—–

[ 297 ]

 

 

الخطبة 6

 

 

 

ومن كلام له (عليه السلام)

 

لما أشير عليه بَالاّ يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال

وفيه يبيّن عن صفته بأنّه(عليه السلام)لا يخدع(1).

—–

نظرة إلى الخطبة

حين نكث طلحة والزبير البيعة وقصدا عائشة في البصرة واستوليا عليها، إعتقد البعض بأنّ الإمام(عليه السلام) لن يصطدم بهما وسيتركهما ريثماً يوطد دعائم خلافته فلا تمرّ مدّة حتى يعلنا إستسلامها. فالإمام(عليه السلام) يستهل خطبته بأنّ هذا الكلام خطأ محض وأني لن أقف مكتوف الايدي لتشتد قوة العدو فيباغتني. ثم يبيّن(عليه السلام)عزمه الراسخ على مقاتلة هؤلاء والزحف إليهم بجنده المطيع، ثم يعلن أنّ هذا هو الاسلوب الذي سيتبعه إلى آخر حياته. وأخيراً يختتم الخطبة بالإشارة إلى هذه الحقيقة في أنّ هذه المخالفة والاعتراض ليست بالشيء الجديد وأنّ جذورها تمتد إلى زمان رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومازالت مستمرة ليومنا هذا.

«وَالله لا أكُونُ كَالضبع تنام على طول اللدم، حتى يصل إليها طالبها، ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي


1. كثر الكلام بين الشرّاح والمفسرين بشأن من أشار بهذا على الإمام(عليه السلام). فقد نسبه المرحوم الشيخ المفيد في كتاب الجمل إلى إسامة بن زيد، بينما نسبه بعض المؤرخين والشرّاح من غير الإمامية للإمام الحسن(عليه السلام)، ولكن لايبدو هذا التفسير صحيحاً بالاستناد إلى الرابطة التي كانت قائمة بين الإمام الحسن(عليه السلام)وأبيه(عليه السلام). الاحتمال الأخير فهو أنّ هذه الإشارة لم تكن من قبل فرد بل من قبل طائفة ضالة خلدت إلى الراحة والدعة.

[ 298 ]

المريب أبدا، حتى يأتي علي يومي. فوالله مازلت مدفوعا عن حقي، مستأثرا عليّ، منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يوم الناس هذا.»(1)

 

الشرح والتفسير

الحيطة والحذر تجاه الأعداء

لقد رد الإمام(عليه السلام) على اُولئك الذين يقترحون عدم مطاردة طلحة والزبير الذين نقضا بيعتهما، فقال(عليه السلام): «والله لاأكون كالضبع(2) تنام على طول اللدم(3) حتى يصل إليها طالبها، ويختلها(4) راصدها(5) ويبدو أنّ المثل يضرب بالضبع على أنّه حيوان أبله يمكن صيده بكل سهولة; حيث يقوم الصياد بدق قطعة من الحجر أو العصا أمام عش الضبع فاذا نام تقدم إليه الصياد ليصيده بسهولة. وقد سطرت الخرافات والأساطير بهذا الشأن ومن ذلك أن يخاطب الصياد الضبع فيقول له: يا ضبع نم في عشك، ثم يكرر ذلك عدّة مرات، فيتجه الضبع إلى أقصى غاره وينام. فينادي الصياد: الضبع ليس في العش، الضبع نائم، ثم يدخل عليه العش فيربطه بحبل ويخرجه من عشه ومن هنا شبه الأفراد الذين يعيشون الغفلة تجاه العدو بالضبع. أمّا الوقائع التأريخية آنداك فهى تشير إلى سذاجة الاقتراح القاضي بعدم مطاردة طلحة والزبير; وذلك لأن خطتهما كانت تستهدف السيطرة على البصرة والكوفة ثم يبايعهما معاوية ويأخذ لهما البيعة من أهل الشام فتخضع أغلب المناطق الإسلامية لسيطرتهما فلايبقى لعلي(عليه السلام)سوى المدينة. أضف إلى ذلك فان هؤلاء إستطاعوا أن يؤلبوا أكثر عدد ممكن من الناس من خلال


1. أشار مؤلف كتاب «مصادر نهج البلاغة» إلى المصادر الاُخرى التي نقلت هذه الخطبة ومنها «تأريخ الطبري، أمالي الشيخ الطوسي، صحاح اللغة وغريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام».

2. «ضبع» على وزن سبع، يطلق أحيانا على القحط والجفاف لأنّه يأكل كل شيىء ويقضي عليه.

3. «اللدم» حسب ما صرّح به بعضى أرباب اللغة هو صوت الحجر أو العصا أو غيرهما، تضرب به الأرض ضرباً غير شديد، ومن الطبيعي أنّ مثل هذا الصوت إذا تكرر يمكنه أن يؤدي إلى النوم.

4. «يختلها» من مادة «ختل» على وزن ختم بمعنى الخداع والمخاتلة بمعنى المشي بهدوء نحو الصيد بحيث لايهرب.

5. «الراصد» من مادة «الرصد» بمعنى المترقب ومن هنا يطلق على مراقبة المنجمين اسم الرصد كما يطلق على موضع الرصد اسم المرصد.

[ 299 ]

الشعار الذي يطالب بدم عثمان حتى رسخ في أذهان الناس أنّ قاتل عثمان هو علي(عليه السلام). ومن الواضح أنّ تلك الخطة كادت أن ترد الميدان عمليا لولا مبادرة الإمام(عليه السلام) وتسريعه بمواجهة الفتنة حتى استطاع أن يقبر تلك المؤامرة في مهدها فتمكن من إنقاذ البصرة والكوفة بل والعراق بأجمعه، ولولا المعارضة التي أبداها الجهال تجاه الإمام(عليه السلام)في إطار تعامله مع ظلمة الشام لاراح المسلمين وإلى الأبد من شرهم ولعاد العالم الإسلامي برمته وحدة واحدة; غير أنّ المؤسف له ـ وكما أشير إلى ذلك في ذيل الخطبة الشقشقية ـ تعالت أصوات الجهال المغرضين الذين انطلت عليهم الدعايات ليوقفوا تلك المعركة التي كان النصر فيها للإمام(عليه السلام)قاب قوسين أو أدنى. ثم يواصل الإمام(عليه السلام) كلامه ليقول: «ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً، حتى يأتي علي يومي».

طبيعي أنّ المجتمع لايتبنى الحق بجميع أفراده; فهناك ضعاف الإيمان وعبدة الاهواء وأصحاب الجاه والمناصب الذين لايروق لهم إمام عادل حيث يهدد منافعهم اللامشروعة فيلجأون إلى أساليب الدعاية والخداع والكذب والزيف وإثارة الشائعات; الأمر الذي يدعو الساسة والحكام إلى الاجهاض على هذه العناصر الفاسدة وإجتثاثها من المجتمع بصفتها غدة سرطانية يمكنها أن تلوث المجتمع، أو السعي للحد من نشاطهم وفعاليتهم ألم تكن مخاطرهم شديدة، كما ينبغي على دعاة الحق أن يكونوا على أهبة الاستعداد على الدوام للانقضاض على هذه العناصر والقضاء عليها. وأخيراً يصف الإمام(عليه السلام) هذه المعوقات بأنّها ليست جديدة وإنّما لها جذورها التي تمتد إلى زمان رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله): «فو الله مازلت مدفوعاً عن حقي، مستأثراً عليّ، منذ قبض الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم حتى يوم الناس هذا» في إشارة إلى قضية طلحة والزبير في إنّها تأتي في إطار حلقة مستمرة منذ وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)مازالت قائمة حتى اليوم. امّا تعبيره بمدفوعاً ومستأثراً فهى إشارة إلى المقاومة التي أبداها الأعداء حيال الإمام(عليه السلام)لزحز حته عن حقّه وتقديم الآخرين عليه، لأنهم لايطيقون عدله وشدته. أمّا قوله(عليه السلام): «حتى يوم الناس هذا» ـ بالالتفات إلى إضافة اليوم إلى الناس ـ يمكن أن يكون إشارة إلى ذلك اليوم الذي كنت فيه وحيدا وقد غصبوا حقي، واليوم قدهب البعض لمخافتي رغم وجود هذه الاُمّة التي بايعتني. والجدير بالذكر أن المرحوم الشيخ المفيد أورد في إرشاده

[ 300 ]

عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال:« هذا طلحة والزبير ليسا من أهل النبوة ولا من ذرية رسول الله(صلى الله عليه وآله) حين رأيا أنّ الله قد رد علينا حقنا بعد أعصر فلم يصبرا حولاً واحداً ولا شهراً كاملاً حتى وثبا على دأب الماضين قبلهما ليذهبا بحقي ويفرقا جماعة المسلمين عنّي»(1).

 

تأمّل

رسالة إلى جميع المسؤولين

لقد لقّن الإمام(عليه السلام) بهذه العبارات التأريخية كافة الزعماء من أهل اليقظة والإيمان وساسة البلدان الإسلامية درساً بليغاً في التأهب لمواجهة الأعداء، ولاينبغي التخلي عن الفرصة بكل سهولة وعدم الاستسلام للحلول والاقتراحات التي يتقدم بها من يؤثر السكون ويخلد إلى الراحة والدعة. فقد شبه الإمام(عليه السلام) من ينخدع بهذه الاقتراحات ويفقد زمام المبادرة في تلك اللحظات الحساسة بالضبع، ويكمن وجه الشبه في عدّة اُمور منها:

1 ـ أنّ الضبع يشعر بوجود العدو إلاّ أنّه ينام لسماع بعضى الأصوات التي يرددها; النوم الذي يؤدي به في خاتمة المطاف إلى الأسر والموت.

2 ـ أنّ الضبع يصطاد في غاره.

3 ـ لايبدي الضبع أدنى مقاومة للذب عن نفسه وإنّما يقع في مخالبه بكل سهولة.

فالأفراد الذين لايتعاملون بحزم تجاه العدو ويبدون حالة من الضعف والوهن إزائه فهم كالضباع التي تنام في مخادعها وتستسلم للقتل دون مقاومة.

و أخيراً فلايعني هذا أن يقدم الإنسان على عمل دون التأني والتامل والاستشارة والوقوف على كافة جوانبه; بل لابدّ من إستشارة ذوي الحجى والشجاعة واتخاذ القرار قبل فوات الأوان والأقدام في الوقت المناسب.


1. إرشاد المفيد 1 / 243، طبع دار النشر العلمية الإسلامية.

[ 301 ]

 

 

الخطبة 7

 

 

 

ومن خطبة له (عليه السلام)

 

يذم فيها اتباع الشيطان

 

«اتَّخَذُوا الشَّيْطانَ لاَِمْرِهِمْ مِلاكاً، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْراكاً، فَباضَ وَفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَنَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطانُ فِي سُلْطانِهِ وَنَطَقَ بِالْباطِلِ عَلَى لِسانِهِ». (1)

—–

 

الشرح والتفسير

أتباع الشيطان

إنّ الخطبة رغم قصرها تصور بدقة أتباع الشيطان وكيفية نفوذهم إليهم، ومن ثم تبين الآثار الوخيمة والعواقب المشئوومة والطرق التي يسلكها الشيطان في التغلغل إلى الإنسان والالقاء به في شباكه وحبائله، فيتلاعب به كيفما يشاء. والحق أنّها تخدير جدي لاتباع الحق في ضرورة توفي الحيطة والحذر من تسلل الشيطان والوقوف بوجهه حال الشعور بأدنى آثاره. والخطبة وإن تحدثت عن بعض الأفراد من قبيل طلحة والزبير أو معاوية وأهل الشام


1. جاء في «مصادر نهج البلاغة» أن هذه الخطبة وردت في ربيع الأبرار للزمخشري، 1 / 109 والنهاية لابن أثير في غريب الحديث 2 / 50.

[ 302 ]

أو أصحاب النهروان الذين سقطوا في فخ الشيطان، إلاّ أنّها لاتقتصر عليهم البتة، بل هى رسالة واضحة (لكافة الأفراد من أجل مراقبة الشيطان وعدم فسح المجال أمامه.

فقد تكفّلت الخطبة بتبيين المراحل التي يعقبها تسلل الشيطان في أتباعه، حيث شرحها الإمام(عليه السلام) بما عرف عنه من فصاحة وبلاغة وتشبيه رائع بحيث لايمكن تقديم صورة فنية أروع من تلك التي رسمها الإمام(عليه السلام). فقد أشار في المرحلة الاولى إلى أنّ هذا التسلل والنفوذ إلى الإنسان إختيارى ولايمت بصلة إلى الاجبار. فالإنسان هو الذي يعطيه الضوء الأخضر ويدعه يلجه ويتصرف بوجوده حتى يجعله ملاكاً ومعياراً لنشاطاته وفعالياته «إتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً». فملاك من مادة ملك بمعنى أساس الشيء ودعامته، كأن يقال القلب ملاك البدن، أي أن أساس وقوام البدن هو القلب وهذا هو الأمر الذي أشار إليه القرآن الكريم بوضوح على لسان آياته (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّما سُلْطانُهُ عَلى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)(1). بناءاً على هذا فالعبارة المذكورة كالآيات القرآنية بمثابة رد على أولئك الذين يتساءلون عن سلطة الشيطان على بني آدم فيقولون: كيف سلط الله سبحانه هذا المخلوق الخطير على الإنسان ثم طالبه بعدم إتباعه. فالعبارة تقول أنّ الشيطان لايخترق الجدران غيلة، بل يأتي من الباب ويطرقها فان فتح له ولج وإلاّ عاد من حيث أتى. صحيح أنّه يصر على طرق الباب دون الشعور بالكلل والملل، لكن بالمقابل هنالك الملائكة الذين يهبون لنجدة الإنسان ويحذروه من مغبة فتح الباب. ثم أشار في المرحلة الثانية إلى الانتخاب الذي يتولاه الشيطان بعد ذلك الانتخاب حيث يصطفى هؤلاء كاعوان وشركاء «واتخذهم له اشراكاً»(2) ثم وضح(عليه السلام)ذلك بقوله: «فباض وفرخ في صدورهم»(3). فالإمام(عليه السلام)يشبه صدور تبعة الشيطان بعش إبليس الذي يبيض فيه ويفرخ. ثم قال(عليه السلام): «و دب ودرج في حجورهم». صرّح بعض شرّاح نهج البلاغة بان دب من مادة الدبيب بمعنى الحركة البطيئة الضعيفة، والدرج الحركة الأقوى منها كحركات الطفل في حضن


1. سورة النحل / 99 ـ 100.

2. «اشراك» جمع «شريك» و«شَرَك» بمعنى افتح ويحتمل المعنيان في العبارة المذكورة، وقد اختار كل شارح من شرّاح نهج البلاغة أحد هذين المعنيين.

3. لقد استهلت العبارة بفاء التفريع لبيان شرحها للعبارة السابقة.

[ 303 ]

اُمه. ولعل التعبير بدرج إشارة إلى حقيقة وهى أنّ الأفكار والعادات الشيطانية ليست طارئة ومفاجئة على الإنسان; بل تتجذر فيه بصورة تدريجية; كما عبر عنه في حذر المؤمنين منها حيث يتسنى له اقتياد الإنسان خطوة خطوة نحو الفساد والضلال والكفر.(1)

فقال: «فنظر باعينهم، ونطق بالسنتهم». أي أنّ هذه البيوض والفراخ الشيطانية ستنمو وتترعرع حتى تتبدل إلى شياطين تتحد معهم بحيث تنفذ في جميع أعضائهم وجوارحهم حتى يعيشون الأزدواج في شخصياتهم، فهم من جانب إنسان، ومن آخر شيطان، ظاهرهم إنساني أمّا باطنهم شيطاني. عيونهم وآذانهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم أدوات تأتمر بأوامر الشيطان، فمن الطبيعي أن يروا جميع الاشياء بصيغة شيطانية كما أنّ آذانهم تطرب لسماع الانغام الشيطانية. أمّا في المرحلة الرابعة فيتناول(عليه السلام)النتيجة النهائية لهذه المسيرة التدريجية المنحرفة فيقول: «فركب بهم الزلل، وزين لهم الخطل»(2) ويشبه هذا الكلام ما أورده الإمام(عليه السلام) في موضع آخر من نهج البلاغة «إلاّ وأنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها»(3). ثم قال(عليه السلام) في المرحلة الأخيرة «فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه»(4). إشارة إلى أنّ أعمال هؤلاء تدل بوضوح على أنّ الشيطان استحوذ عليهم فتصرف فيهم كيف يشاء. فحديثهم حديث الشيطان ونظرهم نظر الشيطان وبالنتيجة فان بصمات الشيطان متجسمة فيهم، والواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) أراد في هذه المرحلة أن يعرف هؤلاء الأفراد من خلال أعمالهم الشيطانية. ويبدو أنّ مراده(عليه السلام)بعض الأفراد كطلحة والزبير وانصارهما وأصحاب معاوية والخوارج ومن كان على شالكتهم، رغم أنّ الكتب المعروفة لشرح نهج البلاغة وأسانيدها لم تتعرض إلى الأفراد أو الطوائف المرادة بكلام الإمام(عليه السلام). مع


1. سورة البقرة / 168 و208; سورة الانعام / 142; سورة النور / 21.

2. هذا التفسير على أساس أنّ حرف الباء في بهم للتعدية، امّا إذا فسرت بالاستعانة فانّ مفهوم الجملة سيصبح أنّ الشيطان بالاستعانة بهؤلاء سيركب الخطأ والزلل؟ ولكن بالالتفات إلى العبارة «وزين لهم الخطل» وفاء التفريع في فركب يبدو التفسير الأول أنسب.

3. نهج البلاغة، الخطبة 16.

4. كلمة «فعل» يمكن أن تكون مفعولاً مطلقاً لفعل محذوف تقديره «فعلوا ذلك فعل...» كما يمكن أن تكون مفعولاً مطلقاً لما سبق (نظر، نطق، ركب وزين) وسيصبح مفهوم الجملة أن أفعال هؤلاء أفعال من شرك الشيطان في عمله.

[ 304 ]

ذلك فالكلام دقيق وعميق ولايختص بطائفة معينة، بل يشمل كل من وضع رجله على مسار الشيطان وخضع لسيطرته وامتثل أوامره.

 

تأمّل

خطط الشياطين

شائك وشامل هو البحث بشأن الشيطان وفلسفة خلقه وكيفية نفوذه إلى الإنسان وطول عمره وقصته مع آدم وجنوده وأعوانّه من الجن والانس وما إلى ذلك من الاُمور التي لايسع المجال شرحها والغوص في أعماقها. وسنكتفي ببعض الإشارات التي يمكنها أن تغني البحث بما ينسجم وما ورد في الخطبة المذكورة.

فالذي تفيده الآيات القرآنية أنّ الشيطان لم يخلق كموجود شرير منذ بداية الخليقة، بل خلق طاهرا حتى اصطف مع الملائكة (و إن لم يكن ملكاً). غير أنّ حب الذات والكبر دفعه للتمرد على أمر الله والامتناع عن السجود لآدم(عليه السلام)، فلم يرتكب المعصية فحسب، بل إتّهم علم البارئ سبحانه وحكمته ليهوي في وادي الشرك والضلال. لقد سأل الله النظرة إلى يوم القيامة فأجابه الله بالنظرة إلى يوم الوقت المعلوم ليتم تمحيص العباد، أو بعبارة اُخرى فكما أنّ وجود الشهوات المركبة في الإنسان البشرية ومقاومة العقل والإيمان تجاه القوى المخالفة إنّما تضاعف قدرة الإنسان في مسار الطاعة لله; فانّ الوساوس الشيطانية الخارجية ومجابهتها من قبل الإنسان إنّما تقوده إلى السمو والتكامل; وذلك لأن وجود العدو إنّما يشكل العامل الذي يقف وراء حركة الإنسان وقوته وتطوره وتكامله. إلاّ أنّ هذا لايعني أنّ للشيطان نفوذ إجباري في الإنسان، بل الإنسان هو الذي يمهد لهذا النفوذ، فقد صرّح القرآن الكريم بهذا الشأن قائلا: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْـهِمْ سُلْطانٌ)(1)، وقال في موضع آخر (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(2) كما صرّحت إحدى الآيات القرآنية على لسان الشيطان أنّه قال: (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطان إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ).(3)


1. سورة الاسراء / 65.

2. سورة النحل / 99.

3. سورة إبراهيم / 22.

[ 305 ]

الجدير بالذكر أنّ الله سبحانه قد خلق جنودا للقضاء على وساوس الشيطان ومخططاته، ومنها العقل والفطرة والأنبياء والملائكة التي تتولى حفظ المؤمنين وطرد الوساوس الشيطانية عنهم. فكل من سار على درب هذه الجنود حظى بدعمها وإسنادها وأبعد عنه وساوس الشيطان، ومن سار على درب الشياطين وأقام على العناد واللجاجة رفعوا أيديهم عنه. القضية الاُخرى الجديرة بالاهتمام هى أنّ الشيطان يسعى للنفوذ في أعماق النفس البشرية ليؤثر من هناك على أعماله، كما اُشير لهذا في الخطبة المذكورة وكأنه باض وفرخ في الصدور فتكاملت الفروخ شياطين إتحدت معه حتى عاد نظره وسمعه وقوله ويده ورجله شيطانياً. وقد ورد عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) في غرر الحكم أنّه قال: «احذروا عدوا نفذ في الصدور خفياً ونفث في الاذان نجياً» كما ورد شبيه هذا المعنى ـ مع فارق طفيف ـ في الخطبة 83 من نهج البلاغة. كما قال(عليه السلام)في الخطبة 121 من نهج البلاغة: «إنّ الشيطان يسني لكم طرقه ويريد أن يحل لكم دينكم عقدة عقدة». على كل حال فان الغرض من الخطبة هو تحذير الإنسان من عدوره اللدود الشيطان الذي تعود جذور عدائه منذ خلق آدم(عليه السلام). وضرورة التوكل على الله والاتكاء على العقل والفطرة والوجدان والاستضاءة بارشادات الأنبياء وتعاليمهم والاستمداد من الملائكة بغية حفظ الإنسان لنفسه من وساوس الشيطان.

وأخيراً فالنقطة التي أرى ضرورة التعرض لها وعلى ضوء صريح بعض الآيات القرآنية أنّ الشياطين ليست منحصرة بابليس وجنوده السريين، بل هناك مجموعة من الانس التي تشملها الشياطين، فأعمالهم هى أعمال الشياطين بعينها (وَكَذ لِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَياطِـينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْض زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً)(1).

نعم لابد من الحذار من وساوسهم.

—–


1. سورة الانعام / 112.

[ 306 ]

[ 307 ]

 

 

الخطبة 8

 

 

 

ومن كلام له (عليه السلام)

 

يعني به الزّبير في حال إقتضت ذلك ويدعوه في الدخول في البيعة، ثانيا.

 

نظرة إلى الخطبة

دخل الزبير وطلحة على علي(عليه السلام)، فاستأذناه في العمرة، فقال: ما العمرة تريدان، فحلفا له بالله أنّهما ما يريدان غير العمرة، فقال لهما: ما العمرة تريدان، وإنّما تريدان الغدرة ونكث البيعة، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولا نكث بيعة يريدان، وما رأيهما غير العمرة. قال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانية، فأعاداها بأشد مايكون من الإيمان والمواثيق، فأذن لهما، فلما خرجا من عنده، قال لمن كان حاضراً: والله لاترونهما إلاّ في فتنة يقتتلان فيها. قالوا: يا أميرالمؤمنين، فمر بردهما عليك، قال: ليقضى الله أمراً كان مفعولاً.(1) أمّا الزبير فقد حاول أن يتذرع بما يبرر له نكث البيعة، ويقول ليس لعلي في عنقي بيعة حيث بايعته مكرها. فالقى الإمام(عليه السلام) هذه الخطبة (جدير بالذكر أنّ البعض قد نسب هذا الكلام للإمام الحسن(عليه السلام) وقد القاها بأمر من أبيه في يوم الجمل بعد خطبة عبدالله بن الزبير، لكن لايستبعد أن يكون الإمام(عليه السلام) قد أورده مسبقا رداً على إدعاءات الزبير ثم استشهد بها الإمام الحسن(عليه السلام) في الجمل.(2)

«يزعم أنّه قد بايع بيده، ولم يبايع بقلبه، فقد أقر بالبيعة، وادعى الوليجة، فليأت عليها بأمر يعرف، وإلاّ فليدخل فيما خرج منه».


1. شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد 1 / 232.

2. كتاب مصادر نهج البلاغة 1 / 334 ـ 335.

[ 308 ]

الشرح والتفسير

عذر أقبح من ذنب

كما أوردنا آنفا فانّ الإمام(عليه السلام) ألقى هذه الخطبة كرد على الزبير الذي حاول تبرير نكثه للبيعة بأنّه بايع مكرها بيده دون قلبه; لأن معاوية بعث له بكتاب قال فيه: أمّا بعد، فانّي قد بايعت لك أهل الشام، فأجابوا واستوسقوا، كما يستوسق الجلب فدونك الكوفة والبصرة، لايسبقك إليها ابن أبي طالب فانه لاشيء بعد هذين المصرين.(1)

فما كان من طلحة والزبير الذين كانا يطمعان بالمناصب إلاّ أنّ نكثا بيعتهما للإمام علي(عليه السلام). أمّا الإمام(عليه السلام) فقد رد على زعم الزبير ردّاً حقوقياً يحظى بكافة التبعات المتعارفة اليوم في القوانين القضائية، فقد قال(عليه السلام): «يزعم أنّه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه، فقد أقر بالبيعة، وادعى الوليجة»(2) فالواقع أنّ كلامه مركب من إقرار وإدعاء، فاقراره مسموع ومقبول، أمّا إدعائه فيحتاج إلى إقامة دليل. ولذلك طالبه الإمام(عليه السلام) باقامة الدليل (ليثبت أن بيعته قد حصلت من خلال الاكراه) وإلاّ وجب عليه الالتزام بلوازم البيعة: «فليأت عليها بأمر يعرف، وإلاّ فليدخل فيما خرج منه» لقد رأى أغلب الناس الزبير وطلحة قد دخلا على الإمام(عليه السلام) وبايعاه طائعين; فقد كانا من أوائل من بايعه في المسجد، فالبيعة ملزمة، ومن إدعى خلاف ذلك عليه أن يأتي بالدليل، أضف إلى ذلك فالكل يعلم بعدم وجود الاكراه والإجبار في بيعة علي(عليه السلام)، فقد كان هنالك من لم يبايع، ولم يضطرهم الإمام(عليه السلام)إلى البيعة، وعليه فليس هنالك من مبرر لنكث البيعة. وكما ذكرنا سابقاً فانّ هذا من الاُصول الأساسية في كافة المحافل الحقوقية والقضائية، في أنّ من أبرم عقداً راغباً بالظاهر فقد وجب عليه الالتزام به ولايقبل منه إدعاء الاكراه الاجبار وعدم تأييد القلب لما فعله باليد، وإلاّ لأمكن لكل واحد أن يقوض ما أبرمه بهذه الذريعة. فالمشتري والبائع والزوج والواقف و... إذا أبرم عقدا ولم يرى فيه من مصلحة لاحقا أمكنه أن يدعي بأنّه أبرمه لساناً ولم يكن قلباً موافقاً عليه. وإذا كان الأمر


1. شرح ابن أبي الحديد 1 / 231.

2. «وليجة» من مادة «ولوج» بمعنى الدخول، كما تعني الدخول الخفي ويقال وليجة لما يضمر في القلب ويكتم، وقد جاءت هنا بمعنى الأمر الخفي.

[ 309 ]

كذلك فقد عرضت كافة النظم والعقود والمواثيق الفردية والدولية للتصدع والانهيار وهذا مالا يقره عقل أو منطق; والحق أنّ الزبير كان يعلم جيدا بهذا الأمر إلاّ أنّه استهدف تضليل الرأي العام الذي قد يسأله لم نكثت البيعة؟

جدير بالذكر أنّ كل هذا نابع من كون العرب آنذاك كانت تولي البيعة أهمية فائقة ولم تكن تتساهل في نقضها وعدم الالتزام بها، وترى ذلك خطيئة كبيرة.

—–

[ 310 ]

[ 311 ]

 

 

الخطبة 9

 

 

 

ومن كلام له (عليه السلام)

 

في صِفَته وَصِفَة خُصومه ويقال إنَّها في أصحاب الْجَمَلْ

«وَقَدْ أَرْعَدُوا وَأَبْرَقُوا وَمَعَ هَذَيْنِ الاَْمْرَيْنِ الْفَشَلُ وَلَسْنا نُرْعِدُ حَتَّى نُوقِعَ وَلا نُسِيلُ حَتَّى نُمْطِرَ».(1)

—–

 

الشرح والتفسير

ضجة فارغة

يستفاد من كلامه(عليه السلام) أنّه أورده بعد انتهاء معركة الجمل كاشارة للضجة الفارغة التي إفتعلها طلحة والزبير ورهطهما في بداية موقعة الجمل، غير أنّه لم يجدهم نفعا حيث هزم «طلحة والزبير» شر هزيمة حتى قتلا. فقد قال(عليه السلام): «و قد ارعدوا وابرقوا، ومع هذين الأمرين الفشل». فهو تشبيه رائع بالسحب التي تتخللها ظاهرة الرعد والبرق كبشارة للناس بالأمطار التي تجلب عليهم الخير والبركة، إلاّ أنّها سرعان ما تتبدد دون أن تحمل قطرة من المطر. ثم قال(عليه السلام): «ولسنا نرعد حتى نوقع، ولانسيل حتى نمطر» يريد(عليه السلام) أننا لن نرعد


1. قال صاحب «مصادر نهج البلاغة» علاوة على نقل الشريف الرضي لهذا الكلام في نهج البلاغة، فقد رواه الواقدي ضمن إحدى خطبه(عليه السلام) يوم الجمل. كما نقله المرحوم الشيخ المفيد في كتاب الجمل (ص 177) عن كتاب الجمل للواقدي. وأخيراً ذكره ابن عثم الكوفي في كتاب الفتوحات.

[ 312 ]

ونزبد مالم نسدد ضربات موجعة إلى العدو، ولسنا من أهل الضجيج حتى نقتحم الميدان ونقهر الخصم. فالواقع هو أنّ العبارتين رغم قصرهما تشيران إلى مدرستين لكل منهما أسسهما في الأنشطة الاجتماعية والعسكرية والسياسية; مدرسة تتبنى الكلام والضجيج حين ترد الميدان; إلاّ أنّها لاتستبطن سوى الضعف والعجز والفشل حين العمل. أمّا المدرسة الاُخرى فهى المعروفة بالسلوك والعمل، قليل كلامها كثير عملها. هى مدرسة صامتة هادئة إلاّ أنّها بطلة باسلة في الميدان وبالطبع فانّ الأنبياء والأولياء وأتباع الحق ينتمون للمدرسة الثانية، بينما ينتمي أتباع الباطل وجنود الشيطان إلى المدرسة الاولى.

و هنا نقطة مهمّة يجب الالتفات إليها وهى أنّ الرعد والبرق قبل المطر ثم يأتي السيل، غير أنّ هناك البعض الذي يرعد ويبرق دون المطر، والأسوأ من ذلك البعض الآخر الذي يتوعد بالسيول رغم إنعدام قطرة مطر، أي أنّهم يتشدقون بالنصر والغلبة والنجاح حتى بعد الهزائم المنكرة التي يمنون بها، فالطائفة الاولى كاذبة في مزاعمها وإدعاءاتها، أمّا الثانية باطلة عديمة الحياء. فالذي تفيده بعض الروايات أنّ الإمام علي(عليه السلام) بعث برسله يدعون إلى الالتزام بالبيعة و عدم شق الصف الإسلامي والعودة إلى إحضان الحكومة الإسلامية، فعادوا يحملون رسائل الحرب حيث تضمنت رسائلهم التهديد بشن الحرب، فردّ الإمام(عليه السلام) ذلك الرد الحاسم «فانّ أبوا أعطيتهم حد السيف وكفى به شافياً من الباطل، وناصرا للحق! ومن العجب بعثهم إلي أن ابرز للطعان وأن أصبر للجلاد، هبلتهم الهبول، لقد كنت وما اُهدد بالحرب، ولا اُرهب بالضرب، وإني لعلى يقين من ربّي، وغير شبهة من ديني»(1).

 

تأمّلان

1 ـ رجل العمل

ما تضمنه كلامه(عليه السلام) ـ كما أشرنا سابقاً ـ بعض الصفات البارزة لأساليب الإدارة لأولياء الله، فهم ليسوا من أهل الكلام والضجيج، بل بالعكس كلامهم العمل والتنفيذ. وقد تجسد


1. بحارالانوار 32 / 60 ـ 188.

[ 313 ]

نموذج ذلك في معركة بدر حين ذهل أبوسفيان للنفر القليل الذي كان مع رسول الله(صلى الله عليه وآله)فبعث عمير ليرى هل هناك من جند خلف الميدان، فعاد إلى أبي سفيان وقال له: «مالهم من كمين ولامدد ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت النافع امّا ترونهم خرساً لايتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي، مالهم ملجأ إلاّ سيوفهم، ما أراهم يولون حتى يقتلوا ولايقتلون حتى يقتلوا بعددهم فار تأوا رأيكم. فقال له أبوجهل: كذبت وجبنت.»(1)

بالتالي أتبتت موقعة بدر أنّ الحق ماذهب إليه عمير لا ما قاله أبوجهل. وبالطبع فليس هناك من منافاة بين هذا الكلام والاستفادة من الأساليب النفسية في ميدان الحرب والرجز وممارسة الحماس وامطار العدو بوابل التبليغات وزرع الرعب في صفوفه. فالمشكلة إنّما تكمن في خلاصة كل شيء في الكلام والتهديد والوعيد. فالعمل هو الأساس والمحور والكلام ترجمة لذلك العمل. فنموذج الفريق الأول طلحة والزبير ورهطهما، ونموذج الفريق الثاني علي(عليه السلام)واتباعه. فقد وردت عبارات واضحة للإمام(عليه السلام) ـ في الخطبة 124 من نهج البلاغة ـ بهذا الشأن، ففي الوقت الذي يحث اتباعه وجنده على الثبات في الميدان والشدة في الضرب يوصيهم قائلا: «اَميتوا الاصوات فانه أطرد للفشل».

 

2 ـ الفارق بين الدعاية والاعلام الفعال