![]() |
![]() |
—–
وأمّا القسم الرابع من الملائكة فهم حملة العرش، الذين وصفهم(عليه السلام) بقوله «ومنهم الثابتة
1. «سدنة» جمع «سادن» بمعنى الخادم والبواب.
2. شرح نهج البلاغة لابن ميثم 1 / 158 وشرح نهج البلاغة للمرحوم الميرزا حبيب الله الخوئي 2 / 26.
في الأرضين السفلى أقدامهم والمارقة من السماء العيا أعناقهم والخارجة من الأقطار أركانهم والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ناكسة(1) دونه أبصارهم متلفعون(2) تحته بأجنحتهم مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة» ثم يستغرق(عليه السلام)أكثر في التعرض لصفاتهم فيقول: «لا يتوهمون ربّهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ولا يحدونه بالاماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر»(3). أجل فقدرتهم ليست قدرة جسمانية، بل يتمتعون بقدرة روحانية خارقة متعذرة على الإنسان، ومن هنا أوكلت لهم مهمّة حمل العرش. والواقع أنّهم بلغوا أعظم مقامات التوحيد بحيث أصبحوا قدوة في التوحيد لكافة عباد الله ولا سيما أولياء الله البارزين من الناس. فهم لا يرون من مثيل وشبيه ونظير لله قط، كما لا يرون من حدود لذاته وصفاته سبحانه، حتى أنّهم يرونه أعظم من الخيال والقياس والظن والوهم; وذلك لأنّ كل ما يتصوره الإنسان أو الملك إنّما هو مخلوق لله والله أعظم من أن يكون مخلوقاً. أمّا المراد بالعرش وحملة العرش وماهية وظائفهم والمفاهيم التي وردت في هذه العبارات، فهذا ما سنتناوله في هذه الأبحاث.
هنالك عدّة أبحاث تضمنتها الآيات القرآنية بشأن الملائكة وصفاتهم وخصائصهم وأفعالهم والمهام المختلفة الموكلة إليهم. كما شحنت الروايات الإسلامية بالأخبار التي تتحدث عن الملائكة ومقاماتهم وصفاتهم وأعمالهم، غير انّه لم يرد البحث في التحدث عن ماهيتهم، ومن هنا كثر الكلام بين العلماء والمتكلمين بهذا الشأن. فيرى علماء الكلام، بل أغلب علماء الإسلام أنّ الملائكة موجودات ذات أجسام لطيفة.
1. «ناكسة» من مادة «نكس» على وزن عكس بمعنى الانقلاب رأساً على عقب ولذلك يطلق المنكوس على الوليد الذي يسقط على رجليه.
2. «متلفعون» من مادة «لفع» على وزن نفع بمعنى الاشتمال على الشيء والالتفاف به، ومن هنا يقال للمرأة حين تلف عليها عباءها «تلفعت المرأة».
3. «نظائر» جمع «نظير» بمعنى المثل.
كما وردت بعض العبارات التى أشارت إلى النور على أنّه المادة الأصلية لخلقة الملائكة، فقد وردت العبارة المعروفة بشأنهم في أغلب المصادر الإسلامية التي وصفتهم قائلة: «الملك جسم نوري...». أمّا المرحوم العلاّمة المجلسي فقد قال: «ترى الإمامية بل جميع المسلمين سوى طائفة قليلة من الفلاسفة أنّ الملائكة هم أجسام لطيفة نورانية ولها أن تأتي بأشكال مختلفة... وانّ الأنبياء والأوصياء العصومين كانوا يرونهم»(1). وبعبارة اُخرى فانّ الملائكة أجسام نورية والجن أجسام نارية والانس أجسام كثيفة. امّا ما عليه جمع من الفلاسفة فهو أنّ الملائكة مجردون من الجسم والجسمانيات وأنّ لهم أوصاف لا يستوعبها الجسم. وقد نقل المرحوم «الشارح الخوئي» في «منهاج البراعة» عدّة أقوال بهذا الخصوص بلغت ستة أقوال، إلاّ أنّ أصحاب هذه الأقوال هم قلة قليلة جداً.
لاشك أنّ وجود الملائكة ـ ولا سيما بالالتفات إلى تلك الصفات والمقامات والأعمال التي ذكرها القرآن ـ لمن الاُمور الغيبية التي لا يمكن إثباتها وبتلك الخصائص والصفات إلاّ من خلال الأدلة النقلية.
فالقرآن يصف خصائصهم على أنّهم:
1 ـ موجودات عاقلة ذات شعور.
2 ـ لا يعصون الله وهم بأمره يعملون.
3 ـ إنّ الله قد أوكل لهم عدّة وظائف ومهام. فمنهم حملة العرش، ومدبرات الأمر، والمأمورة بقبض الأرواح، حفظة أعمال البشر، حفظة الإنسان من المهالك والأخطار، المدد الإلهي لنصرة المؤمنين في المعارك، عذاب الأقوام الظالمة والطاغية ومبلغي الوحي إلى الأنبياء.
4 ـ اختلاف مقامات الملائكة وتفاوتهم في الدرجات.
5 ـ المداومة على تسبيح الله وتقديسه وتمجيده.
6 ـ تمثلهم أحياناً بهيئة البشر وما شاكل ذلك للأنبياء وبعض العباد الصالحين كمريم(عليها السلام).
وما إلى ذلك من أوصاف يتعذر إحصائها في هذا البحث. وبحث ماهية الملائكة في أنّها
1. بحار الأنوار 56 / 202 (باب حقيقة الملائكة).
مجردة عن الجسم أو غير مجردة ليس من ورائه طائل، إلاّ أنّ ظاهر الآيات والروايات ـ إذا لم نطرح لها توجيها وتفسيراً خاصاً ـ هو أنّ الملائكة ليس من قبيل المواد الكثيفة والعناصر الخشنة، مع ذلك فهم ليسوا مجردات مطلقة، لتضافر الروايات والآيات التي صرّحت بعروض الزمان والمكان والأوصاف الاُخرى الملازمة للأجسام عليهم. وهذا ما تؤكده عبارات الإمام(عليه السلام) في هذا القسم من خطبته وكذلك ما ورد في خطبته المعروفة بالأشباح. ولكن على كل حال فانّ الإيمان بالملائكة على نحو الإجمال لمن الاُمور التي أكد عليها القرآن الكريم، فقد ورد في الآية 285 من سورة البقرة قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ).(1)
الجدير بالذكر هنا هو أنّ بعض المغفلين وارضاءً لاُولئك الذين ينكرون عوالم الغيب فقد عمدوا إلى تفسير الملائكة بالقوى والطاقات التي تختزنها الطبيعة الإنسانية وسائر الموجودات والكائنات، والحال أنّ أدنى تأمل ونظرة إجمالية للآيات القرآنية تفيد رفض هذه الفكرة تماماً; كيف لا وقد ثبتت بعض الصفات للملائكة من قبيل العقل والشعور والإيمان والاخلاص والعصمة.
—–
الملائكة على أصناف وأقسام عديدة على ضوء ما أشارت الآيات والروايات، وقد وردت في هذه الخطبة الأصناف الأربعة الرئيسية منهم «أرباب العبادة والسفراء وحفظة العباد كالكرام الكاتبين ومنهم سدنة الجنان وحملة العرش». ولكن وكما ذكرنا سابقاً فانّ الآيات القرآنية قد أشارت إلى الأصناف الاُخرى من الملائكة، ومنهم الموكلون بعذاب الاممّ الطاغية الظالمة، والموكلون بالامدادات الغيبية ونصرة المؤمنين ومدبرات الأمر وقبضة الأرواح، غير أنّه يمكن اختصار جميع هذه الطوائف في مدبرات الأمر التي تتولى إدارة شؤون
1. سورة بقرة / 285.
العالم. فقد اقتضت السنة الإلهية وجرت بغية اظهار قدرته وعظمته وتحقق أهدافه وأغراضه أن تسند إدارة شؤون العالم إلى الملائكة المأتمرين بأوامر الله والبعيدين كل البعد عن الوهن والضعف والفتور والسهو والنسيان والتباطؤ في الطاعة ولكل صنف من أصناف الملائكة وظيفته المختصة به.
والحق أنّ الإنسان إذا تأمل أقسام وأصناف الملائكة وسعة وعظمة الوظائف الموكلة إليها يشعر بالتصاغر والحقارة ويتساءل من أكون في خضم هذا العالم الواسع المليء بعمال الله وجنوده الذين لا يفترون عن عبادته وطاعته وامتثال أوامره؟ واين تكون عبادتي وطاعتي من هذه العبادة والطاعة التي تؤديها الملائكة؟ وما قيمة قوتي وقدرتي مقارنة بقوة الملائكة وقدرتها؟ والخلاصة فانه يقف على عظمة هذا العالم والأعظم منه خالقه من جانب وحقارته ودنو موضعه من جانب آخر، وهذه إحدى حكم وفلسفة وجود الملائكة.
—–
لقد أشارت الآيات القرآنية عشرين مرة إلى العرش الإلهي، كما كثرت الأبحاث التي تضمنتها الروايات الإسلامية الواردة بهذا الشأن، وعلى ضوء بعض هذه الروايات فانّ عظمة العرش متعذرة على التصور البشري، حتى قيل بهذا الخصوص: ما السموات والأرضين وما فيها مقابل العرش إلاّ حلقة في صحراء عظيمة.
كما صرّحت بعض الروايات بأنّ أعظم ملائكة الله يعجزون عن بلوغ ساق العرش وانّ أسرعوا في تحليقهم إلى يوم القيامة. كا جاء في الخبر أنّ الله خلق للعرش ألف لسان وضمنه صورة جميع مخلوقاته في الصحاري والبحار.
كما روي أنّ الله حين خلق العرش، أمر الملائكة بحمله، فما استطاعوا أن يحملوه، فخلق ملائكة، فعجزوا عن حمله، فحمله الله بقدرته، ثم أمر سبحانه ثمان من الملائكة المأمورين بحمل العرش أن احملوه.
فقالوا: وهل يسعنا حمله وقد عجزت الملائكة. فأمروا بذكر الله والقول «لاحول ولا قوّة
إلاّ بالله العلي العظيم» والصلوات على محمد وآله، فلما فعلوا سهل عليهم حمله.(1)
وتشير كل هذه الكنايات إلى عظمة عرشه سبحانه، أمّا ماهية العرش، فهى من الاُمور التي كثر البحث فيها بين العلماء، ونرى ان الاستغراق في شرح هذا الأمر إنّما يبعدنا عن الهدف الأصلي، ولذلك نكتفي بإشارة مختصرة إلى هذا الموضوع:
فقد كان للملوك والسلاطين عرشان، أحدهما منخفض يعتلونه في الأيام الاعتيادية ويسيرون شؤون الحكم ودفة اُمور البلاد، وآخر مرتفع يرتقونه في الأيام الخاصة والمرام المهمة والكبيرة. وقد اصطلحت الآداب العربية على الأول بالكرسي والثاني بالعرش، وقد درجت هذه الآداب على التعبير بالعرش كناية عن القدرة والسلطة وإن افتقر العرش للدعامات المرتفعة، كما هناك المعنى الكنائي الآخر الذي يشير إلى فقدان السلطة والذي جسدته العبارة المشهورة «ثل عرشه». ولله هذان العرشان في الامرة والحكومة كونه سلطان عالم الوجود (وبالطبع لما كان الله ليس بجسم ولا في زمرة الجسمانيات فالمفهوم الكنائي هو المراد هنا من العرش والكرسي).
على كل حال يبرز هذا السؤال: ما كنه هذا العرش الإلهي؟ ومن التفاسير التي يمكن ايرادها بهذا الشأن هو أنّ عالم المادة والسموات والأرضين والمنظومات والمجرات كلها بمثابة الكرسي وعرشه المنخفض كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله: (وَسِعَ كُرْسِـيُّهُ السَّمـواتِ وَالأَرْضَ)، والمراد بالعرش هو العالم الكامن وراء عالم المادة (المادة الكثيفة والغليظة)، التي لا تحيط بعالم المادة فحسب، بل ليس عالم المادة أمامه سوى مقدار تافه لا أهميه له. امّا حملة العرش فمما لاشك فيه انهم ليسوا ملائكة غلاظ الهيكل وأقوياء الجسم والبنية بحيث يحملون على أكتافهم دعائم العرش الذي استوى عليه الرحمن; لأنّ للعرش ـ كما أشرنا سابقاً ـ معنى كنائي والقرائن العقلية التي تفيد تنزه الله عن الجسم والجسمانية إنّما تؤيد صحة هذا المعنى، وعليه فحملة العرش ملائكة عظام ذوي مقامات رفيعة وليس لهم من شبيه أو نظير ولهم تدبير عالم ما وراء الطبيعة وتنفيذ أوامره سبحانه في كل مكان، امّا التعبيرات
1. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 2 / 32 ـ 35، وقد أورد المرحوم العلاّمة المجلسي الروايات المرتبطة بالعرش والكرسي في المجلد 55 من بحار الأنوار، ومنها الروايات السابقة في ص 5، 17 و 55.
التي ساقها الإمام في أوصافهم بقوله «الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم» فكل هذه تفيد مدى قدرتهم في تدبير شؤون العالم. طبعاً يجب علينا أن نحمل الألفاظ أينما وردت على معانيها الحقيقية، إلاّ أنّه يتعذر علينا ذلك الحمل ولا يبقى أمامنا سوى المعنى الكنائي كالذي أوردناه بشأن الآية القرآنية المباركة (يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) إذا كانت هناك القرائن العقلية المسلمة. نعم لقد نهض هؤلاء الملائكة بالقيام بهذه الاُمور بالاستناد إلى قوتهم وقدرتهم، بل بحول الله وقوته، كما ينهمكون بالتسبيح والتقديس وعدم الفتور عن ذكر الله، وهذا ما صورته الآية السابعة من سورة المؤمن التي أكدت إلى جانب ذلك على دعائهم واستغفارهم للمؤمنين (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُـؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا).
—–
يتمتع الملائكة بصفات جمّة وقد تكفلت عباراته المذكورة (الواردة بشأن الطائفة من الملائكة المشغولة بالعبادة) ببيان بعض هذه الصفات: «لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان». كما أشار القرآن إلى تنزههم عن الذنوب والمعاصي (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لايَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(1)، ووصف الموكلين بالعذاب منهم (لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ)(2).
طبعاً يتصور البعض أنّه ليس هنالك من مفهوم لعصمة الملائكة من عدمها، إلاّ أنّ هذا التصور لا يبدو صحيحاً; صحيح أنّ الملائكة لا تنطوي على دوافع الذنب والمعصية من قبيل الشهوة والغضب (أو أنّها ضعيفة جداً فيهم)، ولكن لا ينبغي الغفلة عن أنّهم فاعلون ومختارون ولهم القدرة على ارتكاب المخالفة، بل إنّ الآيات القرآنية تصرح بمدى خشيتهم من
1. سورة الأنبياء / 26 ـ 27.
2. سورة التحريم / 6.
العقاب الإلهي (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(1)، فالآية الشريفة تكشف عن عصمتهم وطهارتهم من المعاصي في ذات الوقت الذي يسعهم ارتكابها. ومن هنا تتضح مغازي بعض الروايات التي صرّحت بتباطؤ بعض الملائكة في امتثال أوامر الحق وعقابهم على هذا التباطؤ بصفته يمثل ترك الاولى الذي يصدق على الأنبياء، ونعلم جميعاً بأنّ ترك الاولى لا يعدّ ذنباً قط، بل قد يكون عملاً مستحباً، إلاّ أنّه يعتبر ترك الاولى مقارنة بعمل يفوقه، ونوكل الخوض في تفاصيل هذا الموضوع إلى أبحاثه المختصة به.
—–
يفهم من العبارات الواردة بهذا الشأن أنّ العامل الذي جعل حملة العرش مؤهلين للقيام بهذه المسؤولية الخطيرة لا يقتصر على قوتهم وقدرتهم، بل يمتد ذلك إلى سعة وسمو مستوى معرفتهم بالله تبارك وتعالى. فقد بلغوا أعظم مقامات التوحيد ونفي كافة أشكال الشرك والشبيه والمثيل للحق تعالى، ومن هنا استحقوا أهلية تحمل تلك المهمّة العظيمة; الأمر الذي يعتبر درساً لابدّ أن يتعلمه العباد وذوي المعرفة بالله.
—–
1. سورة الأنبياء / 28.
«ثُمَّ جَمَعَ سُبْحانَهُ مِنْ حَزْنِ الاَْرْضِ وَسَهْلِها، وَعَذْبِها وَسَبَخِها، تُرْبَةً سَنَّها بِالْماءِ حَتَّى خَلَصَتْ، وَلاطَها بِالْبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذاتَ أَحْناء وَوُصُول، وَأَعْضاء وَفُصُول، أَجْمَدَها حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ، وَأَصْلَدَها حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْت مَعْدُود، وَأَمَد مَعْلُوم، ثُمَّ نَفَخَ فِيها مِنْ رُوحِهِ، فَمَثُلَتْ إِنْساناً ذا أَذْهان يُجِيلُها، وَفِكَر يَتَصَرَّفُ بِها، وَجَوارِحَ يَخْتَدِمُها وَأَدَوات يُقَلِّبُها وَمَعْرِفَة يَفْرُقُ بِها بَيْنَ الْحَقِّ وَالْباطِلِ وَالاَْذْواقِ وَالْمَشامِّ وَالاَْلْوانِ وَالاَْجْناسِ، مَعْجُوناً بِطِينَةِ الاَْلْوانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالاَْشْباهِ الْمُؤْتَلِفَةِ وَالاَْضْدادِ الْمُتَعادِيَةِ، وَالاَْخْلاطِ الْمُتَبايِنَةِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْبَلَّةِ وَالْجُمُودِ».
—–
الشرح والتفسير
بعد الإشارات البليغة التي وردت في الأقسام السابقة من هذه الخطبة العميقة المضامين بشأن خلق العالم والسموات والأرض تناولت خطبة الإمام(عليه السلام) هنا خلق العالم والسموات ثم عرجت هنا إلى سائر مخلوقات هذا العالم ومن بينها خلق الإنسان ومراحله المختلفة والتي قسمها(عليه السلام)إلىخمس مراحل تكتنف تمام مسيرة حياته وهى:
1 ـ خلقة آدم من ناحية الجسم والروح (يعني في مرحلتين).
2 ـ سجود الملائكة لآدم وتمرد ابليس.
3 ـ إسكان آدم الجنّة ثم بيان ترك الاولى الذي صدر من آدم(عليه السلام) وندمه وتوبته وأخيراً قبول توبته واخراجه من الجنّة والهبوط إلى الأرض.
4 ـ لقد أصبح لآدم ذرية ثم تكاثرت هذه الذرية فكونت المجتمعات البشرية ثم بعث الله أنبيائه(عليهم السلام) بكتبه السماوية المقدسة من أجل هداية الناس وتنظيم شؤون المجتمعات البشرية والأخذ بأيديها إلى حيث السمو الروحي والرفعة والكمال.
5 ـ المجتمعات البشرية من جانبها خطت خطوات عريضة نحو التكامل حتى تأهلت لتقبل الدين الخاتم حيث اصطفى الله رسوله محمد(صلى الله عليه وآله) فبعثه بالقرآن الكريم لهداية الإنسانية وانقاذها من خلال اطروحته التي تتضمن السعادة والفلاح، ثم تحدث الإمام(عليه السلام)عن القرآن.
قال الإمام(عليه السلام)بشأن خلق جسم آدم(عليه السلام): «ثم جمع سبحانه من حزن(1) الأرض وسهلها وعذبها(2) وسبخها(3) تربة». فالعبارة تشير إلى خلق الإنسان من التراب من جهة، كما تشير من جهة اُخرى أن ذلك التراب مركب من جميع المواد المختلفة على وجه الأرض لتنطوي على مختلف الاستعدادات وتشمل التنوعات والتقلبات التي تحتاجها المجتمعات البشرية في مختلف مجالات حياتها، ثم أشارت إلى مادة اُخرى هى الماء والتي اختلطت بالتراب فقال(عليه السلام) بهذا الشأن «سنها(4) بالماء حتى خلصت ولاطها(5) بالبلة حتى لزبت(6)».
فالواقع أنّ دور الماء هو خلط تلك الأجزاء المختلفة مع بعضها وتخليصها من شوائبها وارساء الوشيجة والرابطة بين هذه الأجزاء. ثم أشار(عليه السلام) إلى مسألة تبلور خلقة الإنسان من ذلك التراب والطين فقال(عليه السلام): «فجبل منها صورة ذات أحناء(7) ووصول وأعضاء وفصول». في الواقع «أحنا» جمع «حنو» إشارة إلى انحناءات البدن من قبيل انحناء الأضلاع
1. «حزْن» على وزن «وزن» بمعنى المواضع الوعرة على الأرض، كما يطلق الحُزن أو الحَزَن على الهم والغم، لأنه نوع وعورة في روح الإنسان.
2. «عذب» على وزن «جذب» بمعنى الماء الطاهر والحلو الصالح للشرب.
3. «سبخ» وجمعها سباخ بمعنى ما ملح من الأرض.
4. «سنّ» من مادة «سن» على وزن ظن بمعنى صب الماء على شيء، كما تأتي بمعنى نعومة الشيء.
5. «لاط» من مادة «لوط» على وزن صوت بمعنى خلط الشيء وعجنه.
6. «لزبت» من مادة «لزوب» على وزن سكوت بمعنى التصق وثبت واشتد.
7. «أحنا» جمع «حنو» على وزن حرص بمعنى الانحناء والجوانب والأطراف.
والفك العلوي والسفلي وراحة القدم بحيث يتكيف البدن للقيام بمختلف الأعمال والفعاليات، وذلك لتعذر قيامه بمثل هذه الأفعال التي يمارسها اليوم لو كان البدن على هيئة جسم هندسي مكعب أو ما شابه ذلك. أمّا العبارة «وأعضاء وفصول» فهى تشير إلى الأعضاء المختلفة التي ترتبط مع بعضها من خلال المفاصل; الأمر الذي أكسب البدن القدرة العملية على ممارسة مختلف الانشطة فلو كانت يد الإنسان على سبيل المثال مستوية ذات عضو واحد وعظم واحدلا تقوى على أداء الفعاليات التي تؤديها الآن، بينما نعلم أنّ البارئ سبحانه جعلها عدّة عظام وغضاريف وعدّة أعضاء متصلة مع بعضها البعض الآخر; الأمر الذي جعل كل اصبع بل كل سلامية من أصابعه واضافة لليد تتمتع بعملية خاصة وهذه بدورها تعدّ آية من آيات حكمته وعظمته سبحانه. ثم أشار الإمام(عليه السلام) إلى مرحلة لاحقة فقال: «اجمدها حتى استمسكت واصلدها(1) حتى صلصلت(2)» وبذلك فقد أعد الإنسان إعداداً تاماً من الناحة البدنية بحيث يسير إلى الغاية المعينة المرسومة له «لوقت معدود وأجل معلوم(3)». فقد روي في بعض الروايات عن الإمام الباقر(عليه السلام) أن هذه الحالة دامت أربعين سنة، فكان جسد آدم ملقى في موضع والملائكة تمر به وتقول لأي أمر خلقت؟(4)
ولعل هذه المدّة الزمانية ـ كما صرّح بذلك بعض المحققين ـ كانت اختباراً للملائكة أو إرشاداً وتعليماً للناس بالتأني في الاُمور وعدم الاستعجال فيها. وهنا جاءت المرحلة الثانية; مرحلة نفخ الروح في الجسد ليتحول إلى هذه الطبيعة الإنسانية التي زود فيها الإنسان بقوى العقل والإدراك التي تسوقه لممارسة الأعمال: «ثم نفخ فيها من روحه فمثلت(5) إنساناً ذا أذهان يجيلها»(6). العبارة «ذا أذهان يجيلها» إشارة إلى مختلف القوى العقلية والذهنية التي
1. «أصلد» من مادة «صلد» على وزن صبر بمعنى أحكم وجعل الشيء صلباً أصلتاً.
2. «صلصل» من مادة «صلصلة» بمعنى اليبوسة والجفاف بحيث تخرج منها الأصوات بمجرّد ملامستها لشيء، كما وردت بمعنى الجاف والمحكم.
3. اللام في «لوقت معدود» بمعنى إلى. ذهب البعض إلى أنّها لام التعليل، بينما احتمل البعض أنّ المراد بهذه العبارة هو أنّ هذا الوضع سيستمر إلى قيام الساعة ثم تتفكك بعد ذلك أعضاء البدن تماماً، إلاّ انّ هذا الاحتمال يبدو مستبعداً للغاية، لأنّه من المراحل المختلفة لخلق الإنسان ولم تطرح لحد الآن قضية نفخ الروح.
4. «فبقى أربعين سنة ملقى تمر به الملائكة فتقول لأمر ما خلقت؟». منهاج البراعة 2 / 44.
5. «مثلت» من مادة «مثول» على وزن حصول بمعنى استوت وقامت.
6. «يجيل» من مادة «اجالة» (مصدر باب أفعال من جول وجولان بمعنى يدور).
زود بها الإنسان ويوظف كلاً منها في مجال من مجالات حياته بحيث يلائم بينها جميعاً في مسيرته نحو الهدف المنشود (والقوى المذكورة عبارة عن قوة الإدراك وقوة الحفظ وقوة الخيال و...). وهنا لابدّ من الالتفات إلى أنّ الذهن في الأصل يعني القوة، ثم استعمل بمعنى العقل والفهم والدراية وسائر القوى العقلانية، فالعبارة تشير إلى أنّ الإمام(عليه السلام)قد عنى مختلف هذه القوى معتبراً كل واحدة منها نعمة وعناية من العنايات الإلهية ثم قال(عليه السلام): «وفكر يتصرف بها». قد يتصور أحياناً أنّ هذا التعبير من قبيل العطف التفسيري والتعبير الآخر لمفهوم العبارة السابقة، غير أنّ الظاهر هو أنّ كل عبارة من العبارتين تشير إلى حقيقة: فالعبارة «ذا أذهان يجيلها» إشارة إلى مراحل المعرفة والتصور والتصديق وفهم وإدراك الحقائق، وأمّا العبارة «وفكر يتصرف بها» فهى إشارة إلى الأفكار التي تخضع لمرحلة التطبيق ويتصرف الإنسان بواسطتها في مختلف الأشياء (لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّ الفكر في الأصل يعني الحركة الفكرية وتوظيف الذهن). على كل حال فقد جاءت مفردة «فكر» بصيغة الجمع (كالأذهان بصيغة الجمع) لتفيدان القوى العقلية والأفكار الإنسانية كثيرة للغاية ومتنوعة، وهذه نقطة مهمّة أكدها كبار الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس، وإليها تعزى الفوارق في الاستعدادات الفكرية لافراد البشرية. فربما كان هناك الأفراد الأقوى في قسم منها وأضعف في القسم الآخر بينما هنالك العكس، فالمسألة تنطوي على أسرار ورموز عجيبة للغاية، وكلما غاص الإنسان في كنهها تعرف أكثر على عظمة الحق خالق هذه القوى الذهنية والفكرية. ثم يتطرق(عليه السلام) بعد ذلك إلى شيئين يسهمان في ايصال الإنسان إلى هدفه المطلوب وهما الجوارح والأدوات التي زوده بها الله سبحانه لتسه له تحقيق ما يصبو إليه «وجوارح يختدمها(1) وأدوات يقلبها». فالواقع هو أنّه يجتاز أربع مراحل لبلوغ الهدف: تمثلت المرحلة الاولى بالمعرفة والإدراك والتصور والتصديق ومرحلة الفكر ومن ثم ائتمار الأعضاء والجوارح، وأخيراً الاستعانة بالأدوات المختلفة التي خلقها الله في هذا العالم حين لا تجدي الأعضاء والجوارح بمفردها نفعاً، كما أنّ كل مرحلة من هذه المراحل الأربع متنوعة تتفرع منها عدّة فروع. ولما
1. «يختدم» من مادة «اختدام» بمعنى الاستخدام.
كان بلوغ الأهداف المرسومة يتطلب تشخيصاً وتمييزاً للحق من الباطل والصواب من عدمه وكافة المحسوسات المختلفة، فانّه يتحدث عن إحدى قوى النفس المهمّة والتي تعتبر في الواقع المرحلة الخامسة، ألا وهى قوة التمييز ولا يراد بها سوى المعرفة «ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل». كما يتمكن بواسطة هذه القوة من تمييز المحسوسات من قبيل الأطعمة والأذواق و... «والأذواق والمشام والألوان والأجناس»(1). والواقع ان قدرة التمييز والتشخيص والمعرفة لمن أهم قوى الإنسان العقلية التي تشمل الاُمور المعنوية كالحق والباطل كما تشمل الاُمور المادية المحسوسة كالألوان والمشام والأذواق. فهل قوّة التمييز هذه هى قوة مستقلة، أم داخلة في مفهوم الذهن والفكر في العبارة السابقة؟ يبدو من كلامه(عليه السلام) أنّها قوّة مستقلة، جدير بالذكر أنّ الحديث تطرق لأربعة أصناف من الاُمور المادية والمحسوسة وهى: الأذواق، المشام، الألوان والأجناس التي تشير هنا إلى مختلف أنواع الموجودات(2). من قبيل مختلف أنواع النباتات، الطيور والحيوانات وما إلى ذلك، امّا عدم الإشارة إلى المسموعات (الأصوات) والملموسات فلأن بيان الأقسام الثلاث كان على نحو المثال، فذهن كل مستمع سينتقل إلى بقية ذلك من خلال الأقسام الثلاث المذكورة. ثم ينتقل الإمام علي(عليه السلام)ليشير إلى أهمّ خصائص الإنسان التي تشكل المصدر الرئيسي لأغلب ظواهر حياته فيقول: «معجوناً(3) بطينة الألوان المختلفة». ولعل هذه العبارة إشارة إلى اختلاف ألوان الناس وأعراقهم المتفاوتة، أو اختلاف لون أجزاء البدن حيث إنّ بعضها تام البياض (كبياض العين والعظام) والآخر تام السواد (كالشعر) وسائر الألوان التي يكسبه خلطها جمالاً خاصاً، كما يمكن أن يكون المراد بها معنى أوسع بحيث يشمل سائر الاستعدادات والغرائز المختلفة. ثم أضاف الإمام(عليه السلام)قائلاً: «والأشباه المؤتلفة» من قبيل الأوردة والشرايين والأعصاب
1. أنّ العبارة «والأذواق والمشام والألوان والأجناس» هى عطف على عبارة الحق والباطل، بينما عدها البعض عطفاً على المعرفة. في حين يفيد التأمل في كلامه(عليه السلام) أن المعنى الأول هو الأنسب. وعلى ضوء المعنى الأول فان قوّة التمييز المعرفة ستشمل كل هذه الاُمور، امّا على أساس المعنى الثاني فانّ المعرفة تعدّ من النعم الإلهية، كما أن قوّة الشامة والباصرة والذائقة هى نعمة اُخرى (لابدّ من التأمل هنا).
2. «الجنس» في اللغة بمعنى الأقسام والأنواع المختلفة، وهناك القرائن الواردة في خطب نهج البلاغة التي تدل على هذا المعنى ومنها الخطبة رقم 91.
3. «معجوناً» حال للإنسان الذي ورد في العبارة السابقة.
والعظام التي تشبه إلى حدّ بعيد بضها البعض الآخر، وفي نفس الوقت تقوم بعدة وظائف ومهام. وأخيراً قال(عليه السلام): «والاضداد المتعادية والأخلاط المتباينة من الحر والبرد والبلة والجمود»(1). والعبارة إشارة إلى الطبائع الرباعية المعروفة في الطب التقليدي، والأطباء المعاصرون وأن تنكروا لهذه الطبائع لفظاً، غير أنّهم اوردوها بتعابير اُخرى من قبيل الاستعاضة عن الحرارة والبرودة بارتفاع ضغط الدم وانخفاضه، كما يصطلحون بزيادة ماء الجسم وقلته بدلاً من البلة والجمود.
على كل حال فان عبارات الإمام(عليه السلام) آنفة الذكر إنّما تشير إلى قضية مهمّة في أنّ الله سبحانه قد خلق جسم الإنسان (بل جسمه وروحه) مركباً من مواد مختلفة وكيفيات متنوعة واستعدادات وغرائز متباينة، وأنّ هذه الفوارق والتباينات شكلت أساس التفاوت في أساليب التفكير لدى أفراد الجنس البشري; الأمر الذي أدى في خاتمة المطاف إلى تلبية مختلف حاجات الجماعات البشرية واشغال المناصب الاجتماعية على ضوء تلك الاستعدادات بحيث تنتظم الاُمور ويوضع كل شيء في موضعه فيتسق النظام العام، ولا يسع المقام الخوض أكثر في تفاصيل هذا الموضوع.
—–
نفهم من العبارات التي تضمنتها خطبة الإمام(عليه السلام) أنّ خلق آدم(عليه السلام) قد تمّ بصورة مستقلة متكاملة على هذه الصورة التي نحن عليها اليوم دون أن يطوي مراحل النشوء والارتقاء من الكائنات الحية المتسافلة; الأمر الذي أكده القرآن كراراً على لسان آياته الشريفة. طبعاً كلنا نعلم بأن «القرآن الكريم» وكذلك «نهج البلاغة» ليسا من قبيل كتب العلوم الطبيعية، بل هما كتابان تكفلا بهداية الإنسان وتهذيبه بالدرجة الأساس إلى جانب الإشارة حسب المقام وما
1. يمكن أن تكون جملة «من الحر والبرد» بياناً للاخلاط المتباينة، أو للأضداد والأخلاط معاً.
يتناسب وأبحاثه العقائدية والتربوية إلى بعض مسائل العلوم الطبيعية. امّا النظرية السائدة اليوم في الأوساط العلمية بشأن خلق الإنسان فهى نظرية «تكامل الأنواع». ويرى أنصار هذه النظرية أنّ كافة أنواع الكائنات الحية لم تكن سابقاً كما هى عليه اليوم، بل كانت موجودات بسيطة أحادية الخلية ثم تكاملت بعد أن سبحت في مياه المحيطات وغاصت في أعماق البحار لتتكامل تدريجياً فتغيرت من نوع إلى آخر من خلال تغييرها لأشكالها فانتقلت من البحار إلى الصحارى. والإنسان هو أحد هذه الكائنات الذي قطع مسيرته التكاملية بعد أن اجتاز تلك المرحلة التي كان فيها قرداً بشكل إنسان، وعليه فقد انحدر الإنسان من تلك الكائنات المتسافلة. وبالطبع فان أنصار هذه الفرضية قد انقسموا إلى عدّة طوائف، فمنها اتباع «لامارك» و«داروين» و«الداروينية الحديثة» وطائفة «موتاسيون» (نظرية الطفرة) وما إلى ذلك من الطوائف التي تقدم كل منها أدلتها على صحة نظريتها بهذا الشأن.
ويقف مقابل هؤلاء، أتباع ثبوت الأنواع حيث يقولون بأنّ أنواع الكائنات الحية قد ظهر كل منها بصورة منفصلة منذ البداية بهذه الهيئة الحاضرة، كما أقاموا أدلتهم وبراهينهم التي تعرض بالنقد للأدلة التي اعتمدتها نظرية التطور والتكامل، ولا يسعنا الخوض في تفاصيل هذه النظرية. ونكتفي هنا بالإشارة بصورة مقتضبة للمواضيع التالية:
1 ـ يستفاد من القرآن الكريم وكذلك خطب نهج البلاغة مسألة ثبوت الأنواع على الأقل بالنسبة للإنسان، بينما لم ترد مثل هذه التصريحات بشأن سائر أنواع الكائنات ـ رغم أنّ بعض أنصار فرضية التطور والتكامل التي تشمل الإنسان بشكل عام يصرون على توجيه الآيات القرآنية وعبارات خطب نهج البلاغة بحيث تنسجم ونظرية النشوء والارتقاء، حتى ذهبوا إلى أنّ هذه الآيات والخطب أدلة على مزاعمهم. إلاّ أنّ المتتبع المحايد يذعن بأنّ هذه المزاعم تنطوي على تكلفات وحرج لا يمكن قبولها إلاّ من خلاله.
2 ـ إنّ قضية التكامل والارتقاء أو ثبوت الأنواع ليست من قبيل القضايا التي يمكن إثباتها من خلال التجربة والأدلة الحسية والعقلية، وذلك لأنّ جذورها قد امتدت لملايين السنين السابقة، وعليه فان كل ما يورده أنصارها أو مخالفوها إنّما هى فرضيات وأدلتها ليست سوى
أدلة ظنية، وبناءً على ماتقوم فانه يتعذر القول بنفي آيات خلقة الإنسان وعبارات نهج البلاغة وفقاً لأقوال هؤلاء.
![]() |
![]() |