![]() |
![]() |
فالأمام(عليه السلام) يكشف في هذه العبارة عن حقيقة وهى: أنني لم أنس طرفة عين مسئوليتي تجاه الاُمّة والوظيفة التي وضعها الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) على عاتقي، ولكن ليت شعري ما أنا فاعل وهناك محذوران: المحذور الأول: هل أنهض بالأمر وأخوض الصراع مع الغاصبين، والحال لا أملك العدّة والعدد من جانب، ومن جانب آخر فان من شأن هذه النهضة أن تشق عصا المسلمين وتفرق صفوفهم وتثلج صدور الأعداء والمنافقين الذين يتربصون بالمسلمين مثل هذه الفرصة ليجهزوا على الإسلام.
المحذور الثانى: أنّ ألتزم الصبر والصمت حيال هذه الحادثة في ظل هذه الأجواء الدامسة الظلام. والتعبير بالطخية العمياء ينطوي على روعة في الدقة والبيان فالطخية تعني الظلام،
1. «سدلت» من مادة «سدل» على وزن عدل بمعنى نزول الشيء من الأعلى إلى الأسفل بحيث يغطى، وعليه فان مفهوم سدلت هنا تركتها وارخيت عليها شيئا.
2. «كشح» على وزن فتح بمعنى الضلع و«طوى عنه كشحه» كناية عن عدم الاهتمام بشيء والانصراف عنه.
3. «جذاء» بمعنى القطع والكسر.
4. «طخية» بمعنى الظلمة وتاتي بمعنى السحب الخفيفة و«الطخياء» بمعنى الليلة الظلماء.
وأحيانا يمكن إختراق الظلمة ـ إذا لم تكن شديدة ـ لمشاهدة شبح ما خلالها، غير أنّ هذه الظلمة من الشدة والعتمة بحيث أطلق عليها العمياء لتعذر رؤية أي شيء من خلالها. ثم يتحدث الإمام(عليه السلام) عن خصائص تلك الظلمة والفتنة ليوجزها في عبارات ثلاث عميقة المعنى فيقول: «يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح(1) فيها مومن حتى يلقى ربه».
و يفهم من هذه العبارة أنّ المعاناة ستعم الجميع. فهى تشيب الصغير وتهرم الكبير بينما ستتضاعف معاناة المؤمنين بفعل تصاعد حدة المشاكل التي سيشهدها المجتمع الإسلامي والاخطار التي تهدد كيانه بما يجعلهم يعيشون هالة من الغم والحزن على مصير الإسلام. فلم تمض مدّة حتى تبلورت تلك الاخطار لتشهد ولادة العصر الاموي الذي تمكن خلال مدّة قياسية من القضاء على الصرح الإسلامي الذي شيده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصحبه بجهودهم المضنية ومساعيهم العظيمة.
ثم يواصل الإمام(عليه السلام) خطبته ليعلن عن موقفه تجاه القضية وعزمه على التحلي بالصبر: «فرأيت أن الصبر على هاتا(2) أحجى(3)». ثم يصف(عليه السلام) طبيعة ذلك الصبر فيقول: «فصبرت وفي العين قذى(4) وفي الحلق شجا».(5)
فالعبارة صورة واضحة عن ذروة إستياء الإمام(عليه السلام) وتذمره في تلك السنوات من المحنة والمصيبة، بحيث لم يكن يسعه أن يغمض عينه عن تلك الأحداث أو يفتحها، كما لم يكن يسعه أن يرفع صوته ويعلن عن مدى حرقته، وكيف لا يكون كذلك «أرى تراثي نهبا».
يشهد التاريخ أنّ المنافقين وخصوم الدعوة كانوا يتربصون بالنبي (صلى الله عليه وآله)ورحيله عن دار
1. «يكدح» من مادة «كدح» بمعنى السعي المصحوب بالتعب.
2. الهاء في هاتا علامة تنبيه والتاء إسم إشارة مونث، إشارة إلى «طخية» «الظلمة» التي وردت في العبارة السابقة. واعتبر البعض أن المشار إليه الحالة المستفادة من العبارة فيكون المعنى «فرأيت أنّ الصبر على هذه الحالة أحجى».
3. «احجى» من مادة «حجا» بمعنى العقل، وعليه أحجى تعني الاعقل.
4. «قذى» بمعنى التلوث.
5. «الشجى» بمعنى الهم والغم والشدة والألم، وتعنى أيضا ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.
الدنيا لتتفتت وحدة المسلمين ويتصدع كيانهم ليتمهد أمامهم السبيل من الانقضاض على الدين وأهله وبالتالي كسر شوكته والقضاء عليه; فلو نهض الإمام (عليه السلام) بالأمر في ظل هذه الظروف من أجل نيل حقّه أو بعبارة اُخرى بغية اعادة المسلمين إلى المسار الإسلامي الصحيح لعصر النبي (صلى الله عليه وآله) وبالالتفات إلى القرارات التي اُتخذت سلفا باقصاء الإمام(عليه السلام) عن الخلافة فانّ قتالاً سينشب لتعم الفوضى والاضطراب في صفوف المجتمع الإسلامي بما يمهدّ السبيل أمام المنافقين والمتربصين لنيل أطماعهم ومآربهم، والشاهد الحي على ذلك تمرد المرتدين عقيب وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذين هبوا للوقوف بوجه الحكومة الإسلامية، ولم يكتب لهم النجاح بفعل المقاومة التي أبدتها الاُمّة تجاههم.
فقد صرّحت بعض السير التاريخية بهذا المجال: «لما توفي رسول الله(صلى الله عليه وآله) إرتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية»(1).
هذا كله من جانب، ومن جانب آخر فان نهوض الإمام(عليه السلام) بالأمر قد لا تبدو فيه بارقة أمل بالنصر بفعل غياب العدّة والعدد من أنصار الحق، ولعل قيام الإمام(عليه السلام) بالأمر لا يفسر من أغلب الجهال كانتصار للدين والعقيدة بل يعزوه إلى قضايا شخصية محضة.
غير أنّ الخسائر التي تكبدها المسلمون على مرور الزمان إثر انحراف مسار الخلافة عن محورها قد صورها الإمام(عليه السلام)بمثابة القذى في العين والشجا في الحلق. وهذا درس كبير لكافة المسلمين على مدى التاريخ وهو أنّ إحقاق الحق إذا استلزم توجيه ضربة إلى دعائم الدين وجب التحفظ عنه وعدم المبادرة إليه، لان حفظ الدين مقدم عى كل ماسواه، وليس هنالك من سبيل في مثل هذه الحالة سوى التحلي بالصبر والتحمل. وقد ورد شبيه هذا المعنى في الخطبة رقم60 حيث قال(عليه السلام): «فنظرت فاذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي... وأغضيت على القذى وشربت على الشجى».
1. سيرة ابن هشام 4 / 316.
لقد قال الإمام(عليه السلام): «أرى تراثي نهبا» وهنا يبرز هذا السؤال: لم عبر الإمام(عليه السلام)عن الخلافة بالارث؟!
و تتضح الإجابة على هذا السؤال من خلال الالتفات إلى هذه النقطة وهى أنّ الخلافة إرث معنوي وإلهي ينتقل من النبي (صلى الله عليه وآله)إلى أوصيائه المعصومين(عليه السلام) فهو ليس من قبيل الارث الشخصي والمادي والحكومة الظاهرية. وقد ورد شبيه هذا المعنى في الآيات القرآنية بشأن «زكريا» الذي سأل الله من يرثه ويرث آل يعقوب (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)(1).
و الحق أنّ هذا الارث يتعلق بجميع الاُمّة إلاّ أنّ الإمام خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي ينهض به. ونقرأ بشأن وراثة الكتاب السماوي: (ثُمَّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِـبادِنا)(2).
وعلى غرار ذلك ورد الحديث النبوي المشهور «العلماء ورثة الأنبياء»(3).
وشاهدنا على مامرّ معنا سيرة الإمام(عليه السلام) وحياته التي أفادت عدم تعلقه من قريب أو بعيد بمال الدنيا وحطامها والخلافة ـ إلاّ أنّ ينهض بوظيفته في إحقاق حق أو ازهاق باطل ـ التي لم تكن تعدل عنده عفطة عنز أو قيمة نعليه. لكن والحال هذه كيف يصف صبره على فقدان الخلافة بالقذى في العين والشجى في الحلق؟ لقد ذهب البعض إلى أنّ مراده بالثراث المنهوب هو فدك التي ورثها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنته الزهراء(عليه السلام)، وقد اعتبر ذلك أرثه لمال الزوجة بحكم مال الزوج(4)، غير أنّ هذا الاحتمال ييدو مستبعدا لأنّ الخطبة بجميع مضامينها تعالج قضية الخلافة.
لا أحد يسعه إنكار الخسائر الفادحة التي تكبدها العالم الإسلامي إثر إقصاء علي(عليه السلام)
1. سورة مريم / 5 ـ 6.
2. سورة فاطر / 32.
3. اصول الكافي 1 / 32ـ34.
4. منهاج البراعة 3 / 45.
وجلوسه في داره، فلو قصرنا نظرنا على البعد العلمي حين تصفحنا لنهج البلاغة الذي يمثل جزءا من خطبه ورسائله وكلماته القصار التي أوردها خلال تلك المدّة القصيرة من حكومته رغم ما انطوت عليه من أحداث مريرة وحروب دامية، لا كتشفنا بيسر مدى العلوم والمعارف والخيرات والبركات التي كانت ستعم العالم الإسلامي بل الدنيا برمتها لولا تلك المدّة المديدة ـ 25 سنة ـ التي اضطر فيها الإمام(عليه السلام) للجلوس في بيته. لا شك أنّ حرمان المجتمع من فيوض الإمام(عليه السلام) قد جر عليها الويلات والدمار. ولكن ما العمل يا ترى وقد سلبت الأمة هذا الفيض العظيم لتبدو خسائره واضحة على مدى التأريخ.
يتساءل البعض: ألم يكن من الأفضل أن يسدل الإمام(عليه السلام) الستار على الماضي ولا يتطرق إلى مسألة الخلافة; الأمر الذي قد يثير الفرقة والتشتت في صفوف المسلمين ويشق وحدتهم؟
و لا عجب فاننا نرى اليوم البعض ممن يردد هذا الكلاح، فما أن تطرح قضية الخلافة وأنّ الإمام أحق بها واولى من غيره حتى تتعالى الأصوات مطالبة بالصمت ونسيان الماضي تحت ذريعة الحفاظ على الوحدة الإسلامية وأننا نواجه اليوم أعداء الإسلام والمخاطر الكبرى ومن شأن إثارة هذه الأحاديث أن تضعف المسلمين في مجابهة أعدائهم; بل هل من جدوى لمثل هذه الأحاديث والحال أن أتباع كل مذهب يواصلون مسيرتهم دون الإكتراث لهذا الصوت أو ذاك، وعليه فمن المستبعد أن تلعب هذه الاُمور أي دور على مستوى إخوة المسلمين ووحدتهم.
وللإجابة على هذا التساؤل لابدّ من التذكير بأمرين:
أ ـ إنّ الوقائع الموجودة لا يمكنها إخفاء الحقائق البتة. فهذه حقيقة قائمة وهى أنّ النبي(صلى الله عليه وآله). قد أكد في أكثر من مناسبة على إستخلافه. فما الذي حدث لتشوه هذه الحقيقة وينصح بعدم إثارتها بعد تأكيدها من قبل النبي(صلى الله عليه وآله) وبناءاً على ما تقدم فانّ علياً(عليه السلام)الذي يتبنى الحق حيثما كان له الحق في التصدي للوقائع القائمة التي لا تنسجم والحقيقة، فيتعرض للحقائق المرتبطة بالخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)ليتسنى للمحققين أن يصدروا أحكامهم بهذا الشأن ولو بعد
قرون مديدة ليعرفوا الحق وأهله والباطل وأهله فيسلكوا سبيل الحق على ضوء دراساتهم وتحقيقاتهم. على كل حال لا يمكن منع إنسان عن بيان الحقيقة، ولو افترضنا قدرتنا على ذلك فاننا لا نمتلك الحق في منعه، لما يتضمته المنع من خسائر فادحة، وذلك لأن الواقع القائم غالبا ما يختلف والحقيقة وقد يبتعد عنها مسافة شاسعة. فالوضع القائم لا يعني أبداً أن يكون هو السائد على الدوام حيث يلهمنا الإسلام أن نسعى لا قتفاء ما ينبغي أن يكون، وممّا لا شك فيه أنّ مسألة الخلافة والامامة بعد النبي(صلى الله عليه وآله)لمن المباحث الدينية الرئيسية; سواء كانت جزءاً من أصول الدين كما يعتقد بذلك أتباع مدرسة أهل البيت(عليه السلام)، أو جزءاً من فروع الدين. مهما كان فهى مسألة مصيرية من وجهة النظر الدينية ولا تنطوي على أية صيغة شخصية،خلافاً لما يزعمه البعض من الجهال والغافلين فهى ليست مبحثاً تأريخياً يتعلق بالماضي قد أكل عليه الدهر وشرب; بل هى قضية تنطوي على عدّة معطيات مؤثرة في حاضر المسلمين ومستقبلهم، كما لا يخفى أثرها في العديد من المسائل الإسلامية المرتبطة باُصول الدين وفروعه; وهذا هو الأمر الذي يقف وراء إثارة الإمام(عليه السلام)لمسألة الخلافة كراراً ومراراً.
ب ـ إنّ الأبحاث العقيمة والجدل الفارغ القائم على أساس التعصب والجمود هى التي تشكل الخطر الأساس على وحدة الاُمّة الإسلامية وشق صفوفها; أمّا الأبحاث العلمية والمنطقية التي يراعي فيها أطراف الحوار والبحث الحدود والموازين العلمية والمنطقية فليست بذات خطر على الوحدة الإسلامية فحسب، بل من شأنها أن تساعد في إرسائها وتوثيق دعائمها. طبعا هذا ليس ضربا من الخيال الفكري بل عشناه على مستوى الواقع والتجربة. فقد أقيمت أخيراً ندوة في إحدى المدن بمناسبة أسبوع الوحدة حضرها كبار العلماء والمفكرين من الفريقين نوقشت خلالها أغلب القضايا الخلافية وقد تمخضت عن عدّة نتائج طيبة حيث قربت وجهات النظر وضغطت حدة الخلافات، بما جعل الجميع يوقنون بأنّ مثل هذه الأبحاث والحوارات يمكنها أن تقضي على الفجوة بين المذاهب الإسلامية وتوطيد أواصر الاخوة بما يخدم وحدة المسلمين(1).
1. انظر مجلة رسالة الحوزة للوقوف على المباحث المهمّة التي طرحت في تلك الندوةو التقارب الذي حصل بين الأفراد.
بل أبعد من ذلك أننا نرى الحوار بشأن الأديان السماوية هو الآخر من شأنه أن يتمخض عن نتائج مفيدة بما يقلل من هوة الخلاف، وليعلم أولئك الذين يقفون بوجه هذه الحوارات البناءة أنّهم يساهمون بشكل أو بآخر في مضاعفة الخلافات وتعميق الفجوة بين الأديان والمذاهب.
—–
حَتَّى مَضَى الاَْوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلان بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الاَْعْشَى:
«شَتّانَ ما يَوْمِي عَلَى كُورِها *** وَ يَوْمُ حَيّانَ أَخِي جابِرِ
فَيا عَجَباً!! بَيْنا هُوَ يَسْتَقِيلُها فِي حَياتِهِ إِذْ عَقَدَها لاِخَرَ بَعْدَ وَفاتِهِ ـ لَشَدَّ ما تَشَطَّرا ضَرْعَيْها ـ فَصَيَّرَها فِي حَوْزَة خَشْناءَ يَغْلُظُ كَلْمُها، وَيَخْشُنُ مَسُّها وَيَكْثُرُ الْعِثارُ فِيها وَالاِعْتِذارُ مِنْها، فَصاحِبُها كَراكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَها خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَها تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النّاسُ ـ لَعَمْرُ اللّهِ ـ بِخَبْط وَشِماس، وَتَلَوُّن وَاعْتِراض فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ».
—–
الشرح والتفسير
أشار الإمام علي(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة إلى عهد الخليفة الثاني فقال: «حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده».(1) أدلى من مادة دلو وهى تستعمل في سحب الماء من البئر بالحبل والدلو كما تستعمل بمعنى الجائزة والاُجرة والرشوة في الحكم، فقد قال القرآن بهذا المجال: (وَتُدْلُوا بِها إِلى الحُكّامِ)(2).
قال ابن أبي الحديد المعتزلي: وعمر هو الذي شد بيعة أبي بكر، ورغم المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لما جرده، ودفع في صدر المقداد، ووطىء في السقيفة سعد بن عبادة، وقال: اقتلوا
1. توفي في العام الثالث عشر من الهجرة بعد أن تولى الخلافة لمدة سنتين وثلاثة أشهر. «مروج الذهب 2/304 الطبعة الرابعة».
2. سورة بقرة / 188.
سعداً، قتل الله سعداً. وحطم أنف الخباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة: أنا جذيلها المحك، و غذيقها المرجب.
و توعد من لجأ إلى دار فاطمة(عليه السلام) من الها شميين، وأخرجهم منها، ولولاه لما يثبت لأبي بكر أمر، ولا قامت له قائمة(1).
و من هنا تتضح روعة تعبيره(عليه السلام) بأدلى، ثم تمثل بقول الأعشى:
شتان ما يومي على كورها *** ويوم حيان أخى جابر(2)
حيث أراد الإمام(عليه السلام) أن يقول كنت أقرب الناس من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأعظمهم منزلة وحرمة بل كنت نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)غير أنّهم أقصوني بعده وأخذوا يتلاقفون الخلافة التي لا تصلح إلاّ لي فيرمون بها لمن يشاؤون.
وذهب البعض إلى أنّه أراد أن يقارن بين خلافته ـ من تمثله بهذا الشعر ـ وخلافة من سبقوه ممن كانوا في نعمة ورخاء بينما حفل عهده لا بتعاده عن عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله)بالويلات و المصائب «بالطبع هذا إذا كان الأعشى أراد مقارنة حاله بحال حيان».(3)
ثم يعبّر الإمام(عليه السلام) عن اندهاشه وذهوله لما يحصل «فيا عجبا!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لاخر بعد وفاته».
الواقع هو أنّ هذه إلعبارة إشارة إلى حديث معروف نقل عن أبي بكر خاطب به الناس أوائل خلافته حيث قال: «أقيلوني فلست بخير كم». ورواه البعض الآخر «و ليتكم ولست بخيركم».(4)
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 174.
2. الأعشى من أبرز شعراء الجاهلية. سئل يونس النحوي: من أشعر الشعراء؟ قال: لا أعلم أشعر هم إلاّ أني أقول إمرء القيس فارسا والنابغة حين الخوف وزهير عند الحب وإلاّ عشى عند الطرب، أدرك الإسلام ولم يسلم، لقب بالاعشى لضعف بصره وقد عمي آخر عمره واسمه ميمون بن قيس، وأراد بشعره السابق الزمان الذي كان يجالس فيه حيان أخو جابر أحد أشراف اليمامة حين كان يعيش الأعشى آنذاك في نعمة موفورة فيقارنها مع عيشه الآن في صحاري مكة والمدينة فيقول أين تلك الحياة من هذه!
3. شرح ابن ميثم البحراني 1 / 257.
4. لقد استفاضت مصادر الفريقين التي روت هذا الحديث، وقد أورده إبن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة، 1 / 169.
و صرّح العالم المصري الكبير الشيخ محمد عبده في شرحه لنهج البلاغة قائلا: روى البعض أنّ أبابكر لما تمت له البيعة قال:«أقيلوني فلست بخيركم» لكن أغلب العلماء رو وا الحديث أنّه قال:«و ليتكم ولست بخيركم» (شرح نهج البلاغة لمحمد عبده، ص 86 ذيل هذه الخطبة). وجاء في حاشية إحقاق الحق عن ابن حسنويه المحدث الحنفي الموصلي في كتابه «در بحر المناقب» حديثا مفصلا أنّ أبابكر قال:«أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم» (إحقاق الحق 8 / 240). وروى الطبري في تأريخه لما بويع أبي بكر في السقيفة قال:«أيّها الناس فانّي قد وليت عليكم ولست بخيركم» (تأريخ الطبري 2 / 450 طبع بيروت مؤسسة الأعلمي). وروى ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة أنّ أبابكر خطب الناس باكياً فقال:«لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني بيعتي» (الإمامة والسياسة 1 / 20).
و كيفا كان مضمون الرواية فهى تشير إلى عدم رغبته بقبول الخلافة أو كما ذهب البعض لم يكن يكترث لها أو أنّه لم يكن يرى نفسه جديراً بالخلافة مع وجود علي(عليه السلام)، ورغم ذلك فانّ هذا الكلام لا ينسجم وما فعله أواخر عمره; الأمر الذي أثار دهشة الإمام(عليه السلام) في كيفية تفويض الخلافة دون الرجوع إلى آراء الاُمّة: ثم قال(عليه السلام) «لشدّ ما تشطر ضرعيها» الضرع بمعنى الثدي وتشطرا من مادة شطر بمعنى جزء من الشيء .
فالعبارة تشبيه رائع بالنسبة للافراد الذي يستفيدون من شيء على وجه التناوب فالمراد بتشطر ضرعيها: إنّهما إقتسما فائدتها ونفعها، والضمير للخلافة، وسمى القادمين معاً ضرعاً وسمى الآخرين معاً ضرعا لما كان لتجاورهما، ولكونها لا يحلبان إلاّ معاً، كشيء واحد فالعبارة بصورة عامة تشير إلى مشروع معد ومبرمج مسبقاً ولم يكن من قبيل الصدفة أبداً.
لقد قال البعض بأنّ أبابكر قال: أقيلوني فلست بخيركم، وقد ورد مثل هذا الكلام عن علي(عليه السلام) في نهج البلاغة بعد مقتل عثمان حيث قال: «دعوني والتمسوا غيري... وان تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزيراً خيراً لكم منى أميراً» فما تقولون؟
للرد على ذلك نقول لابن أبي الحديد كلام بهذا الشأن ولنا كلام، فقد قال ابن أبي الحديد: قالت الإمامية هذا غير لازم والفرق بين الموضعين ظاهر لأنّ علياً(عليه السلام) لم يقل: إنّي لا أصلح، ولكنه كره الفتنة، وأبوبكر قال كلاماً معناه: إنّي لا أصلح لها، لقوله «لست بخيركم»، ومن نفى
عن نفسه صلاحيته للإمامة، لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره ـ واعلم أنّ الكلام في هذا الموضع مبني على أن الأفضلية هل هى شرط في الإمامة أم لا؟ (في إشارة إلى أنّه يمكن القول بعدم اشتراط الأفضلية في الإمامة; الكلام الذي لا يقره أي منطق وعقل ولا يدعو سوى الخجل»(1).
إلاّ أنّنا نرى القضية أعمق من ذلك. فلو تأملنا الخطبة رقم 92 التي استدلوا بها والتفتنا إلى بعض عباراتها التي لم يستشهد بها عند الاستدلال لا تضح لنا تماماً مراد الإمام(عليه السلام). فقد صرّح ضمن الخطبة المذكورة قائلا: «فأنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول» (إشارة إلى مدى التغييرات التي طالت الأحكام الشرعية والتعاليم النبوية،عليه فلابدّ لي من القيام ببعض الإصلاحات الثورية والتي ستودي لاعتراض البعضى منكم وبالتالي نشوب المواجهة).
ثم أضاف(عليه السلام): «و ان الافاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت»، ثم يشير(عليه السلام) إلى كبد الحقيقة فيقول: «و اعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب».
أمّا الشاهد على أنّ الإمام(عليه السلام) يرى وجوب الأفضلية كشرط في الخلافة ما أورده(عليه السلام) في الخطبة 173 من نهج البلاغة إذ قال (عليه السلام): «أيّها الناس إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و أعلمهم بأمر الله فيه».(2) ونخلص ممّا سبق إلى أنّ المقارنة بين كلام الإمام علي(عليه السلام) وأبي بكر هو «قياس مع الفارق» لانعدام أي تشابه بين الكلامين.
و نختتم هذا الكلام بما أورده إبن أبي الحديد حين حاول تبرير حديث الخليفة الأول حيث قال: واحتج بذلك من لم يشترط الأفضلية في الإمامة.
و من رواها إعتذر لأبي بكر فقال: إنّما قال: أقيلوني، ليثور ما في نفوس الناس من بيعته، ويخبر ما عندهم من ولايته، فيعلم مريدهم وكارههم، ومحبهم ومبغضهم. فلما رأى النفوس إليه ساكنة، والقلوب لبيعته مذعنة، استمر على امارته، وحكم حكم الخلفاء في رعيته، ولم
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 169.
2. نهج البلاغة، خطبة 173.
يكن منكراً منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته(1).
و لا يخفى على أحد خواء هده التبريرات، لأنّ إعتراف كل فرد ينبغي أن يحمل على معناه الواقعي، وصرف اللفظ عن معناه الحقيقي إنّما يحتاج إلى قرينة ليست متوفرة هنا. بعبارة اُخرى إنّ هذا الاعتراف قانوني يؤخذ به في كل محكمة وليس من عذر لهذا الاعتراف فهو إقرار جائز عقلائياً.
ثم يصف الإمام(عليه السلام) شخصية الخليفة الثاني وما انطوت عليه من خصائص ومميزات فقال(عليه السلام): «فصيرها في حوزة(2) خشتاء يغلظ كلمها(3) ويخشن مسها ويكثر العثار(4)فيها،الاعتذار منها»
المراد بالحوزة هنا أخلاق الخليفة الثاني وصفاته فالواقع قد ذكر له أربعة صفات، الاولى خشونته وعنفه التي عبر عنها بقوله «يغلظ كلمها» في إشارة إلى الجروح الروحية والجسمية التي يفرزها الاصطدام به. الصفة الثانية الشدة في التعامل «و يخشن مسها» وعليه فالحوزة الخشناء قد فسرت بالعبارتين اللاحقتين التين أشارتا إلى العنف في الكلام والعنف في المعاملة. الصفة الثالثة هى كثرة الأخطاء والرابعة الاعتذار من تلك الأخطاء «و يكثر العثار فيها الاعتذار منها».
أمّا بشأن كثرة أخطاء الخليفة الثاني ولا سيما أخطائه في بيان الأحكام واقراره بتلك الأخطاء والاعتذار منها والعنف في المعاملة فقد حفلت بها السير التاريخية بل أفرد لها علماء العامة عدداً من الكتب وسنكتفي لاحقا بالإشارة إلى نماذج منها.
ثم قال(عليه السلام): «فصاحبها كراكب الصعبة(5) إن أشنق(6) لها خرم(7) وإن أسلس(8) لها تقحم(9)».
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 169.
2. «حوزة» بمعنى الناحية والطبيعة، من مادة «حيازة» بمعنى الجمع والاحاطة.
3. «الكلم» في الأصل بمعنى الجرح، واطلق لفظ الكلام لاثره القاطع في المقابل.
4. «العثار» بمعنى السقوط والكبوة.
5. «الصعبة» بمعنى الإنسان أو الحيوان الطائش، ما ليست بذلول واُريد بالصعبة هنا الناقة الجامحة.
6. «أشنق» بمعنى سحب زمام الناقة و«شناق» على وزن كتاب يطلق على الحبل الذي تربط به القربة.
7. «خرم» من مادة «خرم» بمعنى القطع.
8. «أسلس من» مادة «سلس» على وزن قضص وسلاسة بمعنى السهولة وعليه فان أسلس بمعنى أرخى.
9. «تقحم» من مادة «قحوم» على وزن شعور بمعنى رمي النفس في الهلكة دون إجالة الفكر.
فالإمام(عليه السلام)يشرح بهذه العبارة حاله وحال فريق من المؤمنين على عهد خلافة الخليفة الثاني، بحيث إذا أراد أحدهم أن يصطدم بالخليفة ـ واستناداً إلى صفاته المذكورة سابقاً ـ فقد يؤدي ذلك إلى بروز الاختلافات والمشاجرات بين أوساط المسلمين أو الاخطار التي سيتعرض إليها من جانب الخليفة، واِن فضل الصمت برزت الاخطار التي تهدد الكيان الإسلامي والخلافة الإسلامية، فالواقع هناك خطران لا ينفصلان: خطر الاصطدام بالخليفة خطر فقدان المصالح الإسلامية ولهذا يشكو الإمام(عليه السلام) ما ألم به وبالمومنين آنذاك يعرض للمشاكل المتفاقمة التي أصابت المسلمين.
كما إحتمل بعضى شرّاح نهج البلاغة أنّ الضمير في (صاحبها) يعود إلى مطلق الخلافة; أي أنّ طبيعة الخلافة تختزن دائما أحد هذين الخطرين، فلو أراد الحاكم ـ الخليفة ـ أن يتعامل بخرم مع كل شيء كانت هنالك ردود الفعل الحادة والعنيفة، ولو أراد التعامل على أساس الرفق واللين برز خطر السقوط في وادي الانحراف والخطا وزوال القيم الإسلامية. لكن تشير القرائن إلاّ أنّ المعنى الأول هو المراد بالعبارة وهذا ما يتضح بجلاء من خلال التأمل في العبارات اللاحقة(1). ثم قال (عليه السلام): «فمني(2) الناس لعمر الله بخبط(3) وشماس(4) وتلون(5) و اعتراض(6)».
فقد تضمنت العبارة إشارة إلى أربع ظواهر نفسية للاُمّة في عهد الخليفة الثاني كأنّها تقتبس من رئيس الحكومة، لانّ لسلوك الحاكم إنعكاس واسع على نفوس أبناء الاُمّة وقد قيل سابقاً «الناس على دين ملوكهم».
الاولى: أنّ أتشطتهم وقراراتهم الطائشة سبب ظهور الفوضى في المجتمع.
الثانية: أنّهم خارجون على القوانين الشرعية والنظم الاجتماعية.
1. هنالك إحتمال ثالث ذكرهنا في أنّ المراد الخلافة على عهد الإمام علي(عليه السلام)، حيث شهدت الأوضاع بروز خطرين، ويبدو هذا الاحتمال مستبعداً.
2. «منى» من مادة «منو» بمعنى ابتلي واصيب.
3. «خبط» بمعنى «ضرب» الناقة للأرض، واريد بها السير على غير هدى.
4. «شماس» بمعنى الاباء والطيش (إباء ظهر الفرس عن الركوب).
5. «تلون» بمعنى تغيير الحال أو اللون.
6. «إعتراض» بمعنى السير على غير خط مستقيم، كأنّه يسير عرضاً في حال سيره طولاً.
الثالثة: التلون المستمر وركوب الموجة والتخبط والانسلاخ من فئة والالتحاق باُخرى وعدم امتلاك الهدف المعين في الحياة.
الرابعة: الانحراف عن مسار الحق والسير على سبيل غير الهدى.
و ممّا لا شك فيه ـ وكما سنتعرض إلى ذلك بالتفصيل لاحقا ـ أنّ السياسة الخارجية في عصر الخليفة الثاني والفتوحات الإسلامية والامتداد خارج الحجاز قد خلقت ذهنية للناس بشأن شكل الحكومة في أنّها موفقة على جميع الأصعدة فيقل إهتمامهم بالمشاكل الداخلية التي يعاني منها المجتمع الإسلامي، والحال كما أشار الإمام(عليه السلام)في هذه العبارات أنّ طائفة من المسلمين قد شهدت حالة من التخبط على مستوى العقائد والعمل والقضايا الأخلاقية والابتعاد تدريجياً عن الإسلام الأصيل بفعل الأخطاء والاجتهادات في مقابل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية; الأمر الذي أدى في خاتمة المطاف إلى تلك الثورة العارمة على الخليفة الثالث وبما مهد السبيل أمام ظهور الحكومة الاستبدادية في العصر الأُموي والعباسي التي تفتقر لادنى شبه بالحكومة الإسلامية على عهد النبي(صلى الله عليه وآله).
والمفروغ منه أنّ هذه الحالة العشوائية لم تكن وليدة ساعتها، بل ظهرت إثر تصاعد حدة الأخطاء المتواصلة طيلة عصر الخلافة. ثم قال الإمام(عليه السلام): «فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة».
فقد عانى(عليه السلام) من ذات الظروف والتحمل التي كانت أبان عهد الخليفة الأول، غير أنّ المحنة التي عاناها الإمام(عليه السلام)كانت أشد وأعظم بفعل تلك الظروف الاقهر والمدة الأطول.
قال بعض شرّاح نهج البلاغة إنّ الإمام(عليه السلام) أشار إلى قضيتين كان لهما الأثر البالغ في إستياء الإمام(عليه السلام): الاولى ازدياد مدّة الابتعاد عن محور الخلافة، والثانية الاستياء والتذمر الذي أفرزته ظاهرة انشقاق الخلافة عن مسارها الأصلي في عدم سيادة النظم الصحيحة بالنسبة لشؤون الناس الدينية. لكن على كل حال فقد كانت هناك المصالح المهمّة التي تتطلب سكوت الإمام(عليه السلام) والتضحية بالاُمور الثانوية من أجل الأهداف الاسمى. فقد استمر هذا الوضع حتى إنتهى عصر الخليفة الثاني.
لقد اُلفت عدّة كتب ـ سواء كتب الحديث والتاريخ ـ من قبل علماء العامة بشأن الخليفة الثاني ولا سيما إبان خلافته التي تكشف عن مدى دقة عبارات الإمام(عليه السلام) في وصف خصائصه.و ممّا لا شك فيه أنّ خروقاته في هذا المجال كثيرة نكتفي ببعضى نماذجها:
1ـ روى المرحوم العلاّمة الأميني في المجلد السادس من كتاب الغدير عن مصادر العامة المعروفة من قبيل سنن الدارمي وتأريخ ابن عساكر وتفسير ابن كثير واتقان السيوطي والدر المنثور وفتح البارىء عدّة قصص مروعة بشأن الخليفة الثاني والرجل الذي يدعى «صبيغ العراقي». فالذي تفيده السير التاريخية أنّه كان رجل بحاثة كثيرا ما يسأل عن الآيات القرآنية، غير أنّ عمر كان يجابهه بكل عنف بما يدعو للدهشة والعجب ومن ذلك.
![]() |
![]() |