل من سائر الأنبياء فكذا انعقد الإجماع بينهم - قبل ظهور هذا الإنسان -
على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي. وأجمعوا على أن عليا عليه السلام ما كان نبيا...
وأما فضل أصحاب الكساء فلا شك في دلالة الآية على ذلك، ولهذا ضمهم إلى نفسه، بل
قدمهم في الذكر... (1).
(هامش)
(1) تفسير النيسابوري - هامش الطبري - 3 / 214 - 215. (*)
ص 268
الفصل الرابع: في دفع شبهات المخالفين

وتلخص الكلام في الفصل السابق في أن الآية
المباركة دالة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، إن لم يكن بالنص فبالدلالة على
العصمة على الأفضلية للأحبية والأقربية وغيرهما من الوجوه... ولم يكن هناك أي مجال
للطعن في سند الحديث أو التلاعب بمتنه... فلننظر في كلمات المخالفين في مرحلة
الدلالة: * أما إمام المعتزلة، فقد قال: دليل آخر لهم: وربما تعلقوا بآية
المباهلة وأنها لما نزلت جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا وفاطمة والحسن
والحسين عليهم السلام، وأن ذلك يدل على أنه الأفضل، وذلك يقتضي أنه بالإمامة أحق،
ولا بد من أن يكون هو المراد بقوله: *(وأنفسنا وأنفسكم)*، ولا يجوز أن يجعله من
نفسه إلا وهو يتلوه في الفضل. وهذا مثل الأول في أنه كلام في التفضيل، ونحن نبين أن
الإمامة قد تكون في من ليس بأفضل. وفي شيوخنا من ذكر عن أصحاب الآثار أن عليا عليه
السلام لم يكن في المباهلة. قال شيخنا أبو هاشم: إنما خصص صلى الله عليه وآله وسلم
من تقرب
ص 269
منه في النسب ولم يقصد الإبانة عن الفضل، ودل على ذلك بأنه عليه السلام أدخل فيها
الحسن والحسين عليهما السلام مع صغرهما لما اختصا به من قرب النسب، وقوله:
*(وأنفسنا وأنفسكم)* يدل على هذا المعنى، لأنه أراد قرب القرابة، كما يقال في الرجل
يقرب في النسب من القوم: أنه من أنفسهم. ولا ينكر أن يدل ذلك على لطف محله من رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وشدة محبته له وفضله، وإنما أنكرنا أن يدل ذلك على
أنه الأفضل أو على الإمامة... (1). أقول: ويتلخص هذا الكلام في أمور: الأول: إن
الإمامة قد تكون في من ليس بأفضل. وهذا - في الواقع - تسليم باستدلال الإمامية
بالآية على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام، وكون الإمامة في من ليس بأفضل لم
يرتضه حتى مثل ابن تيمية! والثاني: إن عليا لم يكن في المباهلة. وهذا أيضا دليل على
تمامية استدلال الإمامية، وإلا لم يلتجئوا إلى هذه الدعوى، كما التجأ بعضهم -
كالفخر الرازي - في الجواب عن حديث الغدير، بأن عليا لم يكن في حجة الوداع!
والثالث: إنه لم يكن القصد إلى الإبانة عن الفضل، بل أراد قرب القرابة. وهذا باطل،
لأنه لو أراد ذلك فقط، لأخرج غيرهم من أقربائه كالعباس، وهذا ما تنبه إليه ابن
تيمية فأجاب بأن العباس لم يكن من السابقين الأولين،
(هامش)
(1) المغني في الإمامة: 20 القسم 1 / 142. (*)
ص 270
فاعترف - من حديث يدري أو لا يدري - بالحق. هذا، ولا يخفى أن معتمد الأشاعرة في
المناقشة هو هذا الوجه الأخير، وبهذا يظهر أن القوم عيال على المعتزلة، وكم له من
نظير!! * وقال ابن تيمية (1): (1) أما أخذه عليا وفاطمة والحسن والحسين في
المباهلة، فحديث صحيح، رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال في حديث طويل: لما نزلت
هذه الآية: *(فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)*
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: اللهم هؤلاء
أهلي . ولكن لا دلالة في ذلك على الإمامة ولا على الأفضلية.
وقوله: (قد جعل الله نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والاتحاد محال،
فبقي المساواة له، وله الولاية العامة، فكذا لمساويه). قلنا: لا نسلم أنه لم يبق
إلا المساواة، ولا دليل على ذلك، بل حمله على ذلك ممتنع، لأن أحدا لا يساوي رسول
الله صلى الله عليه وسلم، لا عليا ولا غيره. وهذا اللفظ في لغة العرب لا يقتضي
المساواة، قال تعالى في قصة الإفك: *(لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات
بأنفسهم خيرا)* وقد قال في قصة بني إسرائيل: *(فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم
ذلكم خير لكم عند بارئكم)* أي: يقتل بعضكم بعضا، ولم يوجب ذلك أن يكونوا متساوين،
ولا أن يكون من عبد العجل مساويا لمن لم يعبده.
(هامش)
(1) أوردنا كلامه بطوله، ليظهر أن غيره تبع له، لئلا يظن ظان أنا تركنا منه شيئا له
تأثير في البحث! (*)
ص 271
وكذلك قد قيل في قوله: *(ولا تقتلوا أنفسكم)* أي: لا يقتل بعضكم بعضا، وإن كانوا
غير متساويين. وقال تعالى: *(ولا تلمزوا أنفسكم)* أي، لا يلمز بعضكم بعضا فيطعن
عليه ويعيبه، وهذا نهي لجميع المؤمنين أن لا يفعل بعضهم ببعض هذا الطعن، مع أنهم
غير متساوين لا في الأحكام ولا في الفضيلة، ولا الظالم كالمظلوم، ولا الإمام
كالمأموم. ومن هذا الباب قوله تعالى: *(ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم)* أي: يقتل
بعضكم بعضا. وإذا كان اللفظ في قوله: *(وأنفسنا وأنفسكم)* كاللفظ في قوله: *(ولا
تلمزوا أنفسكم)*.. *(لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا)* ونحو
ذلك، مع أن التساوي هنا ليس بواجب، بل ممتنع، فكذلك هناك وأشد. بل هذا اللفظ يدل
على المجانسة والمشابهة، والتجانس والمشابهة يكون بالاشتراك في بعض الأمور،
كالاشتراك في الإيمان، فالمؤمنون إخوة في الإيمان، وهو المراد بقوله: *(لولا إذ
سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا)* وقوله: *(ولا تلمزوا أنفسكم)*. وقد
يكون بالاشتراك في الدين، وإن كان فيهم المنافق، كاشتراك المسلمين في الإسلام
الظاهر، وإن كان مع ذلك الاشتراك في النسب فهو أوكد، وقوم موسى كانوا *(أنفسنا)*
بهذا الاعتبار. قوله تعالى: *(تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا
وأنفسكم)* أي: رجالنا ورجالكم، أي: الرجال الذين هم من جنسنا في الدين والنسب،
والرجال الذين هم من جنسكم، والمراد التجانس في القرابة فقط،
ص 272
لأنه قال: *(أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم)* فذكر الأولاد وذكر النساء والرجال،
فعلم أنه أراد الأقربين إلينا من الذكور والإناث من الأولاد والعصبة، ولهذا دعا
الحسن والحسين من الأبناء، ودعا فاطمة من النساء، ودعا عليا من رجاله، ولم يكن عنده
أحد أقرب إليه نسبا من هؤلاء، وهم الذين أدار عليهم الكساء. والمباهلة إنما تحصل
بالأقربين إليه، وإلا فلو باهل بالأبعدين في النسب وإن كانوا أفضل عند الله لم يحصل
المقصود، فإن المراد أنهم يدعون الأقربين كما يدعو هو الأقرب إليه. والنفوس تحنو
على أقاربها ما لا تحنوا على غيرهم، وكانوا يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ويعلمون أنهم إن باهلوه نزلت البهلة عليهم وعلى أقاربهم، واجتمع خوفهم على
أنفسهم وعلى أقاربهم، فكان ذلك أبلغ في امتناعهم وإلا فالإنسان قد يختار أن يهلك
ويحيا ابنه، والشيخ الكبير قد يختار الموت إذا بقي أقاربه في نعمة ومال، وهذا موجود
كثير، فطلب منهم المباهلة بالأبناء والنساء والرجال والأقربين من الجانبين، فلهذا
دعا هؤلاء. وآية المباهلة نزلت سنة عشر، لما قدم وفد نجران، ولم يكن النبي صلى الله
عليه وسلم قد بقي من أعمامه إلا العباس، والعباس لم يكن من السابقين الأولين، ولا
كان له به اختصاص كعلي. وأما بنو عمه فلم يكن فيهم مثل علي، وكان جعفر قد قتل قبل
ذلك، فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر، وجعفر قتل بمؤتة سنة
ثمان، فتعين علي رضي الله عنه. ولكونه تعين للمباهلة إذ ليس في الأقارب من يقوم
مقامه، لا يوجب أن يكون مساويا للنبي صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء، بل ولا
أن يكون
ص 273
أفضل من سائر الصحابة مطلقا، بل له بالمباهلة نوع فضيلة، وهي مشتركة بينه وبين
فاطمة وحسن وحسين، ليست من خصائص الإمامة، فإن خصائص الإمامة لا تثبت للنساء، ولا
يقتضي أن يكون من باهل به أفضل من جميع الصحابة، كما لم يوجب أن تكون فاطمة وحسن
وحسين أفضل من جميع الصحابة. وأما قول الرافضي: لم يكن المقصود إجابة الدعاء، فإن
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وحده كاف، ولو كان المراد بمن يدعوه معه أن يستجاب
دعاؤه لدعا المؤمنين كلهم ودعا بهم، كما كان يستسقي بهم وكما كان يستفتح بصعاليك
المهاجرين، وكان يقول: وهل تنصرون أو ترزقون إلا بضعفائكم؟! بدعائهم وصلاتهم
وإخلاصهم! ومن المعلوم أن هؤلاء وإن كانوا مجابين، فكثرة الدعاء أبلغ في الإجابة،
لكن لم يكن المقصود دعوة من دعاء لإجابة دعائه، بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل!
ونحن نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لو دعا أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة
والزبير وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة، لكانوا أعظم الناس
استجابة لأمره، وكان دعاء هؤلاء وغيرهم أبلغ في إجابة الدعاء، لكن لم يأمره الله
سبحانه بأخذهم معه، لأن ذلك لا يحصل به المقصود. فإن المقصود أن أولئك يأتون بمن
يشفقون عليه طبعا، كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم، فلو دعا
النبي صلى الله عليه وسلم قوما أجانب لأتى أولئك بأجانب، ولم يكن يشتد عليه بنزول
البهلة بأولئك الأجانب، كما يشتد عليهم نزولها بالأقربين إليهم، فإن طبع البشر يخاف
على
ص 274
أقربيه ما لا يخاف على الأجانب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو قرابته وأن
يدعو أولئك قرابتهم. والناس عند المقابلة تقول كل طائفة للأخرى: ارهنوا عندنا
أبناءكم ونساءكم، فلو رهنت إحدى الطائفتين أجنبيا لم يرض أولئك، كما أنه لو دعا
النبي صلى الله عليه وسلم الأجانب لم يرض أولئك المقابلون له، ولا يلزم أن يكون أهل
الرجل أفضل عند الله إذا قابل بهم لمن يقابله بأهله. فقد تبين أن الآية لا دلالة
فيها أصلا على مطلوب الرافضي. لكنه - وأمثاله ممن في قبله زيغ - كالنصارى الذين
يتعلقون بالألفاظ المجملة ويدعون النصوص الصريحة، ثم قدحه في خيار الأمة بزعمه
الكاذب، حيث زعم أن المراد بالأنفس المساوون، وهو خلاف المستعمل في لغة العرب. ومما
يبين ذلك أن قوله: *(نساءنا)* لا يختص بفاطمة، بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها
في ذلك، لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة، فإن رقية وأم كلثوم وزينب كن قد توفين
قبل ذلك. فكذلك *(أنفسنا)* ليس مختصا بعلي، بل هذه صيغة جمع، كما أن *(نساءنا)*
صيغة جمع، وكذلك *(أبناءنا)* صيغة جمع، وإنما دعا حسنا وحسينا لأنه لم يكن ممن ينسب
إليه بالبنوة سواهما، فإن إبراهيم إن كان موجودا إذ ذاك فهو طفل لا يدعى، فإن
إبراهيم هو ابن مارية القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب مصر، وأهدى له البغلة
ومارية وسيرين، فأعطى سيرين لحسان بن ثابت، وتسرى مارية فولدت له إبراهيم، وعاش
بضعة عشر شهرا ومات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن له مرضعا في الجنة تتم
ص 275
رضاعته، وكان إهداء المقوقس بعد الحديبية بل بعد حنين (1). أقول: كان هذا نص كلام
ابن تيمية في مسألة المباهلة، وقد جاء فيه: 1 - الاعتراف بصحة الحديث. وفيه رد على
المشككين في صحته وثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 2 - الاعتراف
باختصاص القضية بالأربعة الأطهار. وفيه رد على المنحرفين عن أهل البيت عليهم
السلام، المحرفين للحديث بنقص علي منهم أو زيادة غيرهم عليهم!! 3 - الاعتراف
بأنهم هم الذين أدار عليهم الكساء. وفيه رد على من زعم دخول غيرهم في آية التطهير،
بل فيه دلالة على تناقض ابن تيمية، لزعمه - في موضع من منهاجه، دخول الأزواج أخذا
بالسياق، كما تقدم في مبحث تلك الآية. 4 - الاعتراف بأن في المباهلة نوع فضيلة
لعلي. وفيه رد على من يحاول إنكار ذلك. ثم إن ابن تيمية ينكر دلالة الحديث على
الإمامة مطلقا بكلام مضطرب مشتمل على التهافت، وعلى جواب - قال الدهلوي عنه -: هو
من كلام النواصب!! * فأول شيء قاله هو: إن أحدا لا يساوي رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
(هامش)
(1) منهاج السنة 7 / 122 - 130. (*)
ص 276
ونحن أيضا نقول: إن أحدا لا يساويه لولا الآية والأحاديث القطعية الواردة عنه،
كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: علي مني وأنا من علي، وهو وليكم بعدي (1) وقوله
- في قصة البراءة -: لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني (2). وقوله صلى الله عليه
وآله وسلم - لوفد ثقيف -: لتسلمن أو لأبعثن عليكم رجلا مني - أو قال: نفسي -
ليضربن أعناقكم وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم قال عمر: فوالله ما تمنيت
الإمارة إلا يومئذ، فجعلت أنصب صدري رجاء أن يقول: هو هذا، فالتفت إلى علي فأخذ
بيده وقال: هو هذا، هو هذا (3). وقوله صلى الله عليه وآله وسلم منزلا إياه
منزلة نفسه: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله فاستشرف
له أبو بكر وعمر وغيرهما، كل يقول: أنا هو؟ قال: لا، ثم قال: وكن خاصف النعل
وكان قد أعطى عليا نعله يخصفها (4). إلى غير ذلك من الأحاديث، وقد سبق ذكر بعضها
أيضا. فإذا كان هذا قول الله وكلام الرسول، فماذا نفعل نحن؟! * ثم إنه أنكر دلالة
لفظ الأنفس على المساواة في لغة العرب،
(هامش)
(1) هذا حديث الولاية، وهو من أصح الأحاديث وأثبتها، وقد بحثنا عنه سندا ودلالة في
الجز الخامس عشر من أجزاء كتابنا. (2) وهذا أيضا من أصح الأحاديث وأثبتها، راجع:
مسند أحمد 1 / 3، 151، وصحيح الترمذي، والخصائص للنسائي، والمستدرك على الصحيحين،
وراجع التفاسير في سورة البراءة. (3) راجع: الاستيعاب 3 / 1109، ترجمة أمير
المؤمنين. (4) أخرجه أحمد 3 / 33، والحاكم 3 / 122، والنسائي في الخصائص، وابن عبد
البر وابن حجر وابن الأثير بترجمته، وكذا غيرهم. (*)
ص 277
فقال بأن المراد منه في الآية هو من يتصل بالقرابة واستشهد لذلك بآيات من القرآن.
لكن ماذا يقول ابن تيمية في الآيات التي وقع فيها المقابلة بين النفس و
الأقرباء كما في قوله تعالى: *(يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارا)*(1)
وقوله: *(الذين خسروا أنفسهم وأهليهم)*(2) فكذلك آية المباهلة. غير أن النفس في
الآيتين المذكورتين مستعملة في نفس الإنسان على وجه الحقيقة، أما في آية المباهلة
فهي مستعملة - لتعذر الحقيقة - على وجه المجاز لمن نزل بمنزلة النفس، وهو علي عليه
السلام، للحديث القطعي الوارد في القضية. * ثم إنه أكد كون أخذ الأربعة الأطهار
عليهم السلام لمجرد القرابة، بإنكار الاستعانة بهم في الدعاء، فقال: لم يكن
المقصود إجابة الدعاء، فإن دعاء النبي وحده كاف ! لكنه اجتهاد في مقابلة النص، فقد
روى القوم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: إذا أنا دعوت فأمنوا (3)، وأنه
قد عرف أسقف نجران ذلك حيث قال: إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من
مكانه لأزاله بها أو: لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها (4). *
ثم قال ابن تيمية: لم يكن المقصود دعوة من دعاه لإجابة دعائه، بل لأجل المقابلة
بين الأهل والأهل... فإن المقصود أن أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعا كأبنائهم
ونسائهم ورجالهم.
(هامش)
(1) سورة التحريم 66: 6. (2) سورة الزمر 39: 15، وسورة الشورى 42: 45. (3) تقدم ذكر
بعض مصادره. (4) الكشاف، الرازي، البيضاوي وغيرهم، بتفسير الآية. (*)
ص 278
وذا كلام النواصب... كما نص عليه الدهلوي في عباراته الآتية. وحاصل كلامه: أنه إنما
دعاهم لكونهم أقرباءه فقط، على ما كان عليه المتعارف في المباهلة، فلا مزية لمن
دعاه أبدا، فلا دلالة في الآية على مطلوب الشيعة أصلا، لكنهم كالنصارى...! لكنه
يعلم بوجود الكثيرين من أقربائه - من الرجال والنساء - وعلى رأسهم عمه العباس، فلو
كان التعبير بالنفس لمجرد القرابة لدعا العباس وأولاده وغيرهم من بني هاشم! فيناقض
نفسه ويرجع إلى الاعتراف بمزية لمن دعاهم، وأن المقام ليس مقام مجرد القرابة...!!
انظر إلى كلامه: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد بقي من أعمامه إلا العباس،
والعباس لم يكن من السابقين الأولين، ولا كان له به اختصاص كعلي، وأما بنو عمه فلم
يكن فيهم مثل علي... فتعين علي رضي الله عنه، وكونه تعين للمباهلة إذ ليس في
الأقارب من يقوم مقامه لا يوجب... بل له بالمباهلة نوع فضيلة... . إذن!! لا بد في
المباهلة من أن يكون المباهل به صاحب مقام يمتاز به من غيره، ويقدمه على من سواه،
وقد ثبت ذلك لعلي عليه السلام بحيث ناسب أن يأمر الله ورسوله بأن يعبر عنه لأجله
بأنه نفسه، وهذا هو المقصود من الاستدلال بالآية المباركة، وبه يثبت المطلوب. فانظر
كيف اضطربت كلمات الرجل وناقض نفسه!! * غير أنه بعد الاعتراف بالفضيلة تأبى نفسه
السكوت عليها، وإذ لا يمكنه دعوى مشاركة زيد وعمر وبكر...!! معه فيها كما زعم ذلك
في غير موضع من كتابه فيقول:
ص 279
وهي مشتركة بينه وبين فاطمة وحسن وحسين... . وهكذا قال - في موضع من كتابه - حول
آية التطهير لما لم يجد بدا من الاعتراف باختصاصها بأهل البيت... لكنه غفل أو تغافل
أن هذه المشاركة لا تضر باستدلال الشيعة بل تنفع، إذ تكون الآية من جملة الدلائل
القطعية على أفضلية بضعة النبي فاطمة وولديه الحسنين عليهم السلام من سائر الصحابة
عدا أمير المؤمنين عليه السلام - كما دل على ذلك حديث: فاطمة بضعة مني... وقد
بينا ذلك سابقا - فعلي هو الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآية المباركة
والحديث القطعي الوارد في شأن نزولها. * وقال أبو حيان: *(ندع أبناءنا وأبناءكم
ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)*. أي: يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى
المباهلة. وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب ب قل وبين من حاجه، وفسر
على هذا الوجه (الأبناء) بالحسن والحسين، وبنساءه فاطمة، والأنفس بعلي. قاله
الشعبي. ويدل على أن ذلك مختص بالنبي مع من حاجه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد
بن أبي وقاص، قال: لما نزلت هذه الآية *(تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم)* دعا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا، فقال: اللهم هؤلاء أهلي. وقال قوم:
المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين، بدليل ظاهر قوله *(ندع أبناءنا وأبناءكم)* على
الجمع، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته، ولو عزم نصارى نجاران على المباهلة
وجاءوا لها لأمر النبي صلى الله
ص 280
عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلتهم. وقيل: المراد ب *(أنفسنا)*
الإخوان. قاله ابن قتيبة. قال تعالى: *(ولا تلمزوا أنفسكم)* أي: إخوانكم. وقيل: أهل
دينه. قاله أبو سليمان الدمشقي. وقيل: الأزواج. وقيل: أراد القرابة القريبة. ذكرها
علي بن أحمد النيسابوري. قال أبو بكر الرازي: وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين
ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو أحمد ابن علان: كانا إذ ذاك مكلفين،
لأن المباهلة عنده لا تصح إلا من مكلف. وقد طول المفسرون بما رووا في قصة المباهلة،
ومضمونها: أنه دعاهم إلى المباهلة وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعلي إلى الميعاد،
وأنهم كفوا عن ذلك ورضوا بالإقامة على دينهم، وأن يؤدوا الجزية، وأخبرهم أحبارهم
أنهم إن باهلوا عذبوا وأخبر هو صلى الله عليه وسلم أنهم إن باهلوا عذبوا، وفي ترك
النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوته شاهد عظيم على صحة نبوته. قال الزمخشري: فإن قلت...
(1). أقول: لعل تقديمه حديث مسلم عن سعد في أن المراد من *(أنفسنا)* هو علي عليه
السلام... يدل على ارتضائه لهذا المعنى... لكن الحديث جاء في الكتاب محرفا بحذف
علي !!
(هامش)
(1) البحر المحيط 2 / 479 - 480. (*)
ص 281
وليته لم يذكر الأقاويل الأخرى، فإنها كلها هواجس نفسانية وإلقاءات شيطانية، لا
يجوز إيرادها بتفسير الآيات القرآنية. لكن يظهر منه الاعتماد على هذه الأقوال!! حين
ينفي بها الإجماع على أن المراد من *(أنفسنا)* هو علي عليه السلام، ليبطل استدلال
الشيخ الحمصي بالآية على أفضلية الإمام على سائر الأنبياء، كما سيأتي. * وقال
القاضي الإيجي وشارحه الجرجاني: ولهم - أي للشيعة ومن وافقهم - فيه أي - في بيان
أفضلية علي - مسلكان: الأول: ما يدل عليه - أي على كونه أفضل - إجمالا، وهو وجوه:
الأول: آية المباهلة، وهي قوله تعالى: *(تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)* لم يرد به نفس النبي، لأن الإنسان لا يدعو نفسه، بل
المراد به علي، دلت عليه الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل إنه عليه
السلام دعا عليا إلى ذلك المقام، وليس نفس علي نفس محمد حقيقة، فالمراد المساواة في
الفضل والكمال، فترك العمل به في فضيلة النبوة وبقي حجة في الباقي، فيساوي النبي في
كل فضيلة سوى النبوة، فيكون أفضل من الأمة. وقد يمنع: أن المراد ب *(أنفسنا)* علي
وحده، بل جميع قراباته وخدمه النازلون عرفا منزلة نفسه عليه السلام داخلون فيه، تدل
عليه صيغة الجمع (1).
(هامش)
(1) شرح المواقف 8 / 367. (*)
ص 282
أقول: لا يخفى اعترافهما بدلالة الآية على الأفضلية، وبكون علي في المباهلة، دلت
عليه الأخبار الصحيحة والروايات الثابتة عند أهل النقل وبدلالة *(أنفسنا)* على
المساواة . غير أنهما زعما دخول غيره معه في ذلك، لكنها قالا وقد يمنع وكأنهما
ملتفتان إلى بطلان ما زعماه، خصوصا كون المراد خدمه بالإضافة إلى جميع
قراباته ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج معه حتى عمه، فكيف يكون
المراد جميع قراباته وخدمه ؟!! * وقال ابن روزبهان: كان عادة أرباب المباهلة
أن يجمعوا أهل بيتهم وقراباتهم لتشمل البهلة سائر أصحابهم، فجمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم أولاده ونساءه، والمراد بالأنفس هاهنا: الرجال، كأنه أمر بأن يجمع نساءه
وأولاده ورجال أهل بيته، فكان النساء فاطمة، والأولاد الحسن والحسين، والرجال رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعلي. وأما دعوى المساواة التي ذكرها فهي باطلة قطعا،
وبطلانها من ضروريات الدين، لأن غير النبي صلى الله عليه وسلم من الأمة لا يساوي
النبي أصلا، ومن ادعى هذا فهو خارج عن الدين، وكيف يمكن المساواة والنبي نبي مرسل
خاتم الأنبياء أفضل أولي العزم، وهذه الصفات كلها مفقودة في علي نعم، لأمير
المؤمنين علي في هذه الآية فضيلة عظيمة وهي مسلمة، ولكن لا تصير دالة على النص
بإمامته (1).
(هامش)
(1) إبطال الباطل - مخطوط. راجع: إحقاق الحق 3 / 62. (*)
ص 283
أقول: وفي كلامه مطالب ثلاثة: الأول: إن ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان
جريا على عادة أرباب المباهلة... وهذا كلام النواصب في الجواب عن هذه الآية، كما نص
عليه صاحب التحفة الاثنا عشرية ، ويرد عليه ما تقدم من أنه لو كان كذلك فلماذا
لم يخرج العباس وبنيه وأمثالهم من الأقرباء؟ لكن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
دليل على أن للمقام خصوصية ولمن دعاهم مراتب عند الله تعالى، وليس جريا على عادة
العرب في مباهلة البعض مع البعض. والثاني: إن غير النبي من الأمة لا يساوي النبي
أصلا. وقد تقدم الجواب عنه عند الكلام مع ابن تيمية. والثالث: إن لأمير المؤمنين في
هذه الآية فضيلة عظيمة، وهي مسلمة. قلت: هي للأربعة كلهم لكن عليا أفضلهم، فهو
الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: لكن لا تصير دالة على النص
بإمامته. قلت: إن الآية تدل على المساواة بينه وبين النبي في الكمالات الذاتية، ولا
أقل من كونها دالة على فضيلة عظيمة - باعترافه - غير حاصلة لخصومه، فهو الأفضل، فهو
الإمام دون غيره بعد رسول الله. وتدل على المساواة بينهما في العصمة وتدل على كونه
مثله في الأولوية بالتصرف. فهو الإمام بعده وليس غيره.
ص 284
* وقال عبد العزيز الدهلوي ما تعريبه: ومنها آية المباهلة، وطريق تمسك الشيعة
بهذه الآية هو: أنه لما نزلت *(فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم
وأنفسنا وأنفسكم..)* إلى آخرها، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته ومعه علي
وفاطمة وحسن وحسين، فالمراد من *(أبناءنا)* الحسن والحسين، ومن *(أنفسنا)* الأمير،
وإذا صار نفس الرسول - وظاهر أن المعنى الحقيقي لكونه نفسه محال - فالمراد هو
المساوي، ومن كان مساويا لنبي عصره كان بالضرورة أفضل وأولى بالتصرف من غيره، لأن
المساوي للأفضل الأولى بالتصرف أفضل وأولى بالتصرف، فيكون إماما، إذ لا معنى للإمام
إلا الأفضل الأولى بالتصرف. هذا بيان وجه الاستدلال، ولا يخفى أنه بهذا التقريب غير
موجود في كلام أكثر علماء الشيعة، فلهذه الرسالة الحق عليهم من جهة تقريرها
وتهذيبها لأكثر أدلتهم، ومن شك في ذلك فلينظر إلى كتبهم ليجد كلماتهم متشتتة مضطربة
قاصرة عن إفادة مقصدهم. وهذه الآية في الأصل من جملة دلائل أهل السنة في مقابلة
النواصب، وذلك لأن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الأمير وأولئك الأجلة معه،
وتخصيصهم بذلك دون غيرهم يحتاج إلى مرجح، وهو لا يخلو عن أمرين: فإما لكونهم أعزة
عليه، وحينئذ يكون إخراجهم للمباهلة - وفيها بحسب الظاهر خطر - المهلكة، موجبا لقوة
وثوق المخالفين بصدق نبوته وصحة ما يخبر به عن عيسى وخلقته، إذ العاقل ما لم يكن
جازما بصدق دعواه لا يعرض أعزته إلى الهلاك والاستئصال. وهذا الوجه مختار أكثر أهل
السنة والشيعة، وهو الذي ارتضاه عبد الله
ص 285
المشهدي في إظهار الحق، فدلت الآية على كون هؤلاء الأشخاص أعزة على رسول الله،
وأنبياء الله مبرأون عن الحب والبغض النفسانيين، فليس ذلك إلا لدينهم وتقواهم
وصلاحهم، فبطل مذهب النواصب القائلين بخلاف ذلك. وإما لكي يشاركوه في الدعاء على
كفار نجران، ويعينوه بالتأمين على دعائه عليهم فيستجاب بسرعة، كما يقول أكثر الشيعة
وذكره عبد الله المشهدي أيضا، فتدل الآية - بناء عليه كذلك - على علو مرتبتهم في
الدين وثبوت استجابة دعائهم عند الله. وفي هذا أيضا رد على النواصب. وقد قدح
النواصب في كلا الوجهين وقالوا بأن إخراجهم لم يكن لشيء منهما، إنما كان لإلزام
الخصم بما هو مسلم الثبوت عنده، إذ كان مسلما عند المخالفين - وهم الكفار - أن
البهلة لا تعتبر إلا بحضور الأولاد والختن، والحلف على هلاكهم، فلذا أخرج النبي
أولاده وصهره معه ليلزمهم بذلك. وظاهر أن الأقارب والأولاد - كيفما كانوا - يكونون
أعزة على الإنسان في اعتقاد الناس وإن لم يكونوا كذلك عند الإنسان نفسه، يدل على
ذلك أنه لو كان هذا النوع من المباهلة حقا عنده صلى الله عليه وسلم لكان سائغا في
الشريعة، والحال أنه ممنوع فيها، فظهر أن ما صنعه إنما كان إسكاتا للخصم. وعلى هذا
القياس يسقط الوجه الثاني أيضا، فإن هلاك وفد نجران لم يكن من أهم المهمات، فقد مرت
عليه حوادث كانت أشد وأشق عليه من هذه القضية، ولم يستعن في شيء منها في الدعاء
بهؤلاء، على أن من المتفق عليه استجابة دعاء النبي في مقابلته مع الكفار، وإلا يلزم
تكذيبه ونقض الغرض من بعثته. فهذا كلام النواصب، وقد أبطله - بفضل الله تعالى - أهل
السنة بما لا مزيد
ص 286
عليه كما هو مقرر في محله، ولا نتعرض له خوفا من الإطالة. وعلى الجملة، فإن آية
المباهلة هي في الأصل رد على النواصب، لكن الشيعة يتمسكون بها في مقابلة أهل السنة،
وفي تمسكهم بها وجوه من الإشكال: أما أولا: فلأنا لا نسلم أن المراد *(بأنفسنا)* هو
الأمير، بل المراد نفسه الشريفة، وقول علمائهم في إبطال هذا الاحتمال بأن الشخص لا
يدعو نفسه غير مسموع، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث دعته نفسه إلى كذا و
دعوت نفسي إلى كذا *(فطوت له نفسه قتل أخيه)* و أمرت نفسي و شاورت نفسي إلى
غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء. فيكون حاصل *(ندع
أنفسنا)*: نحضر أنفسنا. وأيضا: فلو قررنا الأمير من قبل النبي مصداقا لقوله
*(أنفسنا)* فمن نقرره من قبل الكفار مع أنهم مشتركون في صيغة *(ندع)*، إذ لا معنى
لدعوة النبي إياهم وأبناءهم بعد قوله: *(تعالوا)*. فظهر أن الأمير داخل في
*(أبناءنا)* - كما أن الحسنين غير داخلين في الأبناء حقيقة وكان دخولهما حكما - لأن
العرف يعد الختن ابنا، من غير ريبة في ذلك. وأيضا: فقد جاء لفظ النفس بمعنى القريب
والشريك في الدين والملة ومن ذلك قوله تعالى: *(يخرجون أنفسهم من ديارهم)* أي: أهل
دينهم.. *(ولا تلمزوا أنفسكم)*.. *(لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم
خيرا)*، فلما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم في النسب والقرابة
والمصاهرة واتحاد في الدين والملة، وقد كثرت معاشرته والألفة معه حتى قال: علي
مني وأنا من علي كان التعبير عنه بالنفس غير بعيد، فلا تلزم
ص 287
المساواة كما لا تلزم في الآيات المذكورة. وأما ثانيا: فلو كان المراد مساواته في
جميع الصفات، يلزم الاشتراك في النبوة والخاتمية والبعثة إلى كافة الخلق، والاختصاص
بزيادة النكاح فوق الأربع، والدرجة الرفيعة في القيامة، والشفاعة الكبرى والمقام
المحمود، ونزول الوحي، وغير ذلك من الأحكام المختصة بالنبي، وهو باطل بالإجماع. ولو
كان المراد المساواة في البعض، لم يحصل الغرض، لأن المساواة في بعض صفات الأفضل
والأولى بالتصرف لا تجعل صاحبها أفضل وأولى بالتصرف، وهو ظاهر جدا. وأيضا: فإن
الآية لو دلت على إمامة الأمير لزم كونه إماما في زمن النبي وهو باطل بالاتفاق، فإن
قيد بوقت دون وقت - مع أنه لا دليل عليه في اللفظ - لم يكن مفيدا للمدعى، لأن أهل
السنة أيضا يثبتون إمامته في وقت من الأوقات (1). أقول: وفي كلامه مطالب: 1 -
دعوى أن التقريب الذي ذكره للاستدلال بالآية، غير وارد في أكثر كتب الشيعة، قال:
وكذلك الأدلة الأخرى غالبا،... . وأنت ترى كذب هذه الدعوى بمراجعتك لوجه الاستدلال
في بحثنا هذا، إذ تجد العبارة مذكورة في كتب أصحابنا، إما باللفظ وإما بما يؤدي
معناه، فلا نطيل.
(هامش)
(1) التحفة الاثنا عشرية: 206 - 207. وقد ذكرنا كلامه بطوله لئلا يظن ظان أنا
أسقطنا منه شيئا مما له دخل في البحث مع الشيعة حول الآية المباركة. (*)
ص 288
2 - نسبة المناقشة في دلالة الآية المباركة بما ذكره إلى النواصب، وأن أهل السنة
يدافعون عن أهل البيت في قبال أولئك... وقد وجدنا ما عزاه إلى النواصب في كلام ابن
تيمية وابن روزبهان، في ردهما على العلامة الحلي، فالحمد لله الذي كشف عن حقيقة
حالهم بما أجراه على لسانهم... 3 - عدم التسليم بأن المراد من *(أنفسنا)* هو علي
بل المعنى: نحضر أنفسنا ، واستشهد - في الرد على قول الإمامية بأن الشخص لا
يدعو نفسه - بعبارات شائعة في كلام العرب في القديم والحديث كما قال. ونحن لا
نناقشه في المعاني المجازية لتلك العبارات، ونكتفي بالقول - مضافا إلى اعتراف غير
واحد من أئمة القوم بأن الإنسان الداعي إنما يدعو غيره لا نفسه (1) - بأن الأحاديث
القطعية عند الفريقين دلت على أن المراد من *(أنفسنا)* هو علي عليه السلام، فما
ذكره يرجع في الحقيقة إلى عدم التسليم بتلك الأحاديث وتكذيب رواتها ومخرجيها، وهذا
ما لا يمكنه الإلتزام به. 4 - إدخال علي عليه السلام في *(أبناءنا)*..!! وفيه: أنه
مخالف للنصوص. ولا يخفى أنه محاولة لإخراج الآية عن الدلالة على كون علي نفس النبي،
لعلمه بالدلالة حينئذ على المساواة، وإلا فإدخاله في *(أبناءنا)* أيضا اعتراف
بأفضليته!! واستشهاده بالآيات مردود بما عرفت في الكلام مع ابن تيمية. على أنه
اعترف بحديث علي مني وأنا من علي وهو مما لا يعترف به ابن تيمية وسائر النواصب.
(هامش)
(1) لاحظ: شيخ زادة على البيضاوي 1 / 634. (*)
ص 289
5 - رده على المساواة بأنه: إن كان المراد المساواة في جميع الصفات، يلزم المساواة
بين علي والنبي في النبوة والرسالة والخاتمية والبعثة إلى الخلق كافة ونزول
الوحي... وإن كان المراد المساواة في بعض الصفات فلا يفيد المدعى... قلنا: المراد
هو الأول، إلا النبوة، والأمور التي ذكرها من الخاتمية والبعثة... كلها من شؤون
النبوة... فالآية دالة على حصول جميع الكمالات الموجودة في النبي في شخص علي، عدا
النبوة، وقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي: يا علي! ما
سألت الله شيئا إلا سألت لك مثله، ولا سألت الله شيئا إلا أعطانيه، غير إنه قيل لي:
أنه لا نبي بعدك (1). 6 - وبذلك يظهر أنه عليه السلام كان واجدا لحقيقة الإمامة -
وهو وجوب الطاعة المطلقة، والأولوية التامة بالنسبة للأمة - في حياة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، إلا أنه كان تابعا للنبي مطيعا له، إطاعة وانقيادا لم يحدثنا
التاريخ به عن غيره على الإطلاق. فسقط قوله أخيرا: فإن الآية لو دلت على إمامة
الأمير... . * والآلوسي: انتحل كلام الدهلوي، بلا زيادة أو نقصان، كغيره من موارد
المسائل الاعتقادية المهمة التي طرحها في تفسيره، وجوابه جوابه، فلا نكرر.
(هامش)
(1) أخرجه جماعة، منهم النسائي في الخصائص: ح 146 وح 147. (*)
ص 290
* وقال الشيخ محمد عبده: إن الروايات متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم
اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديها، ويحملون كلمة *(نساءنا)* على فاطمة، وكلمة
*(أنفسنا)* على علي فقط. ومصادر هذه الروايات الشيعة، ومقصدهم منها معروف، وقد
اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا، حتى راجت على كثير من أهل السنة، ولكن واضعيها لم
يحسنوا تطبيقها على الآية، فإن كلمة *(نساءنا)* لا يقولها العربي ويريد بها بنته،
لا سيما إذا كان له أزواج، ولا يفهم هذا من لغتهم، وأبعد من ذلك أن يراد ب
*(أنفسنا)* علي - عليه الرضوان -. ثم إن وفد نجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم
لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم (1). أقول: وفي هذا الكلام إقرار، وادعاء، ومناقشة
عن عناد. أما الإقرار، فقوله: إن الروايات متفقة... فالحمد لله على أن بلغت
الروايات في القضية من الكثرة والقوة حدا لا يجد مثل هذا الرجل بدا من أن يعترف
بالواقع والحقيقة. لكنه لما رأى أن هذا الإقرار يستلزم الإلتزام بنتيجة الآية
المباركة والروايات الواردة فيها، وهذا ما لا تطيقه نفسه!! عاد فزعم أمرا لا يرتضيه
عاقل فضلا عن فاضل!
(هامش)
(1) تفسير المنار 3 / 322. (*)
ص 291
أما الادعاء، فقال: مصادر هذه الروايات الشيعة... وقد اجتهدوا في ترويجها... .
لكنه يعلم - كغيره - بكذب هذه الدعوى، فمصادر هذه الروايات القطعية - وقد عرفت
بعضها - ليست شيعية. ولما كانت دلالتها واضحة والمقصد منها معروف ، عمد إلى
المناقشة بحسب اللغة، وزعم أن العربي لا يتكلم هكذا. وما قاله محض استبعاد ولا وجه
له إلا العناد! لأنا لا نحتمل أن يكون هذا الرجل جاهلا بأن لفظ النساء يطلق على
غير الأزواج كما في القرآن الكريم وغيره، أو يكون جاهلا بأن أحدا لم يدع استعمال
اللفظ المذكور في خصوص فاطمة وأن أحدا لم يدع استعمال *(أنفسنا)* في علي
عليه السلام. إن هذا الرجل يعلم بأن الروايات الصحيحة واردة من طرق القوم أنفسهم،
والاستدلال قائم على أساسها، إذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل عليا فقط
المصداق ل *(أنفسنا)* وجعل فاطمة فقط المصداق ل *(نساءنا)* وقد كان له أقرباء
كثيرون وأصحاب لا يحصون... كما كان له أزواج عدة، والنساء في عشيرته وقومه كثرة.
فلا بد وأن يكون ما فعله هو من جهة أفضلية علي عليه السلام على غيره من أفراد
الأمة، وهذا هو المقصود. تكميل وأما تفضيله - بالآية - على سائر الأنبياء عليهم
السلام - كما عن الشيخ محمود بن الحسن الحمصي - فهذا هو الذي انتقده الفخر الرازي،
وتبعه النيسابوري، وأبو حيان الأندلسي:
ص 292
* قال الرازي - بعد أن ذكر موجز القصة، ودلالة الآية على أن الحسنين ابنا رسول الله
-: كان في الري رجل يقال له: محمود بن الحسن الحمصي، وكان معلم الاثني عشرية (1)
وكان يزعم أن عليا رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد عليه السلام، قال:
والذي يدل عليه قوله تعالى: *(وأنفسنا وأنفسكم)* وليس المراد بقوله *(أنفسنا)* نفس
محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره، وأجمعوا
على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فدلت الآية على أن نفس علي هي
نفس محمد، ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفس، فالمراد أن
هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا
العموم في حق النبوة وفي حق الفضل، لقيام الدلائل على أن محمدا عليه السلام كان
نبيا وما كان علي كذلك، ولانعقاد الإجماع على أن محمدا عليه السلام كان أفضل من
علي، فيبقى فيما وراءه معمولا به. ثم الإجماع دل على أن محمدا عليه السلام كان أفضل
من سائر الأنبياء عليهم السلام، فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء. فهذا وجه
الاستدلال بظاهر هذه الآية. ثم قال: ويؤيد الاستدلال بهذه الآية: الحديث المقبول
عند الموافق والمخالف، وهو قوله عليه السلام: من أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحا في
طاعته، وإبراهيم في خلته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته، فلينظر إلى
(هامش)
(1) وهو صاحب كتاب المنقذ من التقليد ، وفي بعض المصادر أن الفخر الرازي قرأ
عليه، توفي في أوائل القرن السابع، كما في ترجمته بمقدمة كتابه المذكور، طبعة مؤسسة
النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم. (*)
ص 293
علي بن أبي طالب. فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم، وذلك يدل على
أن عليا رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم. وأما
سائر الشيعة، فقد كانوا - قديما وحديثا - يستدلون بهذه الآية على أن عليا رضي الله
عنه مثل نفس محمد عليه السلام إلا ما خصه الدليل، وكان نفس محمد أفضل من الصحابة،
فوجب أن يكون نفس علي أفضل من سائر الصحابة. هذا تقرير كلام الشيعة. والجواب: إنه
كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمدا عليه السلام أفضل من علي، فكذلك انعقد
الإجماع بينهم - قبل ظهور هذا الإنسان - على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي، وأجمعوا
على أن عليا ما كان نبيا، فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد صلى
الله عليه وسلم، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام . إنتهى (1). *
وكذا قال النيسابوري، وهو ملخص كلام الرازي، على عادته، وقد تقدم نص ما قال. * وقال
أبو حيان، بعد أن ذكر كلام الزمخشري في الآية المباركة: ومن أغرب الاستدلال ما
استدل به محمد (2) بن علي الحمصي... فذكر الاستدلال، ثم قال: وأجاب الرازي: بأن
الإجماع منعقد على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن ليس بنبي، وعلي لم يكن
نبيا، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء .
(هامش)
(1) تفسير الرازي 8 / 81. (2) كذا، والصحيح: محمود. (*)
ص 294
قال: وقال الرازي: استدلال الحمصي فاسد من وجوه: منها قوله: (إن الإنسان لا يدعو
نفسه) بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه، تقول العرب: دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني.
وهذا يسميه أبو علي بالتجريد. ومنها قوله: (وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو علي)
ليس بصحيح، بدليل الأقوال التي سبقت في المعني بقوله: *(أنفسنا)*. ومنها قوله:
(فيكون نفسه مثل نفسه) ولا يلزم المماثلة أن تكون في جميع الأشياء، بل تكفي
المماثلة في شيء ما، هذا الذي عليه أهل اللغة، لا الذي يقوله المتكلمون من أن
المماثلة تكون في جميع صفات النفس، هذا اصطلاح منهم لا لغة، فعلى هذا تكفي المماثلة
في صفة واحدة، وهي كونه من بني هاشم، والعرب تقول: هذا من أنفسنا، أي: من قبيلتنا.
وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له (1). أقول: ويبدو أن الرازي هنا وكذا
النيسابوري أكثر إنصافا للحق من أبي حيان، لأنهما لم يناقشا أصلا في دلالة الآية
المباركة والحديث القطعي على أفضلية علي عليه السلام على سائر الصحابة. أما في
الاستدلال بها على أفضليته على سائر الأنبياء، فلم يناقشا بشيء من مقدماته، إلا
أنهما أجابا بدعوى الإجماع من جميع المسلمين - قبل ظهور الشيخ الحمصي - على أن
الأنبياء أفضل من غيرهم. وحينئذ، يكفي في ردهما نفي هذا الإجماع، فإن الإمامية -
قبل الشيخ
(هامش)
(1) البحر المحيط 2 / 480. (*)
ص 295
الحمصي وبعده - قائلون بأفضلية علي والأئمة من ولده، على جميع الأنبياء عدا نبينا
صلى الله عليه وآله وسلم، ويستدلون لذلك بوجوه من الكتاب والسنة، أما من الكتاب
فالآية المباركة، وأما من السنة فالحديث الذي ذكره الحمصي... وقد عرفت أن الرازي
والنيسابوري لم يناقشا فيهما. ومن متقدمي الإمامية القائلين بأفضلية أمير المؤمنين
على سائر الأنبياء هو: الشيخ المفيد، المتوفى سنة 413، وله في ذلك رسالة، استدل
فيها بآية المباهلة، واستهل كلامه بقوله: فاستدل به من حكم لأمير المؤمنين صلوات
الله وسلامه عليه بأنه أفضل من سالف الأنبياء عليهم السلام وكافة الناس سوى نبي
الهدى محمد عليه وآله السلام بأن قال... وهو صريح في أن هذا قول المتقدمين عليه
(1). فظهر سقوط جواب الرازي ومن تبعه. لكن أبا حيان نسب إلى الرازي القول بفساد
استدلال الحمصي من وجوه - ولعله نقل هذا من بعض مصنفات الرازي غير التفسير - فذكر
ثلاثة وجوه: أما الأول: فبطلانه ظاهر من غضون بحثنا، على أن الرازي قرره ولم يشكل
عليه، فإن كان ما ذكره أبو حيان من الرازي حقا فقد ناقض نفسه. وأما الثاني: فكذلك،
لأنها أقوال لا يعبأ بها، إذ الموجود في صحيح مسلم، وجامع الترمذي، وخصائص النسائي،
ومسند أحمد، ومستدرك الحاكم... وغيرها... أن الذي هو غيره هو علي لا سواه... وهذا
هو القول المتفق عليه بين العامة والخاصة، وهم قد ادعوا الإجماع - من السلف والخلف
(هامش)
(1) تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام على سائر الصحابة. رسالة مطبوعة في المجلد
السابع من موسوعة مصنفات الشيخ المفيد. (*)
ص 296
- على أن صحيحي البخاري ومسلم أصح الكتب بعد القرآن، ومنهم من ذهب إلى أن صحيح مسلم
هو الأصح منهما. وأما الثالث: فيكفي في الرد عليه ما ذكره الرازي في تقرير كلام
الشيعة في الاستدلال بالآية المباركة، حيث قال: وذلك يقتضي الاستواء من جميع
الوجوه... فإن كان ما ذكره أبو حيان من الرازي حقا فقد ناقض نفسه. على أنه إذا
كان تكفي المماثلة في صفة واحدة، وهي كونه من بني هاشم فلماذا التخصيص بعلي
منهم دون غيره؟! بقي حكمه بوضع الحديث الذي استدل به الحمصي، وهذا حكم لا يصدر إلا
من جاهل بالأحاديث والآثار، أو من معاند متعصب، لأنه حديث متفق عليه بين المسلمين،
ومن رواته من أهل السنة: عبد الرزاق بن همام، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي،
والحاكم النيسابوري، وابن مردويه، والبيهقي، وأبو نعيم، والمحب الطبري، وابن الصباغ
المالكي، وابن المغازلي الشافعي... (1). هذا تمام الكلام على آية المباهلة. وبالله
التوفيق. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.
(هامش)
(1) وقد بحثنا عن أسانيده وأوضحنا وجوه دلالاته في الجزء التاسع عشر من أجزاء
كتابنا. (*)
ص 297
قوله تعالى *(إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)*

ص 299
هذه الآية أيضا استدل بها أصحابنا على إمامة أمير المؤمنين بعد رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم بلا فصل. وتوضيح ذلك في فصول:
ص 300
الفصل الأول: نصوص الحديث ورواته في كتب السنة

لقد أخرج جماعة كبيرة من كبار الأئمة
والحفاظ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الآية المباركة: أنا المنذر وعلي
الهادي، بالأسانيد المتكثرة، في أشهر الكتب المعتبرة، عن طريق عدة من الصحابة.
رواته من الصحابة وقد كان من رواته من الصحابة، الذين وصلنا الحديث عنهم: 1 - أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. 2 - عبد الله بن العباس. 3 - عبد الله بن
مسعود. 4 - جابر بن عبد الله الأنصاري. 5 - بريدة الأسلمي. 6 - أبو برزة الأسلمي. 7
- يعلى بن مرة. 8 - أبو هريرة. 9 - سعد بن معاذ.
ص 301
من رواته من الأئمة والحفاظ وقد رواه من أعلام أئمة الحديث ومشاهير الحفاظ: 1 - أبو
عبد الله الحسين بن الحكم الحبري الكوفي، المتوفى سنة 286. 2 - عبد الله بن أحمد بن
حنبل، المتوفى سنة 290. 3 - أبو سعيد أحمد بن محمد، ابن الأعرابي البصري المكي،
المتوفى سنة 304. 4 - أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ والتفسير،
المتوفى سنة 310. 5 - عبد الرحمن بن محمد بن إدريس، الشهير بابن أبي حاتم، المتوفى
سنة 332. 6 - أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد، ابن عقدة الكوفي، المتوفى سنة 332.
7 - أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، المتوفى سنة 360. 8 - أبو بكر جعفر بن
حمدان البغدادي القطيعي الحنبلي، المتوفى سنة 368. 9 - أبو الحسين محمد بن المظفر
البغدادي، المتوفى سنة 379. 10 - أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، المتوفى
سنة 384. 11 - أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين البغدادي الواعظ، المتوفى سنة 385. 12
- أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك، المتوفى سنة 405.
ص 302
13 - أبو بكر ابن مردويه الأصفهاني، المتوفى سنة 410. 14 - أبو إسحاق الثعلبي، صاحب
التفسير المشهور، المتوفى سنة 437. 15 - أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني،
المتوفى سنة 430. 16 - أبو علي الحسن بن علي، ابن المذهب التميمي البغدادي، المتوفى
سنة 444. 17 - أبو محمد الحسن بن علي الجوهري البغدادي، المتوفى سنة 454. 18 - أبو
بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، المتوفى سنة 463. 19 - عبيد الله بن عبد الله،
الحافظ، الحاكم الحسكاني، المتوفى سنة 470. 20 - أبو الحسن علي بن محمد الجلابي
الواسطي، المعروف بابن المغازلي، المتوفى سنة 483. 21 - أبو الحسن علي بن الحسن
المصري الشافعي، الشهير بالخلعي، المتوفى سنة 492. 22 - أبو شجاع شيرويه بن شهردار
الديلمي، صاحب كتاب الفردوس، المتوفى سنة 509. 23 - أبو نصر عبد الرحيم بن أبي
القاسم القشيري النيسابوري، المفسر، المتوفى سنة 514. 24 - أبو القاسم هبة الله بن
محمد، ابن الحصين الهمداني البغدادي، المتوفى سنة 525. 25 - أبو القاسم علي بن
الحسن، المعروف بابن عساكر الدمشقي، المتوفى سنة 571.
ص 303
26 - أبو علي عمر بن علي بن عمر الحربي، المتوفى سنة 598. 27 - فخر الدين محمد بن
عمر الرازي، صاحب التفسير الكبير، المتوفى سنة 606. 28 - أبو عبد الله محمد بن
محمود بن الحسن، المعروف بابن النجار البغدادي، المتوفى سنة 642. 29 - ضياء الدين
محمد بن عبد الواحد، المعروف بالضياء المقدسي، المتوفى سنة 643. 30 - أبو عبد الله
محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، المقتول سنة 658. 31 - صدر الدين أبو المجامع إبراهيم
بن محمد الحموئي، المتوفى سنة 722. 32 - إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، صاحب
التاريخ والتفسير، المتوفى سنة 774. 33 - جمال الدين محمد بن يوسف الزرندي المدني،
المتوفى سنة بضع و750. 34 - أبو بكر نور الدين الهيثمي، صاحب مجمع الزوائد، المتوفى
سنة 807. 35 - نور الدين علي بن محمد ابن الصباغ المالكي، المتوفى سنة 855. 36 -
جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المتوفى سنة 911. 37 - علي بن حسام
الدين المتقي الهندي، صاحب كنز العمال، المتوفى سنة 975. 38 - عبد الرؤف بن تاج
العارفين المناوي المصري، المتوفى سنة 1031.
ص 304
39 - قاضي القضاة الشوكاني اليمني، المتوفى سنة 1250. 40 - محمد مؤمن الشبلنجي
المصري، المتوفى بعد سنة 1308. فهؤلاء طائفة من أئمة أهل السنة في شتى العلوم، في
القرون المختلفة، يروون حديث نزول قوله تعالى: *(ولكل قوم هاد)* في سيدنا أمير
المؤمنين عليه الصلاة والسلام، بأسانيدهم الكثيرة المتصلة، عن التابعين، عن
الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. من ألفاظ الحديث في أشهر الكتب
وهذه نبذة من ألفاظ الحديث بالأسانيد: * مسند أحمد - من زيادات ابنه عبد الله -:
حدثنا عبد الله، حدثني عثمان بن أبي شيبة، ثنا مطلب بن زياد، عن السدي، عن عبد خير،
عن علي في قوله: *(إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)*، قال: رسول الله صلى الله عليه
وسلم المنذر، والهادي رجل من بني هاشم (1). * تفسير الطبري: وقال آخرون: هو علي
بن أبي طالب رضي الله عنه. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي، قال: ثنا
الحسن بن الحسين الأنصاري، قال: ثنا معاذ بن مسلم، ثنا الهروي، عن عطاء بن السائب،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت *(إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)* وضع
صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: أنا المنذر، ولكل قوم هاد، وأومأ بيده إلى
منكب علي فقال: أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون بعدي (2).
(هامش)
(1) مسند أحمد بن حنبل 1 / 126. (2) تفسير الطبري 12 / 72، وسيأتي تحقيق الحال في
سنده. (*)