النص والاجتهاد - السيد شرف الدين  ص 319 : -

[ المورد - ( 48 ) - : اخذ الفداء من الأسرى يوم بدر ]

لما نصر الله عزوجل عبده ورسوله يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في بدر ، وجئ بالأسرى إليه ، علم من عزمه انه سيبقي عليهم ، أملا بأن يهديهم الله - فيما بعد - لدينه ، ويوفقهم لما دعا إليه من سبيله - كما وقع ذلك والحمد لله - وهذا هو النصح لله تعالى ولعباده .

لكن قرر رسول الله صلى الله عليه وآله - مع العفو عنهم - أخذ الفداء منهم ليضعفهم عن مقاومته ، ويقوى به عليهم ، وهذا هو الأصح - في الواقع للفريقين ، وفيه النصح لله تعالى ولعباده أيضا كما لا يخفى ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) ( 456 ) على أنه صلى الله عليه وآله كان مطبوعا على الرحمة ما وجد إليها سبيلا .

وكان من رأي عمر بن الخطاب أن يقتلوا ، بأجمعهم ، جزاء بما كذبوا وآذوا وهموا بما لم ينالوا ، وأخرجوا وقاتلوا ، وكان قوي العزيمة شديد الشكيمة في استئصالهم قتلا بأيدي أرحامهم من المسلمين ، حتى لا يبقى منهم أحد ( 457 ) .

لكن رسول الله صلى الله عليه وآله مثل فيهم كلمته التي حكاها الله تعالى عنه في محكم فرقانه العظيم ( 1 ) ألا وهي قوله : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ

  ( 456 ) سورة النجم : 3 .
( 457 ) الدرجات الرفيعة ص 82 ، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 3 / 242 ، صحيح مسلم ج 5 / 157 .
( 1 ) هي الآية 16 من سورة يونس ( منه قد
س ) ( * ) .
 
 

- ص 320 -

عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) . فخلى سبيلهم - عفوا عنهم وكرما - بعد أن أخذ منهم الفداء ، فكان الجاهلون بعصمته وحكمته بعد ذلك ( لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ ) انما كان رسول الله صلى الله عليه وآله في بقياه عليهم ، وأخذه الفداء منهم مجتهدا ( 1 ) وكان الصواب قتلهم ، واستئصال شأفتهم ، محتجين بأحاديث مفتأتة لا يجيزها عقل ولا نقل .

فمنها : أن عمر غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أخذه الفداء فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : ما يبكيكما فان وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : ان كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم ، ولو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب ( 458 ) .

( قالوا ) وأنزل الله تعالى ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ

  ( 1 ) نقل ذلك عنهم السيد الدحلانى في السطر الأخير من ص 512 من الجزء الأول من سيرته النبوية المطبوعة في هامش السيرة الحلبية ( منه قدس ) .
( 458 ) تجد هذا اللفظ في ص 512 من الجزء الأول من السيرة النبوية للدحلانى وتجد غيره مما هو في معناه فيها وفى السيرة الحلبية ، وفى البداية والنهاية لابن كثير نقلا عن كل من الإمام أحمد ومسلم وأبى داود والترمذي بالإسناد إلى عمر بن الخطاب ( منه قدس ) . راجع : صحيح مسلم ج 5 / 157 ، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 3 / 243 عن : تاريخ الطبري ج 1 / 169 ، الكامل في التاريخ ج 2 / 136 ، السيرة الحلبية ج 2 / 190 ، أسباب النزول للواحدي ص 137 ، حياة الصحابة ج 2 / 42 ، كنز العمال ج 5 / 265 عن عدة كتب ، الدر المنثور ج 3 / 201 - 203 ، مشكل الآثار ج 4 / 291 ، المغازي للواقدي ج 1 / 107 ، فواتح الرحموت بهامش المستصفى للغزالي ج 2 / 267 ، تاريخ الخميس ج 1 / 393 ، المستصفى للغزالي ج2 / 356 ( * ) .
 
 

- ص 321 -

فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) الآيات ( 459 ) .

( وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) ( 460 ) إذ أمعنوا في التيه . فجوزوا الاجتهاد على رسول الله صلى الله عليه وآله والله تعالى يقول : ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) وقد أو غلوا في الجهل إذ نسبوا إليه الخطأ ، وتسكعوا في الضلال ، إذ آثروا قول غيره ، واشتبهت عليهم - في هذه الآية - معالم القصد ، وعميت لديهم - فيها - وجوه الرشد ، فقالوا بنزولها في التنديد برسول الله وأصحابه ، حيث آثروا - بزعم هؤلاء الحمقى - عرض الدنيا على الآخرة فاتخذوا الأسرى ، وأخذوا منهم الفداء قبل ان يثخنوا في الأرض ، وزعموا أنه لم يسلم يومئذ من هذه الخطيئة إلا عمر ، وأنه لو نزل العذاب لم يفلت منه إلا ابن الخطاب .

وكذب من زعم أنه اتخذ الأسرى وأخذ منهم الفداء قبل أن يثخن في الأرض فانه صلى الله عليه وآله إنما فعل ذلك بعد أن أثخن في الأرض ، وقتل صناديد قريش وطواغيتها كأبي جهل بن هشام ، وعتبة ، وشيبة بن أبي ربيعة ، والوليد بن عتبة ، والعاص بن سعيد ، والاسود بن عبد الأسد المخزومي ، وأمية بن خلف ، وزمعة بن الأسد ، وعقيل بن الاسود ، ونبيه ، ومنبه ، وأبي البختري ، وحنظلة بن أبي سفيان ، وطعيمة بن عدي بن نوفل ، ونوفل بن خويلد ، والحارث ابن زمعة ، والنظر بن الحارث بن عبد الدار ، وعمير بن عثمان التميمي ، وعثمان ومالك اخوي طلحة ، ومسعود بن أمية بن المغيرة ، وقيس بن الفاكه بن المغيرة ، وحذيفة بن أبي حذيفة ابن المغيرة ، وأبي قيس بن الوليد بن المغيرة ، وعمرو بن مخزوم ، وأبي المنذر بن

  ( 459 ) سورة الأنفال : 67 . ( 460 ) سورة الأنعام : 90 ( * ) .  
 

- ص 322 -

أبي رفاعة ، وحاجب بن السائب بن عويمر ، وأوس بن المغيرة بن لوذان ، وزيد بن مليص ، وعاصم بن أبي عوف ، وسعيد بن وهب حليف بن عامر ، ومعاوية بن عبدالقيس ، وعبد الله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد ، والسائب بن مالك ، وأبي الحكم بن الاخنس ، وهشام بن أبي أمية بن المغيرة . ( 461 ) إلى سبعين من رؤس الكفر ، وزعماء الشرك كما هو معلوم بالضرورة ، فكيف يمكن بعد هذا ان يكون صلى الله عليه وآله قد أخذ الفداء قبل أن يثخن في الأرض لو كانوا يعقلون ؟ وكيف يتناوله هذا اللوم بعد اثخانه يا مسلمون ؟ ! وقد تنزه رسول الله وتعال الله عن ذلك علوا كبيرا .

والصواب ان الآية إنما نزلت في التنديد بالذين كانوا يودون العير وأصحابه على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله - عن هذه الواقعة - عز من قائل : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) ( 1 )

وكان صلى الله عليه وآله قد استشار أصحابه فقال لهم ( 2 ) : ان القوم قد خرجوا على كل صعب وذلول فما تقولون ؟ العير أحب اليكم أم النفير ؟ .
قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو ، وقال بعضهم حين رآه صلى الله عليه وآله مصرا على القتال : هلا ذكرت لنا القتال لتتأهب له ؟ انا خرجنا للعير لا للقتال ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله تعالى : (
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي

  ( 461 ) الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 3 / 192 وما بعدها ، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج 14 / 208 - 212 ، المغازي للواقدي ص 143 - 151 .
( 1 ) الآية 7 من سورة الأنفال ( منه قدس ) .
( 2 ) كما في السيرتين الحلبية والدحلانية وغيرهما من الكتب المشتملة على هذه الواقعة ( منه قد
س ) ( * ) .
 
 

- ص 323 -

الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ) ( 1 ) .

وحيث أراد الله عزوجل أن يقنعهم بمعذرة النبي صلى الله عليه وآله في إصراره على القتال ، وعدم مبالاته بالعير وأصحابه قال عز من قائل ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ ) من الأنبياء المرسلين قبل نبيكم محمد صلى الله عليه وآله ( أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) فنبيكم لا يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض على سنن غيره من الأنبياء الذين اتخذوا أسرى أبي سفيان وأصحابه حين هربوا بعيرهم إلى مكة ، لكنكم أنتم ( تُرِيدُونَ ) إذ تودون أخذ العير وأسر أصحابه ( عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ ) باستئصال ذات الشوكة من أعدائه ( وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) والعزة والحكمة تقتضيان يومئذ اجتثاث عز العدو ، وإطفاء جمرته ، ثم قال تنديدا بهم (  لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ ) في علمه الأزلي بأن يمنعكم من أخذ العير ، وأسر أصحابه لأسرتم القوم وأخذتم عيرهم ، ولو فعلتم ذلك ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ ) قبل أن تثخنوا في الأرض ( عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .

هذا معنى الآية الكريمة ، ولا يصح حملها على غيره ، على إني لا أعلم أحدا سبقني إليه ، إذ أوردت الآية وفسرتها في الفصول المهمة ( 2 ) .

  ( 1 ) الآية 5 و 6 من سورة الأنفال ( منه قدس ) . ( 2 ) راجع منها الفصل الثامن ( منه قدس ) ( * ) .  
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب