![]() |
![]() |
يستفاد ممّا مرّ معنا في هذه الخطبة المسنجمة والآيات القرآنية أنّ الإنسان خلق من عنصرين: العنصر المادي المركب من الماء والتراب (أبسط مواد العالم) والعنصر الآخر هو الروح الإلهية السامية، وهذا هو سر التضاد الباطني للإنسان حيث تتنازعه الدوافع التي
1. راجع من أجل الوقوف بصورة أعمق كتاب «الداروينية وآخر فرضيات التكامل». كما استعرضنا ذلك بصورة مقتضبة في تفسيرنا الأمثل 11 / الآية ذيل الآيات 26 حتى 44 من سورة الحجر.
تسوقه إلى العالم المادي وتلك التي تدفعه إلى العالم الملائكي. فهو يتصف بالخلق والطبيعة الحيوانية من جانب ويتحلى بالطبيعة الملكوتية والروحانية من جانب آخر. ولهذا أيضاً فهو يتمتع بقوس صعودي ونزولي تكاملي غاية في العظمة بحيث زود بالملكات والاستعدادات التي تبلغ به في قوس الصعود درجة «أعلى عليين» بينما يهبط في النزول والانحطاط إلى «أسفل السافلين» وليت هناك مثل هذه الميزة في الكائنات سوى للإنسان ولا تمنح سوى للمطهرين من الأفراد فتكسبهم قيمة ومنزلة رفيعة، ولا غرو فقد تماسك وحفظ نفسه مقابل جميع عوامل الانحطاط وعناصر التسافل والانسياق نحو المادة والمادية وقد اجتاز كافة العقبات والمطبات. ولعل الملائكة عجزت عن إدراك ذلك الأمر قبل خلق آدم فظنت التكرار في هذا الخلق دون حصول جديد، فحسبوا أنّ هذه الخلقة تحصيل حاصل من خلال تسبيحهم وتقديسهم. والمهم في الأمر هو أنّ الله سبحانه قد نسب الروح التي نفخها في آدم إليه سبحانه فقال: (وَنَفَخْتُ فِـيهِ مِنْ رُوحِي)(1). ونعرف على نحو البداهة أن ليس لله من جسم ولا روح، وأنّه يهدف إلى بيان عظمة الأشياء التي يضيفها إلى نفسه من قبيل «بيت الله» و«شهر الله» فالهدف هو أن هذه الروح الآدمية تتمتع بآثار من صفات الله كالعلم والقدرة والخلاقية والابداع. والواقع هو أنّ الله قد نفخ في آدم أشرف وأفضل روح، ولذلك نعت نفسه سبحانه بأحسن الخالقين فقال: (ثُمَّ أَنْشَـأْناهُ خَـلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْـسَنُ الخالِقِـينَ)(2) ويالها من مصيبة أليمة ومفجعة أن يحث الإنسان الخطى نحو السقوط بحيث يتحول إلى ما يجعله أسوأ من الانعام (أُولـئِك َ كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)(3) في حين يمتلك مثل هذه الاستعدادات والقدرات والإمكانات التي تبلغ به الكمال والمقام الذي ينتظره ويؤهله لأن يتميز على كافة المخلوقات فيرتدي التاج العظيم الذي يكرمه على من سواه (وَلَقَدْ كَرَّمْنا...).
يعتبر الإنسان ـ في الحقيقة ـ من أعجب ظواهر عالم الوجود، وقد تضمن كلام الإمام(عليه السلام)
1. سورة الحجر / 29.
2. سورة المؤمنون / 14.
3. سورة الأعراف / 179.
إشارة إلى غيض من فيض أسرار الوجود: الاشتمال على الجوارح والأعضاء المتنوعة والقوى المختلفة والقدرات المتفاوتة، والتركيب من العناصر المتضادة والتشكل من عدّة عوامل عجنت بصورة بالغة التعقيد بحيث جمع فيه كل شيء، حتى أصبح في الواقع نموذج مصغر لجميع عالم الوجود، وعالم صغير يضاهي العالم الكبير.
أتزعم أنّك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
فهذه الميزة التي يتحلى بها الإنسان تجعلنا نتعرف بصورة أعمق على أهمية خلقه من جانب، كما تلفت انتباهنا إلى مدى عظمة خالقه من جانب آخر، فمراد الإمام(عليه السلام) من هذه الميزة الفريدة للإنسان إنّما يكمن في الإشارة إلى عظمة الخالق وعظمة المخلوق.
—–
«وَ اسْتَأْدَى اللّه سُبْحَانَهُ الْمَلائِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ وَعَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي الاِْذْعانِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَالْخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ فَقالَ سُبْحانَهُ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ اعْتَرَتْهُ الْحَمِيَّةُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ الشِّقْوَةُ وَتَعَزَّزَ بِخِلْقَةِ النّارِ وَاسْتَوْهَنَ خَلْقَ الصَّلْصالِ فَأَعْطَاهُ اللّه النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ وَاسْتِتْماماً لِلْبَلِيَّةِ وَإِنْجازاً لِلْعِدَةِ فَقالَ فَإِنَّك مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ».
—–
الشرح والتفسير
ما أن فرغ الإمام(عليه السلام) من بيانه لقضية خلق آدم حتى تطرق إلى موضوع آخر ذا صلة وثيقة به مستخلصاً منه الدروس والعبر التي يمكن أن تحتذيها البشرية جمعاء في مسيرتها إلى الله، فقال(عليه السلام): «واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم وعهد وصيته إليهم في الاذعان بالسجود له والخنوع(1) لتكرمته فقال سبحان اسجدوا لآدم فسجدوا الاّ إبليس» فالذي تفيده العبارة أنّ الله قد أخذ عهد الملائكة مسبقاً بالسجود لآدم حين خلقه; الأمر الذي وردت الإشارات إليه في القرآن الكريم ومنها الآية 70 و71 من سورة ص: (إِذ قالَ رَبُّكَ لِلْمَـلائِكَةِ إِنِّي خالِـقٌ بَشَراً مِنْ طِـين * فَإِذا سَـوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِـيهِ مِنْ رُوحِـي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).(2)فقد كانت الملائكة تدرك أنّ الوفاء بذلك العهد إنّما يحصل حين خلق آدم وتكامله بهذه
1. «خنوع» بمعنى الخضوع والتواضع حسب «المقاييس» وأورد الآخرون ما يشبه هذا المعنى أيضاً.
2. سورة ص / 70 - 71.
الصورة الإنسانية ، ولذلك أمرهم الله سبحانه لما أتم خلقه بالسجود (اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِـيسَ)(1).
ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ هذا الأمر قد يكون مستغرباً لدى الملائكة ويثير اندهاشهم ولعلهم يتساهلون في امتثاله لولا تلك المقدمة بذلك العهد الذي أخذ عليهم، ولذلك أعدهم الله سبحانه لهذا الأمر مسبقاً ليعلم أنّ مثل هذه المقدمات ضرورية في الأوامر المهمّة. ثم يتطرق(عليه السلام) إلى الدوافع التي وقفت وراء تمرد ابليس فقال(عليه السلام): «اعترته الحمية(2)وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقة النار واستوهن خلق الصلصال».
فالواقع أنّ العامل الأصلي لتمرده إنّما كان تلوثه الباطني والذي عبر عنه بالشقوة إلى جانب الكبر والغرور والحمية والأنانية التي تفرزها طبيعة ذلك الدنس الباطني والذي غلب على فكره وأعمى بصيرته ليصده عن رؤية الواقع فيغتر بخلقة النار ويراها أعظم شأناً من خلقة الطين والتراب; التراب الذي يعتبر مصدر جميع الخيرات والبركات والمنافع والفوائد، بالتالي حسب أن علمه ومعرفته إنّما تفوق حكمة الله ـ طبعاً لا يبدو هذا الحكم غريباً من الأفراد الذين يغرقون في مثل هذا الحجب; فالإنسان الأناني المضروب عليه بحجاب الغرور قد يرى القبة حبة والحبة قبة أحياناً، فعباقرة الفكر وجهابذة العلم إذا ما ابتلوا بالغرور والأنانية وحب الذات ربما يرتكبون أفضع الأخطاء والزلات. فالمراد بالشقاوة هنا تلك الموانع الباطنية والصفات الرذيلة التي كانت لدى الشيطان، وهى الموانع والصفات الاختيارية النابعة من أفعاله السابقة وهى ليست شقوة ذاتية وغير اختيارية; لأنّ الشقاوة تقابل السعادة. وتعني السعادة توفير الإمكانات وتمهيد السبيل من أجل الحركة نحو الصلاح والشقاوة تعني المطبات والصعوبات التي تعترض هذا السبيل; والمهم أنّ كل هذه الاُمور إنّما تنبع من ذات أفعال الإنسان وسائر الموجودات المختارة لا أنّها تستند إلى العوامل الجبرية والقهرية. على كل حال فان ابليس قد ارتكب هذه المعصية الكبرى والخطأ الجسيم ليسقط
1. سورة البقرة / 34.
2. «الحمية» من مادة «حمى» على وزن نهى معناها الأصلي الحرارة التي تنتج من الشمس والنار والمواد الاُخرى أو من داخل جسم الإنسان، كما يعبر أحياناً بالحمية عن القوة الغضبية حيث إنّ حالة الإنسان تشتعل آنذاك، ويطلق الحمى على حرارة البدن حين الارتفاع.
بالمرة فيطرد من حظيرة القرب الإلهي حتى أصبح من ألعن خلق الله وأبعدهم عن رحمته بفعل تلك المعصية الخطيرة; غير أنّ هذه اللعنة والطرد من الرحمة لم تكن لتوقظه فتمادى في غيه وغروره واستناداً لسيرة المغرورين والمتعصبين من ذوي الأنفة والحمية فقد باشر عملاً قبيحاً آخر تمثل بتوعده باغواء آدم وذريته، ثم سأل الله ويداقع اشباع غريزة غضبه وحسده النظرة إلى يوم القيامة ليرتكب معصية اُخرى أفدح من سابقتها (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(1). فاستجاب الله له لثلاث; استحقاقاً للغضب، وإكمالاً لابتلاء العباد وتمحيصهم وأخيراً انجاز ما وعده به «فأعطاه الله النظرة استحقاقاً للسخطة واستتماماً للبلية وانجازاً للعدة»، ولكن ليس على ضوء ما سأل، بل جعل لذلك أجلاً معيناً «فقال أنّك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم»(2). أمّا ما المراد بيوم الوقت المعلوم فهناك كلام واختلاف بين مفسري القرآن ونهج البلاغة.
فذهب البعض إلى أنّ المراد بذلك انتهاء العالم وانقطاع مدّة التكليف (وعلى ضوء هذا المعنى فقد كانت الموافقة على بعض سؤال ابليس، لأنّه سأل النظرة إلى يوم القيامة بينما أجيب بالنظرة إلى ختام الدنيا). بينما ذهب البعض الآخر أنّ المراد بذلك زمان معيّن وهو انقطاع عمر ابليس; الأمر الذي لا يعلمه إلاّ الله; وإلاّ لو أعلنه آنذاك لكان إغراءً لابليس بالتمرد وارتكاب المعاصي. وأخيراً فقد احتمل البعض أنّ المراد يوم القيامة; لأنّ الآية الخمسين من سورة الواقعة عبرت باليوم المعلوم عن يوم القيامة (قُـلْ إِنَّ الأَوَّلِـينَ وَالآخِـرِينَ * لََمجْـمُوعُونَ إِلى مِـيقاتِ يَـوْم مَـعْلُوم). إلاّ انّ هذا الاحتمال يبدو مستبعداً، لأنّه وعلى ضوء هذا التفسير قد استجيب لجميع طلباته، في حين يفيد ظاهر الآيات القرآنية أنّه لم يستجب إلاّ لبعض طلباته، أضف إلى ذلك فانّ الآية التي وردت في البحث قالت «يوم الوقت المعلوم»بينما قالت الآية الواردة في سورة الواقعة (يَـوْم مَـعْلُوم)فالآيتان متفاوتتان، وعليه فالتفسير الصحيح هو التفسير الأول أو الثاني. من جانب آخر فقد جاء في الحديث أنّ المراد بيوم الوقت المعلوم هو زمان ظهور إمام العصر والزمان المهدي(عج) والذي ينهي بدوره عمر ابليس(3). وبالطبع
1. سورة الحجر / 36.
2. إشارة إلى آية 37 و38 من سورة الحجر (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ).
3. تفسير نور الثقلين 3 / 14 ح 46.
فان هذا لن يؤدي إلى اجتثاث جذور الذنب والمعصية عن العالم بالمرة وتنتفي قضية الطاعة والامتحان الإلهي; لأنّ العامل الأصلي إنّما يكمن في هوى النفس الذي يبقى سائداً في الإنسان، بل حتى عامل انحراف الشيطان إنّما يعزى إلى هوى نفسه.(1)
إنّ الآيات القرآنية التي تناولت قضية سجود الملائكة للإنسان في عدّة سور لتشكل أحد الأدلة المهمّة على أن الإنسان يمثل أفضل موجود في عالم الخلقة وأشرف مخلوقات الله سبحانه(2)، كما تشير هذه الآيات إلى سجود جميع الملائكة دون استثناء وخضوعها لآدم(عليه السلام)، وهذا بدوره دليل واضح على أفضليته(عليه السلام) حتى على الملائكة، ويبدو أنّ الهدف من هذه التأكيدات القرآنية المستمرة الفات انتباه الإنسان إلى عظم شخصيته الإلهية والمعنوية; الأمر الذي يلعب دوراً مهماً في تربية النفس البشرية وتهذيبها وهدايتها.
هناك عدّة أبحاث لدى المفسرين بشأن كيفية السجود، وهل يجوز السجود لغير الله تعالى. يرى البعض أنّ ذلك السجود لم يكن إلاّ لله تعالى، غير أنّه حصل أمام آدم بينما كان معلولاً لخلق هذا الكائن العجيب; في حين ذهب البعض الآخر إلى أنّ السجود كان لآدم، إلاّ انّه لم يكن سجود العبادة المختص بالله تبارك وتعالى، بل كان سجود خضوع واكرام واحترام. وجاء في كتاب عيون الأخبار عن كتاب الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أنّه قال: «كان سجودهم لله تعالى عبوديةً ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صلبه»(3). فالذي يستفاد من هذا الحديث أن السجدة كانت تنطوي على بعدين; أحدهما عباة الله والآخر تكريم آدم(عليه السلام). وشبيه ماذكر
1. لقد تكفلت المناجاة الثانية من المناجاة الخمسة عشر للإمام علي بن الحسين(عليهما السلام) ببيان كيفية تأثير هوى النفس وكذلك تأثير الشيطان في انحراف الإنسان بصورة مفصلة.
2. سورة البقرة / 34 وسورة الاعراف / 11 وسورة الاسراء / 61 وسورة الكهف / 50 وسورة طه / 116.
3. نور الثقلين 1 / 58.
سابقاً هو ماورد في الآية 100 من سورة يوسف (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً). فقد جاء في الحديث الذي روي عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)بشأن الآية السابقة أنّه قال: «أمّا سجود يعقوب وولده فانّه لم يكن ليوسف وإنّما كان من يعقوب وولده طاعة لله وتحية ليوسف كما كان السجود من الملائكة لآدم».
هنالك عدّة أسئلة واستفسارات بشأن خلق الشيطان وسوابقه وتمرده على الأوامر الإلهية ومن ثم امهاله حتى الزمان المعلوم، وبالطبع فانّ المقام لا يسع الاسهاب والوقوف على التفاصيل، ولذلك سنقتصر على التعرض بأطناب لهذه المواضيع.
سؤال:
هل ابليس من الملائكة؟ إنّ كان الجواب بالإيجاب فلم ارتكب تلك المعصية الخطيرة مع أن الملائكة معصومون، وإن كان الجواب بالنفي في أنّه لم يكن من الملائكة، فما علة ذكره في عداد الملائكة على لسان الآيات القرآنية؟
جواب:
يقيناً لم يكن من الملائكة، فقد صرّح القرآن قائلاً: (كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)(1)، إلاّ أنّه قد اصطف مع الملائكة أثر جهوده في الطاعة والعبودية ولذلك عد واحد منهم، ولهذا السبب أيضاً وردت بعض خطب نهج البلاغة بما فيها الخطبة رقم 192 المسماة بالقاصعة التي عبرت بالملك عن ابليس; وناهيك عن ذلك فقد صرّح نفسه قائلاً: (خَلَقْتَنِي مِنْ نار)(2)ونعلم جميعاً بأنّ الجن قد خلقوا من النار لا الملائكة، وهذا ما صرّحت به الآية الخامسة عشرة من سورة الرحمن (وَخَلَقَ الْجانَّ مِـنْ مارِج مِـنْ نار)، وقد أشارت بعض روايات أهل البيت(عليهم السلام)إلى هذا المعنى أيضاً(3). أضف إلى ذلك فقد أشار القرآن إلى ذرية ابليس وولده
1. سورة الكهف / 50.
2. سورة ص / 76.
3. مجمع البيان 1 / 82، ذيل الآية 34 من سورة البقرة.
(أَفَتَـتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيـَّتَهُ أَوْلِـياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ)(1) بينما ليست للملائكة من ذرية.
سؤال:
كيف جاز على الله سبحانه أن يسلط ابليس على الناس حتى أنّهم سلبوا قدرة الدفاع؟ أضف إلى ذلك فما الضرورة في الاغواء والضلال؟ ومنحه تلك المدّة الطويلة من العمر والمهلة ليسعى سعيه في اغواء بني آدم وتوظيف كافة إمكاناته في سبيل تحقيق هذا الهدف؟
جواب:
أولاً: أنّ الشيطان قد خلق طاهراً عفيفاً وقد جدّ لسنوات من أجل صون قدسيته وطهّره حتى قادته طاعته وعبوديته لأن يكون في مصاف الملائكة، إلاّ أنّه في نهاية الأمر وأثر حبّه لذاته وكبره وغروره واستغلاله لحريته قد سلك سبيل الضلال فسقط إلى الحضيض.
ثانياً: من الضروري الالتفات إلى نقطة مهمّة وهى أنّ نفوذ الوساوس الشيطانية إلى باطن الإنسان ليس نفوذاً عبثياً وإجبارياً; بل إنّ الإنسان هو الذي يفسح المجال بإرادته واختياره لهذا النفوذ سيجعله يستحوذ على نفسه، حيث يمنح الشيطان تأشيرة الدخول إلى حدود قلبه وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْـهِمْ سُلْطانٌ إِلاّ مَنِ اتَّـبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ)(2).
وقال في موضع آخر (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ).(3)
ثالثاً: لقد تضمنت عبارات الإمام علي(عليه السلام) رداً لطيفاً رائعاً على السؤال المذكور حيث قال: «فأعطاه الله النظرة استحقاقاً لسخطه واستتماماً للبلية وانجازاً للعدة»; أي أنّ الله قد أجزل عقابه بمنحه هذه المهلة من جانب; لأنّ الآيات القرآنية تفيد التحذير الإلهي الشديد والمتكرر لاُولئك الذين يسيرون باتجاه الذنوب والمعاصي; فاذا فاد التحذير وأثّر بهم ورجعوا عن غيّهم كان ذلك خيراً وإلاّ أمهلهم ووكلهم إلى أنفسهم ليكون عذابهم أشد: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ نَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لاَِنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِـيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ
1. سورة الكهف / 50.
2. سورة الحجر / 42.
3. سورة الحجر / 100.
مُهِـينٌ)(1)، ومن جانب آخر فانّ وجود الشيطان يشكل اختباراً وامتحاناً ضخماً للناس،
وبعبارة اُخرى فانّه يمثل جسر الأفراد المؤمنين نحو السمو والتكامل ـ لأنّ وجود هذا العدو المقتدر بالنسبة للمؤمنين الذين يرومون انتهاج سبيل الحق ليس فقط لايستبطن أي ضرر فحسب، بل سيكون وسيلة للتسامي والتكامل; حيث إننا نعلم بأنّ السمو والتكامل إنّما يتمّ عادة في ظل التضاد وإذا ما رأى الإنسان نفسه أمام عدو شرس فانه سيوظف كافة طاقاته وقدراته ونبوغاته، وبعبارة اُخرى فان وجود هذا العدو القوي سيؤدي بالإنسان إلى ممارسة مزيد من الحركة والجهد; الأمر الذي يقوده بالتالي إلى السمو والرقي والتكامل. بينما لايزيد هذا الأمر مرضى القلوب والآثمين المنحرفين سوى انحرافاً وبؤساً وشقاءً، والحق أنّهم استحقوا ذلك بما كسبت أيديهم: (لِـيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّـيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِـهِمْ مَرَضٌ وَالقاسِـيَةِ قُلُوبُهُمْ)فالهدف هو أنّ الله يختبر اُولئك القاسية قلوبهم وفيها مرض بالقاءات الشيطان، (وَلِـيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَـقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُـؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُـهُمْ)(2).
سؤال:
كيف كانت شبهة ابليس بالتعزز بخلقة النار فيرى نفسه أفضل من آدم وبالتالي يعترض على حكمة الله؟
ونقول في الجواب أنّ حب الذات والغرور تعدّ من أضخم الحجب التي تحول دون رؤية الحقائق والواقعيات; وهذا ما حصل لابليس، فلم يدفعه ذلك إلى التمرد والعصيان فحسب، بل اعترض على الحكمة الإلهية ليجعل ذلك حجة احتج بها في شرف عنصره على عنصر آدم، فكيف أسجد لهذا الموجود الذي خلقته من طين بينما خلقتني من النار، فقد ذهبت به الظنون إلى أفضلية النار على التراب، بينما لا يخفى أنّ التراب ينبوع مختلف الخيرات والبركات ومصدر جميع المواد الحيوية والمهمة والوسيلة الرئيسية لمواصلة الحياة، كما يضم في طياته أنواع المعادن والفلزات والجواهر وليس النار كذلك. صحيح أنّ النار والحرارة تعتبر من سائر الوسائل
1. سورة آل عمران / 178; سورة الروم / 41.
2. سورة الحج / 53 ـ 54.
الحياتية الضرورية، لكن ممّا لاشك فيه أن الدور الأساسي إنّما تقوم به المواد الموجودة في التراب والنار ليست سوى وسيلة من أجل تكامل هذه المواد.
لقد صرّحت بعض الروايات(1) أنّ وحدة من أكاذيب ابليس هو زعمه بأنّ النار أفضل من التراب، والحال إننا نعلم بأنّ النار عادة ما تتولد من احتكاك الأشجار أو من المواد الدهنية وانّ أصل الأشجار هو التراب، كما أنّ الدهون النباتية والحيوانية إنّما تستخرج بواسطة من الأرض. أضف إلى ذلك أنّ امتياز آدم لم يقتصر على أفضلية عنصر التراب; بل تكرمته إنّما استندت إلى عامل أصلي تمثل بتلك الروح العظيمة التي نفخت فيه (وَنَفَخْتُ فِـيهِ مِنْ رُوحِي). ولنفترض جدلاً أنّ المادة الاولى في خلقة الشيطان كانت أفضل من مثيلتها لدى آدم، فان هذا الأمر هو الآخر لا يقوى دليلاً على تمرده وعدم امتثاله لأمر الله بالسجود لآدم بفضل تلك الروح الإلهية التي حلت فيه واكسبته ذلك المقام العظيم، ولعل الشيطان كان يعلم بكل هذه الاُمور إلاّ أنّ الكبر والغرور والعجب وحب الذات أعمى بصره وبصيرته عن الاذعان للحق.
—–
لقد حاول بعض الفلاسفة ـ كما نقل ذلك ابن ميثم البحراني(رحمه الله)في شرحه لنهج البلاغة ـ أن يبرروا ويأولوا كافة تفاصيل قصة خلق آدم وسجود الملائكة وتمرد ابليس وعدم امتثاله لأمر الله ليحملوها على مفاهيم لا تنسجم وظواهر تلك القصة. ومن ذلك أنّهم قالوا أنّ المراد بالملائكة الذين اُمروا بالسجود لآدم هو القوى البدنية المأمورة بالخضوع أمام النفس العاقلة (الروح البشرية)، والمراد بابليس القوة الوهمية وجنود ابليس هى القوى النابعة من الوهم وهوى النفس والتي تتعارض والقوى العقلية، امّا المقصود بالجنّة التي طرد منها آدم فانّما يراد بها المعارف الحقة وأنوار الكبرياء الإلهية! وما إلى ذلك من التأويلات الجوفاء التي لا أساس لها من الصحة.(2)
1. تفسير نور الثقلين 4 / 472 ح 93.
2. شرح نهج البلاغة لابن ميثم 1 / 190 فصاعداً.
هذا نموذج من التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه في الأحاديث والروايات على أنّه سبب السقوط والابتعاد عن الله سبحانه.
فكلنا نعلم بأنّ التفسير بالرأي وتحميل الأحكام الذهنية المسبقة على الآيات والروايات يعدّ على الدوام من أهم الوسائل التي تمسك بها المحرفون والمتصنعون المتلبسون بالدين الذين لا يألون جهداً في توجيه الآيات القرآنية والروايات الإسلامية بما ينسجم ورغباتهم ونزعاتهم، كما نعلم بأنّ الباب لو فتح أمام تفسير الآيات والروايات بالرأي فسوف لن يبقى هناك من أصول مسلمة ومباني وأحكام قانونية ثابتة وسيصبح كل شيء تابع للأفكار الخاطئة والأهواء الضالة لهذا وذاك، بل سيهجر الكتاب والسنة ويصبحان طينة بيد المنحرفين والمغرضين يصنعون منها ما شاءت أهوائهم ورغباتهم. ومن هنا طالعنا إصرار كبار محققي الإسلام والباحثين بضرورة استخدام القواعد المسلمة لباب الألفاظ في فهم معاني الكتاب والسنة. فالألفاظ لابدّ أن تحمل على معانيها الحقيقية، اللّهم إلاّ أن تكون هناك قرائن جلية تدعو لحملها على المعاني المجازية; ويراد بها القرائن المقبولة لدى العرف والعقلاء الذين يستندون إليها في إقامة أدلتهم وبراهينهم(1).
وأخيراً فان ذكر قصة ابليس وعاقبته كما وردت في عبارات الإمام علي(عليه السلام)لتنطوي على الدروس والعبر التي ينبغي أن تحتذيها البشرية في مسيرتها فينظروا بعين الاعتبار إلى نتائج الكبر والغرور وحب الذات والحمية والعاقبة المشؤومة لابليس وطرده من ماقم القرب لتلاحقه اللعنات والشقاء الأبدي، فتكون على حذر من سلوك هذا الطريق الخطير. ونختتم الحديث بما أورده العالم الجليل المرحوم مغنية في شرحه لنهج البلاغة فقد خلص إلى عدّة دروس من قصة ابليس منها:
1 ـ من حسد صاحب فضيلة أو عادى إنساناً لرياسته وعمله فانّه على دين ابليس ومن رهطه يوم القيامة.
2 ـ ليس هنالك من سبيل لمعرفة الدين والأخلاق الحميدة سوى سبيل واحد وهو
1. راجع كتاب التفسير بالرأي لآية الله مكارم الشيرازي بشأن هذا الموضوع.
التسليم للحق والثبات عليه مهما كانت النتيجة.
3 ـ أنّ أغلب الناس يصرون على الباطل لا على أساس عدم معرفتهم به، بل بسبب العناد واللجاجة ضد مخالفيهم، وهذا الاصرار الخاطئ إنّما ينتهي بهم إلى أسوأ العواقب. فلو تاب ابليس ورجع عن خطأه لقبل الله توبته وقد كان له مثل هذا الاستعداد، إلاّ أنّه كان يعتقد بشرط وهو ألا يأمره الله بالسجود لآدم ثانية بينما اشترط الله قبول توبته بذلك الشرط.(1)
1. في ظلال نهج البلاغة 1 / 51.
«ثُمَّ أَسْكَنَ سُبْحانَهُ آدَمَ داراً أَرْغَدَ فِيها عَيْشَهُ وَآمَنَ فِيها مَحَلَّتَهُ وَحَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَعَداوَتَهُ فاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفاسَةً عَلَيْهِ بِدارِ الْمُقامِ وَمُرافَقَةِ الاَْبْرارِ فَباعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَالْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ وَاسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلاً وَبِالاِغْتِرارِ نَدَماً ثُمَّ بَسَطَ اللّهُ سُبْحانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ وَلَقّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَوَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ وَأَهْبَطَهُ إِلَى دارِ الْبَلِيَّةِ وَتَناسُلِ الذُّرِّيَّةِ».
—–
الشرح والتفسير
كان الحديث في مامضى عن اختبار الملائكة وتمرد ابليس، بينما تطرق الحديث هنا عن امتحان آدم والنتيجة التي تمخض عنها هذا الامتحان. ونقول هنا ما تفيده بعض الآيات القرآنية هو أنّ آدم قد خلق للعيش في الأرض. فقد قال سبحانه وتعالى في الآية 30 من سورة البقرة (إِنِّي جاعِلٌ فِـي الأَرضِ خَلِـيفَةً)، كما أشارت الآية 36 من نفس السورة إلى المراد بالأرض موضع غير الجنّة (الجنّة بأي معنى كانت): (وَقُلنا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِـي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِـين).
على كل حال كان لابدّ لآدم من دورة تدريبية وامتحان إلهي يمده بتجربة ليتعرف على المفاهيم من قبيل الأمر والنهي والتكليف والطاعة والمعصية والندم والتوبة ويتعرف عن قرب على عدوه، ومن هنا أسكنه الله الجنّة وأباح له التمتع بنعيمها ولم يحظر عليه سوى الاقتراب من تلك الشجرة، إلاّ أنّ وساوس الشيطان ومكره وحيله قد أثرت في آدم ودفعته إلى ترك الاولى، فتناول من تلك الشجرة ويهبط من الجنّة; الأمر الذي أدى بالتالي إلى يقظته وعودته
إلى الله في التوبة والإنابة، فاحفه الله بلطفه وعنايته فالهمه كيفية التوبة، فتاب الله عليه ووعده بالعودة إلى الجنّة، فكان من الآثار الوضعية لفعل آدم أن يحرم من تلك النعم والدعة في الجنّة لأن يهبط إلى الأرض فيمارس الحياة المليئة بالتعب والمشقة. ما مر معنا لحد الآن نظرة كلية عامة إلى خطبة الإمام بشأن قصة آدم(عليه السلام)، ونخوض الآن في شرح تفاصيل الخطبة.
—–
قال(عليه السلام): «ثم اسكن سبحانه آدم داراً أرغد(1) فيها عيشه» ثم قال(عليه السلام): «وآمن فيها محلته» في إشارة واضحة إلى أنّ البارئ سبحانه قد أفاض عليه ركنين رئيسيين من الأركان المهمّة للحياة وهما: الأمن ووفور النعمة. والواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) قد استوحى ذلك المعنى من الآية 35 من سورة البقرة: (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما). كما حذر الله سبحانه آدم(عليه السلام) من عدوه ابليس «وحذره ابليس عداوته» وبذلك فقد أرشده إلى سبيل السعادة والفلاح، كما أتم عليه الحجة بابانته لطرق البؤس والشقاء. وهذا ما صرحت به الآية 17 من سورة طه إذ قالت: (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هـذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَـنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى)واتماماً للحجة أكثر فقد دله على الشجرة التي لا ينبغي إليه الاقتراب منها، بينما أباح له التمتع بثمار كافة أشجار الجنّة، غير أنّ آدم(عليه السلام)وبسبب عدم امتلاكه التجربة الكافية بشأن مكائد الشيطان وحبائله قد آل أمره إلى الوقوع في مصيدة الشيطان، فأشار الإمام(عليه السلام)إلىهذه المسألة بقوله: «فاغتره عدوه نفاسة(2) عليه بدار المقام ومرافقة الأبرار». ويبدو أن هذه هى الوظيفة التي نهض بها الشيطان، حيث يسعى للاقتراب من الصالحين والخيرين ليوسوس لهم ويسلبهم النعم والإلهية ويقودهم نحو البؤس والشقاء. ثم أشار(عليه السلام) إلى الأمر الرئيسي في خطأ آدم(عليه السلام): «فباع اليقين بشكه» كما ضعف تجاه الوساوس
1. «أرغد» من مادة «الرغد» بمعنى الحياة الرغيدة الوادعة، كما ترد بمعنى النعمة الوافرة بالنسبة للإنسان والحيوان أيضاً (المفردات ومقاييس اللغة).
2. «نفاسة» من مادة «النفس» على وزن «حبس» بمعنى الروح، ولما كان التنفس مصدر الحياة فقد استخدمت هذه المفردة لذلك المعنى، ثم وردت «المنافسة» بمعنى السعي من أجل الوصول إلى مكانة مهمّة، لأنّ الإنسان يجهد نفسه في ذلك السعي، ومن هنا استعملت «النفاسة» بمعنى الحسد والبخل (المفردات ومقاييس اللغة ولسان العرب).
![]() |
![]() |