النص والاجتهاد - السيد شرف الدين  ص 359 : -

[ المورد - ( 58 ) - تشدده على جبلة بن الايهم ]

وذلك انه وفد عليه في خمسمائة من فرسان عك وجفنة ، تخب بهم مطهماتهم العربية ، وعليهم الوشي المنسوج بالذهب والفضة ، وفي - مقدمتهم جبلة وعلى رأسه تاجه وفيه قرط جدته مارية فاسلموا جميعا ، وفرح المسلمون بهم وبمن وراءهم من أتباعهم فرحا شديدا ، وحضر جبلة بأصحابه الموسم من عامهم ذاك مع الخليفة ، فبينا جبلة يطوف بالبيت إذ وطأ ازاره رجل من فزارة فحله فلطمه جبلة ، فاستعدى الفزاري عمر ، فأمر عمر جبلة أن يقيده من نفسه أو يرضيه ، وضيق عليه في ذلك حتى بلغ اليأس ، فلما جنه الليل خرج بأصحابه فأتوا القسطنطينية فتنصروا جميعا مرغمين ، وقد نالهم ثمة من الخطوة بهرقل ومن العز والابهة فوق ما يتمنون ( 510 ) وكان جبلة مع هذا كله يبكي أسفا على ما فاته من دين الإسلام .

وهو القائل :

  ( 510 ) كما فصله ابن عبد ربه الأندلسي حيث ذكر وفود جبلة على عمر في كتابه - الجمانة - في الوفود صفحة 187 من الجزء الأول من عقده الفريد . وتجد أيضا في صفحة 62 من الجزء الأول من كتاب الدروس العربية للمدارس الثانوية المطبوع في مطبعة الكشاف ببيروت نقلا عن الأغاني لأبي الفرج الاصفهانى ( منه قدس ) . وكذلك تغريبه : ربيعة بن أمية بن خلف إلى خيبر ثم دخل أرض الروم وارتد . راجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 / 282 ( * ).  
 

- ص 360 -

تنصرت الاشراف من أجل لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج ونخوة * وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فياليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القوم الذي قال لي عمر
ويا ليتني ارعى المخاض بقفرة * وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر

قلت : ليت الخليفة لم يحرج هذا الأمير العربي وقومه ولو ببذل كل ما لديه من الوسائل إلى رضا الفزاري من حيث لا يدري ذلك الأمير أو من حيث يدري ، وهيهات أن يفعل عمر ذلك . انه أراد أن يقود جبلة في أول بادرة تبدر منه ببرة ( 1 ) الصغار ، فيجدع أنف عزه ، وهذه سيرته مع كل عزيزي الجانب منيعي الحوزة كما يعلمه متتبعو سيرته من أولي الألباب .

وقد مر عليك تشدده على خالد وهو من أخواله . وشتان بين يوميه ، يومه مع صاحبه المغيرة إذ درأ عنه حد الزنى محصنا كما سمعته آنفا ، ويومه مع خالد إذ أصر على رجمه ولولا أبو بكر لرجم ، كما سمعته أيضا ، فان قوة شكيمة خالد واعتداده بنفسه أوجبا شدة وطأة عمر عليه ، كما ان شمم جبلة وعزة نفسه أوجبا ذلك عليه أيضا ، بخلاف المغيرة فانه كان - مع دهائه ومكره وحيله - أطوع لعمر من ظله ، وأذل من نعله ، ولذلك استبقاه مع فجوره .

وكانت سياسته تقتضي إرهاب الرعية بالتشدد على من كان عزيزا كجبلة وخالد ، وربما أرهبهم بالوقيعة بذوي رحمه كما فعله بابنه أبي شحمة وبأم فروة أخت أبي بكر وبمن لا فائدة له به ممن لا يكون في عير السياسة ولا في نفيرها ، كما فعله بجعدة السلمي ، وضبيع التميمي ، ونصر بن حجاج ، وابن

  ( 1 ) البرة حلقة من صفر أو نحوه توضع في أنف الجمل الشرود ، فيربط بها حبل يقاد به ذلك الجمل ( منه قدس ) ( * ) .  
 

- ص 361 -

عمه أبي ذؤيب ، وأبي هريرة المسكين وأمثالهم ( 511 ) .

وقد اعتصم بتقشفه في مأكله ومشربه ومسكنه ومركبه ، وأخذه بالصبر عن الشهوات ، والكف عن الملذات ، والاكتفاء بالبلغة وأسباغه عطاياه على الأمة من الغنائم ، لا يؤثر نفسه وأهله بشئ منها ، ووفره على بيت المال .

وأخذه بالحزم في محاسبة العمال . ومقاسمتهم إلى كثير من أمثال هذه الأمور التي ساقت الأمة بعصاه . وأخرست الألسن وألجمت الأفواه . لم يسلم منه أحد من عماله سوى معاوية على ما بينهما من تباين المشرب والسيرة . فانه لم يحاسبه في شئ ولا عاقبه في أمر . بل تركه يسرح ويمرح على غلوائه إذ قال له : لا آمرك ولا أنهاك . ومن عرف عمر علم انه لأمر ما آثر معاوية هذا الإيثار ( 512 ) .
 

[ المورد - ( 59 ) - تشدده على أبي هريرة ]

وذلك ان عمر بعثه واليا على البحرين سنة إحدى وعشرين ، فلما كانت سنة ثلاث وعشرين عزله وولى عثمان بن أبي العاص الثقفي ، ولم يكتف بعزله حتى استنقذ منه لبيت المال عشرة آلاف زعم انه سرقها من مال الله في قضية مستفيضة ، وحسبك منها ما ذكره ابن عبد ربه المالكي ( فيما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم من أوائل الجزء الأول من عقده الفريد ) إذ قال - وقد ذكر عمر - ثم دعا أبا هريرة فقال له : علمت إني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ؟ . ثم بلغني انك ابتعت أفراسا بألف دينار وستمائة دينار ! . قال : كانت لنا

  ( 511 ) الغدير ج 6 / 316 ، راجع ما تقدم تحت رقم ( 434 ) والطبقات الكبرى لابن سعد ج 3 / 285 .
( 512 ) شيخ المضيرة أبو هريرة ص 86 ( * ) .
 
 

- ص 362 -

أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت . قال : حسبت لك رزقك ومؤنتك وهذا فضل فأده قال : ليس لك ذلك . قال : بلى والله وأوجع ظهرك ، ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه ، ثم قال : ائت بها . قال : احتسبها عند الله . قال : ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعا ، أجئت من أقصى حجر البحرين يجبى الناس لك لا لله ولا للمسلمين ؟ ما رجعت ( 1 ) بك أميمة إلا لرعية الحمر .

قال ابن عبد ربه : وفي حديث أبي هريرة : لما عزلني عمر عن البحرين قال لي : يا عدو الله وعدو كتابه ! سرقت مال الله ؟ . قال فقلت : ما أنا عدو الله وعدو كتابه ، ولكني عدو من عاداك وما سرقت مال الله ، قال : فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف ؟ . قال فقلت : خيل تناتجت ، وعطايا تلاحقت ، وسهام تتابعت . قال : فقبضها مني فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين ! ( الحديث ) .

وقد أورده ابن أبي الحديد إذ ألم بشئ من سيرة عمر في المجلد الثالث من شرح النهج ( 2 ) وأخرجه ابن سعد في ترجمة أبي هريرة من طبقاته الكبرى ( 3 ) من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال لي عمر : يا عدو الله وعدو كتابه أسرقت مال الله ؟ إلى آخر الحديث .

وأورده ابن حجر العسقلاني في ترجمة أبي هريرة من اصابته فحوره عطفا على أبي هريرة تحويرا خالف فيه الحقيقة الثابتة باتفاق أهل العلم ، وذهل عما يستلزمه ذلك التحوير من الطعن بمن ضرب ظهره فأدماه وأخذ ماله وعزله ( 513 ) .

  ( 1 ) الرجع والرجيع العذرة والروث سميا رجعيا لانهما رجعا من حالتهما الأولى بعد ان كانا طعاما وعلفا ، وأميمة أم أبى هريرة ، وكلمة الخليفة هذه من أفظع كلمات الشتم ( منه قدس ) .
( 2 ) ص 104 طبع مصر ( منه قدس ) .
( 3 ) ص 90 من قسمها الثاني من جزئها الرابع ( منه قد
س )
( 513 ) تاريخ الذهبي ج 2 / 338 ، سير أعلام النبلاء للذهبي ج 2 / 444 ، الغدير للأميني ج 6 / 271 ، شيخ المضيرة أبو هريرة لأبي رية ص 79 ، فتوح البلدان للبلاذري ص 82 ط أوربا . ( * ) .
 
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب