1. انظر إحقاق الحق 6 / 4; 16 / 402 واعيان الشيعه 1 / 264.

[ 203 ]

أضف إلى ذلك سائر مواقفه المشهورة في تاريخ الإسلام سواء في عصر النبي(صلى الله عليه وآله) أو ما تلاه من العصور ودافع فيها بعلمه وعمله عن الإسلام. أمّا في عصر الخلافة الراشدة والعصر المظلم لبني أمية وبني العباس لم يكن سوى هولاء الأطهار من أهل البيت(عليهم السلام)الذين أضاءوا تلك الظلمات بنور علمهم ومعرفتهم حتى أنقذوا المسلمين من تلك الحملات الثقافية المسعورة التي تبنت إحياء سنن الجاهلية وإطفاء السنن الإلهية ولا نرى هذا الدور خافيا على أحد رغم الجهود المضنية التي، بذلها أعدائهم لاطفاء نورهم وطمس فضائلهم.

و الطريف في الأمر أنّ الإمام(عليه السلام) يتحدث عن نعمة وجود أهل البيت بشكل دائمي مستمر و خالد دون اقتصارهم على عصر دون آخر، ولا غرو فثمار الشجرة الإسلامية المباركة التي نقطضها إنّما زرعها الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام): «لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الاُمّة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا». ثم يتعرض(عليه السلام) إلى أمرين آخرين ينبعان من الأمر السابق فيقول: «هم أساس الدين وعماد اليقين». نعم فقد نزل الوحي في بيتهم وتربوا في أحضانه وما عندهم من علوم ومعارف إنّما أخذوها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولما كانت العلوم والأسرار الإلهية مودعة لديهم فهم أئمة الإيمان ودعاة اليقين. ثم يخلص الإمام(عليه السلام) إلى هذه النتيجة: «إليهم يفيىء الغالي، وبهم يلحق التالي» وكيف لا يكونوا كذلك و هم الصراط المستقيم(1) والاُمّة الوسطى (2) وعندهم المعارف الإلهية الحقة والعقائد الإسلامية الأصيلة البعيدة عن كل إفراط وتفريط.

و لو تصفحنا تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية البعيدة عن مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) لرأينا الانحراف العقائدي الخطير من قبيل السقوط في حبال الجبر والتفويض والتشبيه والالحاد في أسماء الله وصفاته، بل غالى البعض في أسماء الله وصفاته حتى قالوا بتعطيل الصفات الإلهية أن ليس هناك من سبيل لمعرفته سبحانه (سواء المعرفة الإجمالية أو المعرفة التفصيلة)، وبالمقابل هناك الفرق التي هبطت بالذات الإلهية المقدسة إلى الحضيض فوصفته سبحانه بأنّه رجل أمرد صبيح الوجه عليه كساء أسود ملتحف به.


1. تفسير نور الثقلين 1 / 20ـ21.

2. تفسير نور الثقلين 1 / 134.

[ 204 ]

أمّا بشأن مسألة الجبر والتفويض، فقد ذهبت الجبرية ـ فرقة من الفرق الضالة ـ إلى أنّ الإنسان كائن مسلوب الإرادة والاختيار وأنّه مجبر على أفعاله المقدرة عليه على ضوء القضاء والقدر الإلهي فانّ قدر له الكفر كفر وإن قدر له الإيمان آمن.

بينما وقفت المفوضة التي رأت للإنسان استقلالا تاماً إزاء الذات الإلهية المقدسة، فاعتقدت بانّ جميع الأفعال مفوضة للإنسان، وهكذا هوت في وادي الشرك.

بينما تبنت مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) إطروحة «الأمر بين الامرين» لتنفي مسألة الجبر والتفويض وتحذر المسلمين من الإفراط والتفريط الذي يقود إلى الكفر والشرك، ومن هنا يتضح معنى كلام الإمام(عليه السلام):«إليهم يفيئى الغالي، وبهم يلحق التالي» فالعبارة تشبيه لطيف كأن هنالك قافلة يقودها عدد من الرواد الماهرين، تقسم بعض الأفراد الذين يندفعون أكثر من غيرهم قدما فيضلون في الصحراء، بينما يهن الآخرون ويتخلفون عن الركب فيصبحوا طعمة لذئاب الصحراء.

ثم يقول(عليه السلام): «و لهم خصائص الولاية». وتصدر الجمله بلهم تفيد إقتصار هذه المزية عليهم(عليه السلام). وكيف لا يكونوا أصلح من الجميع وهم دعائم الدين واركان اليقين الذين يمثلون الإسلام الأصيل الذي لا يعرف الإفراط والتفريط، وهم النعمة الجارية على أفراد الاُمّة إلى يوم القيامة. ولذلك قال(عليه السلام): «و فيهم الوصية والوراثة».

نستنتج ممّا سبق أنّ وصية النبي(صلى الله عليه وآله) بهم واستخلافهم من بعده إنّما تستند لمامر معناً سابقاً، لا على أساس القرابة والنسب. ولا يخفى أنّ المراد بالوصية والوارثة هنا الخلافة والنبوة، بل حتى لو افترضنا أنّ الوراثة هنا هى وراثة علوم النبي(صلى الله عليه وآله)ـ كما ذهب إلى ذلك البعض ـ فانّ الأمر سيقود بالتالي إلى جدارتهم باحراز هذا المقام; لانّ خليفة النبي وإمام الخلق لابدّ أن يكون وارثاً لعلوم النبي(صلى الله عليه وآله)، وأنّ خليفته هو وصيه; فوراثة الأموال ـ كما نعلم ـ ليست بذات قيمة والوصية في الاُمور الشخصية والاعتيادية لا تحظى بأية أهمية، ولاشك أنّ اُولئك الذين سعوا جاهدين لتفسير الوصية والوراثة بمثل هذه المعاني إنّما يكشفون عن مدى تعصبهم استنادهم إلى العناد والأفكار المسبقة.

فليس هنالك من مسألة مهمّة تنسجم وقوله(عليه السلام): «أساس الدين وعماد اليقين

[ 205 ]

وخصائص حق الولاية» سوى مسألة خلافة رسول الله(صلى الله عليه وآله). وأخيراً يخاطب(عليه السلام) الاُمّة في زمانه وكأنّهم قد تنكروا لبعض النعم ولا يسما عودة الحق السليب «الآن إذا رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منقله».(1)

يتضح ممّا قيل بشأن الوصية والوارثة أنّ المراد بالحق هنا هو الولاية والخلافة التي لا تليق سوى بأهل البيت(عليهم السلام) وأنّ محلهم من الخلافة محل القطب من الرحى.

 

تأمّلان

1ـ مكانة أهل البيت في القرآن والرويات

لقد صرّحت أغلب الآيات القرآنية والروايات الإسلامية بفضل أهل البيت(عليهم السلام)بما لا يبقى معه مجال للشك في سمو مكانتهم وعلو منزلتهم. فآية التطهير واضحة في طهارة أهل البيت(عليهم السلام)من كل رين وعصمتهم من كل رجس (إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِـيُذهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِـيراً).(2)

وآية المباهلة التي وصفت نفس علي(عليه السلام) بأنّها نفس النبي(صلى الله عليه وآله) وأنّ أقرب المقربين لله ورسوله (صلى الله عليه وآله) والمجابين الدعوة لديه هم الزهراء والحسن والحسين(عليه السلام): (قُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ...)(3).

وآية التبليغ التي اعتبرت وظيفة النبي(صلى الله عليه وآله) في إبلاغ ولاية علي(عليه السلام) من أخطر الوظائف وأنّ عدم الابلاغ بمثابة عدم ابلاغ الرسالة: (يا أَيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ...)(4). إلى جانب ما لا يحصى من الآيات التي لا يسعنا الخوض فيها في هذه العجالة، ويضاف إلى ذلك مصادر الفريقين والتي صرّحت بتواتر وصحة الأخبار الواردة في فضائل أهل البيت(عليهم السلام).(5)


1. هنالك محذوف في الجملة تقديره:«الآن إذا رجع الحق إلى أهله لم لا تؤدون حقه». وقد ورد تقدير ذلك في مصادر نهج البلاغة:«الآن إذا رجع الحق إلى أهله من أهل بيت البنوة يجري ما يجري من الحوادث ويقع ما يقع من الاختلاف؟». (مصادر نهج البلاغة، 1 / 302) وكلا النتجيتين واحدة.

2. سورة الاحزاب / 33.

3. سورة آل عمران / 61.

4. سورة المائدة / 67.

5. لقد أشرنا في ذيل كل آية واردة بهذا الشأن في التفسير الأمثل إلى المصادر ; ومن أراد الوقوف على 2التفاصيل فليراجع احقاق الحق، ج3 ورسالة القرآن، ج9.

[ 206 ]

أمّا الروايات الإسلامية الورادة في الصحاح الستة فقد نقلت من فضائل أهل البيت ومناقبهم بما لا يمكن تصوره، بل أوجز بعض علماء العامة تلك الفضائل في عدّة مجلدات(1)، بينما ألفت عشرات المجلدات من علماء العامة في جمع الروايات والأخبار الواردة بشأن فضائل أهل البيت.(2)

غير أنّ الموسف ما قامت به الأيدي الآثيمة إبان الحكومات الظالمة بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله) والتي جهدت على طمس فضائلهم ومناقبهم لينأوا بالاُمّة بعيداً عن الخط الرسالي الأصيل المتمثل بأهل البيت(عليهم السلام)اُمناء الوحي وحماة العقيدة. فاوئلك الذين صدوا أهل البيت(عليهم السلام) عن حقهم بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله)هم الذين سعوا جاهدين لطمس فضائلهم، وأدهى من ذلك ما مارسه خلفاء بني اُمية والعباس الذين كموا الأفواه عن التحدث بفضائلهم حتى عد ذلك جرما يعاقب عليه بالسجن أو الأعدام.

و لولا لطف الله وعنايته لما بقيت من آثار هم شيئاً ولا ختفت فضائلهم ومناقبهم ولا يسعنا هنا إلاّ أن نورد ما ذكره شارح نهج البلاغه ابن أبي الحديد المعتزلي بهذا للشأن فقد قال:

فأمّا فضائله(عليه السلام); فانّها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغاً يسمج معه التعرض لذكرها، والتصدي لتفصيلها; فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل: رأيتني فيما أتعاط من وصف فضلك، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، فأيقنت أني حيث إنتهى بي القول منسوب إلى الدعاء لك، ووكلت الأخبار عنك إلى علم الناس بك. وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنّه استولى بنو اُمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، وإجتهدوا بكل حيلة في اطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا ماد حيه، بل حبسوهم قتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكراً، حتى حظروا


1. كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة للمرحوم المحقق الفيروز آبادي.

2. عبقات الأنوار للسيد حامد حسين الهندي.

[ 207 ]

أن يسمى أحد باسمه; فما زاده ذلك إلاّ رفعة وسموا; وكان كالمسك كلما ستر إنتشر عرفه، وكلما كتم تضوع نشره; وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيرة.(1)

وقد نقل مثل هذا المعنى في بعض المصادر، حيث صرّح الشافعي: عجبا لرجل أخفى أعداؤه فضائله حسدا وأولياؤه خوفا فظهر بين هذا وذلك ما ملئ الخافقين.(2)

وقد روي مثل هذا المضمون أيضا عن عامر بن عبدالله بن الزبير(3).

 

2ـ تبريرات واهية

جدير ذكره أنّ إبن أبي الحديد حين يصل عبارة الإمام(عليه السلام) «الآن إذا رجع الحق إلى أهله...» في شرحه لنهج البلاغة يقول: لقد ذكر الإمام(عليه السلام) أن الحق رجع الآن إلى أهله; وهذا يقتضي أن يكون فيما قبل في غير أهله، ونحن نتأول ذلك على غير ما تذكره الامامية، ونقول: اِنه(عليه السلام) كان أولى بالأمر وأحق، لا على وجه النص، بل على وجه الأفضلية، فانّه أفضل البشر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأحق بالخلافة من جميع المسلمين، لكنه ترك حقّه لما علمه من المصلحة، وما تفرس فيه هو والمسلمون من إضطراب الإسلام، وانتشار الكلمة، لحسد العرب له وضغنهم عليه وجائز لمن كان أولى بشي فتركه ثم استرجعه أن يقول: قد رجع الأمر إلى أهله(4).

حقاً أنّ الأحكام المسبقة هى التي تحول دون الاقرار بمفهوم هذه العبارة الواضحة، فلو أراد الإمام(عليه السلام)أن يقول: لم يودع الحق أهله قبل هذا والآن رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله فله أن يذهب إلى ما ذهب إليه، هذا من جانب ومن جانب آخر فاننا نعلم بأن القول: ان العرب تحسده وتكن له البغض والعداء إنّما هو قول أجوف لا أساس له. نعم كانت هذه الحالة تسود فئة قليلة ممن تبقى من أعقاب المشركين والكافرين، وبعبارة اُخرى فانّ العداء كان يعيش في


1. شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 1 / 17.

2. علي في الكتاب والسنة 1 / 10.

3. الغدير 10 / 271.

4. شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد 1 / 140.

[ 208 ]

قلوب زعماء قريش وأحبار اليهود وكبار المنافقين الذين تلقوا من الإمام(عليه السلام)الضربات المهلكة والموجعة في المعارك من قبيل بدر وخيبر وحنين، بينما كانت الاُمّة بابنائها تحب علياً(عليه السلام) ولذلك ورد في الحديث النبوي المعروف الذي نقلته المصادر الإسلامية المعتبرة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي(عليه السلام): «لا يبغضك إلاّ منافق»(1).

وجاء في صحيح الترمذي ـ أحد الصحاح الستة المعتمدة لدى أبناء العامة ـ عن أبي سعيد الخدري قال: «إنا كنّا لنعرف المنافقين ببغضهم علي بن أبي طالب»(2).

فهل يرضى إبن أبي الحديد أن تكون الأكثرية الساحقة من المسلمين آنذاك منافقة؟ ومن هنا نرى مدى الفرح والسرور الذي عم أوساط المسلمين حين توليه الخلافة بما لا يمكن مقارنته وسائر الخلفاء، والحال أنّ أغلب معاصريه وممن مد له يد البيعة هم من صحابة النبي(صلى الله عليه وآله) أو أبنائهم.

و عليه فتبريره واهي لا يصمد إمام الحقائق والواقعيات. وأمّا قوله: إنّه كان أولى بالأمر وأحق لاعلى وجه النص، فهو الآخر كلام أجوف يجانب الحق وسنثبت بطلانه في محله.(3)

—–


1. شواهد التنزيل 1 / 329.

2. صحيح الترمذي، 13 / 168، طبع الصاوي مصر ( 5 / 635 طبع دار احياء التراث العربي).

3. انظر «رسالة القرآن» / 9.

[ 209 ]

 

 

الخطبة 3

 

 

 

و من خطبة له (عليه السلام)

 

وهى المعروفة بالشقشقية وتشتمل على الشكوى من أمر الخلافة ثم ترجيح صبره عنها ثم مبايعة الناس له.

 

القسم الأول

 

«أَما وَاللّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَها فُلانٌ وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْها مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى. يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَها ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْها كَشْحاً. وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة عَمْياءَ، يَهْرَمُ فِيها الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيها الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيها مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ! فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى، وَفِي الْحَلْقِ شَجًا، أَرَى تُراثِي نَهْباً».

—–

نظرة إلى الخطبة

تعتبر هذه الخطبة من أهم خطب نهج البلاغة حيث تتكفل بشرح مسألة الخلافة بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله). وهنالك بعض الاُمور التي تضمنتها هذه الخطبة بما لم يرد شبيهها في سائر خطب نهج البلاغة، ورغم قلة عباراتها، إلاّ أنّها أوجزت عصر الخلافة الراشدة التي

[ 210 ]

نهضت بالأمر بعيد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله). إلى جانب ذلك هناك التحليلات الدقيقة والرائعة التي تلفت إليها إنتباه المحققين والباحثين. ونرى هنا أن نشير إلى بعض الاُمور قبل أن نخوض في شرح وتفسير هذه الخطبة:

1ـ اسم الخطبة: لقد اُقتبس اسم الخطبة من عبارتها الأخيرة التي أطلقها الإمام(عليه السلام) حين قاطع أحدهم الإمام(عليه السلام)فتوقف، فناشده ابن عباس مواصلة الخطبة فقال له(عليه السلام): «تلك شقشقة هدرت ثم قرت» وهكذا رفض(عليه السلام) طلب ابن عباس، حيث تغير الجو الذي كان سائداً لاطلاق الإمام(عليه السلام) تلك العبارات الحماسية الخطيرة، فقد قام أحد الأفراد من بين الناس وسلم الإمام(عليه السلام) كتابا (قيل ان فيه مسائل كان يريد الاجابة عنها) فانصرف ذهن الإمام(عليه السلام)إلى اُمور اُخرى.

2ـ زمان صدور الخطبة: هنالك خلاف بين شرّاح نهج البلاغة بشأن زمان صدور هذه الخطبة. فيعتقد البعض ـ كالمحقق الخوئي ـ أنّ الإمام(عليه السلام) وبالاستناد إلى مضامين الخطبة وطرق أسنادها وروايتها اِنّه أوردها أواخر عمره الشريف بعيد موقعة الجمل وصفين والنهروان حين قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين(1). والحق أنّ مضمون الخطبة يؤيد هذا الرأي.

3ـ مكان الخطبة: لقد سكت جمع من شرّاح نهج البلاغة عن مكان صدور الخطبة، بينما يعتقد البعض أنّ الإمام(عليه السلام)أورد هذه الخطبة حين ارتقى المنبر في مسجد الكوفة، وقال ابن عباس:

لقد ألقى الإمام(عليه السلام) هذه الخطبة في الرحبة(2) حين وقع الكلام عن الخلافة.

4ـ سند الخطبة: هناك بحث في سند الخطبة أيضا. قال البعض: هذه الخطبة من الخطب المتواترة بينما صرّح البعض الآخر بعكس ذلك ولم ينسب هذه الخطبة لعلي(عليه السلام) وإنّه لم يشكو قط من الخلافة وإنّما ذلك من وضع الشريف الرضي. أمّا الشارح المعروف ابن ميثم البحراني فقد قال: الادعاء انّ المذكوران باطلان وفيهما إفراط وتفريط. فسند الخطبة لم يبلغ حد


1. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، 3 / 32.

2. «الرحبة» بمعنى المكان الواسع، ويعتقد البعض أنّها اسم موضع في الكوفة، بينما يرى البعض الآخر هى موضع يبعد ثمانية فراسخ عن الكوفة (مجمع البحرين ومراصد الاطلاع).

[ 211 ]

التواتر، ولا أساس للزعم القائل أنّها من وضع الشريف الرضي، والحق آنهاصدرت من الإمام(عليه السلام)(1).

و يبدو أنّ الإشكالات الواردة على الخطبة لم تتأتى من ضعفها أو ركاكتها أو تفاوتها من حيث الاعتبار مع سائر خطب نهج البلاغة، بل بالعكس وكما سيأتي خلال البحث أنّ الخطبة تشتمل على عدّة أسناد يتعذر وجود مثلها في سائر بعض خطب نهج البلاغة.

أمّا السبب الوحيد الذي يمكن إسناد الإشكال إليه إنّما يكمن في عدم إنسجام مضامين الخطبة والذهنية السائدة لبعض الأفراد الذين ينتمون إلى عدد من الفرق والمذاهب. فهولاء وبدلاً من اتهام ذهنيتهم وبلورتها على أساس مضمون الخطبة جهدوا في القدح باسنادها بغية الإبقاء على ما يسود أذهانهم من أفكار منحرفة وعقائد باطلة. أمّا الاسناد التي ذكرت للخطبة من غير نهج البلاغة فهى كالاتي:

أ ـ قال ابن الجوزي في تذكرة الخواص: لقد أورد الإمام علي(عليه السلام) هذه الخطية حين صعد المنبر جواباً لمن سأله:«ما الذي أبطأبك إلى الآن»(2). وهذا يدل على أن ابن الجوزي كان يملك سندا آخر لهذه الخطبة; لان هذا السؤال لم يرد في نهج البلاغة، وعليه فقد كان له طريقا آخر.

ب ـ قال الشارح المعروف ابن ميثم البحراني: لقد عثرت على هذه الخطبة في كتابين اُلفا قبل ولادة الشريف الرضي:

الأول كتاب الانصاف لأبي جعفر ابن قبة تلميذ الكعبي أحد كبار المعتزلة الذي توفي قبل ولادة الشريف الرضي. والثاني النسخة التي كتب عليها بخط أبو الحسن علي بن محمد بن فرات وزير المقتدر بالله، وقد توفي لستين سنة ونيف قبل ولادة الشريف الرضي، ثم يضيف: يقوى ظني أنّ تلك النسخة كتبت منذمدة قبل ولادة ابن فرات(3).

و قال ابن أبي الحديد: قال مصدق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت له: أتقول أنّها منحولة! فقال: لا والله، وإنّي لاعلم أنّها كلامه، كما أعلم أنّك مصدق.


1. شرح نهج البلاغة لابن ميثم 1 / 251.

2. تذكرة الخواص / 124.

3. شرح ابن ميثم بحرانى 1 / 252.

[ 212 ]

قال: فقلت له: إنّ كثيراً من الناس يقولون أنّها من كلام الرضي رحمه الله تعالى. فقال: أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الاسلوب! قد وقفنا على رسائل الرضي، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولاخمر: ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة.

بخطوط أعرفها، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الادب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي. قلت: وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المتعزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة. ووجدت كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية وهو الكتاب المشهور والمعروف بكتاب «الانصاف» وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البخلي رحمه الله تعالى، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجوداً(1).

أمّا العلاّمة الأميني فقد نقل هذه الخطبة في المجلد السابع من كتابه الغدير على أنّها نقلت في ثمانية وعشرين كتابا.

 

مضمون الخطبة

ذكرنا سابقاً أن الخطبة تتعرض بجميع نصوصها إلى مسألة الخلافة بعد رحيل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والمشاكل التي أفرزها عصر الخلفاء ممن سبقوه ثم يتطرق صراحة إلى أحقيته بالخلافة من الجميع معربا عن أسفه وابتئاسه لخروج الخلافة عن محورها الأصلي الذي خطط له الإسلام والنبي. وأخيراً يتحدث عن قضية مبايعة الاُمّة والأهداف الكامنة وراء قبول البيعة بعبارات قصيرة غاية الروعة والبيان.

 

 


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 205

[ 213 ]

الشرح والتفسير

تحليل مهم لمسألة الخلافة

تشير الخطبة ـ كما ذكرنا سابقاً ـ إلى العواصف العنيفة والخطيرة التي هزت الاُمّة الإسلامية وحرفت خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله)بعيد وفاته عن مسارها السليم، كما تتعرض لاصلح الأفراد وأجدرهم بالأخذ بزمام شؤون الاُمّة وزعامتها على ضوء المنطق والدليل والبرهان، كما تعرج الخطبة على وخامة المعضلات التي أفرزها تقاعس المسلمين عن الالتزام بنصوص النبي(صلى الله عليه وآله)الواردة بشأن زعامة المسلمين.

فقد إستهل الإمام(عليه السلام) الخطبة بشكواه ممّا آلت إليه الخلافة فقال: «أما والله لقد تقمصها(1)فلان وإنّه ليعلم أنّ محلي منها محل القطب من الرحا(2)».

لا شك ولا إشكال في أنّ الضمير في «تقمصها» يعود إلى الخلافة، ولعل التعبير بالقميص إشارة إلى أمر وهو أنّ فلاناً قد استغل مسألة الخلافة كقميص يزين به نفسه، والحال أنّ هذه الرحا تتطلب محوراً قوياً يحفظ نظامها في الحركة ويحول دون إنحراف مسارها وتعثر بفعل المطبات التي تواجهها وتسيرها بما يضمن مصالح الإسلام والمسلمين. أجل فالخلافة ليست قميصا، بل هى رحى الجامعة، وليس للخلافة من غنى عن المحور.

هى ليست ثوباً يرتدى. ثم يستدل(عليه السلام) بدليل واضح على المعنى المذكور ليكشف عن مدى علمه وسمو مقامه «ينحدر(3) عني السيل ولا يرقى الي الطير». فقوله(عليه السلام) «ينحدر عنّي السيل» يعني رفعة منزلته(عليه السلام)كأنّه في ذروة جبل أو يقاع مشرف، ينحدر السيل عنه إلى الوهاد والغيطان، وقوله(عليه السلام) «و لا يرقى إلىّ الطير» هذه أعظم في الرفعة والعلو من التي قبلها، لان السيل ينحدر عن الرابية والهضبة، وأمّا تعذر رقى الطير فر بما يكون للقلال الشاهقة جدا، بل ما هو أعلى من قلال الجبال، كأنه يقول: إنّي لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها.


1. «تقمص» من مادة فميص بمعنى لبسها كالقميص.

2. «الرحا» بمعنى الطاحونة، وقد استعملت مادتها بصورة ناقص واوي وناقص يائي.

3. «ينحدر» من مادة إنحدار بمعنى الانهمار والسقوط على وجه الكثرة.

[ 214 ]

والتشبيه المذكور ينسجم وما ورد في القرآن الكريم بشأن دور الجبال في إستقرار الأرض (وَأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّـكُمْ تَهْتَدُونَ)(1). أجل لولا هذه السلسلة العظيمة من الجبال لسلبت السكينة والاستقرار من الناس بفعل الضغوط الجوفية لباطن الأرض من جانب وتأثير جاذبية الشمس والقمر وجزر ومد القشرة الأرضية من جانب آخر وأخيراً هبوب العواصف، ولا نعدمت المياه التي تنهمر من السماء فتصب في البحار والمحيطات وتشكل مصادر الأنهار والأبار والعيون. فوجود الإمام المعصوم والعالم العارف يشكل معين الخير البركة والسكينة لكل اُمّة.

إلى جانب كون تعبير الإمام(عليه السلام) يشير إلى تعذر سبر أغوار أفكار الإمام(عليه السلام) والوقوف على كنه شخصيته وذروة علمه ومعرفته، ولايتيسر ذلك إلاّ لمعلم الإمام نبي الإسلام محمد المصطفى(صلى الله عليه وآله). حتى صحابة الإمام(عليه السلام) كانوا ينتهلون حسب إستعدادهم من منهله العذب ويحيطوا بظاهره على قدر معرفتهم وعلمهم(2).

النقطة الاُخرى الجديرة بالذكر تكمن في الاستفادة من الأنهار في حركة الرحى وتنبع هذه الأنهار من الجبال كما أنّها تفصل هذه الرحى عن الجبال. ولعل العبارة المذكورة إشارة إلى هذا المعنى، أي أنا المحور والرحى والقوة المحركة المليئة بالعلم والمعرفة. وكما أشرنا آنفا فان قمم الجبال تختزن بركات السماء كحبات ثلج ثم تفيض بها على الأرض الهامدة المتعطشة للماء، ويمكن أن تكون العبارة إشارة إلى قرب الإمام(عليه السلام) من الوحي والاغتراف من كوثر النبي(صلى الله عليه وآله).

ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ المراد بالسيل في العبارة هو علم الإمام(عليه السلام) الذي وصفه رسول الله (صلى الله عليه وآله)بقوله: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(3) كما ورد عن الإمام الرضا(عليه السلام)أنّه فسر «ماء معين» الواردة في الآية 30 من سورة الملك (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِـيكمْ بِماء مَعِـين) بعلم الإمام(عليه السلام)(4).


1. سورة النحل / 11.

2. للوقوف على حقيقة التعبيرات الواردة بشأن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) وأفضليته المطلقة على من سواه من أفراد الاُمّة، نكتفي بالايضاحات التي وردت في مقدمة الكتاب بشأن فضائله ومناقبه(عليه السلام).

3. للوقوف على إسناد هذا الحديث المعروف في مصادر العامة، انظر إحقاق الحق 5 / 468ـ501.

4. تفسير نور الثقلين 5 / 386 وليس هنالك من منافاة بين هذا التفسير وذلك الذي فسره بالماء الجاري، 2ولا التفسير الذي ورد في بعض الروايات من أنّ المراد بالماء المعين أصل وجود الإمام(عليه السلام)، وذلك لإمكانية جمع هذه المعاني في مفهوم الآية .

[ 215 ]

و هنا تطرح بعض الأسئلة نفسها من قبيل:

الأول: لم مدح الإمام(عليه السلام) نفسه والحال ورد الذم على ذلك كقوله «تزكية المرء لنفسه قبيح». وللإجابة على هذا السؤال نقول: هنالك فارق بين مدح النفس والتعريف بها. فقد تكون الاُمّة أحيانا جاهلة بشخصية فرد; الأمر الذي لا يجعلها تستفيد منه ومن طاقاته كما ينبغي فالتعريف بالشخص هنا سواء من قبله أو من قبل الآخرين ليس فقط لا ضير فيه فحسب، بل هو عين الصواب والسبيل الصحيح للنجاة وهو بالضبط من قبيل تعريف الطبيب بمجال تخصصه الذي يضعه على الوصفة الطبية، الأمر الذي يهدف إلى إرشاد المرضى في مراجعته ولا ينطوي على أي مديح للشخص.

السؤال الثاني: قوله(عليه السلام): «ينحدر عنّي السبيل ولا يرقى إلىّ الطير» هو زعم منه(عليه السلام)ليس أكثر فهل قام الدليل عليه؟

يبدو أنّ الإجابة على هذا هى أوضح منها على السؤال الأول؟ لان المقام العلمي الذي اُختص به أمير المؤمنين علي(عليه السلام)ليس بخاف على من له أدنى إطلاع بتأريخ الإسلام والمسلمين. فنا هيك عن تواتر الأحاديث النبوية الجمة الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)في فضل علمه وتصريحات العلماء الأعلام في أنّه مصدر كافة العلوم والمعارف الإسلامية وزعيمها(1)، إلى جانب تصديه لأعقد المسائل التي كان يعجز عنها من سبقه من الخلفاء فان أدنى مطالعة لرسائله خطبه وقصار كلماته التي جمعت في نهج البلاغة لكافية في الوقوف على هذه الحقيقة. فلو تصفح كل إنسان منصف ـ مسلما كان أم غير مسلم ـ نهج البلاغة لخضع متواضعا لعظمة الإمام ولعاش عملياً مفهوم قوله(عليه السلام): «ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إلىّ الطير».

السؤال الثالث: كيف يشكو(عليه السلام) الحوادث المرتبطة بالخلافة بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ألا يتنافى ذلك ومفهوم الصبر والرضا والتسليم؟

تبدو الإجابة على هذا السؤال سهلة يسيرة. فالصبر والرضا والتسليم موضوع، وتبيين


1. لقد ذكر ابن أبي الحديد بحثا مفصلاً بهذا الشأن في شرحه لنهج البلاغة، ثم تطرق إلى العلوم الإسلامية وشرح كيفية إرتباطها بعلم الإمام(عليه السلام) من الناحية التاريخية (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/17ـ20).

[ 216 ]

الحقائق ليدونها التاريخ ويلم بها أبناء الاُمّة في الحاضر والمستقبل موضوع آخر، بحيث لايتضمن الأمر أية منافاة فحسب، بل هو من أوجب الواجبات، وما القضايا المتعلقة بالخلافة إلاّ نموذج حي من هذه النماذج. ففي الحقيقة والواقع أنّ مصالح المجتمع الإسلامي والاجيال الإسلامية القادمة هى التي تحتم تبيين هذه الحقائق كي لا تودع بوتقة النسيان.

ثم قال(عليه السلام): «فسدلت(1) دونها ثوياً، وطويت عنها كشحاً(2)».

تفيد هذه العبارة بوضوح أنّ رد فعل الإمام(عليه السلام) حيال تلك الحادثة لم يكن يتضمن الاستعداد والتاهب لخوض الصراع والاشتباك مع الآخرين ، بل تجاهل بكل بسالة وزهد ذلك الأمر لاسباب سنتطرق إلى ذكرها.