![]() |
![]() |
و قوله(عليه السلام) «لولا حضور الحاضر» في إشارة إلى حضور الحاضرين بالبيعة له، وإن ذهب البعض إلى أنّ المراد بالحاضر ذات البيعة والذي لا يختلف كثيرا والمعنى الأول.
أمّا القول بأنّ المراد حضور الله أو حضور الزمان الذي تنبئ به الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)لعلي(عليه السلام)فهو مستبعد جداً، وإن أورده بعض الفضلاء كتفسير لتلك العبارة. على كل حال فان هذه العبارة تتحد في المعنى مع قوله(عليه السلام): «و قيام الحجة بوجود الناصر» لتشير كلاهما لاتمام الحجة عليه(عليه السلام) في أن ينهض بالأمر بعد توفر العدّة من الأصحاب والبيعة امّا قوله(عليه السلام)«لالقيت حلها على غاربها» فهو كناية عن الانصراف عن الشيء، حيث جرت العادة أن يطرح زمام الناقة على ظهرها إذا لم يكن هناك من حاجة إليها في عمل.
و قوله(عليه السلام): «لسقيت آخرها بكأس أولها» كناية عن الصير على الأمر وتركه كما صبر عليه ازاء الخلفاء الثلاثة(3). إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) يرى نفسه ملزما بالنهوض بالأمر والتصدي للخلافة لسيين: أحدهما وجود الناصر الذي يتمّ الحجة عليه بالقيام من جانب، والثاني العهد الذي أخذه الله على العلماء بالقيام بالأمر إذا ما غيبت العدالة واستفحل الظلم وضيعت الحقوق «لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلموم».
1. سورة الانعام / 95.
2. سورة المومنون / 14.
3. والشاهد على ذلك الشعر الذي تمثل به(عليه السلام) في قضية مخالفة طلحة والزبير والتمهيد لنشوب معركة الجمل. حيث قال:
فتن تحل بهم وهن شوارع *** تسقى آواخرها بكأس الأول
بحار الانوار، 32 / 118.
فالواقع أنّ كلام الإمام(عليه السلام) تحذير لكافة علماء في ممارسة مسؤوليتهم في تشكيل الحكومة وبسط العدل والقسط في ربوع المجتمع وعدم السكوت والتخاذل في حالة توفر هذه الأسباب. ويخطىء كل أولئك الذين يرون وظيفتهم إنّما تقتصر على إقامة الشعائر العبادية كالصوم والصلاة والحج والزكاة إلى جانب الإتيان بالمستحبات. فبسط العدل والقسط والدفاع عن المظلوم والقيام بوجه الظالم تعدّ من جوهر الوظائف الإسلامية لهؤلاء العلماء.
ثم يقول(عليه السلام): «و لا لفيتم(1) ديناكم هذه أزهد عندي من عفطة(2) عنز».
وبالالتفات إلى ما ورد في صحاح اللغة من أن العفطة تعني الماء الذي يترشح من أنف الشاة (أو العنز حين العطسة) تتضح مدى تفاهة الدنيا ـ التي تحظى بفائق الأهمية لدى أهلها ـ عند علي(عليه السلام)، فما قيمة العنز فضلا عن ماء أنفها والحق ان مثل هذه التعبيرات قد تبدو غريبة بالنسبة لاُولئك الذين لا يعرفون شخصية علي(عليه السلام); إلاّ أنّ هذه الغرابة ربّما تزول بأدنى نظرة إلى سيرته(عليه السلام) وحياته التي عاشها.
قال السيد الرضي (ره) في ذيل الخطبة.
«قالوا وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه هذا الموضع من خطبته فناوله كتاباً ـ قيل أنّ فيه مسائل كان يريد الإجابة عنها ـ فاقبل ينظر فيه (فلما فرغ من قرائته) قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين لو أطردت خطبتك من حيث أفضيت.
فقال: «هيهات يا بن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرّت» قال ابن عباس فو الله ما اَسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ألا يكون أمير المؤمنين(عليه السلام) بلغ منه حيث يريد».
أمّا التعبير بأهل السواد فهو إشارة إلى المناطق الغنية بالزرع والأشجار التي تبدو من بعيد سوداء، لأنّ اللون الأخضر يتركز من بعيد ليميل إلى السواد، ولما كان هل الحجاز ألفوا الأرض اليابسة الخالية التي يصصطلح عليها بالبياض فانّهم إذا ما انطلقوا نحو العراق المخضر بفضل
1. «ألفيتم» من مادة «الفاء»، بمعنى وجدتم ورأيتم.
2. عفطة العنز: ما تنثره من أنفها، واكثر ما يستعمل ذلك في النعمة وإن كان الأشهر في الاستعمال بالنون «النقطة».
نهريه دجلة والفرات وتلوح أشجاره وزرعه من بعيد يبدو أسوداً فيصطلحون عليه بأرض السواد كما يطلقوا على أهله اسم أهل السواد.
أمّا مضمون الكتاب والمسائل التي فيه فقد تطرق إليها بعض شرّاح. نهج البلاغة وسنعرض لها في البحث القادم.
وقد روى ابن أبي الحديد بهذا الشأن عن استاذه مصدق بن شبيب أنّه قال: قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة، فلما إنتهيت إلى هذا الموضع، قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمّك أمر لم يبلغه فوالله مارجع عن الأولين ولا عن الآخرين ، ولا بقى في نفسه أحد لم يذكره إلاّ رسول الله(صلى الله عليه وآله).
قال مصدق: وكان ابن الخشات صاحب دعاية وهزل، قال: فقلت له: أتقول إنها منحولة. فقال: لا والله وإني لاعلم أنّها كلامه، كما أعلم أنّك مصدق.(1)
قال الشريف الرضي(رحمه الله): قوله(عليه السلام) «كراكب الصعبة إن اشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم» يريد أنّه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهى تنازعه رأسها خرم أنفها وإن اَرخى لها شيئاً مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها يقال «أشنق الناقة» إذا جذب رأسها بالزمام فرفعها و«شنقها» أيضا، ذكر ذلك «ابن السكيت» في اصلاح المنطق» وإنّما قال «اشنق لها» ولم يقل «اشنقها» لانّه جعله في مقابلة قوله «أسلس لها» فكانه(عليه السلام) قال: إن رفع رأسها بمعنى أمسكه عليها بالزمام).
قد يقال: تعتقد الإمامية واتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) أنّ الإمام ينصب من قبل اللّه تعالى بواسطة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لاعلى أساس إنتخابه من قبل الاُمّة، بينما صرّح الإمام(عليه السلام)في هذه
1. شرح نهج الباغة ابن أبى الحديد 1 / 205
الخطبة قائلا:«لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر و... لالقيت حبلها على غاربها» فكيف التوفيق بينهما؟
و نقول في الردّ على هذا السؤال أنّ للامامة والخلافة واقع ومقام ظهور وبروز فواقعها أنّها تعين من قيل الله بواسطة نبيّه(صلى الله عليه وآله)، أمّا ظهورها وبروزها والتصرف في شؤون المسلمين والمجتمع الإسلامي إنّما يتوقف على الاُمّة ونهوض أبنائها في توفير الدعم والاسناد; الأمر الذي لا يتأتى إلاّ من خلال بيعة الاُمّة.
و من هنا أصبح الإمام(عليه السلام) جليس الدار إبان خلافة الخلفاء الثلاثة ـ طيلة خمس وعشرين سنة ـ ولم يتدخل في شؤون الخلافة، والحال لم تكن هنالك من ثلمة في إمامته المنصوص عليها من جانب الله بواسطة النبي (صلى الله عليه وآله) ويصدق هذا الكلام على بعض أئمة العصمة والطهارة، فقد إقترح أبومسلم الخلافة على الإمام الصادق(عليه السلام)، ولعلمه(عليه السلام)بالمؤامرة لم يجيبه.
بل كان البعض يطالب الأئمة بالقيام وتولي الخلافة. فيجيبون باننا لا نملك ما يكفي من الأنصار(1).
روى المرحوم «الشارح البحراني» في كتابه عن أبي الحسن الكيدري أنّ الكتاب الذي سلم إلى علي(عليه السلام) آخر الخطبة كان يقسم عشرة أسئلة هى:
1ـ الذي خرج من بطن وليس له بولد؟
قال(عليه السلام): يونس(عليه السلام) الذي خرج من بطن الحوت.
2ـ ما كان قليله مباح وكثيره حرام؟
قال(عليه السلام): نهر طالوت.
3ـ العبادة التي يعاقب على الإتيان بها أو تركها؟
قال(عليه السلام): الصلاة في السكر.
1. اصول الكافي 2 / 242 كتاب الإيمان والكفر، باب قلة عدد المؤمنين، ح 4.
4ـ الطائر الذي ليس له أصل (أم)؟
قال(عليه السلام): الطائر الذي خلقه عيسى(عليه السلام) باذن الله.
5ـ رجل مدين الف درهم وله الف درهم وضمنه آخر وكان له الف درهم، وقد مضى عليه عام، فالزكاة على أي من المالين؟
قال(عليه السلام): إذا فعل الضامن ذلك باذن المدين فلا زكاة عليه، وإن فعله بدون إذنه وجبت عليه الزكاة.
6ـ حج جماعة فنزلوا بيتاً في مكة وأغلق أحدهم باب البيت فكان فيه طيور فماتت عطشا، فعلى من تجب الكفارة؟
قال(عليه السلام): على من أغلق الباب ولم يخرج الطيور ولم يسقيها.
7ـ شهد أربعة على رجل بالزنا، فأمرهم الإمام برجمه (لأنّه كان محصناً) فرجمه أحدهم وساعده جماعة وامتنع الثلاث. ثم رجع عن شهادته (وأقر بكذبه) ولم يمت المتهم. ثم مات وبعد موته رجع الثلاث عن شهادتهم. على من تجب دينه؟
قال(عليه السلام): على ذلك الرجل والجماعة الذين ساعدوه(1).
8ـ هل تقيل شهادة يهوديين لثالث باعتناق الإسلام؟
قال(عليه السلام): لا تقبل شهادتهما; لأنّهم يحرفون كلام الله ويجوزون الشهادة بالباطل.
9ـ هل تقبل شهادة نصرانيين لنصراني أو يهودي أو مجوسي بالإسلام؟
قال(عليه السلام): تقبل لقوله سبحانه: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى)(2).
10ـ قطع شخص يد آخر، فشهد أربعة عند الإمام قطعت يده وقد زنا بمحصنة، فاراد الإمام أن يرجمه فتوفى قبل الرجم، فما حكمه؟
1. هذا إذا أخطا الشهود فان كان عن عمد فحكمهم القصاص كما ورد في كتاب القصاص. والنقطة الجديرة بالذكر للشهود الذين حصل الرجم لشهادتهم أن يرجعوا وما دفع يؤخذ من الأربعة بالتساوي وللوقوف أكثر راجع كتاب الجواهر، 41 / 225، ولابدّ من الالتفات هنا إلى وجود بعض التفاوت بين ما ورد في هذا الحديث وما جاء في الكتب الفقيهة.
2. سورة المائدة / 82 .
قال(عليه السلام): تجب الدية على من قطع يده، لكن ان شهدوا أنّه سرق بحد النصاب فلا تجب الدية على القاطع(1). طبعا ما ذكر هو مضمون رواية مرسلة رويت عن الكيدري ولم تثبت صحة سند الحديث، ولذلك هناك أبحاث كثيرة من وجهة النظر الفقيهة بشأن بعض الفروع المذكورة في هذا الحديث.
إنّ نظرة عامة إلى خطب نهج البلاغة تفيد أنّ الخطبة الشقشقية هى من الخطب التي قل نظيرها إن لم نقل لا نظير لها في نهج البلاغة; الأمر الذي يثبت أنّ الإمام(عليه السلام)قد أوردها في ظروف خاصة للحيلولة دون نسيان الحقائق المتعلقة بالخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتخلد في التاريخ ومن هنا أطلق عباراته بصراحة تامة. فقد أوضح الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة عدّة اُمور منها:
1ـ أحقيته وجدارته بالخلافة التي بينها بوضوح وهذه هى الحقيقة التي إتفق عليها تقريباً كافة المحققين المسلمين وغير المسلمين، حتى إعترف معاوية أعدى أعداء الإمام(عليه السلام) با فضليته(2).
2ـ مظلموميته(عليه السلام) رغم أحقيته وكفائته.
3ـ يفيد كلام الإمام(عليه السلام) عدم وجود مرجع واضح لانتخاب أي من الخلفاء الثلاثة، اضافة إلى المعايير المتعددة التي حكمت ذلك الانتخاب، فقد كانت خلافة أحدهم تستند إلى رأي واحد، وآخر لنصف من شورى سداسية وثالث لعدد من الآراء.
4ـ ابتعاد الاُمّة في عصر الخلفاء عن تعاليم النبي الأكرام (صلى الله عليه وآله) وتفاقم الازمات على مرور الزمان، بحيث كانت من أبلغ الصعوبات التي واجهت الإمام(عليه السلام) حين تولى الخلافة تكمن في
1. شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 1 / 269، المتسدرك 7 / 55.
2. ورد هذا المعنى في الرسالة التي كتبها معاوية وبعث بها لمحمد بن أبي بكر والتي نقلتها أغلب المصادر الإسلامية ومنها مروج الذهب، فقد قال فيها أني وأبيك نقر بفضل علي وحقّه علينا... إلاّ أنّ أبيك وفاروقه (عمر) هما أول من خالفه بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله). وقال اليعقوبي في تاريخه: وكان المهاجرون والأنصار لا يشكون في علي(عليه السلام). (تاريخ اليعقوبي 2/124).
إعادة الاُمّة إلى القيم الإسلامية التي كانت سائدة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
5ـ أنّ التهافت على الدنيا والاغترار بزخرفها هو العامل الذي يقف وراء الفوضى والاضطراب والحروب التي نشبت على عهد الإمام علي(عليه السلام).
6ـ أنّ ما حصل للإمام علي(عليه السلام) هو البيعة الحقيقة بعينها، غير أنّ عدالة علي(عليه السلام) وشدته في الحق أثارت حفيظة بعض زعماء المجتمع لينقضوا البيعة ويقسط ويمرق آخرون.
7ـ لم يكن للإمام(عليه السلام) أية رغبة بالخلافة ولم يراها هدفا قط، بل هى وسيلة لاحقاق الحق ابطال الباطل وبسط العدل والقسط.
8ـ كانت الانتفاضات التي حدثت في زمان عثمان والتي أدت بالتالي إلى قتله طبيعية جداً ونتيجة لسلوكه وبطانته من بني اُمية الذين سلطهم على رقاب المسلمين فجعلهم عمالاً وولاة على بعض المناطق فعبثوا ببيت المال واسرفوا في تبذيره حتى ثارت الاُمّة بعد أن انطلقت شرارة الرفض من المناطق البعيدة عن مركز الخلافة كمصر والبصرة والكوفة.
9ـ كانت المعارك الثلاث ـ الجمل وصفين والنهروان ـ قد فرضت على الإمام(عليه السلام) من قبل الأفراد الذين لم يطيقوا عدله(عليه السلام) إلى جانب أولئك الذين يبحثون عن الجاه والمنصب.
10ـ عدم انسجام عقيدة تنزيه الصحابة وعدالتهم لمجرّد صحبتهم مع أي من المعايير والوقائع التاريخية; وهو الاعتقاد الذي يقود إلى التناقض، فاصحاب فتنة الجمل هما إثنان من الصحابة وصاحب صفين من الصحابة أيضا بينما كانت طائفة من الصحابة من مشعلي نار النهروان وقد خرج جميع هولاء على إمام زمانهم فاختاروا سبيل البغي وشق عصا الاُمّة الإسلامية وبث الفرقة والاختلاف في صفوفها. فكيف والحال هذه نقول علي(عليه السلام).
على الحق وطلحة والزبير ومعاوية كذلك؟! أمّا الاستدلال بالاجتهاد في هذه الاُمور فهو توجيه يفتقر إلى المنطق ومدعاة حتى لارتكاب الكبائر.
ومن خطبة له(عليه السلام)
و هى من أفصح كلامه(عليه السلام) وفيها يعظ الناس ويهديهم من ضلالتهم ويقال:
«إنّه خطبها بعد قتل طلحة والزبير»
يمكن أن تكون هذه الخطبة كما يفهم من عنوانها قد وردت بعد أحداث معركة الجمل وقتل طلحة والزبير فهى تتحدت عن وقائع المعركة والدروس والعبر التي ينبغي أن يتعلمها المسلمون. حيث يمكن خلاصة الخطبة في محاور رئيسية ثلاث:
1 ـ التصريح بهذه الحقيقة وهى هداية الاُمّة من الظلمات بواسطة أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله)حتى بلغت ذروة تكاملها ورقيها، وعليه فعليها أن تعيرهم آذانا صاغية وتتفاعل مع مواعظهم ونصائحهم.
2 ـ إنّ الإمام(عليه السلام) كان يعلم بالخيانة ونقض العهود والتمرد، إلاّ أنّ جلباب الدين لم يدعه يكشف تلك الحقائق.
3 ـ يشير الإمام(عليه السلام) في المقطع الأخير من الخطبة إلى أنّ اليوم لم يعدّ يوم التستر على الحقائق; لابدّ من إعلان هذه الحقائق وإلاّ يخشى على الاُمّة من الضلال وهذا بذاته ما يجعل الإمام(عليه السلام) يعيش هاجس القلق.
«بِنا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْماءِ، وَتَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ الْعَلْياءِ، وَبِنا أَفْجَرْتُمْ عَنِ السِّرارِ وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْواعِيَةَ، وَكَيْفَ يُراعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ؟ رُبِطَ جَنانٌ لَمْ يُفارِقْهُ الْخَفَقانُ».
الشرح والتفسير
أشار الإمام(عليه السلام) في بداية الخطبة إلى النعم الجمة التي تمتع بها المسلمون ـ ولا سيما في صدر الإسلام ـ في ظل الإسلام، حيث وضح هذا الأمر بثلاث عبارات قصيرة ذات تشبيهات رائعة فقال(عليه السلام): «بنا إهتديتم(1) في الظلماء(2)وتسنمتم(3) ذروة(4) العلياء، وبنا افجرتم(5) عن السرار(6)». فالإمام(عليه السلام) يشير في العبارة الأول إلى ظروف الجاهلية التي خيم فيها الظلام والجهل والفساد والجريمة على كافة الأماكن حتى تبددت هذه الظلمات بظهور النبي(صلى الله عليه وآله)
1. «اهتديتم» من «الاهتداء» تستعمل ـ حسب قول بعض شرّاح نهج البلاغة وارباب اللغة ـ حيث يميل الإنسان بإرادته للهداية وهكذا جاءت في العبارة.
2. «ظلماء» على وزن صحراء بمعنى ظلمة أول الليل أو بعبارة اُخرى النور بعد الظلمة; خلافا للظلمة بمفهومها العام ولعل الإمام(عليه السلام) أراد بها عصر الجاهلية الذي يعتبر في الواقع ظلمة بعد النور; أي دعوة الأنبياء أولي العزم.
3. «تسنمتم» من مادة سنم على وزن قلم بمعنى العلو ومن هنا يطلق على ذروة الجمل إسم سنام.
4. «ذروة» من مادة «ذرو»، لها معنيان: أحدهما إشراف شيء على آخر ومن هنا تطلق الذروة على قمة الجبل، والآخر تفتت الشيء وتفرقه.
5. «أفجرتم» من مادة «فجر» بمعنى الفجوة الواسعة قي الشيء ومن هنا اطلق الفجر على الصباح الذي يشق عتمة الليل، وأفجرتم بمعنى دخول الفجر.
6. «سرار» من مادة «سر» بمعنى الخفاء وما يقابل العلن، وتطلق مفردة السرار عادة على الليالي الأخيرة للشهر حيث يكون الجو ظلاما دامساً.
وانبثاق الدعوة الإسلامية ليهتدي الناس إلى الصراط المستقيم ويتجهون نحو الهدف المنشود.
ويشبه في العبارة الثانية حركة الرقي والتكامل والازدهار بالجمل ذي السنام (حيث اقتبست المفردة تسنتم من مادة سنام أعلى قمة في الجمل) فقال(عليه السلام) لقد بلغتم هذه الذروة وقطعتم مسيرة الرقي والتكامل في ظل الإسلام; الحقيقة التي إذعن لها جميع مؤرخي الشرق والغرب في كتبهم التي تعرضوا فيها للمدنية الإسلامية وحضارتها. ثم شبه في العبارة الثالثة أوضاع المجتمع الجاهلي بليالي الشهر الظلماء والمحاق (حيث تعني السرار الليالي التي لايبزغ فيها القمر أبداً) فقال(عليه السلام): «و بنا أفجرتم عن السرار». والواقع هو أنّ هذه التعبيرات إنّما تنبع من القرآن الذي شبه الإسلام والإيمان والوحي بالنور، فقال: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ)(1) وقال في موضع آخر:(قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِـينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ بِإِذنِهِ)(2) وقال: (وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ)(3) ـ ثم يذم(عليه السلام)الأفراد الذين صخت آذانهم عن سماع الحق بينما يثني على غيرهم من ذوي الاسماع فقال(عليه السلام): «وقر سمع لم يفقه الواعية». تستعمل مفردة «الوقر» بشأن الصمم كما تستعمل في ثقل السمع، والمراد بالواعية الأصوات المرتفعة، وهى إشارة لآيات القرآن التي تقرع الاسماع بشأن المسائل المهمّة العقائدية والعملية والأخلاقية وكذلك السنة النبوية الشريفة. أمّا التعبير «لم يفقه» بدلاً من «لم يسمع» تفيد عدم جدوى السمع مالم يصحبه الإدراك والفهم. ثم واصل الإمام(عليه السلام) كلامه فقال: «وكيف يراعى النباة(4) من أصمته الصيحة»(5). والمراد كيف يصغي لي ويستمع قولي من لايراعي أو امر الله ونبيّه(صلى الله عليه وآله)فقد شبه
1. سورة البقرة / 257.
2. سورة المائدة / 15 ـ 16.
3. سورة الزخرف / 44.
4. «النبأة» من مادة «نبأ» بمعنى القدوم من مكان إلى آخر ومن هنا اطلق النبأ على الخبر الذي ينتقل من مكان إلى آخر والنبأة بمعنى الصوت الخفي لأن الصوت ينتقل من مكان إلى آخر (مقاييس اللغة).
5. قال بعضى شرّاح نهج البلاغة أن قوله «أصمته الصيحة» ليس معناه أن الصيحة كانت علة لصممه، بل معناه أنّهم كانوا صمما عن سماع صوت الوحي، كقوله سبحانه «أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لايعقلون» (سورة يونس / 42).
ذلك بمن أصمته الصيحة القوية فانه محال أن يراعي بعد ذلك الصوت الضعيف. ولما كانت
هنالك الفئة الاُخرى المتعصبة للحق فقد قال(عليه السلام): «ربط جنان(1) لم يفارق الخفقان(2).
ما مر معنا في هذا القسم من الخطبة هو إشارة إلى واقعة تأريخية مهمّة تتضح من خلال مقارنة عصر العرب الجاهلية بعصر التطور والازدهار الذي أعقب بزوغ شمس الإسلام، كيف كان عرب الجاهلية من حيث العقائد الدينية والقضايا المتعلقة بالمبدأ والمعاد والنظام الاجتماعي ونظام الاسرة والأخلاق والتقوى والأوضاع الاقتصادية وكيف أصبحت هذه الاُمور أبان انبثاق الدعوة الإسلامية ونزول القرآن الكريم. والحق أن التفاوت بينهما إلى درجة من المدى والعمق بحيث لايمكن سوى نعته بالمعجزة الكبرى وإلاّ تعذر تصور ذلك التفاوت. فما صوره الإمام(عليه السلام)في هذه الخطبة لم يكن سوى الظلام المطلق الذي القى بظلاله على جميع المجتمع، ولم يكد ينبثق الإسلام حتى تبددت هذه الظلمة بفجر الإسلام ليأخذ بيد المجتمع إلى العلم والمعرفة والثقافة والحضارة والمدنية. ولم تكن سوى إشارة قصيرة ولا يمكن الالمام بتفاصيلها إلاّ بالرجوع إلى الكتب التي ألفت بشأن الحضارة الإسلامية. كما وردت بعض التفاصيل في سائر خطبه(عليه السلام) في نهج البلاغة.
—–
1. «جنان» بمعنى القلب لأنه في صدر الإنسان وقد اشتقت هذه المفردة من جن (على وزن فن) بمعنى الاستتار ومن هنا يطلق جنّة على الحديقة الغناء والأرض المغطاة بالأشجار، ويطلق الجنين على الطفل المستتر في بطن اُمّه كما تطلق مفردة الجن لأنّهم استجنوا فلا يروا والمجنون تطلق على من ستر عقله.
2. «خفقان» بمعنى الاضطراب، ويستعمل للخوف والخشية لانها تدعو للاضطراب والمراد بها في العبارة خوف الله.
«ما زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَواقِبَ الْغَدْرِ وَأَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ الْمُغْتَرِّينَ، حَتَّى سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبابُ الدِّينِ، وَبَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الْحَقِّ فِي جَوادِّ الْمَضَلَّةِ، حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَلا دَلِيلَ، وَتَحْتَفِرُونَ وَلا تُمِيهُونَ».
—–
الشرح والتفسير
لقد خاطب الإمام علي(عليه السلام) ـ في هذا المقطع من الخطبة ـ سليلي أصحاب الجمل من تبقى منهم قائلا: «مازلت انتظر بكم عواقب الغدر، واتوسمكم(1) بحلية المغترين(2)». فقد روى أنّه لما بويع عليّ (عليه السلام)كتب إلى معاوية: أمّا بعد فإنّ الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة منّي وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لى، وأوفد إلىّ أشراف أهل الشام قبلك.
فلما قدم رسوله على معاوية، وقرأ كتابه، بعث رجلاً من بني عميس، وكتب معه كتاباً إلى الزبير بن العوام، وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله الزبير أميرالمؤمنين من معاوية بن أبي سفيان:
سلام عليك، أمّا بعد، فإنّي قد بايعت لك أهل الشام، فأجابوا واستوسقوا، كما يستوسق الجلب، فدونك الكوفة والبصرة، لا يسبقك إليها ابن أبي طالب، فإنّه لا شيء بعد هذين
1. «أتوسمكم» من مادة «وسم» على وزن ولم أتفرس فيكم، الأثر والعلاّمة; أي كنت أرى فيكم علائم الغدر منذ البداية.
2. «مغترين» من مادة «غرور» بمعنى مخدوعين.
المصرين، وقد بايعت لطلحة بن عبيدالله من بعدك، فأظهر الطلب بدم ثمان، وادْعُوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجدّ والتشمير، أظفركما الله، وخذل مناوئكما! فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سُرّ به، وأعلم به طلحة وأقرأه إياه، فلم يشكاً في النصح لهما من قبل معاوية، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي(عليه السلام).
جاء الزبير وطلحة إلى علي (عليه السلام) بعد البيعة بأيام، فقالا له: يا أميرالمؤمنين، قد رأيت ما كنّا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلّها، وعلمت رأى عثمان كان في بني أمية، وقد ولاّك اللّه الخلافة من بعده، فولّنا بعض أعمالك، فقال لهما: ارضيا بقسْم الله لكما، حتى أرى رأيي، واعلما أنّي لا أشرك في أمانتي إلاّ من أرضى بدينه وأمانته من أصحابي، ومن قد عرفت دخيلته، فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس، فاستأذناه في العمرة.
طلب طلحة والزبير من علي (عليه السلام) أن يولِّيهما المصرين: البصرة والكوفة، فقال حتى أنظر. ثم استشار المغيرة بن شعبة، فقال له: أرى أن تولِّيَهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس. فخلا بابن عباس، وقال: ماترى؟ قال: يا أميرالمؤمنين، إنّ الكوفة والبصرة عَيْن الخلافة، وبهما كنوز الرجال، ومكان طلحة والزبير من الإسلام ما قد علمت، ولستُ آمنهما إن ولّيتَهُما أن يُحْدِثا أمراً. فأخذ علي (عليه السلام)برأى ابن عباس.
لما خرج الزبير وطلحة من المدينة إلى مكّة لم يلقيا أحدا إلاّ وقالا له: ليس لعلي في أعناقنا بيعة، وإنّما بايعناه مكرَهين. فبلغ علياً (عليه السلام) قولهما، فقال: أبعدهما اللّه وأغرب دارهما، امّا واللّه لقد علمتُ أنّهما سيقتُلان أنفسهما أخبث مقتل، ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم، واللّه ما العُمرةَ يريدان، ولقد أتياني بوجهي فاجريْن، ورجعا بوجهي غادرين ناكثين، واللّه لا يلقياننى بعد اليوم إلاّ في كتيبة خشناء، يقتلان فيها أنفسهما، فبُعْداً لهما وسحقاً.(1)
ثم أضاف(عليه السلام) أنّ لباس الدين وجلبابه هو الذي يجعلني أغض الطرف عنكم (ولا أهتك سريرتكم): «حتى سترني عنكم جلباب(2) الدين، وبصرنيكم صدق النيّة». والواقع هو أنّ عبارة الإمام(عليه السلام) إجابة عن سؤالين هما: أولا: لو كان الإمام(عليه السلام) يتوقع نقضهم للعهد ويتوسم
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 230 و 231.
2. «جلباب» بمعنى الثوب والستر.
ذلك فيهم فلم لم يعلن ذلك على الملأ؟ وثانياً: من أين له هذا العلم بباطن هؤلاء؟ فقد رد الإمام(عليه السلام) على السؤال بقوله: «سترني عنكم جلباب الدين» ورد على السؤال الثاني بقوله «وبصرنيكم صدق النية». بينما ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى تفسير العبارة الاولى بانّكم لم تعرفوني، وما ذلك إلاّ لسوء فهمكم للدين، أو أن تديني منعكم من معرفتي; إلاّ أنّ هذا المعنى يبدو مستبعداً لما ينطوي عليه من تكلف إلى جانب عدم إنسجامه والعبارات السابقة، فالمعنى الأول هو الأنسب. ثم إختتم كلامه(عليه السلام)بالقول: «أقمت لكم على سنن الحق في جواد(1)المضلة(2) حيث تلتقون ولادليل، وتحتقرون ولاتميهون»(3) يشبه الإمام علي(عليه السلام)الناس في عصر عثمان ولا سيما أواخر عمره بالرحالة الذين ضلوا الطريق وساروا على غير هدى فهم يتضوون عطشاً وهم يحفرون الأرض موضعاً موضعاً من أجل الوصول إلى الماء فلا يحصلون عليه; فيهب الإمام(عليه السلام)لنجدتهم فيهديهم إلى الصراط المستقيم فينتهلون من منهله العذب. ثم يلفت إنتباههم إلى عظم الفتن الدينية والدنيوية التي كانت ستلتهمهم في ذلك العصر المظلم لولا وجوده(عليه السلام).
لقد أشار الإمام(عليه السلام) إلى قضية مهمّة وهى أنّ صفاء النفس وصدق النية من العناصر التي تكمن وراء البصيرة والفراسة. فالمؤمنون الأصفياء الباطن يرون ما لايرى غيرهم، وهى الحقيقة التي صرّح بها القرآن الكريم وأكدتها الروايات الإسلامية. فقد جاء في القرآن: (ان تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً)(4). وورد في الحديث المعروف عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «إتقوا فراسة المؤمن فانّه ينظر بنور الله»(5) وقال الإمام الرضا(عليه السلام): «ما من مؤمن إلاّ وله فراسة ينظر
1. «جواد» جمع «جادة» بمعنى الطرق الكبيرة و الواسعة.
2. «مضلة» من مادة «ضلال» الموضع الذي يضل سالكه وعليه فمعنى جواد المضلة طرق الضلال.
3. «تميهون» من مادة «موه» على وزن نوع بمعنى تجدون ماءاً، ومنه أخذت مفردة الماء وأماه بمعنى بلغ الماء.عليه فمعنى لاتميهون لا تبلغون الماء (و إن أجهدتم أنفسكم في حفر الأبار).
4. سورة الانفال / 29.
5. اصول الكافي 1 / 218.
![]() |
![]() |