![]() |
![]() |
الرجل وعليه ثياب وعمامة صفدي حتى إذا فرغ قال: يا اميرالمؤمنين والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فقال عمر أنت هو؟ فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك ألبسوه ثياباً واحملوه على قتب وأخرجوه حتى تقدموا به بلاده ثم ليقم خطيب ثم يقول: إن صبيغاً ابتغى العلم فأخطأ فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك وكان سيد قومه.(1) وأول من ضرب عمر بالدّرة أم فروة بنت أبى قحافة، مات أبوبكر فناح النساء عليه، وفيهنّ أخته أم فروة، فنهاهنّ عمر مراراً، وهنّ يعاودن، فأخرج أمّ فروة من بينهن،وعلاها بالدّرة، فهربن وتفرّقن.
كان يقال: درّة عمر أهيب من سيف الحجاج. وفي الصحيح أنّ نسوةً كنّ عند رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد كثر لغطهنَّ، فجاء عمر فهربْنَ هيبة له، فقال لهنّ: يا عُديّات أنفسهن! أتَهبْنَني ولا تهبنَ رسول الله! قلن: نعم، أنت أغلظ وأفظ.(2)
قال ابن أبي الحديد: ومرّ يوماً بشابّ من فتيان الأنصار وهو ظمآن، فاستسقاه، فجدع له ماء بعسل فلم يشربه، وقال: إنّ الله تعالى يقول: (أَذهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا)فقال له الفتى: يا أمير المؤمنين، إنّها ليست لك ولا لأحد من هذه القبيلة، اقرأ ما قبلها: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ أَذهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) فقال عمر: كلّ الناس أفقه من عمر!
وقيل: إنّ عمر كان يعس بالليل، فسمع صوت رجل وامرأة في بيت، فارتاب فتسوّر الحائط، فوجد امرأة ورجلاً، وعندهما زقّ خمر، فقال: يا عدوّ الله، أكنت ترى أنّ اللّه يسترك وأنت على معصيته! قال: يا أميرالمؤمنين، إن كنت أخطأت في واحدة فقط أخطأت في ثلاث، قال اللّه تعالى: (ولا تَجَسَّوا)، وقد تجسَّت. وقال: (وأُتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها)، وقد تسوّرت، وقال: (فإذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا)، وما سلّمت!(3)
1. الغدير 6 / 290.
2. شرح نهج بلاغة لإبن أبي الحديد 1 / 181.
3. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 182.
وأخرج الحافظان الدراقطني وابن عساكر: إن رجلين أتيا عمر بن الخطاب وسألاه عن طلاق الاُمّة فقام معهما فمش حتى أتى حلقة في المسجد فيها رجل أصلع فقال: أيّها الأصلع! ما ترى في طلاق الاُمّة؟ فرفع إليه رأسه ثم أومىء إليه بالسبابة والوسطى فقال لهما عمر: تطليقتان، فقال أحدهما: سبحان الله جئناك وأنت أميرالمؤمنين فمشيت معنا حتى وقفت على هذا الرجل فسألته فرضيت منه أن أومىء إليك، وأتي عمر بن الخطاب بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها فتلقاها علي فقال: ما بال هذه؟ فقالوا: أمر عمر برجمها فردها علي وقال: قد كان ذلك. قال أو ما سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: لاحد على معترف بعد بلاء، أنّه من قيد أو حبس أو تهدد فلا إقرار له، فخلا سبيلها ثم قال: عجزت النساء أن تلدن مثل علي بن أبي طالب، لولا علي لهلك عمر. وأخرج ابن مبارك قال: حدثنا الأشعث عن الشعبي عن مسروق قال: بلغ عمر أنّ امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدّتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال: لا ينكحها أبداً وجعل الصداق في بيت المال وفشا ذلك بين الناس فبلغ علياً كرم الله وجهه فقال: ما بال الصداق وبيت المال؟ إنّهما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة قيل: فما تقول أنت فيها؟ قال لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما، ولا جلد عليهما، وتكمل عدّتها من الأول ثم تكمل العدّة من الآخر، ثم يكون خاطباً. فبلغ ذلك عمر فقال: يا أيّها الناس ردوا الجهالات إلى السنة.(1)
لعل الصورة التي رسمها الإمام(عليه السلام) في الخطبة عن مشاكل المسلمين والفوضى التي سادتهم على عهد الخيلفة الثاني تتنافى والذهنية السائدة لدى البعض في أن عهده كان مشرقاً حافلاً بالانتصارات والمكتسبات; الأمر الذي يثير السؤال الآتي: كيف يمكن التوفيق بين تلك الصورة والوقائع التي عكسها التاريخ الإسلامي؟
و الالتفات إلى هذه القضية من شأنه أن يقدم الجواب الشافي لهذا السؤال، فما لا شك فيه ـ
1. الغدير 6 / 110.
كما أشرنا سابقاًـ أنّ عهد الخليفة الثاني كان عصر الانتصارات والفتوحات على صعيد السياسة الخارجية للبلاد; لانّ المسلمين وعلى ضوء التعاليم الإسلامية والآيات القرآنية التي تدعو إلى الجهاد قد مارسوا هذه الفريضة بشكل واسع بحيث لم تمض مدّة حتى حققوا الفتوحات الإسلامية الباهرة خارج البلاد الإسلامية فتم لهم نيل ما لا يحصى من الغنائم المادية، الأمر الذي جعل هذه الفتوحات تغطي على ضعف الجبهة الداخلية والفوضى التي كانت سائدة آنذاك، وهو المعنى الذي نلمسه اليوم بوضوح في السياسة المتبعة في العصر الراهن، فقد يؤدي الانتصار الذي تحرزه الدولة على صعيد السياسة الخارجية إلى التغطية على كل شيء ولا سيما المشاكل والمعضلات التي تعيشها على مستوى الداخل، ومن هنا نرى ساسة الاستكبار الذين يحاولون التغطية على مشاكلهم الداخلية باخماد فورتها من خلال اللجوء إلى عدّة أنشطة ـ بما فيها شن الحروب ـ خارجية.
وزبدة الكلام فانّ الإمام(عليه السلام) إنّما تحدث عن مدى العنف والاضطهاد والأخطاء الفادحة وسعة حجم المشاكل الداخلية إبان عهد الخليفة الثاني; الأمر الذي تم التعامل معه بمعزل عن مسألة الفتوحات.
—–
«حَتَّى إِذا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَها فِي جَماعَة زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيا لَلَّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الاَْوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طارُوا: فَصَغا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَمالَ الاْخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَن وَهَن، إِلَى أَنْ قامَ ثالِثُ الْقَوْمِ نافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مالَ اللّهِ خِضْمَةَ الاِْبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ».
—–
الشرح والتفسير
أشار الإمام(عليه السلام) ـ في هذا القسم من خطبته ـ إلى انتهاء عصر الخليفة الثاني والأحداث التي مهدت السبيل أمام عثمان للاستيلاء على الخلافة بعد أن أماط اللثام عن التفاصيل التاريخية والأسرار التي إنطوت عليها هذه القضية ويعلن موقفه من ذلك، ثم عرج على المشاكل والفتن التي عاشتها الاُمّة الإسلامية على عهد عثمان والانتفاضة الشعبية العارمة التي أدت إلى قتله بعبارات مقتضبة عميقة المعنى من خلال الكنايات والاستعارات والتشبيهات البلاغية الرائعة التي طبعت كلماته وخطبه(عليه السلام).
فقد قال(عليه السلام): «حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم».
و لعل قوله(عليه السلام) «زعم أني أحدهم» تشير إلى معنيين: الأول: أنّه جعلني ظاهرياً أحد أعضاء هذه الشورى بينما كان يعلم باطنياً بالنتيجة التي ستتمخض عنها ومن يفوز بالأمر.
الثاني: أنّه أراد أن يجعلني ظاهرياً في مصاف هؤلاء الخمسة، والحال كان يعلم باطنياً عدم إمكانية مقارنتي بأي منهم(1).
و العبارة تشير إلى الزمان الذي جرح فيه عمر جرحاً بليغاً من قبل ذلك الرجل الذي يدعى فيروز والمكنى بأبي لؤلؤة بعد أن رأى نفسه على فراش الموت. فقد حضره جمع من الصحابة وأشاروا عليه باستخلاف من يرضاه، فما كان منه إلاّ أن خطب خطبة ـ سنشير إلى مضامينها لاحقاً ـ واقترح الشورى وهم:
علي(عليه السلام) وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، على أن يجتمعوا لثلاثة أيام ويختاروا من بينهم الخليفة، فاجتمعوا لتتمخض نتيجة الاجتماع عن إختيار عثمان.
فقد أشار الإمام(عليه السلام) إلى هذه الشورى قائلا: «فيالله وللشورى»(2)، ثم يتطرق(عليه السلام) إلى اولى نقاط ضعف هذه الشورى وهى أنّه متى كان هناك من شك وترديد في أرجحيته على الخليفة الأول فضلا عن إقترانه بهذه النظائر «متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت اُقرن إلى هذه النظائر». فالعبارة تكشف عن قمة أسى الإمام(عليه السلام)على هضم الحقوق الذي تعرض له، ويشير إلى حقيقة وهى أنّهم ينبغي أن يختاروني لو أخذوا بنظر الاعتبار استحقاق الخلافة والجدارة والأحقية بها.
غير أنّ المؤسف له أنّه كانت هناك أهداف اُخرى أدت إلى جعل من كان بمنزلة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه والعالم بالكتاب والسنة والعارف بأسرار المسائل الإسلامية وبطل التوحيد الذي تربى في حجر النبي (صلى الله عليه وآله) في مصاف عبدالرحمن بن عوف وسعد بن وقاص وامثالهما.
ثم أضاف(عليه السلام): «لكني اسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا»(3) قالواقع هذه كناية بشأن
1. ورد في مقاييس اللغة أن «الزعم» عبارة عن الكلام الذي لا واقعية له وصاحبه ليس متأكداً منه.
2. اللام في لفظ الجلالة مفتوحة للاستغاثة واللام في الشورى مكسورة وللمستغاث منه.
3. «أسففت» من مادة «إسفاف» بمعنى إقتراب شيء من آخر ويستعمل هذا اللفظ في الطائر إذا دنا من الأرض، كما يستعمل في نسج الحصير لان خيوطه تقترب من بعضها البعض الآخر، كما وردت بمعنى شدة النظر (راجع مقاييس اللغة ولسان العرب).
الطيور التي تطير عى هيئة اُسراب فتحلق أحيانا وتنخضض اُخرى إلى الأرض وفي الحركتين تكون معاً. ومن الواضح أنّ الأوضاع المزرية في زمان الخلفاء ـ لا سيما إذا ابعد الخليفة وأقصي ـ تتطلب الابتعاد عن كافة أشكال الفرقة والتشتت حذراً من إستغلالها من قبل خصوم الدعوة والتأهب للاجهاض عليها. هنالك إحتمال آخر أيضا بشأن تفسير هذه العبارة في أنّ مراده منها: أني أدور حيث مدار الحق والهث خلفه لكني طلبت الأمر وهو موسوم بالاصاغر منهم، كما طلبته أولاً وهو موسوم بأكابرهم، أي هو حقي فلا أستنكف من طلبه، إن كان المنازغ فيه جليل القدر أو صغير المنزلة ثم أشار(عليه السلام) إلى نتيجة تلك الشورى وأعمالها المريية حيث تحرك أحدهم بدافع من حقده وضغينته بينما إندفع الآخر بوحي من قرابته ونسبه لينتهي الأمر إلى عثمان: «فصغا(1) رجل منهم لضغنه(2) ومال الآخر لصهره، مع هن(3) وهن».
فقد قصد الإمام(عليه السلام) بالعبارة الاولى «سعد بن أبي وقاص» الذي كان ينتمي من طرف أمه إلى بني أمية وقد قتل أخواله وأقربائه على يد علي(عليه السلام) في المعارك الإسلامية ضد الكفر والشرك، ولذلك لم يكن مستعداً لمبايعة علي(عليه السلام)حتى في خلافته.
و عمر بن سعد ذلك المجرم الجبار الذي قتل الحسين(عليه السلام) وصحبة في كربلاء هو ابنه. وعليه فقد كانت ضغينته لعلي(عليه السلام) أشهر من نار على علم وهى التي جعلته لا يصوت لصالح الإمام(عليه السلام)، وهذا ما أدى إلى فوز عثمان بعد أن منحه رأيه بواسطة عبدالرحمن بن عوف. وقال البعض المراد به «طلحة» المفروغ من كراهيته للإمام(عليه السلام) وهو الذي أشعل إلى جانب الزبير حرب الجمل التي أدت حسب قول المؤرخين إلى قتل سبعة عشر ألف.
و قد قوى هذا الاحتمال ابن أبي الحديد، بينما يرى بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ طلحة وإن رشح للشورى من قبل عمر إلاّ أنّه لم يكن في المدينة ولم يوفق لحضور جلسة الشورى(4).
1. «صغا» من مادة «صغو» بمعنى الميل.
2. «ضغن» على وزن ضمن بمعنى البغض والعداوة.
3. «هن» سيأتي التفسير لا حقا.
4. نقل الخوئي في شرحه عن الطبري عدم حضور طلحة في الشورى بل في المدينة (شرح الخوئى،3 / 73).
أمّا الفرد الذي مال إلى صهره فهو عبدالرحمن بن عوف زوج اُم كلثوم بنت عثمان. وقوله(عليه السلام): «مع هن وهن»(1)، استنادا إلى أنّ المفردة «هن» كناية عن أعمال قبيحة يكره ذكرها، فالعبارة يمكن أن تكون إشارة إلى الاغراض الاُخرى التي كان يطمع بها عبدالرحمن بن عوف من خلال تصويته لصالح عثمان من قبيل مد إليه إلى بيت مال المسلمين أو التسلط على الناس أو الاستيلاء على الخلافة بعد عثمان أو جميع هذه الاُمور. فالذي نستفيده من هذا الكلام أنّ الشورى قد عقدت في أجواء متوترة، والشئ المغيب فيها إنّما كان المصالح الإسلامية، وعليه فمن الطبيعي الأتؤدي لضمان مصالح المسلمين، وقد أثبتت الحوادث التي وقعت على عهد عثمان مدى الخسائر الفادحة التي تكبدها المسلمون.
ثم أشار الإمام(عليه السلام) إلى النتيجة النهائية للشورى فقال: «إلى أن قام ثالث القوم نافجا(2)حضنيه(3) بين نثيله(4) ومعتلفه(5)». ولم يقتصر هذا الأمر على عثمان بل سار معه في هذا النهج قرابته وبطانته «و قام معه بنو أبيه يخضمون(6) مال الله خضمة الابل نبتة الربيع».
أمّا التعبير بنبتة الربيع للإشارة إلى أنّها نبتة سائغة وطعمة سهلة للحيوان فيتنا ولها بكل شره ووله. والعبارة «يخضمون مال الله...» ـ وبالالتفات إلى المعنى اللغوي لخضم ـ تفيد أنّ بني اُمية قد اقتحمت الميدان بكل ثقلها لتنهب بيت المال فتبتلع منه ما شاءت. وقال ابن أبي الحديد لقد سلط الخليفة الثالث ـ عثمان ـ بني امية على رقاب الناس وأغدق عليهم الأموال فقد أعطى عبد الله بن خالد أربعمأة ألف درهم، وأعطى عبدالله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح افريقية بالمغرب، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال،
1. صرّح علماء اللغة بان «هن» تعنى فلان وتقال حين يريد الإنسان الإشارة من بعيد إلى شيء لقباحته أو لأسباب اُخرى، وعادة ما تستعمل هذه المفردة في الصفات السيئة والقبيحة ولا تستعمل في الاُمور الحسنة.
2. «نافجا» من مادة «نفج» على وزن رفع بمعنى رافعا.
3. «الحضن» ما بين الابط والكشح ونافجاً حضنيه تقال للمتكبر ولمن إمتلأ بطنه طعاماً.
4. «نثيل» من مادة «نثل» على وزن نسل بمعنى غائط الإنسان وروث الحيوان.
5. «معتلف» من مادة «علف» بمعنى موضع العلف، وقد أراد بالعبارة الشخص الذي همه جمع الأموال وملىء البطن وافراغها.
6. «الخضم» أكل الشيء الرطب بتمام الفم وهى تقابل القضم التي تعني الأكل بأطراف الأسنان، وقال البعض الخضم بمعنى أكل العلف الطري والقضم بمعنى أكل العلف الجاف.
واعطى الحارث بن الحكم ـ زوج بنت، عائشة ـ مائة ألف من بيت المال، واعطى طلحه ثلاثمأة واثنين وعشرين ألف، والزبير خمسمأة وثمانية وتسعين دينارا، حتى بلغ ما أغدقه من بيت المال مئة وستة وعشرين مليون وسبعمأة دينار.
و الأعجب من ذلك الدنانير التي أغدقها على بني أمية فقد منح مروان بن الحكم خمسمأة الف دينار، ويعلي بن اُمية خمسمأة الف دينار، وعبد الرحمن بن عوف مليونين وخمسمأة وستين الف دينار والمجموع أربعة ملايين وثلاثمأئة وعشرة دنانير(1). وهنا يتضح عمق المعنى لقوله(عليه السلام): «يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع». وبالطبع فان هذا الوضع لم يكن ليستمر لمدّة طويلة حيث لا يسع المسلمون تحمل مثل هذه الظروف ولذلك لم تمض مدّة حتى انطلقت تلك النهضة ضد عثمان لتطيح به في خاتمة المطاف وتقتله بمرأى ومسمع من الاُمّة دون أن يهب أحد من المسلمين لنصرته وهذا بعينه ما أشار إليه الإمام(عليه السلام)حين قال: «إلى أن انتكث(2) عليه فتله(3) وأجهز(4) عليه عمله، وكبت(5) به بطنته(6)».
و الواقع أنّ الإمام(عليه السلام) رسم بثلاث عبارات صورة واضحة كاملة عن وضع الخليفة الثالث و انتهاء أمره وقتله. فقد صور في العبارة الاولى إزالته لكافة مظاهر القدسية والزهد التي عرفها عنه الناس ليقفوا على مدى تكالبه على الدنيا.
كما يصور في العبارة الثانية سوء أعماله التي وجهت له الضربة القاصمة، وأخيراً تخمته وامتلاء جوفه بالطعام بالشكل الذي لم يتمكن معه من الوقوف على قدميه حتى كب على وجهه على الأرض. فقد بين الإمام علي(عليه السلام) بهذه العبارات الدروس والعبر التي ينبغي أن يقتدي بها ساسة البلدان ويضعوها نصب أعينهم بحيث إذا إستغلوا مكانتهم وأقبلوا يتهافتون على الدنيا فانّ ذلك سيؤدي إلى زوال سوابقهم الحسنة بما يعبىء الرأي العام ضدهم وبالتالي الاطاحة بهم وبحكومتهم.
1. شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد 1 / 198.
2. «انتكث» من مادة «نكث» على وزن عكس بمعنى النقض والكسر ومن هنا يقال لعدم الالتزام بالعهد نقضه.
3. «فتل» بمعنى اللف، ومقتول وفتيلة من هذا الباب.
4. «أجهز» من مادة «إجهاز»، تطلق على المجروح وتفيد التسريع في الموت واتمام العمل.
5. «كيت» من مادة «كبو» بمعنى السقوط والوقوع على الوجه، ومن هنا يقال كبابه الجواد إذ سقط لوجهه.
6. «بطنته» من مادة «بطن» بمعنى التخمة (ملىء الجوف الطعام أو النهم في الأكل).
جدير بالذكر أنّ العوامل التي بلورة ظهور وانبثاق خلافة عثمان هى ذاتها التي أدّت إلى القضاء عليه، فقد دفع حب المال والثروة بعض الأفراد من قبيل سعد بن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وطلحة (بناء اعلى كونه حاضرا في الشورى) لأن يضموا أصواتهم لعثمان واختياره للخلافة، وهكذا إتسعت هذه المسألة واستفحلت حتى فقد عثمان مكانته لدى الرأي العام والذي أدى بالتالى إلى ثورة الاُمّة وإطاحتها به. أمّا بعض شرّاح نهج البلاغة فقد ذهبوا إلى أنّ المراد بقوله «إنتكث عليه فتله» انهيار الاجراءات والتدابير التي مارسها لتوطيد حكومته، ولعل تفويضه بعض الأعمال والمناصب لبطانته وقرابته قد كانت ضمن تلك الإجراءات المتخذة، لكن نفس هذا الأمر قد أعطى نتائج معكوسة أسهمت في تقويض حكومة عثمان.
نعلم أنّ الخليفة الثاني قد نصب من قبل أبي بكر الذي عهد إليه بالخلافة في وصيته حين نزل به الموت. فقد جاء في بعض التواريخ أنّ أبابكر أحضر عثمان ـ وهو يجود بنفسه ـ فأمره أن يكتب عهدا، وقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبوبكر إلى المسلمين، ثم أمّا بعد، ثم اُغمي عليه، فكتب عثمان: «اَما بعد فاني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب لم آلكم خيراً».(1)
و أفاق أبوبكر فقال: إقرأ فقرأه، فكبر أبوبكر وسرب وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي! قال عثمان: نعم، قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله(2).
يتضح بجلاء من هذا الخبر أن عثمان قد خاط هذا القميص ـ الخلافة ـ لقامة عمر، ولو افترض عدم إفاقة أبي بكر لنشرت هذه الوصية على أنّها وصية أبي بكر. وعليه فلم هنالك
1. «آلكم» من مادة «الا» يألو بمعنى التقصير، وعلى هذا الاساس فان «لم آلكم» يعني لم أُقصر في حقكم. «لسان العرب».
2. الكامل لابن أثير 2 / 425.
من مجال للتعجب في إقتراح عمر لتلك الشورى وبذلك التركيب الذي سوف لن يؤدي إلاّ إلى استخلاف عثمان.
و هو ذات الاُسلوب الذي إتبعه الخليفة الثاني في السقيفة حين مهد السبيل أمام خلافة أبي بكر، لكي يسارع هذا الأخير فيعوضه عمّا قدمه له. ويفهم ضمنيا أنّ الحيلولة دون إختلاف الاُمّة وفرقتها هى التي تقف وراء تعجيل أبي بكر وعثمان في تعيين الخليفة. فاذا كان الأمر كذلك، فما بالك برسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! ألم يكن من الواجب على النبي(صلى الله عليه وآله)أن يتكهن بهذا الأمر بالنسبة لاُمّته مع وجود تلك النزاعات والصراعات التي كشفت عن نفسها في السقيفة؟ كيف يمكن الاعتقاد بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قد فوض للاُمّة مسألة إنتخاب الخليفة، بينما لا يرعى هذا الأمر في خلافة الثاني والثالث، حتى أنّ خوف الفتنة منع من تفويض الأمر للاُمّة؟! هذه هى الاسئلة التي ينبغي لكل محقق الرد عليها.
وصورة هذه الواقعة أنّ عمر لما طعنه أبولؤلؤه، وعلم أنّه ميت، استشار فيمن يولّيه الأمر بعده، فأشير عليه بابنه عبداللّه، فقال: لاها اللّه إذا! لايليها رجلان من وَلَد الخطاب! حسب عمر ما حُمِّل! حسب عمراً احتقب، لاها اللّه! لا أتحملها حياً وميتاً! ثم قال: إنّ رسول اللّه مات وهو راض عن هذه الستة من قريش: على، وعثمان وطلحة، والزبير، وسعد، وعبدالرحمن بن عوف; وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم. ثم قال: إن أستَخلف فقد استخلف من هو خير منّي يعنى أبابكر وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي يعنى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ثم قال: ادعوهم لي، فدعوهم، فدخلوا عليه وهو مُلقى على فراشه يجود بنفسه.
فنظر إليهم، فقال: أكلّكم يطمع في الخلافة بعدى! فوجموا، فقال لهم ثانية، فأجابة الزّبير وقال: وما الذي يُبعدنا منها! وليتها أنت فقمت بها، ولسْنا دونك في قريش ولافي السابقة ولا في القرابة.
قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ: واللّه لولا علمه أنّ عمر يموت في مجلسه ذلك لم يقدم على أن يفوه من هذا الكلام بكلمة، ولا أن تنفّس منه بلفظه.
فقال عمر: أفلا أخبركم عن أنفسكم! قال: قل، فإنا لو استعفيناك لم تُعفنا. فقال: امّا أنت يا زبير فوعق لقس، مؤمن الرضا كافر الغضب، يوماً إنسان، ويوماً شيطان، ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير! أفرأيت إن أفضت إليك، فليت شعري، من يكون للناس يوم تكون شيطاناً، ومن يكون يوم تغضب! وما كان اللّه ليجمع لك أمر هذه الاُمّة، وأنت على هذه الصفة.
ثم أقبل على طلحة وكان له مبغضاً منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر فقال له: أقول أم أسكت: قال: قل، فإنّك لا تقول من الخير شيئاً، قال: أمّا إنّي أعرفك منذ أصيبتْ إصبعك يوم أحُد وائبا بالذي حدث لك، ولقد مات رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزِلت آية الحجاب.
ثم أقبل على علي(عليه السلام)، فقال: للّه أنت لولا دُعابة فيك! امّا واللّه لئن وليتهم لتحملنّهم على الحق الواضح، والمحجّة البيضاء.
ثم أقبل على عثمان، فقال: هيهاً إليك! كأنّى بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبِّها إياك، فحملت بني أمية وبني أبى مُعيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفىء، فسارت إليك عصابة من ذوبان العرب، فذبحوك على فراشك ذبحاً. واللّه لئن فعلوا لتفعلنّ فعلت ليفعلنّ، ثم أخذ بناصيته، فقال: فإذا كان ذلك فاذكر قولى; فإنّه كائن.
ثم قال: ادعوا إلي أبا طلحة الأنصارى، فدعوه له فقال: انظر يا أبا طلحة، إذ عدتم من حُفْرتي، فكن في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم، فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله، واجمعهم في بيت، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم، فإن اتّفق ثلاثة وخالف ثلاثة، فانظر الثلاثة التي فيها عبدالرحمن، فارجع إلى ما قد اتفقت عليه، فإن أصرّت الثلاثة الاُخرى على خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر، فاضرب أعناق الستّة، ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم.
فلما دُفن عمر، جَمَعَم أبو طلحة، ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار، حاملي سيوفهم، ثم تكلّم القوم وتنازعوا، فأوّل ما عمل طلحة أنّه أشدهم على نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشورى لعثمان، وذلك لعامه أنّ الناس لا يعدلون به عليّاً وعثمان، وأنّ الخلافة لا
تخلص له وهذان موجودان، فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه السلام، بهبة أمر لا انتفاع له به، ولا تمكُّن له منه.
فقال الزبير في معارضته: وأنا أشهدكم على نفسي أنّي قد وهبتُ حقّى من الشورى لعليّ، وإنما فعل ذلك لأنّه لما رأى عليًّا قد ضعف وانخزل بهبَةِ طلحة حقَّه لعثمان، دخلته حميَّة النَّسب، لأنّه ابن عمة أميرالمؤمنين عليه السلام، وهى صفيّة بنت عبدالمطلب، وأبوطالب خالُه. وإنّما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي(عليه السلام)، باعتبار أنّه تيمى وابن عم أبي بكر، وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة، وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم.
فممّا لا شك فيه هنالك عدّة اسئلة لابدّ من طرحها بشأن هذه الشورى ومنها:
أولاً: لو كانت الضابطة في الخلافة تكمن في آراء الاُمّة فلم لا يرجع إليها؟ وإن كانت الخلافة قائمة على أساس التعيين فما معنى الشورى المركبة من ستة أعضاء وما بال إهمال سائر الشخصيات المعروفة وعدم إشراكها في الشورى؟
ثانياً: لقد قيل أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مات وهو راض عن هذه الستة من قريش، فكيف التوفيق بين هذا وما صرّح بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مات وهو ساخط على طلحة بالثلمة التي قالها يوم اُنزلت آية الحجاب(1)؟
ثالثاً: لو افترض عدم تمكنهم من القيام بوظيفتهم فكيف يؤمر بضرب أعناقهم؟
رابعاً: لو كانت الشورى حقا فما معنى الوصية بعثمان وذكره صراحة؟ ولو كان يخشى على الاُمّة الإسلامية من خلافته للزم عدم جعله أحد أعضاء تلك الشورى ليأتي آخر غيره؟
خامساً: إذا إنقسمت الشورى إلى قسمين فلم لا ترجح الكفة التي فيها علي(عليه السلام) والذي قال له عمر: أمّا والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح، والحجة البيضاء. وليس له من إشكال عليه سوى قوله «لولا دعابة فيك».
1. المراد بآية الحجاب قوله سبحانه:«فاسئلوهن من وراء حجاب» الذي نزل في نساء النبي (صلى الله عليه وآله) والكلمة المذكورة أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما الذي يعنيه حجابهن اليوم، وسيموت غدا فننكحهن.
سادساً: وهل للدعابة من أثر سلبي على الخلافة وهل يرقى هذا الإشكال إلى الإشكال على عثمان بانّه إذا ولي الخلافة وسيسلط بني اُمية على رقاب المسلمين فيتخذون عباد الله خولاً وماله دولاً؟
هذه هى الاسئلة والإستفسارات التي ليست لها من إجابة.
و يجب أن نذكُر في هذا الموضع ابتداء اضطراب الأمر على عثمان إلى أن قُتِل.
و أصح ما ذكر في ذلك ما أورده أبوجعفر محمد بن جرير الطبري في «التاريخ»(1).
و خلاصة ذلك أنّ عثمان أحدث أحداثاً مشهورة نَقِمَها النّاس عليه، من تأمير بني أميّة، ولا سيّما الفساق منهم وأربابُ السَّفه وقلّة الدّين، واخراج مال الفىء إليهم، وما جرى في أمر عمّار وأبى ذر وعبدالله بن مسعود، وغير ذلك من الاُمور التى جرت في أواخر خلافته. ثم اتفق إنّ الوليد بن عُقبه لمّا كان عامله على الكوفة وشهد عليه بشرب الخمر، صرفه وولىّ سعيد بن العاص مكانه، فقدم سعيد الكوفة، استخلص من أهلها قوماً يسمرون عنده، فقال سعيد يوماً: إنّ السواد بستان لقُريش وبنى أمية. فقال الأشتر النخعي: وتزعم أنّ السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك لقومك! فقال صاحب شرطته: أتردّ على الأمير مقالته! وأغلظ له، فقال الأشتر لمن كان حوله من النَّخع وغيرهم من أشراف الكوفة: ألا تسمعون! فوثبوا عليه بحضرة سعيد فوطئوه وطأ عنيفاً، وجرّول برجله، فغلظ ذلك على سعيد،أبعد سُمّاره فلم يأذن بعد لهم، فجعلوا يشتمون سعيداً في مجالسهم، ثم تعدّوا ذلك إلى عثمان في أمرهم، فكتب إليه أن يسيرهم إلى الشام; لئلاّ يفسدوا أهل الكوفه، وكتب إلى معاوية وهو وإلى الشام: إنّ نفراً من أهل الكوفة قد همّوا بإثارة الفتنة، وقد سيرتهم إليك، فانهم; فإن آنست منهم رشداً فأحسن إليهم، وارددهم إلى بلادهم.
ثم إن سعيد بن العاص قدم على عثمان سنة إحدى عشرة من خلافته. فلما دخل المدينة
1. في حوادث 33 35، مع تصرف واختصار في جميع ما أورده في هذا الفصل (9 نهج 2).
اجتمع قومٌ من الصحابة، فذكروا سعيداً وأعماله، وذكروا قرابات عثمان وما سوّغهم من مال المسلمين، وعابوا أفعال عثمان، فأرسلو إليه عامر بن عبد القيس وكان متألها (1)، واسم أبيه عبدالله، وهو من تميم، ثم من بني العنبر فدخل على عثمان، فقال له: إنّ ناساً من الصحابة اجتمعوا ونظروا في أعمالك، فوجدوك قد ركبت اُموراً عظاماً، فاتق الله وتب إليه.
فأخرجه عثمان، وأرسل إلى عبدالله بن سعد بن أبى سرح، وإلى معاوية وسعيد ابن العاص وعمرو بن العاص وعبيدالله بن عامر وكان قد استقدم الأمراء من أعمالهم فشاورهم،وقال: إن لكل أمير وزراء ونصحاء، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم، وطلبوا إلىّ أن أعزل عمّالي، وأن أرجع عن جميع مايكرهون إلى مايحبون، فاجتهدوا رأيكم.
فقال عبدالله بن عامر: أرى لك ياأميرالمؤمنين أن تشغلهم عنك بالجهاد حتى يذلّوا لك، ولا تكون همة أحدهم إلاّ في نفسه، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته.
فقال عثمان: إنّ هذا لهو الرأى لولا مافيه.
ثم كاتب عمّاله واستقدمهم، فلما قدموا عليه جمعهم، وقال: ما شكايةُ الناس منكم؟ إنّي لخائف أن تكونوا مصدوقاً عليكم، وما يعصب هذا الأمر إلاّ بي. فقالو له: والله ما صدق من رفع إليك ولا بر، ولا نعلم لهذا الأمر أصلا. فقال عثمان: فأشيروا عليّ، فقال سعيد بن العاص: هذه اُمور مصنوعة تلقى في السر فيتحدث بها الناس، ودواء ذلك السيف.
وروى محمد بن عمر الواقدي رحمة الله تعالى، قال: لما أجلب الناس على عثمان، وكثرت الفالة فيه، خرج ناس من مصر ; منهم عبدالرحمن عديس البوى، وكنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة بن وهب السكسكي; وعليهم جميعاً أبوحرب الغافقي، وكانوا في ألفين. وخرج ناس من الكوفة، منهم زيد بن صوحان العبدى، ومالك الأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبدالله بن الأصم الغامدي، في ألفين. وخرج ناس من أهل البصرة. منهم حكيم بن جبلة العبدى، وجماعة من أمرائهم، وعليهم حرقوص بن زهير السعدي; وذلك في شوال من سنة خمس وثلاثين، وأظهروا أنّهم يريدون الحج. فلما كانوا من
1. المتأله: المتعبد المتنسك.
المدينة على ثلاث، تقدم أهل البصرة، فنزلوا ذاخشب وكان هواهم في طلحة. وتقدم أهل الكوفة، فنزلوا الأعوص وكان هواهم في الزبير. وجاء أهل مصر فنزلوا المروة وكان هواهم في علي (عليه السلام). ودخل ناس منهم إلى المدينة يخبرون ما في قلوب الناس لعثمان، فلقوا جماعة من المهاجرين والأنصار، ولقوا أزواج النبي صلى الله عليه وآله، وقالوا: إنّما نريد الحج، ونستعفى من عمالنا.
وخرج عثمان يوم الجمعة، فصلى بالناس، وقام على المنبر، فقال: ياهؤلاء، الله الله; فوالله إن أهل المدينة يعلمون أنّكم ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه، فامحوا الخطأ بالصواب.
وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشياً عليه ; فأدخل داره; واستقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان; منهم سعد بن أبي وقاص، والحسن بن على عليه السلام، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة; فأرسل إليهم عثمان: عزمت عليكم أن تنصرفوا; فانصرفوا.
وأقبل على وطلحة والزبير، فدخلوا على عثمان يعودنه من صرعته، ويشكون إليه ما يجدون لأجله; وعند عثمان نفر من بين أمية، منهم مروان بن الحكم، فقالوا لعلى عليه السلام: أهلكتنا وصنعت هذا الذي صنعت! والله إن بلغت هذا الأمر الذي تريده لتمرن عليك الدنيا; فقام مغضباً، وخرج الجماعة الذين حضروا معه إلى منازلهم.
وروى المدائني، قال: كان عثمان محصوراً محاطاًبه، وهو يصلى بالناس في المسجد، وأهل مصر والكوفة والبصرة الحاضرون له يصلون خلفه، وهم أدق في عينه من التراب.
![]() |
![]() |