—–

ثم تطرق(عليه السلام) إلى النتائج المريرة التي أفرزتها تلك المعاملة فقال: «واستبدل بالجذل»(4)وجلا(5) وبالاغترار ندما».

وهنا نسأل ماهى الحوادث التي دفعت بآدم للالتفات إلى خطأه وبالتالي حسرته وندمه


1. هناك احتمالان حول رجوع الضمير في «شكه» و«وهنه»، فقد صرّح أغلب شرّاح نهج البلاغة بأنّ الضمير يعود إلى آدم; أي أن آدم(عليه السلام) باع يقينه بشكه وعزمه بوهنه وضعفه. بينما الاحتمال الآخر أن يكون الضمير عائداً إلى إبليس في المفردتين وذلك لأنّه هو الذي أوجد هذا الشك والوهن، ففي الواقع هو اضافة إلى السبب لا مفعول. لكن يبدو الاحتمال الأول أصوب من الثاني.

2. سورة طه / 115.

3. سورة الاعراف / 21.

4. «الجذل» على وزن الجدل بمعنى الفرح والسرور كما وردت في صحاح اللغة، وقال صاحب المقاييس أنّ الجذل على وزن الجسم بمعنى جذر الشجرة الذي يقومها ويمنحها الاستقامة، ومن هنا كانت قامة الفرحان مستوية بينما كانت قامة المغموم منحنية، كما تطلق أحياناً على الأرض اللزجة، إلاّ أنّها استعملت بمعنى الفرح.

5. «وجل» على وزن أجل بمعنى الخوف والخشية.

[ 132 ]

على ما فرط منه؟ يبدو أنّ الإمام(عليه السلام) أجمل عبارته بهذا الشأن، بينما تصدى القرآن الكريم في أكثر من آية لشرح التفاصيل: فحين استسلم آدم لوساوس الشيطان وأكل من تلك الشجرة المحظورة، لم تمر عليه مدّة حتى نزع عنه لباس الجنّة وبدت سوأته التي قدر لها أن تخفى، فشعر بالخجل من الملائكة وطفق يخصف عليها من ورق الجنّة، ثم أعقب ذلك ما تلقاه من أمر بالهبوط من الجنّة على أنّه يمثل جزاء كل من يولي ظهره لأوامر الله ويستجيب لوساوس الشيطان. إلاّ أنّ آدم(عليه السلام)وخلافاً لسلوك الشيطان وتجربته الخاطئة، لم يصر على خطأه ويركب رأسه ويواصل معصيته، فأقبل فوراً على الله سائله بلطفه ورحمته أن يتوب عليه، فعلمه كيفية التوبة ثم وعده العودة ثانية إلى الجنّة «ثم بسط الله سبحانه له في توبته ولقاه كلمة رحمته ووعده المرد إلى جنّته»(1).

على كل حال فان قبول التوبة لم يبق على آدم في الجنّة، حيث لم يعدّ هنالك من مبرر لمواصلة حياته فيها، فقد تعلم ما كان ينبغي عليه تعلمه وجرب ما كان لابدّ له من تجربته. ولذلك أهبطه الله إلى دار الدنيا ـ الامتحان ـ; دار التزاوج والذرية «وأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية». فالذي يستشف بوضوح من هذه العبارة أنّ الدنيا دار البلاء والامتحان، وما مر في الجنّة كان تحضيراً لخوض هذا الامتحان، كما لا مكان في الجنّة للتزاوج والتناسل، بل ذلك من مختصات الدنيا.

 

تأمّلات

1 ـ ما كانت جنّة آدم؟

ذهب جماعة إلى أنّ الجنّة التي سكنها آدم(عليه السلام) كانت جنّة الخلد التي وعد الله عباده


1. هناك كلام في الضمير «جنته» هل يعود إلى الله أم إلى آدم. فلو كان عائداً إلى آدم، فان ظاهر العبارة يفيد إرجاعه إلى الجنّة التي كان فيها(عليه السلام)، وإن عاد الضمير إلى الله فلا لزوم أن تكون تلك الجنّة التي كان فيها آدم، ويمكن أن تكون جنّة آدم جنّة دنيوية أو الجنّة التي سيعود إليها وهى الجنّة الأخروية كجنّة الخلد، لكن الظاهر أن الضمير يرجع إلى لفظ الجلالة بقرينة الضمير في توبته ورحمته، رغم أنّ ظاهر كلمة (مردّ) يفيد العودة تلك الجنّة، ويمكن أن تكون مطلق الجنّة، بعبارة اُخرى ليس هنالك من منافاة بين نوع الجنّة مع المفردة «مردّ».

[ 133 ]

الصالحين، بينما ذهبت جماعة اُخرى إلى أنّها كانت جنّة دنيوية غنية بحدائقها وبساتينها، وقد استدلت هذه الجماعة ببعض الأدلة فيما اعتقدت:

بادئ ذي بدء أنّ الجنّة الموعودة بعد القيامة هى جنّة خالدة لا يعتريها الخروج. وقد يقال فاذا كانت كذلك فأنى لابليس الذي يفيض كفراً وعناداً وطغياناً أن يدخل هذه الروضة المقدسة؟

فاذا قيل بأن إبليس لم يوسوس لآدم في الجنّة قط، بل وسوس له وقد وقف خارجاً على بابها، قلنا بانّ ذلك لا ينسجم وما صرّحت به الآية 36 من سورة البقرة التي قالت: (وَقُلنا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ) التي تشمل آدم وحواء وابليس معاً.

أضف إلى ذلك فقد صرّحت الروايات الكثيرة الواردة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)أنّ تلك الجنّة كانت من جنان الدنيا.

فقد جاء عن حسين بن بشار أنّه قال: سألت الإمام الصادق(عليه السلام) عن جنّة آدم، فقال(عليه السلام): «جنّة من جنان الدنيا يطلع عليها الشمس والقمر ولو كانت من جنان الخلد ما خرج منها أبداً»(1).

كما أورد المرحوم الكليني في الكافي عن حسين بن ميسر مثل هذا الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام)(2) ـ امّا الإشكال الوحيد الذي يرد على هذا الكلام فانما يكمن في العبارة السابقة من هذه الخطبة «نفاسة عليه بدار المقام»، لكن من الممكن أن يكون معنى هذه العبارة هو أنّه لو لم يرتكب هذه المخالفة لبقى مدّة طويلة في هذه الجنّة ثم يهبط إلى الأرض، إلاّ أنّه تركه للاولى أسرع في إخراجه من الجنّة وهبوطه إلى الأرض، أو أن يقال أنّه أراد سبحانه أن يحرم آدم من جنّة الخلد، فلو كان آدم مطيعاً لأوامر الله لالتمس طريقه إلى تلك الجنّة.

 

2 ـ هل اقترف آدم معصية؟

يرى أولئك الذين يجوزون ارتكاب الذنب على الأنبياء ـ ولاسيما في مثل هذه الاُمور ـ أنّ


1. بحار الانوار 11 / 143، ح 12.

2. الكافي 3 / 247، باب جنّة الدنيا، ح 2.

[ 134 ]

آدم(عليه السلام) قد ارتكب المعصية، بينما لا يرى أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) الذين يؤمنون بعصمة الأنبياء عن كل خطأ وزلل ـ سواء في باب العقائد وتبليغ الأحكام الشرعية أو في باب الأعمال والأفعال اليومية قبل النبوّة وبعدها ـ(1).

أنّ آدم(عليه السلام) قد قارف أية معصية وأن نهي الله لآدم(عليه السلام) عن تلك الشجرة المحظورة لم يكن نهياً تحريمياً، بل كان فعلاً مكروهاً، ولما كان مقام الأنبياء ولاسيما آدم(عليه السلام) الذي سجدت له الملائكة لمن العلو والرفعة بحيث لا يتوقع ارتكابهم للمكروه، فان فعلوا ذلك آخذهم الحق سبحانه فحسنات الأبرار سيئات المقربين ـ وبعبارة اُخرى الذنوب على قسمين: ذنوب مطلقة وذنوب نسبية. الذنوب المطلقة هى الذنوب لدى الجميع من قبيل الكذب والسرقة وشرب الخمر، أمّا الذنوب النسبية فهى ليست بذنوب لدى عامة الناس، بل قد تكون مستحبة لدى البعض من الناس، بينما نفس هذه الأعمال المستحبة والمباحة قد يطلق عليها اسم المعصية فيما إذا صدرت من المقربين الذين يستبعد أن يقوموا بمثل هذه الأفعال، إلاّ أنّها ليست من قبيل الذنوب المطلقة بل الذنوب النسبية والمراد بها هنا «ترك الاولى». كما ذهبت جماعة إلى النهي عن تلك الشجرة المحظورة على آدم(عليه السلام)كان نهياً إرشادياً لا نهياً مولوياً، على غرار نصائح الطبيب وإرشاداته حين ينصح مريضه بعدم تناول الطعام الفلاني خشية من استفحال المرض وازدياد مدته. فمن البديهي أنّ مخالفة نصائح الطبيب لا تعتبر اهانة له ولا تعدّ معصية لأوامره، بل ستجر تلك المخالفة على صاحبها مزيداً من الألم والمعاناة.

وهذا هو المعنى الذي أشارت إليه بعض الآيات القرآنية بشأن قصة آدم(عليه السلام): (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هـذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَـنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى)(2).

وقد ورد في بعض الروايات أنّ آدم(عليه السلام) لم يتناول من تلك الشجرة المحظورة، بل أكل من شجرة مشابهة لها، ولذلك قال لهما الشيطان في ضمن وساوسه إنّ الله لم ينهكما عن هذه الشجرة


1. قال ابن أبي الحديد: تعتقد الإمامية لايجوز على الله أن يبعث نبياً وقد ارتكب المعاصي قبل نبوته سواء الكبيرة أو الصغيرة، عمداً أو سهواً; وتختص هذه العقيدة بالإمايمة، أمّا أصحابنا فلا يرون امتناع الكبائر على النبي قبل نبوّته. وأضاف ابن أبي الحديد وهذا ما يعتقده الإمامية بالنسبة لأئمتهم الاثني عشر حيث يرون لهم عصمة مطلقة كعصمة الأنبياء (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7 / 10).

2. سورة طه / 117.

[ 135 ]

(وَقالَ ما نَهيكُما رَبُّكُما عَنْ هـذِهِ الشَّجَرَةِ)(1). أضف إلى ذلك فهناك نقطة مهمّة لابدّ من الالتفات لها والتي تكمن في قسم الشيطان لاثبات حسن نيته في دعوتهما للأكل من تلك الشجرة (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِـينَ)(2) ولم يكن آدم وحواء آنذاك سمعا من يقسم كاذباً; الأمر الذي جعلهما يصغيان إلى وساوس الشيطان.

بالطبع لو تأملا قليلاً لاكتشفا كذب الشيطان; لأنّ الله سبحانه قد حذرهما سابقاً مكائده وأنّه عدو لهما، ومن الواضح أنّه لايمكن الوثوق بكلام العدو وإن عززه بالإيمان المغلظة.

 

3 ـ ماحقيقة الشجرة المحظورة؟

اختلفت أقوال المفسرين بشأن الشجرة المحظورة على آدم(عليه السلام) هل كانت شجرة خارجية اعتيادية أم مسألة معنوية أخلاقية، وإن كانت مادية أو معنوية فما هى هذه الشجرة؟

نتناول هذه القضية بالبحث المقتضب رغم أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) لم يتعرض في خطبته لتلك الشجرة حيث وردت الإشارات فيها إلى قصة إبليس ووساوسه لآدم(عليه السلام).

فقد أشار القرآن الكريم في ستة مواضع إلى تلك الشجرة المحظورة دون الخوض في ماهية تلك الشجرة، غير أنّ الأخبار والروايات الإسلامية وكلمات المفسرين قد تضمنت أبحاثاً مسهبة بهذا الخصوص ـ حيث فسرها البعض بشجرة الحنطة (وهنا لابدّ من الالتفات إلى أنّ الشجرة تطلق على النبات أيضاً، وهذا ما صرّحت به الآية 146 من سورة يونس: (وَأَنْبَـتْنا عَلَيْـهِ شَـجَرَةً مِـنْ يَقْطِـين). في حين فسرها البعض الآخر بشجرة العنب والنخيل والكافور أيضاً.(3)

وأخيراً فسرها البعض معنوياً على أنّ تلك الشجرة كانت علم آل محمد(صلى الله عليه وآله)وقيل بل العلم بصورة مطلقة كما قيل كانت الحسد. وقد ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حين سئل عن علة اختلاف الروايات بهذا الشأن أنّه قال: «كلّه صحيح، لأنّ اشجار الجنان ليست من


1. تفسير نور الثقلين 2 / 11 ح 34; سورة الاعراف / 20.

2. سورة الأعراف / 21.

3. انظر تفسير نور الثقلين 1 / 60; الدر المنثور 1 / 52 و53 وذيل الآية 35 من سورة البقرة.

[ 136 ]

قبيل أشجار الدنيا. فشجرة الجنّة تحمل أنواع الثمار. ولما كرم الله آدم(عليه السلام)واسجد له الملائكة واسكنه الجنّة حدث نفسه: هل خلق الله خلقاً أكرم منّي؟ فأراه الله مقام محمد وآل محمد(صلى الله عليه وآله) فتمنى أن يبلغ مقامهم»(1). جدير بالذكر أنّ التوراة صرّحت بأنّ الشجرة المحظورة كانت شجرة العلم والمعرفة (معرفة الحسن من القبيح) وشجرة الحياة الخالدة وقد نهى الله آدم وحواء من التناول من تلك الشجرة فيحصلا على المعرفة ويصبحا خالدين كالله.(2)

وتكفي هذه العبارة لوحدها في إثبات تحريف التوراة الفعلية عن التوراة الحقيقية، حيث تثبت أنّها من وضع الأفراد والجهال الذين يرون العلم والمعرفة مثلبة على آدم وأنّه استحق الطرد من الجنّة بسبب هذا الذنب. وكأن الجنّة لا تسع ذوي العلم والمعرفة، وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ بعض الروايات التي ذهبت إلى أنّ الشجرة المحظورة كانت شجرة العلم والمعرفة إنّما هى روايات موضوعة أخذت عن التوراة المحرفة.

 

4 ـ الكلمات التي تاب الله بها على آدم(عليه السلام).

لقد تحدث الإمام(عليه السلام) في الخطبة عن تلقي آدم(عليه السلام) لكلمة الرحمة من الله سبحانه دون الدخول في تفاصيل هذه الكلمة. القرآن من جانبه أيضاً أشار من بعيد إلى هذه المسألة دون الحديث عن ماهيتها وكنهها. إلاّ أنّ الذي يفهم من هذه التعابير أن تلك الكلمات كانت تتضمن مسائل مهمة، فقد صرّح البعض بأنّ المراد بالكلمات هو الاعتراف بالخطأ، وهذا ما أشارت إليه الآية 23 من سورة الأعراف: (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ). كما استدل البعض الآخر على هذا الاعتراف بالتقصير وطلب المغفرة بالعبارة: «لا إله إلاّ أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي أنّك خير الغافرين»(3) وقد ورد مثل هذا المعنى في بعض الروايات عن الإمام الباقر أو الصادق(عليهما السلام).(4)

بينما صرّحت أغلب الروايات بأنّ تلك الكلمات كانت أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن


1. نور الثقلين 1 / 60 (بتلخيص).

2. التوراة، سفر التكوين، الفصل الثاني، رقم 17.

3. بحار الأنوار 11 / 181.

4. تفسير نور الثقلين 1 / 67.

[ 137 ]

والحسين(عليهم السلام). فقد جاء في كتاب الخصال أن ابن عباس قال: سألت النبي(صلى الله عليه وآله) عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربّه فقال(صلى الله عليه وآله): «سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلاّ تبت عليه فتاب الله عليه إنّه هو التواب الرحيم»(1).

جدير ذكره أنّ هذا المعنى مع فارق طفيف قد ورد في «الدر المنثور» التفسير الروائي المشهور لدى العامة.(2) كما جاء في رواية اُخرى عن تفسير الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) أنّ آدم(عليه السلام) حين ارتكب الخطيئة وطلب المغفرة من الله، سأله أن يقبل توبته بعد أن اعترف بذنبه. فقال له الحق سبحانه ألم أعلمك أن تدعوني بمحمد وآل محمد لكل شدة نزلت بك؟ فقال آدم(عليه السلام): اللّهم بلى. فقال الله: ادعني بهؤلاء محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام)لأقبل عذرك وأعطيك ما تريد.(3)

وفي حديث آخر عن عائشة عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّ الكلمات التي تلقاها آدم(عليه السلام)هى: «اللّهم إنّك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي اللّهم اّني أسألك ايماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنّه لا يصيبني إلاّ ما كتبت لي وارضني بما قسمت لي»(4)

ونرى هنا أن ليس هناك من تضارب في هذه الروايات، فلعل آدم(عليه السلام) قد تضرع بهذا الدعاء إلى جانب توسله بالنبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام).

وأخيراً فقد فسرها البعض بالحالة المعنوية لآدم(عليه السلام) ومدى انشداده لله سبحانه; الأمر الذي رافق توسله بالنبي(صلى الله عليه وآله)وأهل بيته(عليهم السلام).

وبالطبع فليس هنالك من منافاة بين عدم علم آدم(عليه السلام) بهذه الكلمات قبل التعليم الإلهي مع علمه بالأسماء، لأنّ الاحتمال القوي هو أنّ العلم بالأسماء يعني العلم والالمام بأسرار الخليقة وهذا غير المقولة الاُخرى التي تتناول سبل تزكية النفس وتهذيبها وتدارك التقصير والسير إلى الله تبارك وتعالى.


1. كتاب الخصال نقلاً عن تفسير الثقلين 1 / 68.

2. تفسير الدر المنثور 1 / 60 (ذيل الآية 37 من سورة البقرة).

3. شرح نهج البلاغة للمرحوم الخوئي 2 / 118.

4. تفسير الدر المنثور 1 / 59.

[ 138 ]

[ 139 ]

 

 

القسم الثاني عشر

 

«وَ اصْطَفَى سُبْحانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِياءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثاقَهُمْ وَعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ أَمانَتَهُمْ لَمّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَاتَّخَذُوا الاَْنْدادَ مَعَهُ وَاجْتالَتْهُمُ الشَّياطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَاقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَواتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفائِنَ الْعُقُولِ وَيُرُوهُمْ آياتِ الْمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْف فَوْقَهُمْ مَرْفُوع وَمِهاد تَحْتَهُمْ مَوْضُوع وَمَعايِشَ تُحْيِيهِمْ وَآجال تُفْنِيهِمْ وَأَوْصاب تُهْرِمُهُمْ وَأَحْداث تَتابَعُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُخْلِ اللّهُ سُبْحانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيّ مُرْسَل أَوْ كِتاب مُنْزَل أَوْ حُجَّة لازِمَة أَوْ مَحَجَّة قائِمَة. رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَلا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ سابِق سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غابِر عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ. عَلَى ذَلِك نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَمَضَتِ الدُّهُورُ وَسَلَفَتِ الاْباءُ وَخَلَفَتِ الاَْبْناءُ».

—–

 

الشرح والتفسير

بعثة الأنبياء وعظم مسؤوليتهم

لقد تحدث الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من خطبته عن قضية بعث الأنبياء. وهى المرحلة التي أعقبت مرحلة خلق آدم وممارسة للحياة على الأرض، وقد تطرق الإمام(عليه السلام) بادئ ذي بدء إلى علة بعث الأنبياء وارسال الرسل، ثم أشار إلى ماهية مضمون دعوات الأنبياء ورسالاتهم، إلى جانب استعراض الخطوط الرئيسية لتعاليمهم وإرشاداتهم، وأخيراً خصائص الأنبياء وصمودهم أمام الصعاب والمشاكل والأطار العام الذي كان يحكم علاقاتهم فيما بينهم وكيفية

[ 140 ]

إرتباط بعضهم مع البعض الآخر. فقد استهل كلامه(عليه السلام) بهذا الشأن قائلاً: «واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم(1) وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم».

وعلى هذا الأساس فانّ الأنبياء قد عاهدوا الله منذ بداية الوحي برعايته وايصاله إلى الناس على أنّه أمانة وعهد في أعناقهم.

نعم لقد تقبل الأنبياء(عليهم السلام) هذه المسؤولية العظيمة فجدّوا واجتهدوا في حملها وايصالها إلى الناس كأمانة ووديعة الهية. أمّا الحديث بشأن بعض الاُمور من قبيل: كيف اختار الله هذه الصفوة من الأنبياء، وما حقيقة الوحي، وكيف يوحى للبعض بينما لا يوحى للبعض الآخر منهم، فنوكله إلى موضعه(2).

والواقع هو أنّ العبارة المذكورة إشارة للآية: (وَ إِذ أَخَذنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِـيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح وَ إِبْراهِـيمَ وَمُوسى وَعِـيسى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذنا مِنْهُمْ مِـيثاقاً غَلِـيظاً)(3).

ثم أشار(عليه السلام) إلى السبب الرئيسي لبعثة الأنبياء فقال: «لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقّه واتخذوا الأنداد(4) معه واجتالتهم(5) الشياطين عن معرفته واقتطعتهم عن عبادته».

فالواقع لقد كانت إنعدام معرفة هؤلاء بالله سبحانه سبباً لأنّ يهووا في أودية الشرك الرهيبة ومن ثم تتلقفهم الشياطين فتصدهم عن طاعة الله وعبادته. أمّا بشأن المراد بهذه العدّة وماهية العهد الإلهي، فقد أشار أغلب المفسرين وشرّاح نهج البلاغة إلى أنّ المراد به ميثاق عالم الذر، ويمكن اعتبار ذلك إشارة إلى الفطرة(6) التي تطرق لها الإمام(عليه السلام) في عباراته اللاحقة.


1. «الميثاق» كما ورد في صحاح اللغة من مادة «الوثوق» بمعنى الاعتماد على أمانة الشخص. ومن هنا أطلق على الميثاق اسم العهد، لأنّه يدعو إلى الاطمئنان والوثوق (طبعاً كان الأصل موثاق ثم بدلت الواو بالياء).

2. انظر التفسير الموضوعي «نفحات القرآن» 7 / 317.

3. سورة الأحزاب / 7.

4. «أنداد» جمع «ند» على (وزن) ضد بمعنى المثل، وأراد هنا المعبودين من دونه سبحانه وتعالى، بينما قال صاحب المقاييس أنّها تعني الانفصال والهروب والمخالفة. ولهذا قال اللغويون بأن الند لا يطلق على كل مثل، بل تطلق على المثل الذي يتخذ مساراً يخالف آخر في أعماله وأفعاله كالفرد الذي يماثل آخر إلاّ أنّه يحاربه.

5. «اجتال» من مادة «جولان» بمعنى العصر، إلاّ أنّها اقترنت بالحرف (عن) في عبارة الإمام(عليه السلام) فعنت الانصراف عن الشيء، ومعناها هنا صرفتهم عن قصدهم.

6. لقد ذكر هذا الاحتمال في الأبحاث المتعلقة بعالم الذر، حيث يمكن أن يكون تفسيرها بالمسائل الفطرية والاستعدادات الإلهية التي أودعها الله الذات الإنسانية . وللوقوف أكثر على هذا الموضوع، راجع تفسير الأمثل 7 / 4.

[ 141 ]

وبعبارة اُخرى فان الله قد خلق الإنسان على هذه الفطرة الطاهرة التي تجعله يتعرف على حقيقة التوحيد في باطنه ويتطلع إلى الخير وينبذ الشر. ولو بقيت هذه الفطرة السليمة على حالها لحفت العنايات الإلهية الإنسانية جمعاء ولهدتها إلى السمو والكمال ولسهل لهم الأنبياء السبل إلى ذلك الكمال ولقل حجم المسؤولية التي نهض بعبئها هؤلاء العظام، غير أن الانحراف عن الفطرة سواء على مستوى المعارف التوحيدية لينتهي بالنزوع نحو الشرك والوثنية وعلى المستوى العملي ليقود الاستسلام إلى الأهواء والشياطين، قد أدى إلى مواترة بعث الله للأنبياء وتحملهم لتلك المسؤوليات الخطيرة بغية إعادة البشرية إلى فطرتها الأصلية، وهذا ما تطرق له الإمام(عليه السلام) في العبارات اللاحقة من الخطبة والتي أشار فيها إلى عظم مسؤوليات الأنبياء وما اتصفوا به من خصال عملية ومكارم أخلاقية. ثم أشار الإمام(عليه السلام) إلى فلسفة بعثة الأنبياء فقال: «فبعث فيهم رسله وواتر(1) إليهم أنبيائه ليستادوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول».

فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) أشار إلى أربعة أهداف رئيسية تقف وراء بعث الأنبياء. أولها: طلب أداء ميثاق الفطرة فقد ذكرنا أن الله سبحانه قد أودع المعارف التوحيدية فطرة الإنسان التي تقوده بصورة طبيعية ـ مالم تدنس وتلوث وتتعرف على الانحراف ودون نشأة صاحبها وولادته على الشرك بفعل انحداره من والدين مشركين ـ إلى عبادة الواحد الأحد وسوف يتطلع إلى الصالحات ويعشق الحق والعدل في ظل هذه الفطرة السليمة الموحدة، فقد جاء الأنبياء ليعيدوا الأفراد المنحرفين إلى هذه الفطرة التوحيدية المودعة لديهم.

الهدف الثاني: لتذكير الناس بنعم الله التي اعترتها الغفلة والنسيان، فالإنسان ينطوي على نعم مادية ومعنوية جمة ولو استغلها كما ينبغي فانّه سيشيد صروح سعادته وفلاحه في حين سيفقد مثل هذه السعاة إذا ما نساها وتجاهل استعمالها واستغلالها. ومثله كمثل الفلاح


1. «واتر» من مادة «وتر» بمعنى الفرد في مقابل الشفع بمعنى الزوج، وجاءت هنا بمعنى الواحد; أي أنّ الأنبياء قد أتوا الواحد تلو الآخر من أجل هداية الناس. وقال البعض معناها الموالاة مع الفاصلة، كأن يقال «واتر ما عليه من الصوم»; أي صام يوماً وأفطر آخر، في قبال «متدارك» الذي يعني الموالاة دون تخلل الفاصلة.

[ 142 ]

الذي لا يستفيد من المياه لسقي أشجار حديقته ولا يقطف ثمار أشجاره حين الحصاد. فاذا ما جاء أحدهم وذكره بهذه النعم المنسية فانه يكون قد أسدى له أعظم خدمة، وهذا ما ينهض به الأنبياء.

الهدف الثالث: اتمام الحجة على الناس من خلال الأدلة العقلية ـ إلى جانب المسائل الفطرية ـ وإرشادهم إلى الكمال في ظل التعاليم السماوية والأوامر والأحكام الشرعية.

الهدف الرابع: «يثيروا لهم دفائن العقول» ليكشفوا للناس كنوز العلوم والمعارف الكامنة في عقولهم، فقد أودع الله هذه العقول كنوزاً عظيمة قيمة لو ظهرت واستغلت لشهدت العلوم والمعارف نهضة عظيمة وجبارة، غير أن هذه الكنوز اختفت واستترت اثر هذه الغفلة والتعاليم الفاسدة والذنوب والمعاصي والتلوث الأخلاقي، ومن هنا فان إحدى وظائف الأنبياء تكمن في ازالة هذه الحجب واثارة تلك الكنوز المفعمة بالعلوم والمعارف.

—–

ثم أشار الإمام(عليه السلام) إلى الهدف الخامس في استعراض الآيات الإلهية للناس في عالم الخلقة فقال(عليه السلام): «ويروهم آيات المقدرة» ثم يشير(عليه السلام) إلى هذه الآيات فيقول: «من سقف فوقهم مرفوع ومهاد تحتهم موضوع ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم وأوصاب(1) تهرمهم(2)وأحداث تتابع عليهم».

والواقع هى أنّ هذه الاُمور تمثل سلسلة من أسرار الخلقة في السماء والأرض وعوامل الحياة وأسباب الفناء والألم والعناء والتي تذكر كل واحدة منها الإنسان بالله سبحانه وتعالى إضافة إلى الحوادث والوقائع التي تدعو الإنسان إلى اليقظة والاعتبار، وعليه فان الأنبياء يحملون إلى الناس تعاليم سامية ومفاهيم نبيلة من شأن كل منها رفع المستوى العلمي والمعرفي لدى الإنسان أو ايقاظه من غفلته وجعله يتحلى بالفطنة والذكاء. ثم قال(عليه السلام): «ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل أو كتاب منزل أو حجة لازمة أو محجة قائمة». فالعبارة


1. «أوصاب» من مادة «وصب» بمعنى مرض مزمن، والواصب يطلق على الشيء الموجود دائماً حسب المفردات، وجاءت هنا بمعنى المتاعب والمشاكل والمعاناة.

2. «تهرمهم» من مادة «هرم» على وزن حرم بمعنى الكهولة والعجز.

[ 143 ]

تشير إلى أربعة مواضيع لا يعدم الوجود بعضها طرفة عين أبدا; الأمر الذي يتمّ الحجة على الناس.

1 ـ وجود الأنبياء ـ سواء من كان له كتاب سماوي أم لم يكن ـ الذي يتضمن هداية البشرية وانتشالها من غفلتها واتمام الحجة عليها.

2 ـ الكتب السماوية المتداولة بين الأمم رغم وفاة الأنبياء الذين أتوا بها.

3 ـ الأوصياء وأئمة العصمة والذين عبر عنهم الإمام(عليه السلام) بقوله «حجة لازمة». وهناك من احتمل أنّ المراد بالحجة اللازمة دليل العقل، لكن يبدو هذا الاحتمال مستبعداً لأنّه لا يكفي في هداية الناس، ولا مانع من الجمع بينهما في هذه العبارة.

4 ـ سنة الأنبياء والأوصياء والأئمة والتي عبر عنها بالمحجة القائمة، حيث عنوا المحجة بالطريق الواضح والمستقيم ـ سواء الظاهري أو الباطني ـ الذي يوصل الإنسان إلى هدفه المنشود(1) وبهذا فان الحق سبحانه قد أتم حجته على كافة الاُمم والمجتمعات البشرية في جميع الأعصار والأمصار وأمدهم بأسباب الهداية، ثم تطرق(عليه السلام)لخصائص هؤلاء الأنبياء فقال: «رسل لا تقصر بهم قلة عددهم ولا كثرة المكذبين لهم». أجل كانوا مثلاً في الرجولة والأقدام والشجاعة بحيث كان أحدهم يصمد بوجه الآلاف من خصوم الدعوة فيلقى بالنار فتشمله عناية الله ورحمته ليخرج منها سالماً مرفوع الرأس، ويحطم الآخر الاصنام ثم يحتج بالأدلة القاطعة التي تفند عقائدهم الباطلة وتثبت صحة دعواه. كما كان البعض يحاصر من قبل جموع الكفر والشرك بيد عزلاء وقد شهر خصومهم سيوفهم فلم يضعفوا ويهنوا ووقفوا بكل صمود وشموخ. والجدير بالذكر في خصائص الأنبياء التأكيد هنا على صمودهم وشهامتهم. ثم يواصل(عليه السلام)حديثه عن الأنبياء وكيفية ارتباط بعضهم بالبعض الآخر ووحدة رسالتهم وهدفهم فقال: «من سابق سمى له من بعده أو غابر(2) عرفه من قبله». فقد حدد(عليه السلام)في هذه العبارة اسلوب من أساليب التعرف على الأنبياء في أن يقوم نبي ببشارة قومه


1. التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مادة الحج.

2. «غابر» من مادة «غبار» و«غبور» بمعنى الشيء المتبقي، ومن هنا يطلق على الحليب المتبقي في الثدي اسم الغبرة، كما يطلق الغبار على التراب المتبقي في الهواء، ويقال الغابر للأشخاص والأزمنة الماضية (راجع المقاييس والمفردات ولسان العرب).

[ 144 ]

بالنبي الذي يأتي من بعده وبهذا يعرف النبي من خلال البشارة به.(1)

ثم يشير(عليه السلام) إلى ثبوت هذه السنة قائلاً: «على ذلك نسلت(2) القرون ومضت الدهور وسلفت الآباء وخلقت الأبناء».

 

تأمّلات

1 ـ الأنبياء بمثابة المزارعين

ما تفيده عبارة أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّ القدرة الإلهية المطلقة قد أودعت الذات الإنسانية قابلية كافة أسباب الخير والصلاح والفلاح، وقد نشرت كافة البذور والرياحين العطرة ساحة قلب الإنسانية الخصبة. والأنبياء من جانبهم يقومون بري هذه البذور لتنبت أشجاراً محملة بالثمار والفاكهة فيستثيروا هذه الكنوز الكامنة في النفس البشرية «ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته... ويثيروا لهم دفائن العقول» واستناداً لهذا فان الأنبياء لا يمنحون الإنسان شيئاً خارجاً عن وجوده، بل ينمون ما لديه ويظهروا له مكنونه، حتى ذهب البعض إلى أنّ التعاليم والمفاهيم التي تلقى على الإنسان إنّما تمثل تذكيراً له، فالعلوم والمعارف قد اودعت النفس البشرية وما وظيفة المعلمين ـ سواء الأنبياء أو امتداداتهم ـ سوى إثارة هذه المعارف من خلال تعاليمهم، وكأنّ هذه المعارف مصادر مياه جوفية تشق طريقها إلى سطح الأرض بعد الحفر والتنقيب ولعل التعبير بالتذكير الذي ورد على لسان الآيات القرآنية (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)و(وَذَكِّـرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ المُـؤْمِنِـينَ)شاهداً على صحة المعنى الذي أوردناه. والواقع أن هذا البحث متشعب وشامل لا يسعنا استيعابه في هذه العجالة.

 

2 ـ حوادث الاعتبار واليقظة

لقد تضمنت العبارة المذكورة إشارة إلى حقيقة وهى أنّ الأنبياء وإلى جانب تعليمهم


1. لقد ورد الفعل «سمى» بصيغة المجهول في بعض نسخ نهج البلاغة وما ذكرناه سابقاً يتفق وهذه النسخة، أمّا إذا ذكر بصيغة المعلوم تصبح العبارة بهذا الشكل «من سابق سمى له من بعده» إلاّ انّ الاحتمال الأول أنسب.

2. «نسلت» القرون من مادة «نسل» بمعنى تكاثر الأولاد، والعبارة كناية رائعة عن توالي القرون وكأن كل قرن قد ولد من القرن السابق.

[ 145 ]

الناس المعارف الإلهية الحقة وبيان آيات القدرة وعظمة خالق الوجود، فانهم يلفتون انتباه الناس إلى الحوادث ذات الدروس والعبر من قبيل حلول الأجل وانتهاء العمر وآجال النعم المادية واستعراض المحن والخطوب والوقائع الشديدة. فالعبارات الواردة في الخطبة إشارة اُخرى لفلسفة الأحداث الخطيرة التي تنطوي عليها الحياة البشرية، بحيث لولا هذه الأحداث لغطت البشرية في سبات عميق وحجاب من الغفلة يتعذر معه صحوتها وافاقتها من سيادتها.(1)