النص والاجتهاد - السيد شرف الدين  ص 353 : -

[ المورد - ( 55 ) - اخذ الدية حيث لم تشرع ]

وذلك ان أبا خراش الهذلي الصحابي الشاعر ، أتاه نفر من أهل اليمن قدموا عليه حجاجا ، فأخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى لهم ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل ان يصل إليهم ، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال : اطبخوا شاتكم وكلوا . ولم يعلمهم ما أصابه ، فباتوا على شأنهم يأكلون حتى أصبحوا ، وأصبح أبوخراش وهو في الموتى ، فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يموت في شعر له :

لقد أهلكت حية بطن واد * على الاخوان ساقا ذات فضل
فما تركت عدوا بين بصرى * إلى صنعاء يطلبه بذحل

فبلغ خبره عمر بن الخطاب فغضب غضبا شديدا وقال : لولا ان تكون سنة لأمرت ان لا يضاف يماني أبدا ، ولكتبت بذلك إلى الافاق . ثم كتب إلى عامله باليمن ان يأخذ النفر الذين نزلوا على أبي خراش الهذلي فيلزمهم ديته ويؤذيهم بعد ذاك بعقوبة يمسهم بها جزاء لفعلهم ! ؟ ( 506 ) .


[ المورد - ( 56 ) - اقامة حد الزنى حيث لم يثبت مقتضيه ]

وذلك فيما أخرجه ابن سعد في أحوال عمر ص 205 من الجزء الثالث

  ( 506 ) هذه القضية أوردها ابن عبد البر في أحوال أبى خراش الهذلى من كتابه الاستيعاب وأورده الدميري في حياة الحيوان بمادة حية ( منه قدس )  
 

- ص 354 -

من طبقاته ( 1 ) بسند معتبر ، أن بريدا قدم على عمر فنثر كنانته ، فبدرت صحيفة فأخذها فقرأها فإذا فيها :

ألا أبلغ أبا حفص رسولا * فدا لك من أخي ثقة ازاري
قلائصنا هداك الله انا * شغلنا عنكم زمن الحصار
فما قلص وجدن معقلات * قفا سلع بمختلف البحار
قلائص من بني سعد بن بكر * وأسلم أو جهينة أو غفار
يعقلهن جعدة من سليم * معيدا يبتغي سقط العذار

فقال : ادعوا لي جعدة من سليم . [ قال ] فدعوا به فجلده مائة معقولا ونهاه ان يدخل على امرأة مغيبة . انتهى بلفظ ابن سعد ( 507 ) .

قلت : لا وجه لإقامة الحد هنا بمجرد هذه الأبيات ، إذ لم يعرف قائلها ولا مرسلها ، على انها لا تتضمن سوى استعداء الخليفة على جعدة بدعوى انه تجاوز الحد مع فتيات من بني سعد ابن بكر ، وسلم ، وجهينة ، وغفار ، فكان يعبث بهن فيعقلهن كما تعقل القلص ، يبتغي بذلك سقط عذارهن ، أي سقط الحياء والحشمة ، هذا كل ما في الأبيات مما نسب إلى جعدة . وهو لو ثبت شرعا لا يوجب بمجرده إقامة الحد ، نعم يوجب تربيته وتعزيره .

ولعل ما فعله الخليفة انما كان من هذا الباب . وشتان ما كان منه هنا ، وما كان منه مع المغيرة بن شعبة مما ستسمعه قريبا ان شاء الله .


[ المورد - ( 57 ) - درؤه الحد عن المغيرة بن شعبة ]

وذلك حيث فعل المغيرة ( مع الإحصان ) ما فعل مع أم جميل بنت عمرو

  ( 1 ) وأخرجه ابن عساكر في تاريخه ، وذكر جلده ونفيه إلى عمان ( منه قدس ) .
( 507 ) الطبقات الكبرى ج 2 / 285 ط دار صادر
. ( * ) 
 
 

- ص 355 -

امرأة من قيس في قضية هي من أشهر الوقائع التاريخية في العرب ، كانت سنة 17 للهجرة لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث تلك السنة ، وقد شهد عليه بذلك كل من أبي بكرة - وهو معدود في فضلاء الصحابة وحملة الآثار النبوية - ونافع بن الحارث - وهو صحابي أيضا - وشبل بن معبد ، وكانت شهادة هؤلاء الثلاثة صريحة فصيحة بأنهم رأوه يولجه فيها ايلاج الميل في المكحلة لا يكنون ولا يحتشمون ، ولما جاء الرابع - وهو زياد بن سمية - ليشهد ، أفهمه الخليفة رغبته في ان لا يخزي المغيرة ، ثم سأله عما رآه فقال : رأيت مجلسا وسمعت نفسا حثيثا وانتهازا ، ورأيته مستبطنها . فقال عمر : أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟ . فقال لا لكن رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تتردد إلى ما بين فخذيها ، ورأيت حفزا شديدا ، وسمعت نفسا عاليا . فقال عمر : رأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة ؟ . فقال : لا . فقال عمر : الله أكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم . فقام يقيم الحدود على الثلاثة .

واليكم تفصيل هذه الواقعة بلفظ القاضي أحمد الشهير بابن خلكان في كتابه - وفيات الأعيان - إذ قال ما هذا لفظه : وأما حديث المغيرة بن شعبة والشهادة عليه ، فان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قد رتب المغيرة أميرا على البصرة ، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار ، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول : أين يذهب الامير ؟ . فيقول : في حاجة . فيقول : ان الأمير يزار ولا يزور .

[ قال ] : وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمرو وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن وهب الجشمي ، ثم ذكر نسبها ، ثم روى عن أبا بكرة بينما هو في غرفته مع اخوته ، وهم نافع ، وزياد ، وشبل بن معبد أولاد سمية فهم اخوة لام ، وكانت أم جميل المذكورة في غرفة أخرى قبالة هذه الغرفة فضرب الريح 

- ص 356 -

باب غرفة أم جميل ففتحه ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة مع المرأة على هيئة الجماع ، فقال أبو بكرة : بلية قد ابتليتم بها فانظروا فنظروا حتى أثبتوا فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة فقال له : ان كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا .

( قال ) وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر ومضى أبو بكرة . فقال أبو بكرة : لا والله لا تصل بنا وقد فعلت ما فعلت . فقال الناس : دعوه فليصل فانه الأمير واكتبوا بذلك إلى عمر رضي الله عنه ، فكتبوا إليه فأمرهم ان يقدموا عليه جميعا ، المغيرة والشهود ، فلما قدموا عليه جلس عمر رضي الله عنه ، فدعا بالشهود والمغيرة ، فتقدم أبو بكرة فقال له : رأيته بين فخذيها ؟ قال : نعم والله لكأني انظر إلى تشريم جدري بفخذيها ، فقال له المغيرة ألطف النظر ؟
فقال أبو بكرة : لم آل ان اثبت ما يخزيك الله به .
فقال عمر رضي الله عنه : لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه ايلاج المرود في المكحلة .
فقال : نعم أشهد على ذلك .
فقال : اذهب مغيرة ذهب ربعك . ثم دعا نافعا فقال له : على م تشهد ؟
قال على مثل ما شهد أبو بكرة .
قال : لا حتى تشهد انه ولج فيها ولوج الميل في المكحلة .
قال : نعم حتى بلغ قذذة
فقال له عمر رضي الله عنه : اذهب مغيرة قد ذهب نصفك .
ثم دعا الثالث فقال له : على م تشهد ؟
فقال : على مثل شهادة صاحبي فقال له عمر اذهب مغيرة فقد ذهب ثلاثة أرباعك .

ثم كتب إلى زياد وكان غائبا وقدم فلما رآه جلس له في المسجد واجتمع عنده رؤس المهاجرين والأنصار ، فلما رآه مقبلا قال : الي أرى رجلا لا يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين ، ثم ان عمر رضي الله عنه رفع رأسه إليه فقال ما عندك يا سلح الحبارى ؟ فقيل ان المغيرة قام إلى زياد . فقال : لا مخبأ لعطر بعد عروس

- ص 357 -

فقال له المغيرة : يا زياد اذكر الله تعالى واذكر موقف يوم القيامة فان الله تعالى وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي الا ان تتجاوز إلى ما لم تر مما رأيت فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تر فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أن يسلك ذكري فيها .

قال : فدمعت عينا زياد واحمر وجهه وقال : يا أمير المؤمنين أما ان أحق ما حقق القوم فليس عندي ، ولكن رأيت مجلسا وسمعت نفسا حيثيا وانتهازا ورأيته مستبطنها .
فقال له عمر رضي الله عنه : رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة
فقال : لا .
وقيل قال زياد : رأيته رافعا رجليها فرأيت خصيتيه تردد ما بين فخذيها ورأيت حفزا شديدا وسمعت نفسا عاليا .
فقال عمر رضي الله عنه . رأيته يدخله ويولجه كالميل في المكحلة .
فقال لا ، فقال عمر : الله اكبر قم يا مغيرة إليهم فاضربهم فقال إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب
الباقين ، وأعجبه قول زياد ودرأ الحد عن المغيرة .
فقال أبو بكرة بعد أن ضرب : أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا .

فهم عمر ان يضربه حدا ثانيا ، فقال له على بن أبي طالب : ان ضربته فارجم صاحبك فتركه واستناب عمر أبا بكرة فقال : انما تستتبني لتقبل شهادتي . فقال : أجل . فقال : لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا ، فلما ضربوا الحد قال المغيرة : الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم . فقال عمر رضي الله عنه : اخزى الله مكانا رأوك فيه .

( قال ) وذكر عمر بن شيبة في كتاب أخبار البصرة ان أبا بكرة لما جلد أمرت أمه بشاة فذبحت وجعل جلدها على ظهره . فكان يقال : ما كان ذاك الا من ضرب شديد .

( قال ) وحكى عبدالرحمن بن أبي بكرة : ان أباه حلف لا يكلم زيادا ما 

- ص 358 -

عاش ، فلما مات أبو بكرة كان قد أوصى ان لا يصلى عليه الا أبوبرزة الاسلمي وكان النبي صلى الله عليه وآله آخى بينهما ، وبلغ ذلك زيادا فخرج إلى الكوفة ، وحفظ المغيرة بن شعبة ذلك لزياد وشكره . ثم ان أم جميل وافت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالموسم والمغيرة هناك ، فقال له عمر : أتعرف هذه المرأة يا مغيرة ؟ فقال : نعم هذه أم كلثوم بنت على . فقال عمر : أتتجاهل علي والله ما أظن أبا بكرة كذب فيما شهد عليك ، وما رايتك الا خفت أن أرمي بحجارة من السماء .

( قال ) ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أول باب عدد الشهور في كتابه المهذب : وشهد على المغيرة ثلاثة أبو بكرة ، ونافع ، وشبل بن معبد .

( قال ) وقال زياد : رأيت استأ تنبو ونفسا يعلو ورجلين كأنهما اذنا حمار ولا أدري ما وراء ذلك فجلد عمر الثلاثة ولم يحد المغيرة .

( قال ) قلت : وقد تكلم الفقهاء على قول علي رضي الله عنه لعمر : ان ضربته فارجم صاحبك . فقال أبو نصر بن الصباغ : يريد ان هذا القول ان كان شهادة أخرى فقد تم العدد ، وان كان هو الأولى فقد جلدته عليه والله أعلم . انتهت هذه المأساة وما إليها بلفظ القاضي ابن خلكان عينا فراجعه في ترجمة يزيد بن زياد الحميري من الجزء الثاني من وفيات الأعيان المنتشرة ( 508 ) .

وأخرج الحاكم هذه القضية في ترجمة المغيرة ص 449 والتي بعدها من الجزء الثالث من صحيحه المستدرك ، وأوردها الذهبي في تلخيص المستدرك أيضا ، وأشار إليها مترجمو كل من المغيرة ، وأبي بكرة ، ونافع ، وشبل بن

  ( 508 ) وفيات الأعيان ج 2 / 455 ( * ) .  
 

- ص 359 -

معبد ، ومن أرخ حوادث سنة 17 للهجرة من أهل الأخبار ( 509 ) .

  ( 509 ) الأغاني لأبي الفرج الاصبهاني ج 14 / 146 ، الغدير للأميني ج 6 / 137 - 144 و 274 ، فتوح البلدان للبلاذري ص 352 ، تاريخ الطبري ج 4 / 207 ، الكامل لابن الأثير ج 2 / 378 ، البداية والنهاية لابن كثير ج 7 / 81 ، شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد ج 3 / 161 ط 1 وج 12 / 231 - 239 ط بتحقيق أبو الفضل ، عمدة القاري ج 6 / 240 ، سنن البيهقي ج 8 / 235 .  
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب