2 ـ ستر عيوب الناس

غالبا ما يتصف الأفراد بالعيوب الخفية التي قد يطلع عليها الإنسان من خلال الطرق العادية أو إستناداً إلى الفراسة والإيمان; فاذا إطلع عليها فانّ الواجب يحتم عليه ـ ولاسيما إذا إطلع ذلك ولاة الاُمّة وقادة المجتمع ـ أن يسعى جاهداً لسترها وعدم هتك حجابها مادامت لاتشكل خطرا يتهدد المجتمع; وذلك لأن هتك سريرة الآخرين وكشف عيوبهم يجردهم من حرمتهم من جانب ويفسح المجال أمامهم لارتكاب المعاصي والجرأة على مقارفتها من جانب آخر; فالفرد يبقى محتاطاً مادام عيبه مستور، فانّ هتك وافتضح أمره فلا يراع شيئاً، وناهيك عن كل ذلك فان هتك العيوب مدعاة لاشاعة الفاحشة في المجتمع وتلوث الآخرين بارتكاب الذنب. ومن هنا ورد التأكيد في الروايات والأحاديث على كتم السر على أنّه حق من حقوق المؤمنين على بعضهم البعض الآخر. فقد جاء في الحديث: «واكتم سره وعيبه واظهر منه الحسن»(3). وعن الإمام الصادق(عليه السلام) انّه قال: «من ستر على مؤمن عورة يخافها ستر الله


1. بحارالانوار 24 / 128 ح 13.

2. بحارالانوار 67 / 59 (باب القلب وصلاحه).

3. أصول الكافي 2 / 249 ح 3 (باب ان المؤمن صنفان).

[ 279 ]

عليه سبعين عورة من عورات الدنيا والآخرة»(1) فقد أشار الإمام علي(عليه السلام)إلى هذه الوصية الإسلامية وأعلن طاعته وامتثاله لها، وبالطبع فقد قلنا إنّما يكون ذلك مالم تقود تلك العيوب التي يراد سترها إلى بعض المشاكل الاجتماعية التي تهدد كيان المجتمع، وإلاّ فالوظيفة تقتضي إعلان الحقائق. ولكن لاينبغي التذرع بهذا الاستثناء من أجل هتك عيوب الناس وأسرارهم.

—–


1. اصول الكافي 2 / 200، ح 5.

[ 280 ]

[ 281 ]

 

 

القسم الثالث

 

«الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْماءَ ذاتَ الْبَيانِ! عَزَبَ رَأْيُ امْرِئ تَخَلَّفَ عَنِّي! مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ! لَمْ يُوجِسْ مُوسَى(عليه السلام) خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الْجُهّالِ وَدُوَلِ الضَّلالِ الْيَوْمَ تَواقَفْنا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَالْباطِلِ. مَنْ وَثِقَ بِماء لَمْ يَظْمَأْ».

—–

 

الشرح والتفسير

اليوم أكشف الحجاب

لقد تضمن هذا القسم من الخطبة عدّة عبارات أشارت لعدة اُمور مهمّة، ويبدو أنّ هنالك عدّة جمل تخللت هذه العبارات قد أسقطها السيد الرضي(رحمه الله) حين التلخيص، فقد كانت عادة السيد في إختيار مقتطفات من الخطب وحذف بعض العبارات، على كل حال فانّ الأمر الذي أشار إليه الإمام(عليه السلام) هنا هو قوله: «اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان». والعجماء البهيمة التي لانطق لها، إلاّ أنّها تطلق أحيانا على الحوادث والقضايا الصماء التي ليست لها قابلية على النطق. ومن هنا يرى أغلب شرّاح نهج البلاغة أنّ المراد بالعجماء الحوادث التي تنطوي على العبر والدروس التي حدثث على عهد الإمام(عليه السلام) أو العهود الماضية وكل حادثة مع غموضها وخفائها فكأنّها تنطق لأولي الألباب. فالإمام(عليه السلام) يتعرض لبيان عبرها ودروسها التي ينبغي أن يتعظ بها المسلمون. كما ذهب البعض إلى أنّ المرادبها صفاته الكمالية(عليه السلام) أو الأوامر الإلهية فكأنّها هى الاُخرى صامتة والإمام(عليه السلام)يكشف عن منطقها. ثم قال(عليه السلام) في العبارة الثانية: «عزب رأي إمرئ تخلف عني، ما شككت في الحق مذ اُريته» في الواقع يبدو صدر وذيل هذه العبارة من قبيل العلة والمعلول أو الدليل والمدعى، وإذا أخذ بنظر الاعتبار تربية الإمام(عليه السلام) في

[ 282 ]

حضن النبي(صلى الله عليه وآله) على الحق والاستقامة وبفضله كاتب الوحي وشاهد المعاجز والأعظم من ذلك كونه باب مدينة علم رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى جانب علمه بالشهود إضافة لعلمه بالظاهر فانّ كلامه(عليه السلام)لايعرف معنى للاغراق والمبالغة قط. واحتمل بعض الشرّاح أنّ جملة «عزب رأي إمرئ...» من قبيل الدعاء; أي بعدا وترحا لمن تخلف عن أوامري. ويبدو المعنى الأول أنسب، أمّا العبارة الثالثة فقد أورد فيها الإمام(عليه السلام)رداً على سؤال قد يقتدح في ذهن البعض بعد موقعة الجمل وهو: لم كان الإمام(عليه السلام) قلقاً من أحداث تلك الموقعة؟ فالإمام(عليه السلام)يجيب بانّ هذا القلق ليس على نفسه قط، بل خشية من تسرب الشك والريب إلى قلوب عوام الناس بفعل إقتحام الميدان من قبل زوج النبي(صلى الله عليه وآله)وبعض الصحابة من قبيل طلحة والزبير وارتفاع الأصوات المطالبة بدم عثمان; كالقلق الذي عاشه موسى(عليه السلام)حين واجهه السحرة بسحرهم خشية غلبتهم واضلال الناس «لم يوجس موسى(عليه السلام) خيفة على نفسه بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال». وهى إشارة إلى الآيات التي وردت في سورة طه بشأن موسى(عليه السلام)والسحرة (قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِىَ وَ إِمّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى * قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِـبالُهُمْ وَعِصِـيُّـهُمْ يُخُـيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَ نَّها تَسْعى* فَأَوْجَـسَ فِي نَفْسِهِ خِـيفَةً مُوسى)(1). أمّا في العبارة الرابعة فيحذر من تبقى من مثيري فتنة الجمل في أننا وإيّاكم قد وقفنا على مفترق طرق نتجه فيه إلى الحق بينما تتجهون نحو الباطل «اليوم توافقنا(2) على سبيل الحق والباطل». كأنّ الإمام(عليه السلام)يقول لهم، افتحوا أعينكم وانظروا إلى ما أنتم عليه فانكم إنّما خرجتم على إمام زمانكم! لقد نكثتم البيعة ولم تقيموا حرمة للمواثيق! لقد شققتم عصا المسلمين وفرقتم صفوفهم! وسفكتم دماءاً غزيرة! وقلدتم أنفسكم مسؤولية كبرى ستطيل وقوفكم أمام الله يوم القيامة! ارجعوا إلى رشدكم واعيدوا النظرا في أوضاعكم!. وأخيراً يختتم الإمام(عليه السلام)خطبته بقوله: «من وثق بماء لم يظلمأ» مراده(عليه السلام) أنّ من كان له واعظ وقائد موثوق لايتسلل إليه الشك والترديد والوساوس الشيطانية والقلق والاضطراب وإنعدام الثقة; وذلك لأنه يرى نفسه على جرف ماء المعرفة الفرات العذب ويلوذ بامامه عند الفزع فيأتمر بأوامره


1. سورة طه / 65 ـ 67.

2. «توافقنا» من مادة «الوقوف» والقاف مقدمة على الفاء.

[ 283 ]

والاستضاءة بنور علمه. وأنتم كذلك لو عرفتم زعيمكم ووثقتم به فاعلموا أنّكم سائرون على الحق وآمنون من كافة أشكال الشكوك و الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية.

 

الصراع بين الحق والباطل

لقد شبه الإمام(عليه السلام) الحق والباطل بطريقين سلك فريق أحدهما والآخر الثاني، وإذا أردنا تفسير هاتين المفردتين باختصار، فلابدّ أن نقول بانّ الحق هو الواقع والباطل هو الخيال والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء. ومن هنا فان الذات الإلهية المقدسة التي تعدّ أعظم من كل واقع اكتسبت أول اسم وهو الحق، وغيره على الحق بقدر إرتباطه به وكلما ابتعد عنه فهو على الباطل. فعالم الإمكان لانتمائه لله فهو حق، وهو باطل لامتزاجه ببعض جوانب العدم. فالعالم ميدان لصراع الحق والباطل وقد صور القرآن الكريم أبعاد هذا الصراع وعاقبته نتائجه بمثال رائع في سورة الرعد حيث قال: (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءاً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَة أَوْ مَتاع زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذ لِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالباطِلَ فَأَمّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءاً وَأَمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرضِ كَذ لِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثالَ)(1).

—–


1. سورة الرعد / 17. للوقوف على تفاصيل هذا المثل القرآني راجع تفسير الأمثل / 10 ذيل هذه الآية.

[ 284 ]

[ 285 ]

 

 

الخطبة 5

 

 

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاطبه العباس وابوسفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة (و ذلك بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في السقيفة وفيها ينهى عن الفتنة ويبين عن خُلقه وعلمه)(1).

—–

 

نظرة إلى الخطبة

هذه واحدة من الخطب التي نقلت عن الإمام(عليه السلام) في أنّها خطبها قبل خلافته. والذي يستفاد من هذه الخطبة والمقدمة التي أوردها الشريف الرضي (ره) عليها أن أباسفيان والعباس إنطلقا إلى علي(عليه السلام) بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) (و لعل أباسفيان دفع العباس إلى ذلك) واقترحا على الإمام(عليه السلام) النهوض بالأمر والبيعة له على أنه خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله). إلاّ أنّ الإمام(عليه السلام) الذي كان يحرص على بيضة الإسلام واستناداً إلى علمه التام بالظروف التي كانت تهدد الدين آنذاك وضرورة قبر المؤ امرات والفتن في مهدها ليس فقط لم يجبهم لتلك البيعة نحسب، بل حذرهما بكل صرامة من مغبة هذا العمل ونصحهما بالابتعاد عنه. ولما كان(عليه السلام)


1. لقد نقلت هذه الخطية من سائر المصادر الاُخرى غير نهج البلاغة. ومن بين مصادر نهج البلاغة ماروي عن كتاب المحاسن والمساوئ للبيهقي، 2 / 139، تذكرة الخواص للسبط الجوزي والاحتجاج للطبرسي 1/127 كما يستفاد من كلمات ابن أبي الحديد أنّه نقل هذه الخطية من طرق اُخرى.

[ 286 ]

عالما ببعض المغرضين أو الجهال الذين قد يشكلون على سكوته فقد رد(عليه السلام) على هذا الإشكال، ثم إختتم كلامه ببيان مدى عشقه للموت وانطوائه على العلم الذي لايسع الآخرين سماعه فضلا عن احتماله. ولم يأذن له في الكشف عن أسراره.

[ 287 ]

 

 

القسم الأول

 

«أَيُّها النّاسُ شُقُّوا أَمْواجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجاةِ، وَعَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنافَرَةِ، وَضَعُوا تِيجانَ الْمُفاخَرَةِ. أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَناح، أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ. هَذَا مَاءٌ آجِنٌ، وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا. وَمُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِيناعِها كالزّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ».

—–

 

الشرح والتفسير

احذروا مثيري الفتن

إنّ سبب هذه الخطبة هو: لما قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) واشتغل علي(عليه السلام) بغسله ودفنه وبويع أبوبكر في سقيفة بني ساعدّة ، خلا الزبير وأبوسفيان بالعباس عم النبي(صلى الله عليه وآله)قال: امّا والله إني لأرى عجاجة لايطفئها إلاّ الدم، يا لعبد مناف، فيم أبوبكر من أمركم، مابال هذا في أقل حي من قريش. ثم قال لعلي(عليه السلام) أبسط يدك أبايعك، فو الله إن شئت لأملأنها على أبي فضيل ـ يعني أبابكر ـ خيلاً ورجلاً، فامتنع علي(عليه السلام) حيث كان يعلم الإمام(عليه السلام)بأنّه لاينشد سوى الفساد والفتنة ومن هنا خطب هذه الخطبة.(1) واورد المؤرخ المعروف ابن أثير في كتابه الكامل أنّ علياً(عليه السلام) ردّ على أبي سفيان بانّك تريد الفتنة ولاتضمر للإسلام سوى الشر فلا حاجة لنا بنصحك.(2) ومن هنا تتضح أجواء الخطبة وسهولة تفسير ماورد فيها من عبارات. فقد أشار(عليه السلام)في القسم الأول من هذه الخطبة إلى أربعة مواضيع مهمّة. فقال(عليه السلام): «أيّها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرجوا(3) عن طريق المنافرة(4)، وضعوا تيجان المفاخرة».


1. شرح نهج البلاغة لإبن ميثم 1 / 276.

2. الكامل لابن أثير 2 / 326.

3. «عرجوا» من مادة «تعريج» بمعنى الرغبة أو الترغيب وهى هنا بمعنى الاعتزال.

4. «المنافرة» حسب قول صاحب مقاييس اللغة تعنى التحاكم لدى القاضي ومن لوازمها النزاع والمخاصمة.

[ 288 ]

قوله(عليه السلام)أيّها الناس يفيد حضور عدد كبير من الناس فضلاً عن ذانك الفردين. ويؤيد هذا المعنى بعض الروايات الواردة بهذا الشأن. والنقطة الجديرة بالذكر أنّ الإمام(عليه السلام)شبه الفتن بالأمواج العاتية الكاسحة والتي يوصي بمجابهتها من خلال الاعتصام بسفن النجاة. والمراد بسفن النجاة تلك السفن العملاقة التي تشق عباب البحر ولاتصمد أمامها الرياح العواتي فتبلغ بركابها شاطئ الأمان، ويراد بهم هنا الزعماء الربانيين ولاسيما أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله)(1)، أي إسمعوا وأطيعوا لما نقول لا لما تريدون، وللتأكيد على هذا المعنى فقد شبه(عليه السلام)التفاخر القبلي والفئوي بالطريق الخطير المرعب الذي ينبغي إجتنابه (لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّ المعنى الأصلي للمنافرة هو أن يذكر كل واحد من الرجلين مفاخره وفضائله، ثم يتحاكما إلى ثالث) ـ فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) أراد بهذا الكلام القيم أن يركز على العامل الأصلي لآلام البشرية ومعاناتها، التي تفرزها على الدوام الحروب الدموية والاختلافات والنزاعات والاقتتالات التي تستند إلى التفاخر; فاذا ما حطم هذا الصنم أمكن حل كافة مشاكل المجتمعات البشرية وعاد إلى الدنيا الأمن والصلح والسلام. طبعا صحيح أنّ طلاب القدرة والمنصب إنّما يتقنعون بالدفاع عن حقوق المجتمع وحفظ القيم والمثل، ولكن ليس هنا لك من يشك في أنّهم إنّما يتظاهرون بهذه الشعارات من أجل تحقيق أغراضهم ومآربهم بغية التفاخر على الآخرين . ثم قال(عليه السلام): «أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فاراح»(2). فالإمام(عليه السلام)أشار إلى نقطة أساسية هى أنّ القيام بالحق تتطلب بعض الشرائط; فلو توفرت هذه الشرائط لما ترددت في القيام بالأمر، أمّا إذا لم تتوفر فالعقل والمنطق والدين لايحكم بأنّ القيام ليس بمجد فحسب، بل من شأنه أن يثير الفرقه والاختلاف والاذى والمعاناة للآخرين كما يؤدي إلى القضاء على القوى الناهضة بالحق، وهذا أصل من الاُصول الثابتة التي ينبغي رعايتها في كافة الانشطة الاجتماعية ولاسيما في النهضات والثورات السياسية. أمّا النقطة الاُخرى التي تطرق إليها الإمام(عليه السلام) فانّما تكمن في


1. جاء في الرواية المشهورة عن النبي(صلى الله عليه وآله): «مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق». امّا قول ابن أبي الحديد أن هذا الحديث صحيح الا ان أهل البيت(عليه السلام)لم يرادوا بهذه اللفظة فهو خاطئ. فقد أراد الإمام(عليه السلام)بهذه العبارة أن اسمعوا لما آمركم به واَطيعوا ولاتتبعوا ما تمليه عليه إرادتكم.

2. لابدّ من الالتفات هنا ألى الفعل (أراح) قد يأتي لازما أحيانا ومتعديا أحيانا اُخرى، ومفهومه على ضوء المعنى الأول أراح نفسه بينما معناه أراح الآخرين متعديا.

[ 289 ]

مسألة الخلافة والأخذ بزمام اُمور الاُمّة التي جعلها البعضى شماعة ليجيزوا حتى الوسائل غير المشروعة من أجل الوصول إليها فقال(عليه السلام): «هذا ماء آجن(1)، ولقمة يغص(2) بها آكلها». فحياة الإنسان متقومة بالماء والغذاء، ولكن أي ماء وغذاء؟ طبعا الماء النقي والغذاء الزكي، فالإمام(عليه السلام)شبه هنا طبيعة الحكومة بالماء المتعفن والغذاء الغصة. والحق كما صوره الإمام(عليه السلام)، فالإنسان كلما إقترب من حياة الحكام والساسة إكتشف مدى عظم مشاكلهم وشدة إستيائهم ووخامة أوضاعهم، فليس لهم من هدوء ولاسكينة كما ليس لهم من أمن أو إستقرار. وليس لهم سوى المظاهر الكاذبة الفارغة التي لاتنطلي سوى على بعض السذج. وبالطبع فان أولياء الله يسارعون لاحتواء هذه المشاكل ويتحملون كافة الصعاب والمعضلات كما يضحون بهدوءهم واستقرارهم خدمة لدين الله وعباده. كما ذهب البعض إلى أنّ اسم الإشارة (هذا) يشير إلى نوع الحكومة التي إقترحها أبوسفيان. على كل حال صحيح أن الحكومة كالماء الذي يعدّ قوام حياة الامم، إلاّ أنّها كانت ومازالت مطمع أهل الدنيا الذين هبوا بكل قوة لمنازعة أولياء الله على تلك الحكومة فلوثوا هذا الماء كما جعلوا طعام الحياة غصصاً; الأمر الذي جعل الأولياء يترفعون عنها ويعلنوها صراحة «لولا حضور الحاضر وقيام الحجة... لألقيت حبلها على غاربها ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز». امّا في النقطة الرابعة فيشير إلى أحد أبعاد هذه المسألة وهو أن من أراد القيام بالأمر لتشكيل الحكومة الإسلامية فلابدّ أن تكون المقدمات والظروف معدة لذلك أو أن يتولى هو تهيئة هذه الظروف وإلاّ فليست هنالك من قيمة أو أثر لهذا القيام ولايتمخض سوى عن الهزيمة والفشل ـ فقد قال الإمام(عليه السلام) بهذا الشأن: «و مجتني الثمرة لغير وقت إيناعها(3) كالزارع بغير ارضه». وقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ الضمير في (بغير أرضه) يعود إلى الزارع ومفهوم العبارة: كمن زرع في غير أرضه ولاينتفع بذلك الزرع بل يعود ثمره على الآخرين ; إلاّ أنّ


1. «آجن» من مادة «أجن» على وزن ضرب واجون المتعفن المتغير اللون والطعم وقد وردت هنا كإشارة للخلافة.

2. «يغص» من مادة «غصص» على وزن هوس بمعنى صعبة الابتلاع.

3. «ايناع» من مادة «ينع» على وزن منع بمعنى النضج والبلوغ، وعادة ما تستعمل هذه المفردة بشان نضج الثمار، كما تأتي بهذا المعنى أيضاً إذا جاءت من باب الافعال.

[ 290 ]

ضعف هذا التفسير يبدو واضحاً من خلال كلام الإمام(عليه السلام)الذي قرن ذلك بجني الثمار غير الناضجة. وهنا لابدّ من القول بانّ هذه العبارات قد تناولت الاُصول الأساسية والدروس القيمة المعتمدة في تشكيل الحكومات الإلهية ; الأمر الذي يدعو دعاة الحق وعشاق العدالة لعدم الانفعال بالعواطف والاحاسيس العابرة والاقتصار على الدراسات المحدودة من أجل ممارسة أنشطتهم وعليهم أن يتربصوا بكل اُناة وتحسب للوقوف على توقر الشروط وتأهب القوى وإن إحتاج هذا الأمر لمدّة من الزمان، على غرار المزارعين الذين لايقصدون قطف الثمار غير الناضجة رغم حاجته القصوى لهذه الثمار من أجل توفير قوته أو تسويقها وبيعها بغية تغطية حاجاته الأساسية، أضف إلى ذلك فانّ المزارع الماهر لايغرس بذوره في أرض ليست خصبة أبدا، بل يتأنى قبل ذلك بحرث الأرض وسقيها بالماء ثم ينثر بذره.

 

سكوت الإمام(عليه السلام) بعد النبي(صلى الله عليه وآله)

يتساءل الكثيرون لماذا لم ينهض الإمام علي(عليه السلام) بالأمر بدلاً من السكوت رغم كونه الأجدر والأحق بخلافة رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى جانب تأكيدات النبي(صلى الله عليه وآله)على إستخلافه بما يثبت أنّ الخلافة من حقوقه المسلمة بل من حقوق الاُمّة الإسلامية؟

و يبدو أنّ الإجابة على هذا السؤال قد وردت في العبارات القصيرة البعيدة المعنى في هذه الخطبة، حيث ذكر بعض الأسباب التي دعته لعدم القيام والنهوض بالأمر. أولها عدم إنطواء الأفراد ـ كابي سفيان ـ على حسن النية في اقتراح النهوض بالأمر والتصدي للخلافة، أو أنّهم ـ كالعباس ـ كانوا ممن دفعوا من أصحاب الاغراض السيئة; الأمر الذي جعل الإمام(عليه السلام)يتعامل مع هذه الاقتراحات كفتن وبلا بل تستهدف القضاء على المسيرة ولم يكن معه الا القليل، وهذا ما صرّح به الإمام(عليه السلام): «فنظرت فاذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى. وشربت على الشجا، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمر أمرّ من طعم العلقم»(1) وناهيك عن كل ذلك فانّ الخلافة والحكومة لم تكن هدفا بالنسبة


1. نهج البلاغة، الخطبة 26.

[ 291 ]

للإمام(عليه السلام)حيث كان يراها الإمام(عليه السلام) كالماء الآسن المتعفن والطعام المنغص; بل يراها وسيلة لاحقاق الحق وإبطال الباطل «قال عبدالله بن عباس: دخلت على أميرالمؤمنين(عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله. فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها! فقال(عليه السلام): والله لهي أحب إلى من إمرتكم، إلاّ أن اُقيم حقا، أو أدفع باطلاً»(1). إلاّ أنّ الإمام(عليه السلام)حين يرى هذا القيام لايؤدي إلى تحقيق الهدف، بل بالعكس إنّما يثير الخلاف والشقاق والفرقة في صفوف المسلمين ولعله يتيح الفرصة للمنافقين الذين يتربصون بالاسلام الدوائر فلا يرى هناك من سبيل سوى الصمت والسكوت. وقد أورد ابن أبي الحديد أن فاطمة(عليها السلام)حدثت الإمام(عليه السلام)بالنهوض بالأمر، فلما ارتفع صوت المؤذن «أشهد أنّ محمداً رسول الله» إلتفت إليها قائلا: أيسرك زوال هذا النداء من الأرض؟ قالت: لا. قال: فلابدّ من الصبر والسكوت(2). وبغض النظر عمّا تقدم فان كل عمل ـ ولاسيما النهضات الاجتماعية الإسلامية ـ يتطلب بعض المقدمات ولابدّ من توفر كافة الشروط اللازمة، وإلاّ فليست هنالك من نتيجة سوى الهزيمة والفشل والخذلان وهدر طاقات الاُمّة وتبديد قواها، وهذا الأمر أشبه بقطف الثمار غير الناضجة أو نثر البذور في الأرض المالحة. ومن هنا كان الإمام(عليه السلام) قيامه يكمن في السكوت والصمت.

—–


1. نهج البلاغة، الخطبة 33.

2. شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد 11 / 113.

[ 292 ]

[ 293 ]

 

 

القسم الثاني

 

«فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ، وَإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ! هَيْهاتَ بَعْدَ اللَّتَيّا وَالَّتِي! وَاللّهِ لابْنُ أَبِي طالِب آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْم لَوْ بُحْتُ بِهِ لاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرابَ الاَْرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ».

—–

 

الشرح والتفسير

ترى ماالعمل مع المتربصين؟!

يتعرض الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة إلى الحجج والذرائع الواهية المتضاربة التي يردها الجهال والحساد على الإمام(عليه السلام). فيقول الإمام(عليه السلام) إنّ هذه القلوب العمي والبصائر الخافتة لا تنفك تعترض علي في كل موقف اتخذه، فان اتحدث عن أحقيتي بالخلافة وعدم صلاحية الآخرين لها، فالبي دعوة الاُمّة يتخرصون بأنّي حريص على الحكومة، وأنّ آثرت الصمت والسكوت صوروه خوفا من الموت: «فان أقل يقولوا: حرص على الملك وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت». نعم فهذا هو الاسلوب الرخيص الذي ينتهجه الجهال والمتخرصين ليعترضوا على أولياء الله في كل حركة وسكنة وموقف يمارسونه، وهم لايتحفظون حتى عن التناقض والتضارب في هذا المجال، فان قاموا أشكلوا عليهم وإن قعدوا أشكلوا كذلك. ومن هنا فان المؤمنين لايعيرون هذه التناقضات أية آذان صاغية. ويبدو أنّ هذا هو الأمر الذي أشار إليه الإمام الصادق(عليه السلام) في الحديث المروي عنه أنّه قال: «إنّ رضى الناس لا يملك

[ 294 ]

وألسنتهم لا تضبط»(1). كما ورد شبيه هذا المعنى في الخطبة 172 من نهج البلاغة: «و قد قال قائل: إنّك على هذا الأمر يابن أبي طالب حريص، فقلت: بل أنتم والله لأحرص وأبعد،أنا أخص وأقرب، وإنّما حليت حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه، وتضربون وجهي دونه، فلما قرعته بالحجة في أعلا الحاضرين هب كأنّه بهت لايدري ما يجيبني به» ثم يواصل كلامه(عليه السلام)في إطار ردّه على من فسّر سكوته بالخوف من الموت متعجباً من ذلك وهو الذي ثبت حين نكصت الأبطال في بدر وأحد وحنين والاحزاب وخيبر التي أثبتت مدى ولهه وشغفه بالشهادة وله الرضيع بثدي اُمه: «هيهات بعد اللتيا والتي! والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمه». غير أن سكوتي يستند إلى علم بخفايا الاُمور لاتطيقون سماعه «بل إندمجت(2) على مكنون علم لو بحت(3) به لاضطربتم إضطراب الارشية(4) في الطوى(5)البعيدة».

 

تأمّلات

1 ـ سوابق الإمام(عليه السلام)

يشير الإمام(عليه السلام) باختصار إلى الشجاعة والبسالة التي أبداها في الغزوات والمعارك الإسلامية وفي بعض المواضع الخطيرة كمبيته على فراش رسول الله(صلى الله عليه وآله) وما إلى ذلك ليذكر أولئك المرضى الذين يشكلون عليه بأنّه لايخشى أية حادثة مروعة وقدخرج مرفوع الرأس من كل تلك الاختيارات والتمحيصات، وعليه فسكوتي لايقوى دليلاً على ضعفي قط; وليس وراء هذا السكوت سوى مصالح الإسلام والمسلمين، ثم يستشهد على ذلك بالمثل العربي المعروف فيقول «بعد اللتيا والتي».


1. بحارالانوار 67 / 2; تفسير نور الثقلين 1 / 405.

2. «اندمجت» من مادة «اندماج» الانطواء وهى هنا إشارة للاسرار المودعة قلب الإمام(عليه السلام).

3. «بحت» من مادة «بوح» على وزن لوح بمعنى الاعلان وترك الكتمان ومن هنا يطلق «الباحة» على المحيط الواسع و«المباح» على الأعمال الجائزة.

4. «أرشية» جمع «رشاء» على وزن رضاء بمعنى الحبل الطويل، ومن هنا سميت الرشوة لأنّها كالحبال التي تتصل بالدلو ليسحب الماء من البئر.

5. «طوى» من مادة «طي» و هي البئر العميقة البعيدة.

[ 295 ]

و قصة هذا المثل أنّ رجلاً تزوج من إمرأة كانت قصيرة القامة وصغيرة وسيئة الخلق فذاق منها الأمرين حتى طلقها. ثم تزوج من إمرأة طويلة القامة فآذته كسابقتها حتى اضطر لطلاقها، فلما عرضى عليه الزواج قال: «بعد اللتيا والتي لا أتزوج أبداً» فصار ذلك مثلاً يضرب من أجل الحوادث الكبيرة والصغيرة، فالإمام(عليه السلام) يشير إلى أنّه إجتاز كل تلك الحوادث والخطوب فهل من سبيل إلى الخوف والخشية.

 

2 ـ لم أخاف الموت؟!

القضية الاُخرى التي أشار إليها الإمام(عليه السلام) قوله: «لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمه». فالثدي ولبن الاُم أساس حياة الطفل، ومن هنا فان هذا الطفل يعيش حالة من الجزع والانين والصراخ إذا ما جرد من هذا الثدي وكأنّه سلب الدنيا برمتها، فاذا عاد إليه سكن وقر وشعر بالفرح والسرور وكأنّه نال الدنيا بما فيها; إلاّ أنّ هذه العلاقة مهما كانت فهى تستند إلى الغريزة; أمّا علاقة الإمام(عليه السلام) والعرفاء بالموت ولقاء الله (و لا سيما الشهادة في سبيل الله) فهى علاقة قائمة على أساس العقل والمنطق والعشق. فهم لايرون الموت سوى إنطلاقة الحياة الجديدة في ذلك العالم الأوسع والأشمل. يرون الموت نافذة على عالم البقاء والخلود والخلاص من هذا السجن وتحطيم قيوده وأغلاله والتحليق نحو العالم العلوي ومجاورة الرحمن. فهل من عاقل يتردد في التحرر من قضيان السجن والخلاص من هذه القيود والانحلال(1). نعم إنّما يخشى الموت من يراه فاتحة لكل شيء وبداية للعذاب الذي ينتظره بفعل ما قارفه من رذائل وفواحش. فأنى للإمام(عليه السلام)بالخوف من الموت وهو ما عليه من المعارف والعلوم والسمو والرفعة؟ ومن هنا يقسم(عليه السلام) بانّه آنس بالموت من الطفل بثدي اُمه. كما قال في موضع آخر: «فوالله ما اُبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إلى»(2). بل هذا ماجسده عمليا حين ضربه ابن ملجم بالسيف على رأسه فصرخ قائلا: «فزت وربّ الكعبة»(3).


1. لقد تناول أحد الشعراء المعروفين هذه الحالة ليشبهها بنوعين من الأفراد، طائفة قليلة المعرفة فهى كالثمار الخام التي تلتصق بشدة في الشجرة، واُخرى عارفة وهى كالثمار الناضجة التي تتساقط بيسر وسهولة من الشجرة.

2. نهج البلاغة، الخطبة 55.

3. بحارالانوار 42 / 239.

[ 296 ]

3 ـ لم السكوت؟