النص والاجتهاد - السيد شرف الدين  ص 244 : -

[ المورد - ( 25 ) - : الطلاق وما أحدثوا فيه بعد النبي صلى الله عليه وآله ]

وذلك أن الطلاق الثلاث الذي لا تحل المطلقة بعده لمطلقها الا بالمحلل الشرعي المعروف ، انما هو الطلاق الثالث ، المسبوق برجعتين مسبوقتين بطلاقين ، وذلك بأن يطلقها أولا ثم يرجعها ، ثم يطلقها ثانيا ثم يرجعها ، ثم يطلقها ثالثا وحينئذ لا تحل له حتى يأتي بالمحلل المعلوم .

هذا هو الطلاق الثالث الذي لا تحل المطلقة بعد لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره ، وبه جاء التنزيل : ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) إلى أن قال عز من قائل : ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) ( الآية ) ( 337 )

  ( 337 ) سورة البقرة : 229 و 230 ( * ) .  
 

- ص 245 -

واليك ما قاله أئمة العربية في تفسيرها ، واللفظ للزمخشري في كشافه جعله كشرح مزجي ، قال : ( الطَّلاَقُ ) بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم ( مَرَّتَانِ ) أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة . ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن أراد التكرير كقوله : ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) أي كرة بعد كرة .

إلى أن قال : وقوله تعالى ( فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) تخيير لهم - بعد ان علمهم كيف يطلقون - بين أن يمسكوا النساء بحسن المعاشرة والقيام بواجبهن ، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي لهن عليهم .

قال : وقيل معناه الطلاق الرجعي مرتان - مرة بعد مرة - لأنه لا رجعة بعد الثلاث . إلى أن قال : (  فَإِن طَلَّقَهَا ) الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله تعالى : ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ) واستوفى نصابه أو فان طلقها مرة ثالثة بعد المرتين ( فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ) أي بعد ذلك التطليق ( حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) . . الخ ( 338 ) .

قلت : هذا هو معنى الآية وهو المتبادر منها إلى الأذهان وبه فسرها المفسرون كافة ، ولا يمكن أن يكون قوله تعالى : ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ) متناولا لقول القائل لزوجته ( أنت طالق ثلاثا ) الا أن يكون قبل ذلك قد تكرر منه طلاقها مرتين بعد كل مرة منهما رجعة كما لا يخفى .

لكن عمر رأى أيام خلافته تهافت الرجال على طلاق أزواجهم ثلاثا بإنشاء واحد فألزمهم بما ألزموا به أنفسهم عقوبة أو تأديبا ، والسنن صريحة في نسبة ذلك إليه ( 339 ) .

  ( 338 ) الكشاف للزمخشري ج ، أحكام القرآن للجصاص ج 1 / 447 ، الغدير ج 6 / 181 .
( 339 ) الغدير للأميني ج 6 / 178 - 179 ، صحيح مسلم ك الطلاق باب طلاق =
>
 
 

- ص 246 -

وحسبك منها ما عن طاووس من ان أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هنانك ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر واحدة ؟ فقال : قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم انتهى بلفظ مسلم في صحيحه ( 340 ) .

وعن ابن عباس من عدة طرق كلها صحيحة ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : أن الناس قد استعجلوا في أمر قد كان لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم . انتهى بلفظ مسلم في صحيحه ( 341 ) .

وأخرجه الحاكم في مستدركه مصرحا بصحته على شرط الشيخين ، وأورده الذهبي ، في تلخيص المستدرك معترفا بصحته على شرطهما أيضا ( 3 ) .

  => الثلاث ، سنن أبى داود ج 1 / 344 ، أحكام القرآن للجصاص ، سنن النسائي ، سنن البيهقي ، الدر المنثور ج 1 / 279 ، تيسير الوصول ، عمدة القاري للعيني ج 20 / 233 ، كنز العمال .
( 340 ) في باب طلاق الثلاث من كتاب الطلاق ص 575 من الجزء الأول من صحيحه وأخرجه البيهقي ص 336 من الجزء السابع من سننه . وأبو داود في كتاب الطلاق من السنن فراجع منه الحديث الأخير من باب نسخ المراجعة بعد الثلاث تطليقات ( منه قدس ) . صحيح مسلم ك الطلاق باب طلاق الثلاث ج 4 / 184 ط العامرة ، سنن أبى داود ج 1 / 574 ، الغدير ج 6 / 179 .
( 341 ) في باب طلاق الثلاث من كتاب الطلاق من جزئه الأول ( منه قدس ) . صحيح مسلم ك الطلاق باب طلاق الثلاث ج 4 / 184 ط العامرة ، ارشاد الساري ج 8 / 127 ، الدر المنثور ج 1 / 279 ، الغدير ج 6 / 178 ، مسند أحمد ج 1 / 314 ، سنن البيهقي ج 7 / 336 ، تفسير القرطبي ج 3 / 130 .
( 3 ) راجع من كل من المستدرك وتلخيصه كتاب الطلاق ص 196 من الجزء الثاني فان هذين الكتابين مطبوعان معا وصحائفهما متحدة ( منه قد
س ) ( * ) .
 
 

- ص 247 -

وأخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس في مسنده ( 1 ) .
ورواه غير واحد من أصحاب السنن واثبات السنن ( 2 ) .

ونقله العلامة الشيخ رشيد رضا في ص 210 من المجلد الرابع من مجلته " المنار " عن كل من أبي داود والنسائي والحاكم والبيهقي ثم قال - ما هذا لفظه - : ومن قضاء النبي صلى الله عليه وآله بخلافه ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس ( 3 ) قال : طلق ركانة زوجته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله : كيف طلقتها ؟ . قال ثلاثا . قال صلى الله عليه وآله : في مجلس واحد ؟ . قال نعم . قال صلى الله عليه وآله : فانما تلك واحدة فأرجعها ان شئت . آه ( 342 ) .

وأخرج النسائي من رواية مخرمة بن بكير عن أبيه عن محمود بن لبيد ان رسول الله صلى الله عليه وآله أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام صلى الله عليه وآله غضبان ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ! . حتى قام رجل ، فقال يا رسول الله ألا نقتله ؟ ( 343 ) إلى آخر ما جاء من السنن الصحيحة صريحا

  ( 1 ) راجع من المسند ص 314 من جزئه الأول ( منه قدس ) .
( 2 ) كالبيهقي ص 336 من الجزء السابع من سننه ، والقرطبي في الجزء الثالث ص 130 من تفسيره جازما بصحته وغير هؤلاء من أمثالهم ( منه قدس ) .
( 3 ) ذكره ابن إسحاق في ص 191 من الجزء الثاني من سيرته ( منه قدس ) .
( 342 ) بداية المجتهد ج 2 / 61 ، الغدير ج 6 / 182 .
( 343 ) وقد نقله قاسم بك أمين المصري ص 172 من كتابه - تحرير المرأة - عن النسائي والقرطبي والزيلعى لكن بالإسناد إلى ابن عباس ، وربما دل هذا الحديث على فساد الطلاق الثلاث بالمرة لكونه لعبا ، وبذلك قال سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين ، لكن الصواب أن اللعب انما هو في قول ثلاثا فيلغى ، وأما قوله أنت طالق يؤثر أثره لأنه جد لا
لعب فيه ( منه قدس ) . سنن النسائي ج 6 / 142 ، تيسير الوصول ج 3 / 160 ، تفسير ابن كثير ج 1 / 377 ، ارشاد الساري ج 8 / 128 ، الدر المنثور ج 1 / 283 ، الغدير ج 6 / 181 ( * ) .
 
 

- ص 248 -

في ذلك ولذا ترى علماء الإسلام وإثباتهم يرسلونه إرسال المسلمات .

وحسبك منهم الأستاذ الكبير خالد محمد خالد المصري المعاصر وقد قال في كتابه " الديمقراطية " : ترك عمر بن الخطاب النصوص الدينية المقدسة من القرآن والسنة عندما دعته المصلحة لذلك ، فبينا يقسم القرآن للمؤلفة قلوبهم حظا من الزكاة ويؤديه الرسول وأبو بكر ، يأتي عمر فيقول : لا نعطي على الإسلام شيئا ، وبينا يجيز الرسول وأبو بكر بيع أمهات الأولاد يأتي عمر فيحرم بيعهن ، وبينا الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحدا بحكم السنة والإجماع جاء عمر فترك السنة وحطم الإجماع . هذا كلامه بعين لفظه فراجعه في ص 150 من " ديمقراطيته " .

وقال الأستاذ الدكتور الدواليبي - حيث ذكر عمر وايقاعه الطلاق الثلاث بكلمة واحدة في كتابه أصول الفقه ( 1 ) ما هذا لفظه - : " ومما أحدثه عمر رضي الله عنه تأييدا لقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان ، هو إيقاعه الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ، مع أن المطلق في زمن النبي صلى الله عليه وآله وزمن خليفته أبي بكر وصدرا من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة كما ثبت ذلك في الخبر الصحيح عن ابن عباس ، وقد قال عمر بن الخطاب : ان الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم .

قال : وقال ابن القيم الجوزية في ذلك : ولكن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رأى أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق ، وكثر منهم ايقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بامضائه عليهم فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق فرأى عمر أن هذه مصلحة لهم في زمانه .

ورأى ان ما كان عليه في عهد النبي وعهد الصديق وصدرا من خلافته كان الأليق بهم لأنهم لم يتتابعوا فيه ، وكانوا

  ( 1 ) فراجع منه آخر ص 246 والتي بعدها ( منه قدس ) ( * ) .  
 

- ص 249 -

يتقون الله في الطلاق . إلى أن قال : فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان ( 1 )

( قال ) : وعلم الصحابة حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به ( 2 ) وصرحوا لمن استفتاهم بذلك ( 3 )

( قال ) : غير ان ابن القيم نفسه جاء فأبدى ملاحظته بالنسبة لزمنه ، رغبة في الرجوع بالحكم إلى ما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لان الزمن قد تغير أيضا ، وأصبح إيقاع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة مدعاة لفتح باب التحليل الذي كان مسدودا على عهد الصحابة ( 4 ) وقال : بأن العقوبة إذا تضمنت مفسدة أكثر من الفعل المعاقب عليه كان تركها أحب إلى الله ورسوله ( 5 ) .

( قال ) : وقال ابن تيمية : ولو رأى عمر رضي الله عنه عبث المسلمين في تحليل المبانة لمطلقها ثلاثا لعاد إلى ما كان عليه الأمر في عهد الرسول .

( قال ) : وان ما أبداه ابن تيمية من الملاحظات القيمة قد كان مدعاة لعودة المحاكم الشرعية في مصر الآن إلى ما كان عليه الحكم في عهد الرسول عملا بقاعدة تغير الأزمان ( 344 ) .

  ( 1 ) سبحانك اللهم إذا صح للمجتهدين تغيير أمثال هذه الفتوى بتغيير الزمان حتى في هذه الفترة الوجيزة الكائنة بين خلافة الخليفتين ، فعلى أحكام الكتاب والسنة ونصوصهما السلام . وى . وى . ما أفظع هذا الخطر إذا بنى المجتهدون على مثل هذه القاعدة التي ما أنزل الله بها من سلطان ( منه قدس ) .
( 2 ) هذا مما لا دليل عليه . بل الأدلة قائمة على خلافه ( منه قدس ) .
( 3 ) قل هاتوا برهانكم ( منه قدس ) .
( 4 ) لم يكن في الزمن تغير ولا تغير الزمن يوجب تغير الحكم الشرعي المنصوص عليه في الكتاب أو السنة وانما عمل ابن القيم به علما منه انه حكم الله تعالى ( منه قدس )
( 5 ) سبحان الله ما هذا التلاعب ( منه قدس ) .
( 344 ) بل عملا بنص الكتاب وصريح السنة ( منه
قدس )
ولأجل الاطلاع على الموضوع بصورة أوسع راجع : الغدير ج 6 / 178 - 183 .
 
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب