النص والاجتهاد - السيد شرف الدين  ص 346 : -

[ المورد - ( 52 ) - : التجسس مع النهى عنه ]

قال الله عزوجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) ( 488 ) .

وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله : إياكم والظن ، فان الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ، ولا تناجشوا ولا تحاسد ، ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله اخوانا . . الحديث ( 489 ) .

لكن عمر رأى في أيام خلافته ان بالتجسس نفعا للأمة وصلاحا للدولة ، فكان يعس ليلا ، ويتجسس نهارا ، حتى سمع هو يعس في المدينة صوت

  ( 488 ) سورة الحجرات : 12 .
( 489 ) مجمع البيان ج 9 / 137 ، صحيح مسلم ج 8 / 10 ط العامرة ، صحيح الترمذي ج 1 / 359 ، صحيح البخاري ج 3 / 431 وج 4 / 128 ، مسند أحمد ج 2 / 245 و 287 و 265 و 517 ، الجامع الصغير ح 2901 ، وصحيح الجامع الصغير ح 2676 ، أسنى المطالب ص 98 ، الفتح الكبير ج 1 /
490 ( * ) .
 
 

- ص 346 -

رجل يتغنى في بيته فسور عليه فوجد عنده امرأة وزقا من خمر ، فقال : أي عدو الله ظننت ان الله يسترك وأنت على معصية ، فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين ان كنت اخطأت في واحدة ، فقد اخطأت انت في ثلاث . قال الله تعالى : ( وَلَا تَجَسَّسُوا ) فقد تجسست وقال : ( وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) وقد تسورت وقال : ( فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا ) وما سلمت . فقال : هل عندك من خير ان عفوت عنك ؟ . قال نعم . فعفا عنه وخرج ( 490 ) .

وعن السدي قال : خرج عمر بن الخطاب فإذا هو بضوء نار ومعه عبدالله بن مسعود واتبع الضوء حتى دخل الدار ، فإذا سراج في بيت ، فدخل وحده وترك ابن مسعود في الدار ، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقينة تغنيه ، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر ، فقال : ما رأيت منظرا أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع الشيخ رأسه فقال : بلى صنيعك أنت أقبح مما رأيت مني ، إذ تجسست وقد نهى الله عن التجسس ، ودخلت بغير إذن ، فقال عمر : صدقت ثم خرج عاضا على ثوبه يبكي .

وقال : ثكلت عمر أمه ، إلى أن قال : وهجر الشيخ مجلس عمر حينا ، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس فرآه عمر فقال : علي بهذا ، فقيل له : أجب فقام وهو يرى ان عمر سيسوئه بما رأى منه . فقال عمر : ادن مني فلا زال يدنيه حتى

  ( 490 ) أخرجه الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق وهو الحديث 3696 من أحاديث الكنز في ص 167 من جزئه الثاني ، وأورده ابن أبى الحديد في ص 96 من المجلد الثالث من شرح نهج البلاغة ، وذكره الغزالي في ص 137 من كتابه إحياء العلوم ( منه قدس ) . الغدير للأميني ج 6 / 121 ، الرياض النضرة ج 2 / 46 ط 1 ، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج 1 / 61 وج 3 / 96 ط 1 ، الدر المنثور ج 6 / 93 ، الفتوحات الإسلامية ج 2 / 477 ( * ) .  
 

- ص 347 -

أجلسه بجنبه ، فقال : ادن مني اذنك فالتقم أذنه فقال له . والذي بعث محمدا بالحق ما أخبرت أحدا من الناس بما رأيت منك ، ولا ابن مسعود فانه كان معي . . ( الحديث ) ( 491 ) .

وعن الشعبي : ان عمر فقد رجلا من أصحابه ، فقال لابن عوف : انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحا وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله أياه ، فقال عمر لابن عوف : هذا الذي شغله عنا ، فقال ابن عوف لعمر : وما يدريك ما في الإناء ؟ . فقال عمر : أتخاف ان يكون هذا تجسسا ؟ قال : بل هو التجسس . قال : وما التوبة من هذا ؟ . قال : لا تعلمه بما اطلعت عليه من أمره ! . ( الحديث ) ( 492 ) .

وعن المسور بن مخرمة ، عن عبدالرحمن بن عوف : انه حرس المدينة مع عمر بن الخطاب ليلة فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه فإذا باب مجاف - مغلق - على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط ، فأخذ عمر بيد عبدالرحمن بن عوف فقال له : هذا بيت ربيعة بن أمية ، وهم الآن يشربون الخمر فما ترى ؟ . قال أرى انا قد أتينا ما نهى الله عنه إذ تجسسنا ، فانصرف عنهم عمر وتركهم ! ( 493 ) .

  ( 491 ) أخرجه أبو الشيخ في كتاب القطع والسرقة ، ونقله صاحب كنز العمال في ص 141 من جزئه الثاني وهو الحديث 3354 ( منه قدس ) .
( 492 ) أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وهو الحديث 3694 في ج 2 من الكنز ( منه قدس ) .
( 493 ) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي في مكارم الأخلاق وهو الحديث 3693 من أحاديث الكنز في الجزء المتقدم ذكره . وأخرجه الحاكم أيضا وصححه في باب النهى عن التجسس من كتاب الحدود صفحة 377 من الجزء الرابع من المستدرك =
>
 
 

- ص 348 -

وعن طاووس : ان عمر خرج ليلة فمر ببيت فين ناس يشربون فناداهم أفسقا ؟ أفسقا ؟ فقال بعضهم : قد نهاك الله عن هذا ، فرجع عمر وتركهم ! ( 494 ) .

وعن أبي قلابة : ان عمر حدث ان أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحابه فانطلق عمر حتى دخل عليه ، فقال أبو محجن : يا أمير المؤمنين ان هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس ، أفسأل عمر زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم فقالا : صدق يا أمير المؤمنين فخرج عمر وتركه ! ( 495 )

قلت : من تتبع ما جاء من الأخبار حول تجسسه رأى من نشاطه في سياسته وعزائمه المبذولة في سبيلها ما هو ماثل بأجلى المظاهر ( 496 ) .

وكأنه ( رض ) كان يرى أن الحدود الشرعية تدرأ بخطأ الحاكم في طريق اثباتها ، ولذلك لم يقم على واحد من هؤلاء المجرمين حدا ، بل لم يؤذ منهم أحدا ، وما ندري كيف رضي أن لا يكون لتجسسه أثر ، إلا تمرد المجرمين في إجرامهم ، بعد أن رأو هذا التسامح من أمامهم ؟ ! .

  => أورده الذهبي في تلخيصه مصرحا بصحته ( منه قدس ) . الغدير للأميني ج 6 / 122 ، سنن البيهقي ج 8 / 334 ، الإصابة ج 1 / 531 ، الدر المنثور ج 6 / 93 ، السيرة الحلبية ج 3 / 293 ، الفتوحات الإسلامية ج 2 / 476 .
( 494 ) ( 495 ) هذا الحديث وحديث طاووس موجودان في ج 2 / 141 من كنز العمال ( منه قدس ) . مجمع البيان ج 9 / 135 .
( 496 ) الغدير للأميني ج 6 / 121 ، مجمع البيان ج 9 / 135 ( * ) .
 
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب