ولم تكن نتيجة ذلك سوى ما قاله الإمام(عليه السلام):«بهم سارت(5) اعلامه، وقام لواؤه». ثم قال(عليه السلام):«في فتن داستهم(6) باخفاقها(7) ووطئتهم باظلافها(8) وقامت على سنابكها(9)».(10)

و السؤال المطروح هنا: هل هذه الفتن هى تلك التي أشير لها سابقاً أم هى فتن اُخرى; يبدو أنّها الفتن المذكورة آنفا، غير أنّ الإمام(عليه السلام) أشار إلى تفاصيلها الاخرى، حيث يشبه الإمام(عليه السلام)


1. «إنهارت» من مادة «الانهيار» بمعنى الاندراس والزوال.

2. «درست» من مادة «دروس» بمعنى إندثار آثار الشيء وزوالها.

3. «شرك» جمع «شركة» على وزن حسنه، وقال البعض جمع أشراك بمعنى الطرق العامة.

4. «مناهل» جمع «منهل» بمعنى مورد النهى.

5. «سارت» من مادة «سور» بمعنى الرفع والاعلاء.

6. «داست» من مادة «دوس» و«دياس» بمعنى الهضم.

7. «أخفاف» جمع «خف» وهو للبعير كالقدم للإنسان.

8 . «اظلاف» جمع «ظلف» بالكسر للبقر والشاء وشبههما كالخف للبعير والقدم للإنسان.

9. «سنابك» جمع «سنبك» على وزن قنفذ بمعنى طرف الحافر.

10. يمكن أن تكون جملة «في فتن داستهم» متعلقة بمحذوف تقديره لا والناس في فتن داستهم»، كما إحتمل البعض أنّ الجار والمجرور متعلق بسارت في الجملة السابقة ويبدو الاحتمال الأول أقوى.

[ 189 ]

فتن الجاهلية بالحيوان الوحشي الذي يركل صاحبه بحافره. والذي يقف على رجليه ليدوس بها أدني حركة تبدو أمامه.

أمّا تعبيره(عليه السلام) بالسنابك التي تعني طرف الحافر فهى إشارة لطيفة إلى حقيقة مفادها أنّ هذه الفتن لا تعرف الانكسار وهى باقية في إلقاء ضلالها الوخيمة على الناس (لأن مثل هذه الحيوانات حين تقف على أطراف حوافرها إنّما تعلن عن تأهبها لابداء ردود الفعل العنيفة تجاه كل من يقف أمامها».

و عليه فقد كانت الأوضاع في ذلك الزمان على درجة من التعقيد والوخامة بحيث لم يعدّ هنالك من أمل في التغلب عليها. وهذا بالذات ما جعل الإمام(عليه السلام) يخلص إلى هذه النتيجة بالنسبة لما عليه الناس في ظل تلك الفتن «فهم فيها تائهون(1) حائرون جاهلون مفتونون».

تائهون إشارة إلى أنّهم قد ضلوا سبيل الحق بالمرة حتى نسوا أنفسهم وخسروا ذاتهم. حائرون إشارة إلى الحيرة التي سيطرت عليهم فسلبتهم حتى القدرة على اتخاذ القرار الذي من شأنه إنقاذهم من تلك الفتنة. جاهلون أي أنّهم وعلى فرض عزمهم على إتخاذ القرار لنجاتهم فانّ الجهل والتخبط سوف لن يدعهم يبلغون السبيل السليم.

مفتونون إشارة إلى الأوهام والخيالات وإلاّ لا عيب والحيل التي استهوتهم فجعلتهم يرون السراب ماءاً والمجاز حقيقة. وقد حصل كل هذا حين كان الناس في خير أرض (في جوار بيت الله الحرام وديار الأنبياء العظام) واسوأ جيران «في خير دار وشر جيران»(2) وأثر ذلك فقد أصبح «نومهم سهود(3) وكحلهم دموع». والأدهى من ذلك أنّهم يعيشون في مجتمع لا يقيم زنا للعالم بما جعله يفقد قدرته على هدايتهم وإرشادهم بينما يخطى الجاهل في ذلك المجتمع بمكانة لا يحلم بها «بارض عالمها ملجم وجاهلها مكرم» هنالك أربعة تفاسير أوردها شرّاح نهج البلاغه بشأنه قوله(عليه السلام)«فى خير دار» فقد ذهب البعض إلى أنّ المراد بها مكة (بيت الله


1. تائهون جمع تائه بمعنى الضائع.

2. ذهب البعض إلى أن الجار والمجرور في قوله «في خير دار» يتعلق بمفتونين، والحال أن الانسب أن يكون خبر لمبتدأ محذوف تقديره «و الناس في خير دار» والجملة حال لعصر الجاهلية والواو في قوله وشر جيران هى واو المعية.

3. سهود مصدر بمعنى الارق وقلة النوم (الصحاح، المفردات، لسان العرب والمقاييس).

[ 190 ]

الحرام)(و على هذا الضوء فان العبارات المذكورة وصف لعصر الجاهلية) بينما قال البعض الآخر أريد بها الشام حيث كانت من الأراضي المقدسة ومهبط الأنبياء وأهلها شر جيران; أي أصحاب معاوية (إذا اعتبرنا عبارات الإمام(عليه السلام) واردة بشأن عصره).

الاحتمال الثالث أن يراد بقوله خيردار الكوفة التي كان يقيم فيها الإمام(عليه السلام)بينما كان أهلها ومن يحيط بها من شر الجيران من قبيل المنافقين والناكثين الذين لا يلتزمون بالعهود. وأخيراً الاحتمال الرابع أن يكون المراد بها دار الدنيا التي يسكنها أغلب الطالحين والاثمين ويبدو التفسير الأول هو الأنسب والأصوب حيث ينسجم والعبارات المذكورة سابقاً.

و على ضوء هذا التفسير فان قوله(عليه السلام) «نومهم سهود» إشارة إلى الفوضى والاضطراب وإنعدام الأمن والمصائب التي عمت عصر الجاهلية، والعلماء أولئك الصلحاء الذين تمحوروا حول رسول الله(صلى الله عليه وآله)والجهال أولئك المفسدون من قريش ومن لف لفهم; أمّا على ضوء سائر التفاسير فان المراد الفوضى وإنعدم الأمن في زمان معاوية والمشاكل التي برزت بين العراق والشام آنذاك، وقد ألمحنا سابقاً إلى عدم انسجام هذه التفاسير وروح الخطبة.

والشاهد على ذلك إضافة لما ذكر، ما أورده إبن أَبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة حيث قال: أنّه(عليه السلام)لم يخرج من صفة أهل الجاهلية وقوله «في خير دار» يعني مكة و«شر جيران» يعني قريشا، وهذا لفظ النبي (صلى الله عليه وآله) حين حكى بالمدينة حالة كانت في مبدأ البعثة فقال «كنت في خير دار وشر جيران»(1).

أمّا قوله(عليه السلام) «نومهم سهود وكحلهم دموع» فهو إشارة لطيفة إلى تفاقم الفوضى والاضطراب ومصائب ذلك الزمان بحيث إذا خلدوا ليلا إلى النوم كان نومهم مضطربا مشوبا بالخوف والرعب والسهاد، وقد إتسعت هوة الفتن بحيث إكتحلت عيونهم بالدموع التي تحرق أجفانها بدلاً من تزينها بالكحل.

و من الطبيعي وفي ظل هذه الاجواء وفي تلك الديار والمجتمعات أن يغيب دور العلماء وتهمل مكانتهم وبالمقابل يبرز الجهال الذين كانوا يمثلون زعماء قريش وكبرائها ليحظوا


1. شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 1 / 137.

[ 191 ]

باحترام الآخرين وتقديرهم بعد أن قلبت الموازين وضاعت القيم.

و أخيراً فهناك إحتمال آخر أن يكون المراد بالعلماء هم ذلك النفر القليل من الموحدين قبل بعثة النبي محمد(صلى الله عليه وآله)من قبيل عبدالمطلب وأبوطالب وقس بن ساعدّة ولبيد بن ربيعة وأمثالهم.

 

صورة الحياة الميتة في العصر الجاهلي

لقد قدم الإمام(عليه السلام) بهذه العبارات القصيرة والعميقة المضامين صورة دقيقة حية عن الأوضاع التي عاشها العرب في العصر الجاهلي بحيث يجد كل من تأملها نفسه في خضم ذلك العصر ليرى بأُم عينه كل تلك الفوضى والقبائح والرذائل.

فقد عكس الإمام(عليه السلام) عظمة مقام النبي(صلى الله عليه وآله) وسمو منزلته من جانب حيث تتضح شدة النور و عمق خطفه للابصار كلما كان الظلام دامسا والعتمة شديدة، الأمر الذي يكشف عن عظمة خدمات نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) ونجاعة دينه في خلق المجتمع. ولا غرو فان استبدال ذلك المجتمع ـ بالمواصفات المذكورة ـ إلى ذلك المجتمع الذي إلتف حول الرسول لم يكن يبدو أمراً ممكناً، وليس ذلك سوى للاعجاز والوحي وعظمة التعاليم الإسلامية التي تمكتت من انتشال ذلك المجتمع وطبعه بهذه الصفات العالية.

من جانب آخر فهى إشارة إلى تجديد الأفكار والأداب والسنن الجاهلية في عصر النبي(صلى الله عليه وآله) والتي ظهرت في عصر الخلافة الراشدة إثر انحراف الاُمّة عن تعاليم النبي(صلى الله عليه وآله).

فالإمام(عليه السلام) يحذر الاُمّة في زمانه من الأخطار التي تتهددها من جراء إحياء سنن الجاهلية والعادات والتقاليد البالية التي تفتك بالمجتمع. الجدير بالذكرهنا هو أنّ الإمام(عليه السلام)قد أورد هذه الخطبة بعد إنصرافه من صفين حيث أراد الفات نظر أصحابه إلى العناصر التي أدت إلى تلك النتيجة باسلوب بليغ يعرف بـ «إياك أعني واسمعي باجارة».

لاشك أنّ عبارات الإمام(عليه السلام) تستبطن الدروس والعبر التي ينبغي أن نحتذيها نحن المسلمون في العصر الحاضر الذي يتصف بالمدينة والتطور والتقدم، فهى تحذير جدي لنا; فعباراته تنطبق تماما على الأوضاع التي يشهدها عصرنا الراهن حيث غاصت الاُمّة اليوم في هالة من الفتن وتزعزعت عرى الإيمان واليقين واندرست سبل معرفة الحق بفعل تفاقم سعة

[ 192 ]

حجم الدعايات المسمومة وانتشار الرذيلة والفساد وتفرق الناس أيادي سبأ وكثرت الأهواء وتعذرت طرق النجاة وقد استفحل الضلال وإنعدام الهدى واستشرت الذنوب والمعاصي وخلى الميدان للشياطين والمستكربين.

نعم لقد شهد عصر الإمام(عليه السلام) تلك الغفلة فعادت الاُمّة وأقبلت على سنن الجاهلية، والعجيب أنّ الاُمّة آنذاك قد خلدت إلى السبات والكسل بحيث لم يعدّ يؤثر فيها صراخ حتى هذا الولي الرباني وأخذوا يتهافتون على احياء سنن الجاهلية حتى آل الأمر إلى تحول الحكومة الإسلامية إلى حكومة وراثية تلاقفها بنو امية وبنوالعباس، فلم تتعثر المسيرة الإسلامية آنذاك فحسيت، بل وجهت إليها ضربات موجعة جعلتها تلعق جراحها لحد الآن! ونرى هنا ضرورة تسليط الضوء على أوضاع الناس في العصر الجاهلي من مختلف الجوانب ودراسة ما أورده الإمام(عليه السلام) بهذا الشأن لنقف بوضوح على تفاصيل هذا الموضوع.

فجاهلية العرب ـ وهكذا الجاهلية التي كانت تعيشها سائر الأقوام ـ إنّما تشير إلى سلسلة من العقائد الباطلة والخرافات والأساطير والسنن الخاطئة والقبيحة المخجلة إلى أحيانا،جانب الأفعال العبثية والسلوكية العنيفة القائمة على الظلم والاضطهاد والانحرافات الفكرية من قبيل نحت الأوثان من الخشب والحجر والاعتكاف على عبادتها واللجوء إليها عند حدوث الخطوب والمصائب حيث جعلوها شفعائهم إلى الله بعد أن اعتقدوا بقدرتها المطلقة وأنّ الخير والشر بيدها.

و لم تقتصر أفعالهم الطائشة على وأد البنات كدفاع عن العرض والشرف أو أنّهن يجلبن عليهم الخزي والعار فحسب، بل كانوا يعمدون لقتل أولادهم تحت ذرائع شتى منها تقديمهم إياهم كقرابين إلى آلهتهم أو بدافع الفقر (وَكَذ لِكَ زَيَّنَ لِكَثِـير مِنَ المُشْرِكِـينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ)(1) و(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاق)(2) و(وَ إِذا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْب قُتِلَتْ)(3).


1. سورة الانعام / 137.

2. سورة الاسراء / 31.

3. سورة التكوير / 8 .

[ 193 ]

و لم يعيشوا أي هاحبس من قلق لفظاعة هذه الجرائم، بل أبعد من ذلك كانوا يتفاخرون بها على أنّها من العناصر المشرفة في حياة الاسرة التي كانت تعمد لارتكاب مثل تلك الجنايات المهوولة.

أمّا المراسم العبادية في البيت فلم تكن سوى المكاء والتصدية والعري التي كانت عليه النساء حين العبادة وهن يطفن حول الكعبة (وَما كانَ صلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إِلاّ مُكاءاً وَتَصْدِيَةً)(1) كانوا يتفاخرون بالحروب وسفك الدماء والسلب والنهب، كما لم يكونوا يقيموا أدنى وزن للمرأة فهى ليست سوى سلعة رخيصة فلا تتمتع بأدنى حقوق بل كانوا أحيانا يقامرون بها.

كانوا يرون الملائكة بنات الله ـ وكما أشرنا سابقاً فانّهم كانوا يرون في البنت العار والفضيحة ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ البَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ)(2) و(أَمْ خَلَقْنا المَـلائِكَةَ إِناثاً وَهُـمْ شاهِدُونَ)(3) أمّا على مستوى الخرافات والاساطير التي كانت سائدة لديهم فقد كانت عجيبة مذهلة ومنها ما وصفه القرآن الكريم (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هـذِهِ الأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِـيهِ شُرَكاءُ)(4).

إذا غضب أحدهم على إمرأته وأراد أن يوبخها كفاه وأن يخاطبها «أنت علي كظهر أمي» فهم يعتقدون أنّ هذا القول يكفي أن تحرم عليه لأنّها عادت كامه دون إجراء حكم الطلاق عليها، الأمر الذي شجبه القرآن ولم يقره: (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاّئِـي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ)(5)، (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاّ الـلاّئِـي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ القَوْلِ وَزُوراً)(6) أمّا الطابع السائد الذي كان يميز العصر الجاهلي فانما يكمن في شن الحروب والغارات التي


1. سورة الانفال / 35. امّا المشهور بالنسبة لسبب نزول سورة التوبة ومن الاُمور التي أمر أمير المؤمنين (عليه السلام)بابلاغها المشركين «و لا يطوفن يا لبيت عريانا». نور اليقلين، 2 / 179ـ181 ح 14 و17 و18 و20 ومجمع البيان، 5 / 3.

2. سورة النحل / 57.

3. سورة الصافات / 150.

4. سورة الانعام / 139.

5. سورة الاحزاب / 4.

6. سورة المجادلة / 2.

[ 194 ]

تستبطن سفك الدماء وتأجيج الأحقاد والأضغان التي توارثتها الأقوام أبا عن جد، الأمر الذي شبهه القرآن بشفا حفرة من النار، فقال (وَاذكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَة مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ)(1).

الخرافة الاُخرى التي كانت تسود في الأذهان هو الاعتقاد بالرابطة القائمة بين نزول المطر وبزوغ واختفاء بعض الكواكب، والتفؤل بالطيور والإيمان بالغول الصحراوي والعفاريت وما شابه ذلك; الأمر الذي عبر عنه القرآن الكريم في أكثر من أية بالضلال المبين. (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّـيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَـفِي ضَلال مُبِين)(2).

نعم هذه صورة مقتضبة من الحالة التي كانت عليها العرب في الجاهلية ـ بل هذه مميزات سائر الأقوام في الجاهلية التي تعددت أشكالها واتفقت مضامينها.

و من هنا يمكن الوقوف على عظمة الإسلام والقرآن وحامل رسالتها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، الأمر الذي توصل إليه أحد أعلام الغرب ويدعى توماس كارل في أنّ الله هدى العرب من الظلمات إلى النور بالإسلام ومن اُمّة راكدة متقاعسة لاصوت فيها ولاحركة إلى أمّة ذات شهرة ومن الضعف والوهن إلى اليقظة والقوة، ومن الضعة إلى العزة ومن العجز إلى القدرة. فقد شع نور الإسلام على العالم من جهاته الأربع ولم يمضى عليه أكثر من قرن فبلغ المسلمون الهندالأندلس، بل استطاع الإسلام أن يبسط نوره على تصف المعمورة بهذه المدّة القصيرة.(3)

—–


1. سورة آل عمران / 103

2. سورة الجمعة / 2.

3. عذر التقصير لدى محمد والقرآن، ص77 (نقلا عن تفسير الامثل، 3 / 31).

[ 195 ]

 

 

القسم الثالث

 

و منها يعني آل النبي عليه الصلاة والسلام

«هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ وَلَجَأُ أَمْرِهِ، وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبالُ دِينِهِ، بِهِمْ أَقامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ، وَأَذْهَبَ ارْتِعادَ فَرائِصِهِ».

—–

الشرح والتفسير

المنزلة السامية لآل محمد(صلى الله عليه وآله)

يصف الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة الأئمة من أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله)بعبارات قصيرة عميقة المعاني، حيث يتطرق إلى مكانتهم بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)على ضوء ماورد في الأحاديث النبوية الشريفة من قبيل حديث الثقلين وسفينة نوح والنجوم.(1)

فقد وصفهم في عباراته الست الاولى بقوله(عليه السلام): «هم موضع سره، ولجأ(2) أمره، وعيبة(3)علمه، وموئل(4) حكمه، وكهوف(5) كتبه وجبال دينه»(6) أنّ كل عبارة من هذه العبارات تشير


1. فقد تصدت هذه الأحاديث التي روتها مصادر الفريقيين لبيان مكانة أهل البيت(عليه السلام).

فقد صرّح حديث الثقلين بأنّ أهل البيت(عليه السلام) هم عدل القرآن الذين لا يفترقون عنه حتى يردا على النبي (صلى الله عليه وآله)حوضه. أمّا الحديث الثاني فقد شبههم بسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق. وأخيراً حديث(صلى الله عليه وآله)الذي قال فيه: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل النجوم باي إقتديتم إهتديتم وإنّ النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض».

2. «لجأ» و«ملجأ» بمعنى الملاذ.

3. «عيبة» بمعنى الوعاء و الصندوق أو الشيئى الذي تحفظ فيه الأشياء و قد اُشتق في الواقع من العيب و قد استعمل بالمعنى المذكور لأنّ العيوب عادة ما تستر.

4. «موئل» من مادة «وأل» على وزن سهل بمعنى المرجع والملاذ وموضع النجاة.

5. «كهوف» جمع «كهف» بمعنى الغار، إلاّ أنّ البعض قال الكهف هو الغار الواسع، ولما كان الناس يلجأون إلى الغيران في أغلب الأوقات فقد احتمل أن يكون بمعنى الملاذ والموضع الذي يحفظ الأشياء.

6. اعلم ان هنالك اختلافا بين الشرّاح بشأن الضمير في هذه العبارات الست. فقد ذهب البعض إلى أنّها ترجع جميعا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بينما تفيد القرائن أنّ الضمير فيها يعود إلى الله سبحانه (و لا يسما بالالتفات إلى قوله وكهوف كتبه) بينما يعود الضمير في العبارة الأخيرة إلى الدين كما سيأتي توضيح ذلك لاحقا.

[ 196 ]

إلى أمر معين رغم ما ذهب إليه بعض العلماء والشرّاح من ترادف العبارات وأنّها شبيهة لبعضها البعض الآخر.

فقد أشارت العبارة الاولى إلى حقيقة مؤادها أنّ الاسرار الإلهية مودعة لديهم. وبالبداهة أن يلم بجميع الأسرار من ينهض بمسؤولية زعامة الدين; حيث لا ينتظم أمرهم في هداية الناس وتدبير شؤون حياتهم دون الانطواء على ذلك العلم، ولا سيما أنّ زعامتهم لا تختص بزمان دون آخر بل تتعلق بجميع البشرية على مدى العصور والدهور (وقد ذكرنا في مبحث علم غيب الأنبياء والأوصياء المعصومين أنّ أحدى مقومات زعامتهم تستند إلى علمهم بالغيب وإلاّ لانطوت زعامتهم على العيب والنقص).

ثم أشار في العبارة الثانية إلى أنّهم ملجأ أمر الله. والسؤال الذي يبرز هنا هل يقتصر هذا الأمر على الأوامر التشريعية أم يشمل الأوامر التكوينية أيضا؟ يبدو من ظاهر العبارات السابقة واللاحقة أن الأوامر تقتصر على التشريعية منها حيث يجب على الاُمّة أن ترجع إلى أئمة العصمة في تلقي أوامرهم وإمتثال تعاليهم.

أمّا العبارة الثالثة فقد اعتبرتهم(عليه السلام) عيبة علوم الله سبحانه، ولا يقتصر ذلك على الأسرار و الأوامر، بل يشمل جميع العلوم اللازمة لهداية الناس أو ذات الصلة بهذه الهداية فهى مودعة لديهم مخزونة عندهم. وفي العبارة الرابعة يتضح أنّهم المرجع في الأحكام الإلهية التي يجب على الاُمّة الرجوع إليهم في الاختلافات على المستوى الفكري أو القضائي ليزيلوا عنهم الفرقة والاختلاف ويهدوهم سواء الصراط.

وإذا اعتبرنا «موئل حكمه» على وزن إرم جمع حكمة فانّ فارق هذه العبارة مع العبارات السابقة سيتضح تماماً، لأنّ الكلام هنا سيكون في فلسفة وحكمة الأحكام الإلهية التي تؤلف جزءاً من علوم الأنبياء والأئمة المعصومين(عليهم السلام).

أمّا قوله(عليه السلام) «و كهوف كتبه» فيكشف اللثام عن هذه الحقيقة وهى أنّ مضامين جميع الكتب السماوية موجودة عندهم. وهذا يشبه إلى حدِّ بعيد ما قاله علي(عليه السلام): «أمّا والله لو ثنيت

[ 197 ]

لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم... وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم...».(1)

و أخيراً فقد وصفهم(عليه السلام) بأنّهم جبال دينه، ولعل العبارة إشارة واضحة إلى ما أورده القرآن الكريم في عدد من آياته الشريفة بشأن خصائص الجبال ودورها في حفظ إستقرارونزول البركات والخيرات فقد صرّحت الآية 15 من سورة النحل قائلة (وَأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّـكُمْ تَهْتَدُونَ)فالواقع أنّ الجبال ـ كما ورد في تفسير هذه الآية وسائر الآيات المشابهة ـ تقوم من جانب باحتواء الضغوط المسلطة على الأرض من باطنها وظاهرها، ومن جانب آخر فهى مصادر عظيمة للأنهار والأبار وعيون الماء.

و بالتالي فهى معين لا ينضب من المعادن النفيسة القيمة. ووجه الشبه هو أنّ أئمة العصمة(عليه السلام) مصدر لسكينة الأفكار وري القلوب واغناء الاُمّة بما يختزنونه من معادن نفيسة.(2)ثم يواصل الإمام(عليه السلام)كلامه إثر ذكره لهذه الصفات فيقول «بهم أقام انحناء ظهره وأذهب إرتعاد(3) فرائصه(4)».

أمّا انحناء الظهر فهى كناية رائعة لشدة المعضلات التي طالت الدين من من قبل الأعداء العلماء والأصدقاء الجهلاء فانبرى لها هؤلاء الكرام ليبقوا على الدين شامخاً لايناله تحريف المحرفين ولا فتن المبطلين. والتعبير «ارتعاد الفرائص» ارتعاد اللحمة التي تغطي القلب بين الجنب والكتف وهى كناية لطيفة عن الاضطراب والاختلال الذي يطيل الدين من قبل المدارس الالحادية والانحرافات الدينية والتي يقف بوجهها أئمة الهدى فيقضوا عليها فيعيدوا للدين صبغته الحقيقة الناصعة.


1. بحار الانوار 10 / 118، ح 1.

2. راجع التفسير الامثل، ذيل آية 15 من سورة النحل.

3. «إرتعاد» من مادة «رعدّة» بمعنى الاهتزاز، ومن هنا يطلق الرعد على الصوت العظيم الذي تحدثه السحب والغيوم.

4. «فرائص» جمع «فريصة» هى اللحمة بين الجنب والكتف التي ترعد حين الخوف ولذلك كانت (ارتعاد الفرائض) كناية عن الخشية والاضطراب، ومن هنا كانت الفرصة تطلق على المدّة الزمانية للقيام بعمل (المقاييس، المفردات ولسان العرب).

[ 198 ]

تأمّلان

1ـ آل النبي(صلى الله عليه وآله) كهف الاُمّة الإسلامية

ما ورد في عباراته(عليه السلام) يمثل الحقائف البعيدة عن أية مبالغة والتي تشهد عليها سيرة أئمة العصمة(عليه السلام) ولا سيما عصر أمير المؤمنين والإمام الباقر والصادق والرضا(عليه السلام) وكيف وقف هؤلاء العظام بوجه المدارس المنحرفة التي ظهرت إثر إتساع رقعة الإسلام وورود الأفكار المنحرفة للمناطق الإسلامية إلى جانب الخرافات والأساطير والعقائد الفاسدة والتفاسير الخاطئة المشبوهة التي أوردها الغلاة والقلاة للنيل من الإسلام المحمدي الأصيل.

فقد أفاد التاريخ أنّهم لم يعجزوا عن جواب أي سوال، بل كانوا يجيبون بما يثلج صدر الصديق ويغيظ العدو. من جانب آخر فقد شهد رحيل النبى الأكرم(صلى الله عليه وآله)العواصف الهوجاء التي تكاد تغرق السفينة الإسلامية لولا هذه الصفوة الطاهرة، وقد تنوعت أدوارهم واتحدت أهدافهم فتارة يذود عن الدين بما يظهر من علمه ومعرفته وتبيينه لحقائق الإسلام، واُخرى بدمه الشريف إن تطلب حفظ الدين ذلك وهذا ما تمثل بحركة الإمام الحسين(عليه السلام) وصحبه الميامين الذين ذادوا بمهجهم دون حياض الدين وبيضة الإسلام.

و لو تأملنا الانحرافات العقائدية والأفكار العجيبة التي سطرتها كتب الملل والنحل وقارناها مع المعارف والعقائد التي حمل رايتها أئمة أهل البيت(عليه السلام) ـ ونموذج ذلك نهج البلاغة والصحيفة السجادية «زبور آل محمد» ـ والروايات الورادة عنهم(عليه السلام)في الكتب من قبيل توحيد الصدوق والمصادر المشابهة لاتضحت لنا الحقيقة التي ذكرت سابقاً في صفاتهم(عليه السلام).

و أخيراً هؤلاء هم الذين وصفهم الإمام(عليه السلام) في موضع آخر من نهج البلاغه لكميل بن زياد فقال: «اللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة أمّا ظاهراً مشهوراً أو خائقاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته... يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظرائهم يزرعوها في قلوب أشباههم».(1)

وهم الذين قال فيهم رسول الله(صلى الله عليه وآله): «إنّي مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل


1. نهج البلاغه، الكلمات قصار، 147.

[ 199 ]

بيتي وأنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما».(1)

 

2ـ من هم آل النبي(صلى الله عليه وآله)؟

ما يفهم ممّا مرمعنا سابقاً أنّ المراد بأهل البيت الأئمة المعصومين(عليهم السلام); لا ما ذهب إليه بعض المفسرين لنهج البلاغة من أنّ المراد بأهل البيت أولئك الذين حفظوا الإسلام على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) مثل حمزة والعباس وجعفر. طبعا لا يخفى الدور الذي لعبه هؤلاء في الذود عن بيضة الإسلام، غير أن مضمون العبارات السابقة يبدو أبعد من ذلك ولا يراد بهؤلاء سوى أئمة العصمة(عليه السلام).

—–


1. راجع الى تفسير نفحات القرآن، ج 9.

[ 200 ]

[ 201 ]

 

 

القسم الرابع

 

«زَرَعُوا الْفُجُورَ، وَسَقَوْهُ الْغُرُورَ، وَحَصَدُوا الثُّبُورَ، لا يُقاسُ بِآلِ مُحَمَّد(صلى الله عليه وآله)مِنْ هَذِهِ الاُْمَّةِ أَحَدٌ، وَلا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً. هُمْ أَساسُ الدِّينِ، وَعِمادُ الْيَقِينِ إِلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغالِي، وَبِهِمْ يُلْحَقُ التّالِي، وَلَهُمْ خَصائِصُ حَقِّ الْوِلايَةِ، وَفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَالْوِراثَةُ: الاْنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَنُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ!».

—–

الشرح والتفسير

لا يقاس بآل محمد أحد من الناس

يبدو أنّ الضمائر في العبارات الثلاث الاولى ـ بالاستناد إلى أنّ الإمام(عليه السلام)أورد هذه الخطبة حين إنصرافه من صفين ـ تعود إلى القاسطين (أصحاب معاوية) والخوارج المارقين; كما ذهب البعض إلى أنّها تعود إلى المنافقين، أو جميع أولئك الذين خالفوا الإمام(عليه السلام)هبوا لقتاله.

على كل حال فقد شبههم(عليه السلام) تشبيه دقيق فقال(عليه السلام): «زرعوا الفجور(1) وسقوه الغرور(2)وحصدوا الثبور(3)».

ثم يعود(عليه السلام) لبيان أوصاف آل محمد(صلى الله عليه وآله) بعبارات أكثر صراحة ووضوح ضمن إشارته ـ كعادته في قلة الألفاظ وسعة المعاني ـ إلى منزلتهم الرفيعة وحقوقهم السليبة فيقول: «لا يقاس


1. «فجور» من مادة «فجر» بمعنى الشق في الشي ومن هنا يطلق الفجر على طلوع الصبح وكأن ضياء الصبح يشق حجاب الليل المظلم، كما يصطلح على الأعمال غير المشروعة بالفجور لأنّها تخترق حجب الدين.

2. «الغرور» بمعنى الغفلة في اليقظة، ووردت بمعنى المكر والحيلة، والغرور بفتح الغين بمعنى الشيء الذي يخدع الإنسان ويستغفله، كما فسر بمعنى الشيطان، لانه يخدع الناس بوعوده الكاذبة.

3. «الثبور» من مادة «ثبر» على وزن صبر بمعنى الحبس والهلاك والفساد الذي يصد الإنسان عن بلوغ الهدف.

[ 202 ]

بآل محمّد صلى الله عليه وآله من هذه الاُمّة أحد» ودليل ذلك لا نقاش فيه، لأنّهم وعلى ضوء صريح الحديث النبوي الشريف حديث الثقلين الذي نقلته جميع مصادر الفريقين عدل القرآن الكريم، ونعلم جميعاً أن ليس هنالك من الاُمّة أحد من قرن بالقرآن، أضف إلى ذلك فهناك الآيات القرآنية التي تؤيد هذا المعنى من قبيل آية التطهير التي تصرح بعصمتهم وآية المباهلة التي عدت البعض منهم كنفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسائر الآيات والروايات.

و بغض النظر عمّا تقدم فان علومهم ومعارفهم التي رويت عنهم هى الاُخرى لايمكن مقارنتها بعلوم الناس ومعارفهم.

فهل روى الاُخرون عشر معشار ما ورد في نهج البلاغه؟ وهل هناك من يقوى على الإتيان بدعاء من أدعية الصحيفة السجادية. وما بالك في الأحكام الشاملة الواسعة التي رويت عن الإمام الباقر والصادق(عليهما السلام) بشأن جزئيات المسائل الدينية، والمناظرات التي عقدها الإمام الرضا(عليه السلام) مع سائر زعماء الأديان حول مختلف المسائل العقائدية والأبواب الفقهية؟ آنذاك يتحدث عن دليل العبارة السابقة: «و لا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا» وأي نعمة أعظم من تلك النعمة!

فلو لا تضحيات علي(عليه السلام) لما ذاق الاُخرون طعم الإسلام. فسيرة علي(عليه السلام) منذ ليلة المبيت ومرورا بموقعة بدر وأحد والخندق وخيبر وغزوات الإسلام كلها شواهد على المعنى المذكور و قد بلغت منزلته من السمو والرفعة بحيث قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) «ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين» وفي عبارة اُخرى «لمبارزة علي(عليه السلام) لعمرو بن عبدود أفضل من أعمال اُمّتي إلى يوم القيامة»(1).