النص والاجتهاد - السيد شرف الدين  ص 116 : -

[ المورد - ( 13 ) - : يوم البطاح ، أو يوم مالك بن نويرة وقومه من خالد ]

وذلك ان القيادة العامة كانت يومئذ لخالد بن الوليد ، فكان يأمر بما يشاء ويحكم فيها بما يريد ، لم يقتصر يومئذ على قتل المؤمنين صبرا بل تجاوز ذلك إلى المثلة وسبي المسلمات واستباحة ما حرم الله تعالى من الأموال والفروج وتعطيل الحدود الشرعية في أحداث ما أظن ان لها نظيرا في الجأهلية ( 162 ) .

[ من هو مالك ؟ ]

هو مالك بن نويرة بن حمزة بن شداد بن عبد بن ثعلبة بن يربوع التميمي

  ( 162 ) الغدير للأميني ج 7 / 158 وغيره ممن تحدث عن هذه الواقعة . ( * )   
 

- ص 117 -

اليربوعي هامة الشرف في بني تميم وعرنين المجد في بني يربوع من علية العرب وممن تضرب الأمثال بفتوته نجدة وكرما وحفيظة وشجاعة وبطولة بكل معانيها ، وهو من أرداف الملوك ، أسلم وأسلم بنو يربوع بإسلامه وولاه رسول الله صلى الله عليه وآله على صدقات قومه ثقة به واعتمادا عليه ( 163 ) .

[ جرم مالك وموقفه ]

إنما كان جرمه تريثه في النزول على حكم أبي بكر في أمر الزكاة وغيرها باحثا عن تكليفه الشرعي في ذلك ليقوم به على ما شرع الله عزوجل ورسوله صلى الله عليه وآله . أما موقفه فلم يكن عن ارتياب ولا عن شق عصا ولا ابتغاء فتنة ولا أرادة قتال ، وإنما فوجئ بهذه الغارة عليه من خالد في مستهل خلافة أبي بكر حيث كان الخلاف محتدما بين السابقين الأولين في أمر الخلافة ( 164 ) .

فأهل البيت وأولياؤهم كانوا فيها على رأى ( 165 ) .
وأبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسالم وأتباعهم على رأي آخر . ( 166 )

وكذلك الأنصار ( الَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ ) حتى غلب نقيبهم سعد بن

  ( 163 ) أسد الغابة ج 4 / 295 ، عبد الله بن سبأ للعسكري ج 1 / 145 ، الإصابة لابن حجر ج 3 / 336 .
( 164 ) عبد الله بن سبأ ج 1 / 90 - 100 ، تاريخ الطبري ج 3 / 264 .
( 165 ) عبد الله بن سبأ للعسكري ج 1 / 90 و 103 - 120 ، الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 / 4 وراجع ما تقدم تحت رقم ( 161 ) .
( 166 ) عبد الله بن سبأ للعسكري ج 1 / 93 - 98 ، تاريخ الطبري ج 3 / 201 و 202 و
302 ( * ) .
 
 

- ص 118 -

عبادة على أمره فاعتزلهم واعتزل أمرهم يحلف بالله انه لو وجد أعوانا عليهم لقاتلهم ثم لم تجمعه جمعتهم ولم يفض بافاضتهم حتى مات في حوران ( 167 ) .

إلى كوارث أخر حول البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه أعني البيوت التي قال الله عزوجل في حقها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ) ( 168 ) وحول وديعة رسول الله وزهرائه وحول ارثها ونحلتها وخمسها ومجابهتها إياهم بكل حجة بالغة إلى غير ذلك من الأمور التي أنذر بها القرآن الحكيم .

 فكان من الطبيعي لمثل مالك في عقله ونبله ومكانته في قومه ان يتربص - والحال هذه - في النزول على حكم من يظهر في المدينة ويقهر خصومه على الخلافة حتى يتبين له انه انما قهرهم بالحق وظهر عليهم باجتماعهم عليه بعد ذلك التنازع ، وبهذا لا بسواه تريث مالك في دفع الزكاة باحثا عمن تبرأ ذمته بدفعها إليه .

فكان عليهم أن يمهلوه مدة تسع البحث عن هذه الحقيقة الغامضة في تلك الأوقات ولا يعاجلوه مفاجئيه بتلك النكبات فانه لم يكن ممن أنكر الزكاة ولا ممن فرق بينها وبين الصلاة ولا ممن استحل قتال أبي بكر أو غيره من المسلمين .

هذه هي الحقيقة في موقف مالك وأصحابه ، يدل على ذلك نصحه لقومه في تثبيته إياهم على الإسلام وعدم المناوأة لخالد وأمره إياهم بالتفرق لئلا يصطدموا بجيشه الناهد إلى بطاحهم ونهيه إياهم عن الاجتماع في مكان ما

  ( 167 ) عبد الله بن سبأ للعسكري ج 1 / 92 - 93 ، تاريخ الطبري ج 3 / 218 - 223 .
( 168 ) سورة الأحزاب آية :
53 ( * ) .
 
 

- ص 119 -

لئلا يظن أحد بأنهم معسكرون ( 169 ) .

[ زحف خالد إلى البطاح ]

لما فرغ خالد من أسد وغطفان ازمع على المسير إلى البطاح يلقي فيها مالك بن نويرة وقومه ، وكان مالك أخلى له البطاح ، وفرق قومه لما بيناه من عزمه على السلام احتياطا منه على الإسلام في تلك الأيام . فلما عرف الأنصار عزم خالد على المسير إلى مالك ، توقفوا عن المسير معه وقالوا : " ما هذا بعهد الخليفة إلينا إنما عهده ان نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا " .

فأجابهم خالد : " انه ان لم يكن عهد إليكم بهذا فقد عهد إلي أن أمضي وأنا الأمير والي تنتهي الأخبار ، ولو انه لم يأتني كتاب ولا أمر ، ثم رأيت فرصة ان أعلمته بها فأتتني لم أعلمه حتى انتهزها ، وكذلك إذا ابتلينا بأمر لم يعهد لنا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به ، وهذا مالك بن نويرة بحيالنا وأنا قاصد له بمن معي " ( 1 ) .

ثم سار ومن معه يقصد البطاح ،

  ( 169 ) نص على ذلك كله الأستاذ هيكل في كتابه " الصديق أبو بكر " فراجع منه ما هو تحت عنوان مالك ينصح لقومه ص 144 . وقال الأستاذ العقاد في عبقرية خالد سطر 14 ص 121 حيث ذكر موقف مالك : انه ليس موقف عناد وتحفز لقتال . لكن العقاد أخطأ في أبيات لمالك إذ حملها على غير معناها المتبادر منها إلى الأذهان كما لا يخفى على من أمعن بها ( منه قدس ) . وراجع : الغدير للأميني ج 7 / 158 - 168 ، عبد الله بن سبأ للعسكري ج 1 / 145 - 149 .
( 1 ) ذكر هذه المحاورة ( بألفاظها ) بينه وبين من كان في جيشه من الأنصار كل من هيكل في كتابه " الصديق أبو بكر " ص 143 والتي بعدها ، والعقاد في آخر ص
267 =>
 
 

- ص 12085 -

فلما بلغوها لم يجدوا فيها أحدا ( 170 ) .

[ مجيؤهم بمالك في نفر من قومه وقتلهم صبرا ]

فلما لم يجدوا فيها أحدا أرسل خالد سراياه في أثرهم فجاءته بمالك بن

  => من عبقرية عمر وغيرهما من أهل الأخبار وقد استفاضت بينهم فلتراجع . وترى كلام الأنصاري في هذه المحاورة صريحا بأن الخليفة لم يعهد إليهم بالزحف على مالك ، لكن خالدا أدعى العهد من الخليفة إليه خاصة وبناءا على هذا فالخليفة قد استعمل اللياقة والحيلة في أن لا يكون مسؤولا من الناس عن جرائم يوم البطاح ، وانما يكون المسؤول عنها خالدا وحينئذ يحفظه معتذرا بأنه تأول فأخطأ ، وهذه الواقعة تدل على تعمقه في السياسة إلى أبعد حد ( منه قدس ) .

( 170 ) كلمة أهل السير والأخبار كافة متفقة على أن خالدا حين احتل البطاح بجيشه لم يجد فيها أحدا من أهلها ، وان مالكا قد فرق قومه من قبل في ديارهم قائلا لهم إياكم والمناواة وناصحا لهم بالبقاء على الإسلام وأن يبقوا متفرقين حتى يلم الله هذا الشعث ، فراجع من كتاب الصديق أبو بكر ص 144 وغيره من مظان هذا الأمر ( منه قدس ) .

من مختلقات ( سيف بن عمر التميمي ) في ارتداد مالك بن نويرة : هذه الرواية موجودة في تاريخ الطبري ج 3 / 276 وفى سند هذه ( سيف بن عمر ) وهو من الرواة الوضاعين وقد حاول في قصة مالك بن نويرة أن يصوره مرتدا عن الإسلام ويختلق المعاذير لجناية خالد فقد اختلق هذا الرجل روايات وحرف أخرى في سبيل التوصل لرغباته الدنيئة ولأجل معرفة الروايات المتخلقة التي رواها سيف في قصة مالك والروايات الأخرى التي رواها غيره راجع : كتاب عبد الله بن سبأ للعسكري ج 1 / 145 - 155 ط بيروت ، فسوف تجد الحقيقة سالمة .

ولأجل المزيد من الاطلاع على حياة ( سيف بن عمر ) ومعرفة حقيقته ومختلقاته من الروايات والحوادث والاسانيد والبلدان وغيرها . راجع : كتاب عبد الله بن سبأ للسيد مرتضى العسكري ج 1 وج 2 ط بيروت ، وكتاب خمسون ومائة صحأبي مختلق القسم الأول والثاني ط بيروت . ( * ) 

 
 

- ص 121 -

نويرة في نفر من بني يربوع فحبسهم ، ثم كان ما كان من أمرهم مما سنأتي على طرف منه بكل حسرة وأسف فانا لله وانا إليه راجعون .

وقد روى الطبري بسنده إلى أبي قتادة الأنصاري وكان من رؤساء تلك السرايا أنه كان يحدث ، أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل ، فأخذ القوم السلاح ( قال أبو قتادة ) فقلنا : انا المسلمون . ( قال ) : فقالوا ونحن المسلمون . قلنا : ما بال السلاح معكم ؟ قالوا لنا : فما بال السلاح معكم ؟ فقلنا : فان كنتم كما تقولون فضعوا السلاح ، ثم صلينا وصلوا . آه ( 171 ) .

قلت : وبعد الصلاة خفوا إلى الاستيلاء على أسلحتهم وشد وثاقهم وسوقهم أسرى إلى خالد وفيهم زوجة مالك ليلى بنت المنهال أم تميم ، وكانت كما نص عليه أهل الأخبار ( واللفظ للأستاذ عباس محمود العقاد في عبقرية خالد ) من أشهر نساء العرب بالجمال ، ولا سيما جمال العينين والساقين قال : يقال أنه لم ير أجمل من عينيها ولا ساقيها . ففتنت خالدا وقد تجاول في الكلام مع مالك وهي إلى جنبه ، فكان مما قاله خالد : اني قاتلك . قال له مالك : أو بذلك أمرك صاحبك ؟ ( يعني أبا بكر ) . قال : والله لأقتلك . وكان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري إذ ذاك حاضرين ، فكلما خالدا في أمره ، فكره كلامهما . فقال مالك : يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا فقد بعثت إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا ، وألح عبد الله بن عمر وأبو قتادة

  ( 171 ) الخدعة بمالك بن نويرة : تاريخ الطبري ج 3 / 280 وهذه الرواية من الروايات التي لم يروها ( سيف المختلق ) ، عبد الله بن سبأ للعسكري ج 1481 الغدير ج 7 / 159 ( * ) .  
 

- ص 122 -

على خالد بأن يبعثهم إلى الخليفة فأبى عليهما ذلك . وقال خالد : لا أقالني الله ان لم أقتله . وتقدم إلى ضرار بن الازور الأسدي بضرب عنقه . فالتفت مالك إلى زوجته ، وقال لخالد : هذه التي قتلتني . فقال له خالد : بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام . فقال له مالك : إني على الإسلام . فقال خالد : يا ضرار اضرب عنقه . فضرب عنقه ( 1 ) وقبض خالد على زوجته فبنى بها في تلك الليلة ( 172 ) . وفي ذلك يقول أبو زهير السعدي :

ألا قل لحي أوطئوا بالسنابك * تطاول هذا الليل من بعد مالك
قضى خالد بغيا عليه لعرسه * وكان له فيها هوى قبل ذلك
فأمضى هواه خالد غير عاطف * عنان الهوى عنها ولا متمالك
وأصبح ذا أهل وأصبح مالك * على غير شئ هالكا في الهوالك
فمن لليتامى والأرامل بعده ؟ * ومن للرجال المعدمين الصعالك ؟
أصيبت تميم غثها وسمينها * بفارسها المرجو سحب الحوالك
( 173 )

  ( 1 ) وجعل رأسه أثفية لقدر كما في ترجمة وثيمة بن الفرات من وفيات الأعيان ( منه قدس ) .
( 172 ) أبو قتادة الأنصاري وعبد الله بن عمر يعترضان على خالد في قتله مالك وكان السبب في قتل مالك هو جمال زوجته الذي كان مطمعا لخالد . راجع : تاريخ أبى الفداء ج 1 / 158 ، وفيات الأعيان ترجمة وثيمة ج 6 / 14 ، فوات الوفيات ج 2 / ، عبد الله بن سبأ للعسكري ج 1 / 147 ، تاريخ اليعقوبي ، تاريخ ابن الشحنة هامش الكامل ج 11 / 114 ، الغدير للأميني ج 7 / 160 .
( 173 ) تاريخ أبى الفداء ج 1 / 158 ، وفيات الأعيان ج 6 / 15 ، تاريخ ابن الشحنة هامش الكامل ج 11 / 114 ، عبد الله بن سبأ ج 1 / 148 ، الغدير للأميني ج 7 /
160 ( * ) .
 
 

- ص 123 -

وكان خالد قد أمر بحبس تلك السراة الأسرى من قوم مالك ، فحبسوا والبرد شديد فنادى مناديه في ليلة مظلمة أن أدفئوا أسراكم وهي في لغة كنانة كناية عن القتل فقتلوهم بأجمعهم .

وكان قد عهد إلى الجلادين من جنده ، أن يقتلوهم عند سماعهم هذا النداء ، وتلك حيلة منه توصل بها إلى أن لا يكون مسئوولا عن هذه الجناية ، لكنها لم تخف على أبي قتادة وأمثاله من أهل البصائر وانما خفيت على رعاع الناس وسوادهم بقوة الساسة والسياسة .

هذه هي الحقيقة الواقعة بين خالد ومالك وقومه يلمسها من ممحصي الحقائق كل من أمعن فيما سجلته كتب السير والأخبار عن يوم البطاح وسائر ما إليه . فلا يصدنك عنها ما تجده هناك من أقوال أخر متناقضة كل التناقض نسجتها الأغراض الشخصية والتزلف إلى ولي الأمر يومئذ والقائد العام لجيوشه تصحيحا لأعمالهم ( 174 ) .

وقد أعطينا الإمعان فيها حقه ، فلم نر منها إلا الدلالة على تضييع الحقيقة إخلاصا في الحب لخالد والدفاع عنه والله على ما يقول وكيل .

[ ثورة أبى قتادة وعمر بن الخطاب ]

قال الأستاذ هيكل في كتابه " الصديق أبو بكر ( 1 ) " : ان أبا قتادة الأنصاري

  ( 174 ) وأكثر هذه الروايات ان لم يك كلها قد أختلقها ( سيف بن عمر ) الزنديق المعروف بالكذب والوضع . راجع ترجمته في كتاب : عبد الله بن سبأ للعسكري ج 1 / 61 - 64 ، خمسون ومائة صحأبي مختلق ج 1 وج 2 .
( 1 ) ص 147 والتي بعدها ( منه قد
س ) ( * ) .
 
 

- ص 124 -

غضب لفعلة خالد إذ قتل مالكا وتزوج امرأته فتركه منصرفا إلى المدينة مقسما أن لا يكون أبدا في لواء عليه خالد ، وان متمم بن نويرة أخا مالك ذهب معه ، فلما بلغا المدينة ذهب أبو قتادة ولا يزال الغضب آخذا منه مأخذه فلقي أبا بكر فقص عليه أمر خالد ، وقتله مالكا وزواجه من ليلى ، وأضاف أنه أقسم أن لا يكون أبدا في لواء عليه خالد .

قال : لكن أبا بكر كان معجبا بخالد وانتصاراته ، ولم يعجبه أبو قتادة ، بل أنكر منه أن يقول في سيف الإسلام ما يقوله ! قال هيكل : أترى الأنصاري - يعني أبا قتادة - هاله غضب الخليفة فأسكته .

ثم قال : كلا فقد كانت ثورته على خالد عنيفة كل العنف لذلك ذهب إلى عمر ابن الخطاب فقص عليه القصة ، وصور له خالدا في صورة الرجل الذي يغلب هواه على واجبه ، ويستهين بأمر الله ارضاء لنفسه .

قال : وأقره عمر على رأيه وشاركه في الطعن على خالد والنيل منه ، وذهب عمر إلى أبي بكر وقد أثارته فعلة خالد أيما ثورة ، وطلب إليه أن يعزله ، وقال ان سيف خالد رهقا ( 1 ) وحق عليه أن يقيده ولم يكن أبو بكر يقيد من عماله ( 2 ) ، لذلك قال حين ألح عمر عليه غير مرة : هبه يا عمر ، تأول فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد .

ولم يكتف عمر بهذا الجواب ، ولم يكف عن المطالبة بتنفيذ رأيه فلما ضاق أبو بكر ذرعا بالحاح عمر ، قال : لا يا عمر ما كنت لاشيم ( 3 ) سيفا سله الله على الكافرين .

قال هيكل : لكن عمر كان يرى صنيع خالدا نكرا فلم تطب نفسه ولم

  ( 1 ) الرهق السفه والخفة وركوب الشر والظلم وغشيان المحارم ( منه قدس ) .
( 2 ) وهذا من اجتهاده مقابل النص فان الله تعالى يقول : " وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ " ( الآية ) ( منه قدس ) .
( 3 ) أشيم : أغمد والشيم يستعمل في كل من السل والاغماد ( منه قد
س ) ( * ) .
 
 

- ص 125 -

يسترح ضميره . " كيف اذن يسكت يذر في طمأنينته يشعر كأنه لم يأثم ولم يجن ذنبا " قال : لابد أن يعيد القول على أبي بكر ، وأن يذكر له في صراحة ان عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ونزا على امرأته فليس من الإنصاف في شئ أن لا يؤاخذ بصنيعه .

قال : ولم يسع أبا بكر إزاء ثورة عمر إلا أن يستقدم خالدا ليسأله ما صنع .

قال : وأقبل خالد من الميدان إلى المدينة ، ودخل المسجد في عدة الحرب مرتديا قباءا له ، صدأ الحديد ، وقد غرز في عمامته أسهما ، وقام إليه عمر إذ رآه يخطو في المسجد ، فنزع الأسهم من رأسه وحطمها وهو يقول : قتلت امرؤا مسلما ثم نزوت على امرأته ، والله لارجمنك بالأحجار ( 175 ) .

قال : وأمسك خالد فلم يعتذر ودخل على أبي بكر فقص عليه قصة مالك وتردده ، وجعل يلتمس المعاذير فعذره أبو بكر وتجاوز عما كان منه في الحرب ، لكنه عنفه على الزواج من امرأة لم يجف دم زوجها ، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وترى الاتصال بهن عارا أي عار .

قلت : والإسلام يحرم نكاح المتوفي عنها زوجها حتى تعتد فان نكحت

  ( 175 ) أبو قتادة وعمر يغضبان من فعل خالد بمالك : راجع : عبد الله بن سبأ للعسكري ج 1 / 146 - 149 ، تاريخ اليعقوبي ج 2 / 110 ، تاريخ أبى الفداء ج 1 / 158 ، الطبري ج 3 / 280 ، الإصابة ج 3 / 336 .

أبو قتادة وعبد الله بن عمر يشهدان لمالك بالإسلام : راجع : تاريخ الطبري ج 3 / 280 ، عبد الله بن سبأ ج 1 / 146 ، كنز العمال ج 3 / 132 ط 1 ، وفيات الأعيان لابن خلكان ج 5 / 66 ، فوات الوفيات ج 2 / 627 ، تاريخ ابن شحنة بهامش الكامل ج 11 / 114 ( * ) .

 
 

- ص 126 -

وبنى بها الناكح وهي في العدة حرمت عليه مؤبدا ، ولو فرضنا ان خالدا اعتبرها سبية ، فالسبية لا يحل وطؤها إلا بعد الاستبراء الشرعي ، ولا استبراء هنا وانما قتل زوجها ووطئها في تلك الحال .

قال هيكل : على ان عمر لم يتزحزح عن رأيه فيما صنع خالد ، فلما توفي أبو بكر وبويع عمر خليفة له ، كان أول ما صنع أن أرسل إلى الشام ينعي أبا بكر ، وبعث مع البريد الذي حمل النعي رسالة يعزل بها خالدا عن امارة الجيش .

قال الأستاذ هيكل : إجماع المؤرخين منعقد على أن عمر بقي متأثرا برأيه في موقف خالد من مقتل مالك بن نويرة وزواجه امرأته وان هذا الرأي له أثره من بعد في عزل خالد .

[ عجب وأي عجب ]

ان من أعجب الأمور وأغربها ، أن تذهب في عهد أبي بكر ، تلك الدماء . وهاتيك الأعراض والأموال هدرا ، وأن تستباح تلك الحرمات ، وتعطل حدودها الشرعية ، حتى يعزل خالد عن تلك الأمرة ، ولم ينقص شئ من صلاحياتها الواسعة ، واستمر ماضيا فيها غلوائه حتى توفي الخليفة ، فعزله الخليفة الثاني بمجرد تبوئه الخلافة . وان رأي أبي بكر في الجناة يوم البطاح ، لمن أوائل الآراء المخالفة لنصوص الكتاب والسنة ، قدم رأيه في المصلحة على التعبد بها ( 176 ) .

  ( 176 ) ولأجل المزيد من الاطلاع على ذلك راجع : الغدير للأميني ج 7 / 158 - 169 ، مقدمة مرآة العقول ج 1 / 64 ( * ) .  
 

- ص 127 -

[ بيان الرأي ]

مثل الأستاذ هيكل " في كتابه الصديق " رأي أبي بكر وحجته فيه قال : أما أبو بكر ، فكان يرى الموقف ، أخطر من أن يقام فيه لمثل هذه الأمور وزن ( 1 ) قال : وما قتل رجل ، أو طائفة من الرجال ، لخطأ في التأويل أو لغير خطأ ، والخطر محيط بالدولة كلها ، والثورة ناشبة في بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها ( 2 ) .

قال : وهذا القائد الذي يتهم بأنه أخطأ ( 3 ) من أعظم القوى التي يدفع

  ( 1 ) لا تخفى المبالغة في هذه الكلمة ، على ان الموقف كان خطرا ، وخطرا إلى الغاية ، لكن لا يترك الميسور فيه تبعا للمعسور ، وكان الميسور يومئذ في أقل الفروض ، عزل خالد وتولية غيره من الأكفاء كعمر أو أبى عبيدة أو معاذ بن جبل أو سعد أو غيرهم وتأجيل محاكمة خالد إلى أول أزمنة الامكان والحكم عليه حينئذ بما تقتضيه النصوص الشرعية ( منه قدس ) .

( 2 ) وهذا الكلام لا يخلو من المبالغة أيضا ، وقوله فيه لخطأ في التأويل أو غير خطأ ، لا يخلو من تخليط وتغليط فان إسلام مالك إذ قتله خالد ، مما لا يرتاب فيه ، خالد ولا أبو بكر ، وان البناء بزوجة مالك ، وهى في العدة ، لمما يستوجب الرجم بإجماع المسلمين ، وهذا هو الذي تأهب له عمر لو قدر عليه ، ولا يخفى ما في قوله : وما قتل رجل أو طائفة ، من الاستخفاف بالقتل ، والله تعالى يقول : " ومن قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا " " وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا " ( الآية ) " وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا " ( منه قدس ) .
( 3 ) لم يكن خالد في الواقع الا قاتل نفس حرم الله قتلها ، وناكح فرج حرم الله نكاحه طلب هذا الحرام فلم يخطئه ، بل أصابه مصرا عليه حتى إلى ما بعد أن نهاه
الخليفة ( منه قد
س ) ( * ) .

 
 

- ص 128 -

بها البلاء ويتقي بها الخطر ( 1 ) .

قال : وما التزوج من امرأة على خلاف تقاليد العرب ، بل ما الدخول بها قبل أن يتم إذا وقع ذلك من فاتح غزا فحق له بحكم الغزو أن تكون له سبايا يصحبن ملك يمينه ( 2 ) .

قال : فان التزمنا في تطبيق التشريع ، لا يجب أن يتناول النوابغ والعظماء من أمثال خالد ( 3 )

قال : وبخاصة إذا كان ذلك يضر بالدولة أو يعرضها للخطر ( 4 ) .

  ( 1 ) كان من الامكان أن يستبدل بمن يسد فراغه ، ويقوم مقامه ، كواحد ممن ذكرناهم ( منه قدس ) .
( 2 ) هذا الكلام وسابقه ولاحقه ، مما أربا بأستاذنا الكبير هيكل عنه ، فضلا عن أبى بكر الصديق ، وما أظن بالأستاذ انه ممن يستخف بالفروج فيقول : وما التزوج من امرأة إلى آخر كلامه . ولا أظنه يبيح لكل فاتح غزا ما قد أباحه في هذه العبارة لخالد . فانه ممن لا يخفى عليهم ، ان هذا انما قد يباح للغازي المسلم إذا فتح بلاد المحاربين للمسلمين الكافرين برب العالمين ، ولم يكن مالك وقومه إلا من المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة يوقنون ، وانما تريث مستهل خلافة أبى بكر في النزول على حكمه حتى يتجلى له الحق فيها ( منه قدس ) .

( 3 ) صدور هذه الكلمة من أمثال استاذنا هيكل عجيب غريب . وما عشت أراك الدهر عجبا ، وأن تعجب فعجب قول هيكل بلسان أبى بكر الصديق ان الحدود الشرعية لا يجب أن تتناول النوابغ من أمثال خالد ، وانه ليعلم ان الله عزوجل ، خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدا حبشيا والنار خلقها لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا . وان ليس بين الله وبين أحد من خلقه هوادة فيحأبيه ، والناس كلهم عنده سواء ، فالعزيز ذليل حتى يؤخذ الحق منه ، ويقام الحد عليه ، والذليل عزيز حتى يؤخذ له بحقه ( منه قدس ) .
( 4 ) إذا كان في إقامة الحدود الشرعية تعريض الخطر ، وجب تأجيل إقامتها حتى يزول الخطر ، لكن لم نر الخليفة مؤجلا إقامتها ولا منتظرا في سبيل ذلك زوال الخط
ر =>

 
 

- ص 129 -

قال : ولقد كان المسلمون في حاجة إلى سيف خالد ، وكانوا في حاجة إليه يوم استدعاه أبو بكر وعنفه ، أكثر من حاجتهم إليه من قبل ، فقد كان مسيلمة باليمامة ، على مقربة من البطاح ، في أربعين ألفا من بني حنيفة ، وكانت ثورته في الإسلام والمسلمين أعنف ثورة ( 1 ) فمن أجل مقتل مالك بن نويرة أم من أجل ليلى الجميلة التي فتنت خالدا ، وتتعرض جيوش المسلمين لتغلب مسيلمة عليها ( 2 ) ؟

ويتعرض دين الله لما يمكن أن يتعرض له ، ان خالدا آية الله ، وسيفه سيف الله ، فلتكن سياسة أبي بكر حين استدعاه إليه أن يكتفي بتعنيفه ( 3 ) وأن يأمره في الوقت نفسه بالمسير إلى اليمامة ولقاء مسيلمة ( 177 ) .

قال هيكل : ولعل أبو بكر انما أصدر أمره إلى خالد يومئذ بالمسير للقاء مسيلمة ، ليرى أهل المدينة " ومن كان على رأي عمر منهم خاصة " . ان خالدا

  => ليقيمها ، وانما كان عافيا عن تلك الخطايا ، غافرا لتلك الجنايات ، راضيا كل الرضا من أولئك الجناة ( منه قدس ) .
( 1 ) تكرر هذا المعنى من الأستاذ . وتكرر الجواب منا عنه والآن نعود فنقول : كان في الامكان استبداله . بقائد ممن هم أمثاله ولو فرض انحصار الأمر به فهل تبطل حدود الله بذلك ؟ كلا بل تؤجل ، وإذا فما الوجه في تعطيلها بالمرة ، حتى كأن لم يكن هناك جناة ولم تكن جنايات ! ( منه قدس ) .
( 2 ) نعم يعزل ويقتل فورا بحكم الله عزوجل على القاتل بالقتل والزاني المحصن بالرجم فإذا كان في تعجيل إقامة الحد عليه خطر ، تؤجل الحدود إلى أن يزول الخطر ولا يجوز إلغاؤها إجماعا وقولا واحدا ( منه قدس ) .
( 3 ) لكن الله عزوجل لم يكتف بذلك ، والنصوص صريحة بالقتل والرجم . لكن أبا بكر الصديق تأولها فقدم في مقام العمل رأيه عليها وبهذا كانت من موارد موضوعنا " الاجتهاد مقابل النص " ( منه قدس ) .
( 177 ) ولأجل معرفة بطلان
هذه الأراجيف راجع : الغدير للأميني ج 7 / 161 -
169 ( * ) .
 
 

- ص 130 -

رجل الملمات ، وانه قذف به " حين أصدر إليه هذا الأمر " إلى جحيم اما يبتلعه ويقضي عليه ، فيكون ذلك خير عقاب له على ما صنع بأم تميم ليلى وزوجها مالك ( 1 ) وأما يصهره النصر فيه ويطهره ( 2 ) فيخرج مظفرا غانما قد سكن من المسلمين روعا لا تعد فعلته بالبطاح شيئا مذكورا إلى جانيه . قال : وقد صهرت اليمامة خالدا وطهرته ( 3 ) وان تزوج في أعقابها بنتا كما فعل مع ليلى ولما تجف دماء المسلمين ، ولا دماء أتباع مسيلمة ، ولقد عنفه أبو بكر على فعلته هذه ، بأشد مما عنفه على فعلته مع ليلى ( 4 ) . . إلى آخر كلامه ( 5 ) .

  ( 1 ) انظر معي وامعن فيما يقوله هذا الأستاذ الكبير بلسان الصديق ، فهل تراهما يجهلان ان عقاب المحصن إذا زنى واجب على الحاكم الشرعي ، وان عقابه انما هو الرجم خاصة ، لا القاؤه في جحيم اليمامة أو غيرها ، وانه لا تصهره ولا تطهره اليمامة وأهوالها ، وانما تطهره التوبة والعمل الصالح بدليل قوله في سورة الفرقان " الا من تاب وآمن وعمل صالحا " ( منه قدس ) .
( 2 ) انما يصهر المذنبين ويطهرهم ، الرجوع إلى الله تعالى ، بالإنابة والتوبة والندم والعمل الصالح مخلصين لله تعالى وحده بذلك ( منه قدس ) .
( 3 ) انا لنربأ بالأستاذ عن مثل هذه الأساليب فإنها بالحرص أشبه ، وقد ثبت الحسد والقود على خالد ، فاليمامة وجحيمها لا ينسخان الحكم المبرم في كتاب الله عزوجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله فان تعذر التعجيل في إقامة الحد وجب على الحاكم تنفيذه في أول أزمنة الامكان ( منه قدس ) .
( 4 ) لعل هذه البنت كانت ذات بعل فنزا عليها ، ولذلك عنفه أبو بكر على فعلته معها إلى أكثر مما عنفه على فعلته مع زوجة مالك ولو لم تكن محصنة ولم تكن من محارمه لكانت الزيادة من أبى بكر في تعنيفه في غير محلها ، بل لا وجه حينئذ للتعنيف أصلا ( منه قدس ) .
( 5 ) فراجعه في ص 152 من كتاب الصديق أبو بكر ( منه قد
س ( * ) .
 
 

- ص 131 -

وتراه قد أوضح بكل جلاء ما قد كان عليه الخليفة من إيثاره العمل بما تقتضيه المصالح على العمل بما يقتضيه التعبد بالنصوص ، وهذا رأي كثير من الفضلاء الأزهريين في أبي بكر وعمر ، شافهوني به إذا اجتمعت بهم في الأزهر سنة 1329 والتي بعدها .

لكن عمر وان اغرق نزعا في تأويل النصوص لم يوافق أبا بكر في عفوه عن خالد كما سمعته مفصلا .

وقد أعلن الأستاذ هيكل رأي عمر بتفصيل فقال أما عمر ، وكان مثال العدل الصارم ، فكان يرى ان خالدا عدا على امرئ مسلم ونزا على امرأته قبل انقضاء عدتها فلا يصح بقاؤه في قيادة الجيش حتى لا يعود لمثلها فيفسد أمر المسلمين ويسئ إلى مكانتهم بين العرب قال : ولا يصح ان يترك بغير عقاب على ما أثم مع ليلى ، ولو صح انه تأول فأخطأ في أمر مالك ، وهذا ما لا يجيزه عمر ، وحسبه ما صنع مع زوجته ليقام عليه الحد ، وليس ينهض عذرا له أنه سيف الله ، وانه القائد الذي يسير النصر في ركابه ، فلو ان مثل هذا العذر يقبل ، لأبيحت لخالد وأمثاله المحارم ، ولكان ذلك أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله ، لذلك لم يفتأ عمر يعيد على أبي بكر ، ويلح عليه ، حتى استدعى خالدا وعنفه .

هذا كلام الأستاذ هيكل بعين لفظه في ص 151 من كتابه "الصديق أبو بكر" تحت عنوان رأي عمر وحجته في الأمر

[ بعض الإنصاف ]

ان الأستاذ العقاد ، بعد أن ذكر الأقوال المتضاربة ، حول مقتل مالك دفاعا 

- ص 132 -

عن خالد ، قال ( 1 ) : وحسبنا من هذه الأقوال جميعا ، أن نقف منها على الثابت الذي لا نزاع فيه ، ان وجوب القتل لم يكن صريحا قاطعا في أمر مالك بن نويرة ( 2 ) وان مالكا كان أحق بإرساله إلى الخليفة من زعماء فزارة وغيرهم ، الذين أرسلهم خالد بعد وقعة البزاخة ، وان خالدا تزوج امرأة مالك وتعلق بها وأخذها معه إلى اليمامة بعد لقاء الخليفة ( 3 ) .

قال : وأوجب ما يوجبه الحق علينا ، بعد ثبوت هذا كله ، أن نقول : ان وقعة البطاح صفحة في تاريخ خالد ، كان خيرا له ( 4 ) وأجمل لو أنها حذفت ولم تكتب على قول من جميع تلك الأقوال . . إلى آخر كلامه .

  ( 1 ) في ص 134 من عبقرية خالد ( منه قدس ) .
( 2 ) بل كانت حرمة قتله في غاية الصراحة والقطع ، وكانت من الكبائر الموبقة الموجبة للقصاص الشرعي ، لان إسلام مالك مما لا ريب فيه لكل منصف ألم بوقعة البطاح على حقيقتها وعرف
السر في ثورة عمر ، وأبى قتادة ، وأهل المدينة بكنهها ، وقد كان آخر ما تكلم به مالك في حياته إني على الإسلام . على أن الشيخين عمر وأبا بكر اتفقا على موته مسلما ، وذلك ان عمر إذ قال للخليفة : ان خالدا قد زنى فارجمه قال الخليفة : ما كنت لأرجمه فانه تأول فأخطأ قال عمر : انه قتل مسلما فاقتله به . فلم يقل له : انه قتل مرتدا . وإنما قال : ما كنت لأقتله به فانه تأول فأخطأ . وهذا اعتراف منه بإسلام مالك . ولذلك وداه من بيت مال المسلمين ، واعتبر السبايا والأسرى من آله أحرارا فخلى سبيلهم ، ولم يقر خالدا على سبيهم ( منه قدس ) .
( 3 ) هب ان خالدا إذ وطئ امرأة مالك متأولا فما عذره في تعلقه بها ولاسيما بعد لقاء الخليفة ، وما عذر الخليفة في إبقائه عليه بعد أخذها معه إلى اليمامة يسافحها وهو محصن ( منه قدس ) .
( 4 ) بل كان خيرا للخليفة أولا وله ثانيا ( منه قدس ) ( * ) .
 
 

- ص 133 -

[ ختام الكلام في هذا المقام ] نختم كلامنا في هذا الموضوع بالإشارة إلى من كتب في مالك ، من حيث مكانته في العروبة والإسلام ، ومن حيث ما مني به وقومه يوم البطاح .

وحسبنا من ذلك تاريخ الأمم والملوك لمحمد بن جرير الطبري ، وجمهرة النسب لابن الكلبي ، والكامل لابن الأثير ( 178 ) ، وكتاب الردة والفتوح لسيف بن عمر ( 179 ) ، وكتاب الموفقيات للزبير بن بكار ، وكتاب الأغاني

  ( 178 ) تاريخ الطبري ج 3 / 276 - 280 وقد خلط فيه الحابل بالنابل والغث بالسمين ، الكامل ج 2 / 357 - 360 وهذا كسابقه ، جمهرة النسب للكلبى .
( 179 ) كتاب الفتوح والردة لسيف بن عمر التميمي المتوفى بعد 170 ه‍ وهذا الكتاب قد أخذ عنه جملة من علماء التأريخ
 1 - الطبري المتوفى 310 ه‍ في تاريخه
 2 - ابن عساكر ( ت 571 ) في تاريخ دمشق
 3 - ابن أبى بكر ( ت 741 ه‍ ) في كتاب ( التمهيد والبيان في
مقتل الشهيد عثمان )
 4 - الذهبي ( ت 748 ) في كتابه تاريخ الإسلام وغيرهم عنهم ، حتى انتشرت رواياته في التاريخ الإسلامي .
و ( سيف بن عمر ) هذا من ضعفاء الحديث بل من الزنادقة والمختلقين للأحاديث والأسانيد والبقاع والحوادث . قيمة أحاديث سيف ، ورأى العلماء فيه : قال يحيى بن معين ( ت 233 ) : " ضعيف الحديث فلس خير منه " يعنى سيف بن عمر . وقال النسائي صاحب الصحيح ( ت 303 ) " ضعيف متروك الحديث ليس بثقة ولا مأمون " . وقال أبو داود ( ت 316 ه‍ ) " ليس بشئ كذاب " . وقال ابن أبى حانم ( ت 327 ه‍ ) " متروك الحديث " . وقال ابن السكن ( ت 353 ه‍ ) : " ضعيف " . وقال ابن عدى ( ت 365 ه‍ ) : " ضعيف بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليه
ا " =>
 
 

- ص 134 -

لأبي فرج الاصبهاني وكتاب الدلائل لثابت بن قاسم ، ونزهة المناظر لابن الشحنة ، والمختصر لأبي الفداء ، وما هو في أحوال عمر ، من المجلد الأول من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ، وغيرها من كتب السير والمعاجم في التراجم ( 180 ) .

وهاك الآن ما ذكره القاضي ابن خلكان " في ترجمة وثيمة بن موسى بن الفرات الوشاء الفارسي من وفيات الأعيان نقلا عن كتأبي وثيمة والواقدي " إذ قال : كان مالك بن نويرة رجلا سريا نبيلا يردف الملوك . قال : وللردافة موضعان ، أحدهما أن يردفه الملك على دابته في صيد أو غيره من مواضع الانس ، والموضع الثاني انبل وهو أن يردف الملك إذا قام عن مجلس الحكم فينظر ما بين الناس بعده . قال : وهو الذي يضرب به المثل ، فيقال مرعى ولا كسعدان ، وماء ولا كصداء وفتى ولا كمالك . قال : وكان فارسا شاعرا

  => وقال ابن حبان ( ت 354 ه‍ ) : " يروى الموضوعات عن الاثبات ، اتهم بالزندقة " . وقال : " قالوا كان يضعف الحديث " . وقال الحاكم ( ت 405 ه‍ ) " متروك اتهم بالزندقة " . وغيرهم من العلماء الذين نصوا على زندقته ووضعه واختلاقه للأحاديث راجع ذلك : في ميزان الاعتدال للذهبي ج 2 / 255 ، آفة أصحاب الحديث لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي المتوفى 597 ه‍ ص 85 و 89 و 91 ، عبد الله سبأ للعسكري ج 1 / 62 - 63 ، خمسون ومائة صحابي مختلق ج 1 وج 2 وبعد أن نقل الطبري وغيره من المتقدمين عن سيف من الروايات انتشرت في أكثر المصادر الإسلامية ان لم يكن كلها واختلط الغث بالسمين والحابل بالنابل وانتشرت من الخرافات والمختلقات ولأجل المزيد من ذلك : راجع : كتاب عبد الله بن سبأ للسيد مرتضى العسكري ج 1 و 2 وكتاب خمسون ومائة صحابي مختلق للسيد العسكري أيضا ج 1 و 2 .
( 180 ) تلخيص الشافي للطوسي ج 3 / 188 - 195 ، المختصر لأبي الفداء ج 1 / 158 ، نزهة الناظر لابن الشحنة ، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج 1 / 179
. ( * ) 
 
 

- ص 135 -

مطاعا في قومه ، وكان فيه خيلاء وتقدم ، وكان ذا لمة كبيرة ، وكان يقال له الجفول ( 1 ) .

قال : وقدم على النبي صلى الله عليه وآله فيمن قدم من العرب فأسلم فولاه النبي صلى الله عليه وآله صدقات قومه . إلى آخر ما روي عنه وعن موقفه مع خالد بن الوليد يوم البطاح وانهما تجاولا في الكلام طويلا فقال له خالد : إني قاتلك . قال مالك : أو بذلك أمرك صاحبك ؟ . - يعني أبا بكر - قال والله لاقتلنك ، وكان عبد الله ابن عمر وأبو قتادة إذ ذاك حاضرين ، فكلما خالدا في أمره فكره كلامهما فقال مالك : يا خالد ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا فقد بعثت إليه غيرنا ممن جرمه اكبر من جرمنا فقال خالد : لا أقالني الله ان لم أقتلك . وتقدم إلى ضرار بن الازور بضرب عنقه . فالتفت مالك إلى زوجته أم تميم وقال لخالد . هذه التي قتلتني .

قال ابن خلكان : وكانت في غاية الجمال . فقال له خالد : بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام فقال مالك : اني على الإسلام . فقال خالد يا ضرار اضرب عنقه . قال : فضرب عنقه وجعل رأسه اثفية لقدر . قال : قال ابن الكلبي في جمهرة النسب : قتل مالك يوم البطاح وقبض خالد امرأته فتزوجها ، وفي ذلك يقول ابو زهير السعدي : ألا قل لحى أوطئوا بالسنابك ( 181 ) .

قلت وذكر لأبيات الستة الانفة الذكر .

ثم ذكر ابن خلكان بعد هذا ثورة عمر على خالد وقوله لأبي بكر : ان خالدا قد زنى فأرجمه . قال : ما كنت لأرجمه فأنه تأول فأخطأ . قال : انه

  ( 1 ) الجفول هو ذو النجدة والحفائظ والغيرة الممسك بعنان فرسه في سبيل ذلك فإذا سمع بهيعة طار إليها ( منه قدس ) .
( 181 ) وفيات الأعيان لابن خلكان ترجمة وثيمة ج 6 / 13 - 15 وقد ترك المصنف بعض الحديث
. ( * ) 
 
 

- ص 136 -

قتل رجلا مسلما فاقتله به . فقال : ما كنت لأقتله به فانه تأول فأخطأ . قال : فاعزله . قال : ما كنت لاشيم سيفا سله الله عليهم .

واسترسل ابن خلكان فيما هو حول هذه القضية فذكر وقوف متمم بن نويرة بحذاء أبي بكر ، متكئا على سية قوسه ينشد قوله :

نعم القتيل إذا الرياح تناوحت * خلت البيوت قتلت يا ابن الازور
أدعوته بالله ثم غدرته * لو هو دعاك بذمة لم يغدر

قال : وأومأ إلى أبي بكر ، فقال ابو بكر : فوالله ما دعوته ولا غدرته . ثم أنشد :

ولنعم حشو الدرع كان وحاسرا * ولنعم مأوى الطارق المتنور
لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه * حلو شمائله عفيف المئزر

ثم بكى وانحط عن سية قوسه ( 182 ) . إلى آخر ما في وفيات الأعيان من هذا الموضوع .

وقد ذكر من شجاعة مالك وحفيظته وسخائه ومكانته ما يجدر بالباحثين أن يقفوا عليه . وممن ذكر مالكا من أهل المعاجم واثبات السير والأخبار ، أبو الفضل احمد بن علي المعروف بابن حجر العسقلاني في القسم الأول من الإصابة في تمييز الصحابة ( 1 ) .

فقال : ( مالك ) ابن نويرة بن حمزة بن شداد بن عبد بن ثعلبة بن يربوع التميمي اليربوعي يكنى أبا حنظلة ويلقب بالجفول

  ( 182 ) وفيات الأعيان ج 6 / 15 ، المختصر لأبي الفداء ج 1 / 158 .
( 1 ) وذكره الطبري في معجمه فقال - كما في ترجمة متمم من الاستيعاب - : مالك بن نويرة بن حمزة التميمي بعثه النبي صلى الله عليه وآله على صدقة بني يربوع وكان قد أسلم هو وأخوه متمم . الخ ( منه قد
س ) ( * ) .
 
 

- ص 137 -

( قال ) قال المرزباني كان شاعرا شريفا فارسا معدودا في فرسان بني يربوع في الجاهلية وأشرافهم وكان من - أرداف الملوك وكان النبي صلى الله عليه وآله - استعمله على صدقات قومه فلما بلغته وفاة النبي صلى الله عليه وآله امسك عن الصدقة ( 1 )

وقال في ذلك : فقلت خذوا أموالكم غير خائف - ولا ناظر فيما يجئ من الغد ( 2 ) - فان قام بالدين المخوف قائم - اطعنا ( 183 ) وقلنا الدين دين محمد -

  ( 1 ) قلت : أمسك عن أخذها من قومه بعد لحاقه صلى الله عليه وآله بالرفيق الأعلى تورعا منه واحتياطا وكان ينتظر من يثبت لديه قيامه شرعا مقام رسول الله لينزل على حكمه في الصدقة وغيرها كما يدل عليه شعره الذي ستسمعه الآن فامعن به وبما سنعلقه عليه ( منه قدس ) .
( 2 ) انما فرقها في الفقراء والمساكين من قومه لأنه قبضها منهم وله الولاية عليها من رسول الله وكان صلى الله عليه وآله
حينئذ حيا ، وبذلك رأى ان له التصرف بها فوضعها مواضعها الشرعية . وكان معروفا بالعاطفة على اليتامى والأرامل والمساكين يدل على ذلك قول معاصره في رثائه وقد مر عليك آنفا في الأصل :

فمن لليتامى والأرامل بعده * ومن للرجال المعدمين الصعالك -

أراد بهذا البيت انه لم يقترف في أموالهم ( حيث جمها منهم ولا حيث فرقها فيهم ) خيانة يخشاها ولا اثما يخافه في غده إذا بعث ( منه قدس ) .
( 183 ) أورد الإمام العسقلاني هذا البيت بلفظ أطعنا ونقله بهذا اللفظ عن ابن سعد عن الواقدي كما تراه في ترجمة مالك بن نويرة من الإصابة طبع سنة 1328 وفى هامشها كتاب الاستيعاب لابن عبد البر وأورده بلفظ أطعنا علم الهدى الشريف المرتضى في كتابه ( الشافي ) مع أبيات أخر لمالك استدل بها على انه حين بلغه وفاة النبي صلى الله عليه وآله أمسك عن
=>

 
 

- ص 138 -

فقتل صبرا هو وأصحابه ، ومثل به وبرأسه بعد القتل ، ووطئت زوجته ، وعطلت في ذلك كله حدود الله ، وانتهكت حرماته ، والعذر في ذلك كله انهم تأولوا فأخطأوا ، فانا لله وإنا إليه راجعون .

  => أخذ الصدقة من قومه قائلا لهم : تربصوا حتى يقوم قائم بعده صلى الله عليه وآله وننظر ما يكون من أمره قال : وصرح مالك بذلك في شعره حيث يقول :

وقال رجال سدد اليوم مالك * وقال رجال مالك لم يسدد
فقلت دعوني لا أبا لأبيكم * فلم أخط رأيا في المقام ولا الندى
وقلت خذوا أموالكم غير خائف * ولا ناظر فيما يجئ من الغد
فدونكموها انما هي مالكم * مصورة أخلاقها لم تجدد
 سأجعل نفسي دون ما تحذرونه * وأرهنكم حقا بما قلته يدى
فان قام بالأمر المجدد قائم * أطعنا وقلنا الدين دين
محمد

لكن الأستاذين هيكل في كتاب الصديق أبو بكر ، والعقاد في عبقرية خالد أوردا البيت بلفظ ( منعنا ) وأظن أنهما رويا البيت عن بعض المتحاملين على مالك المتعصبين لخالد أو للصديق وعلى كلا الروايتين في البيت ما يوجب ردة ولا دونها ، أما على فرض قوله أطعنا فواضح وأما على فرض منعنا ( وما أظن له صحة ) فلان الدين دين محمد وقد ولاه صلى الله عليه وآله على صدقات قومه ولم يعزله ، ولم تثبت له خلافة القائم مقامه لينزل على حكمه . فهو متريث باحث بكل مالديه من جهود عمن له الأمر بعد محمد شرعا لينزل على حكمه وقد طلب من خالد أن يرسله إلى أبى بكر ليبحث معه عن هذه المهمة فأبى الا قتله ( منه قدس ) . راجع : الإصابة لابن حجر ج 3 / 336 ط مصطفى محمد ، تلخيص الشافي للطوسي ج 3 / 192 ، معجم الشعراء للمرزباني ص 260 ( * ) .

 
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب