الخطبة 13

 

 

 

ومن كلام له(عليه السلام)

 

في ذم أهل البصرة بعد وقعة الجمل.

«كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ، وَأَتْباعَ الْبَهِيمَةِ; رَغا فَأَجَبْتُمْ، وَعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ. أَخْلاقُكُمْ دِقاقٌ، وَعَهْدُكُمْ شِقاقٌ، وَدِينُكُمْ نِفاقٌ، وَماؤُكُمْ زُعاقٌ، وَالْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ، وَالشّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدارَك بِرَحْمَة مِنْ رَبِّهِ. كَأَنِّي بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَة قَدْ بَعَثَ اللّهُ عَلَيْها الْعَذابَ مِنْ فَوْقِها وَمِنْ تَحْتِها، وَغَرِقَ مَنْ فِي ضِمْنِها».(1)

—–

 

نظرة إلى الخطبة

الخطبة كبعض الخطب السابقة واللاحقة واردة بشأن موقعة الجمل، وقد ذم الإمام علي(عليه السلام)أهل البصرة الذين أسلسلوا قيادهم لطلحة والزبير وفرقوا صفوف المسلمين، ثم توعدهم بعذاب الله سبحانه، ليعتبر من إعتبر فلا يقارف أعمالهم.


1. قال المرحوم المحقق الخوئي أنّ الإمام(عليه السلام) خطب هذه الخطبة بعد انتهاء معركة الجمل، ورواها ـ مع بعض الاختلاف ـ المرحوم الطبرسي في الاحتجاج وعلي بن إبراهيم القمي والمحدث البحراني، كما نقلها ـ حسب كتاب مصادر نهج البلاغة ـ عدد من العلماء من عاشوا قبل الشريف الرضي كالدينوري في الأخبار الطوال والمسعودى في مروج الذهب وابن قتيبة في عيون الأخبار وابن عبد ربه في العقد الفريد (مصادر نهج البلاغة 1 / 344).

[ 330 ]

الشرح والتفسير

خصائص أهل الجمل

لقد أشار(عليه السلام) في هذه الخطبة إلى الصفات الذميمة التي إتصف بها مؤججي البصرة ليجمعها في سبع صفات. فقد قال(عليه السلام)في البداية «كنتم جند المرأة». صحيح أن مؤججي نار الجمل هما طلحة والزبير، كما تشير الشواهد التأريخية إلى الدور المشبوه الذي لعبه معاوية في هذا الشأن، ولكن الذي لاشك فيه أنّ حضور عائشة وكونها زوج النبي(صلى الله عليه وآله) كان الدافع الأعظم الذي ساق الناس لقتال الإمام(عليه السلام) والانخراط في صفوف أصحاب الجمل، ولا سيما أن كنيتها بأم المؤمنين كان له أبلغ الأثر في نخوة الناس للدفاع عن اُمهم، ومن هنا خاطب الإمام(عليه السلام) أهل البصرة. بجند المرأة. الصفة الثانية لهم: «و اتباع البهيمة»، ثم يوضح(عليه السلام) سبب استحقاقهم لهذه الصفة إثر تحزبهم واجابتهم حين كانت ترغي وهروبهم وتشتتهم حين عقرت «رغا(1) فاجبتم، وعقر(2) فهربتم». فقد صرّح بعض المؤرخين أنّ جمل عائشة ـ في معركة الجمل ـ كان بمثابة راية عسكر البصرة، حيث كان الجنود يلتفون حوله ويضربون دونه حتى قتلوا كما تقتل الرجال تحت راياتها. وجاء في بعض الروايات أن سبعين ألفاقد أخذوا بزمام الجمل وكانوا يقتلون الواحد تلو الآخر، وكان أكثر من إلتف حول الجمل والدفاع عنه من قبيلتي بني ضبة والأزد،لقد كانت الرؤوس تندر عن الكواهل، والايدي تطيح من المعاصم وأفتاب البطن تند لق من الاجواف وهم حول الجمل كالجراد الثابتة لاتتحلحل ولا تتزلزل، حتى لقد صرخ علي(عليه السلام)بأعلى صوته: «ويلكم أعقروا الجمل، فانه شيطان» ثم قال: إعقروه والا فنيت العرب. لايزال السيف قائما وراكعا حتى يهوي هذا البصير إلى الأرض، فعمدوا له حتى عقروه فسقط و له رغاء شديد، فلما برك كانت الهزيمة. كما ورد في بعض الروايات أنّ أميرالمؤمنين أمر بحرق الجمل وذر رماده في الرياح وقال: لعنه الله من دابة ما أشبهه بعجل السامري، ثم تلى (وَانْظُرْ إِلى إِلـهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَـنُحَـرِّقَـنَّهُ ثُمَّ لَـنَنْسِفَـنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً)(3) والطريف في


1. «رغا» من مادة «رغاء» على وزن دعاء صوت الجمل كما يطلق على صوت الضبع أيضاً.

2. «عقر» من مادة «عقر» على وزن فقر بمعنى الأصل والجذر، وتعني الجرح والقطع اِذا استعملت للناقة كما تأتي بمعنى الهلاك.

3. سورة طه / 97.

[ 331 ]

موقعة الجمل أن عائشة أخذت كفا من حصى، فحصبت به أصحاب الإمام(عليه السلام) وصاحت بأعلى صوتها: شاهت الوجوه كما صنع رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم بدر. فقال لها قائل: ومارميت إذ رميت ولكن الشيطان رمى.(1) فقد كان حصب رسول الله(صلى الله عليه وآله)للمشركين أحد العوامل الاعجازية التي أدت إلى إنهيار عسكر الكفر، بينما انتهت معركة الجمل بهزيمة منكرة مني بها أعداء الإمام(عليه السلام). أمّا الصفة الثالثة والرابعة والخامسة فهى تعالج أوضاعهم الأخلاقية حيث قال(عليه السلام): «أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق» دقاق من مادة دقت بمعنى الدنيئة هنا، يصف بها أهل البصرة من عبدة الأهواء الذين نكثوا البيعة والتحقوا بصفوف الأعداء، أمّا نفاقهم فهو ناشئ من كون ظاهرهم هو الإسلام والدفاع عن زوج النبي(صلى الله عليه وآله) وباطنهم القيام ضد الحكومة الإسلامية ووصي رسول الله(صلى الله عليه وآله)و التخندق في صفوف أهل الشام. ثم أشار(عليه السلام)إلى صفتهم السادسة «و ماؤكم زعاق». ومن المعلوم إن مثل هذا الماء وإضافة إلى ملوحته ومرارته فانه ينطوي على كل عناصر التلوث بسبب مجاورته لشاطئ البحر; فهو مضر بالنسبة لسلامة البدن، وهو يا لتالي مضر بروح الإنسان وفكره بفعل الرابطة القائمة بين الروح والبدن. وعليه فان ذم ماؤهم هو في الواقع نوع ذم لأخلاقهم. ثم تطرق إلى صفتهم السابعة فقال: «و المقيم بين أظهركم(2) مرتهن بذنبه والشاخص(3) عنكم متدارك برحمة من ربّه». والعبارة إشارة إلى ما ورد في عدّة روايات، ومنها الحديث المعروف الذي نقله المرحوم الكليني في الكافي عن أبي الحسن الإمام الهادي(عليه السلام)حين قال لأحد أصحابه ويدعى جعفر: مالي أراك تغشى عبدالرحمن بن يعقوب (و كان منحرفاً في عقائده)، ألا تعلم أنّه ينسب الله إلى صفات المخلوقين ثم نصحه(عليه السلام)بتركهم ومجالسة أعدائهم أو العكس، فرد جعفر على الإمام(عليه السلام)فليقل ما يقل في إشارة إلى أنّه لا يتفق معه في العقيدة فلا يضره. فقال(عليه السلام): «أما تخاف أن تنزل


1. شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد 1 / 252 ـ 266 إلاّ أنّه كتب حنين خطأ بدلاً من بدر.

2. «بين أظهركم» بمعنى بينكم، وأظهر جمع ظهر بمعنى الخلف وهو خلاف الباطن، ويستعمل هذا اللفظ للشخص الذي يعيش بين مجموعة تسانده و تحميه، و أحيانا يستعمل هذا اللفظ للعيش في مجموعة يؤيدونه ويحمونه أو لا يحمونه. «لسان العرب، منقول عن الكامل في التاريخ أولا يحمونه. «لسان العرب، منقول عن الكامل في التاريخ لابن الاثير».

3. «شاخص» من مادة «شخص» بمعنى المرتفع واطلقت على قامة الإنسان حين تلوح من بعيد، ومن هنا اطلق على الشخص المسافر اسم الشاخص، وقد وردت بهذا المعنى في العبارة المذكورة.

[ 332 ]

به نقمة فتصيبكم جميعا»(1) ومن هنا وجبت الهجرة على المسلمين في صدر الإسلام حين عم الفساد كل شيء ـ ولا سيما الفساد العقائدي ـ ولم يسعهم القضاء عليه، بل كان يخشى تأثرهم به. وقوله(عليه السلام): «مرتهن بذنبه» إشارة إلى أنّ الذنب يأسر الإنسان وكأنه يجعله رهينة فلا يطلقه، وهو مستوحى من قول القرآن الكريم (كل نفس بما كسبت رهينة)(2) والذي نخلص إليه من هذه العبارة هو التأثير الذي يلعبه المحيط والوسط على أخلاق الناس، فاما يغير هذا الإنسان المحيط الفاسد والملوت أو يهجره. ثم تطرق الإمام(عليه السلام) إلى العذاب الدنيوي الذي ينتظر أهل البصرة فقال: «كاني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها، وغرق من في ضمنها». وأمّا إخباره(عليه السلام) أنّ البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها، «فقد رأيت من يذكر أن كتب الملاحم تدل على أنّ البصرة تهلك بالماء الأسود ينفجر من أرضها، فتغرق ويبقى مسجدها. والصحيح أنّ المخبر به قد وقع، فان البصرة غرقت مرتين، مرة في أيّام القادر بالله(3) ومرة في أيام القائم بأمر الله(4) غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلاّ مسجدها الجامع بارزاً بعضه كجؤجؤ الطائر، حسب ما أخير به أميرالمؤمنين(عليه السلام)، جاءها الماء من بحر فارس(5) من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام، وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها، وهلك كثير من أهلها»(6) أخبارهاتين الحادتثين معروفة عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم.

—–

ثم نقل السيد الرضي آخر هذه الخطبة ثلاث روايات بشأن العبارات الواردة في آخرها:

الرواية الاولى: «و آيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني انظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة».


1. اصول الكافي 2 / 375، باب مجالسة أهل المعاصي، وقد وردت في هذا الباب عدّة روايات بهذا المضمون.

2. سورة المدثر / 38.

3. الذي تولى الخلافة عام 381 هـ (الكامل في التأريخ 1/80).

4. «القائم بأمر الله»، من خلفاء الدولة العباسية، اصبح خليفة عام 422 هجري «الكامل في التاريخ 9/417».

5. من النقاط التي تسترعي الانتباه إن إبن أبي الحديد كان من الذين عاشوا في القرن السابع الهجري وكان يُطلق على الخليج الفارسي اسم «بحر الفرس».

6. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 253.

[ 333 ]

الرواية الثانية: «كجؤجؤ طير في لجة بحر».

الرواية الثالثة: «بلادكم أنتن بلاد الله تربة: أقربها من الماء، وأبعدها من السماء، وبها تسعة أعشار الشر، المحتبس فيها بذنبه، والخارج بعفو الله. كأنّي أنظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء، حتى ما يرى منها الاشرف المسجد، كانه جؤجؤ طير في لجة بحر».

—–

لابدّ من الالتفات إلى عدم وجود تفاوت يذكر بين ماورد فى الخطبة المذكورة والرواية الاولى. فكلاهما قد استهلت بالقسم وتحدثتا علانية عن غرق هذه المدينة، ثم اضافت تشبيه آخر لماورد سابقاً بشأن المسجد بالقول «و ايم الله لتغرقن بلد تكم حتى كانّي انظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة»(1).

أمّا في الرواية الثانية فهناك تفاوت طفيف جداً حيث استبدل تشبيه جؤجؤ السفينه بقولها «كجؤجؤ طير في لجة(2) بحر».

بينما هنالك تفاوت كبير بين الخطبة الثالثة والخطبة الأصلية. فقد أشير في هذه الرواية إلى ثلاث اُمور في ذم أهل البصرة «بلادكم أنتن بلاد الله تربة … اقربها من الماء، وأبعدها من السماء» والصفة الثانية «و بها تسعة أعشار الشر» ولعل هذا الأمر ينبع من الخصائص الأخلافية لناس تلك المنطقة أو بسبب كونها ميناءاً يكون مركزاً لتردد مختلف الأفراد وهجوم الثقافات الأجنبية والتلوث الخلقي الذي يفرض عليها من الخارج. ولذلك كانت هذه المنطقة مسرحاً للأحداث الأليمة للقرون الإسلامية الاولى. أمّا الصفة الثالثة فهى «المحتبس فيها بذنبه،الخارج بعفو الله».(3) ثم يتطرق الإمام(عليه السلام) إلى شبيه ماورد في الروايات المذكورة بقوله:


1. «جاثمة» من مادة «جثوم» بمعنى الجمع والجثم بالصدر على الأرض، وتطلق هذه المفردة على الأفراد الذين يخلدون إلى الأرض وليس لهم من حركة سوى الكسل والنعاس.

2. «لجة» بمعنى الموجة والماء الواسع العميق، وتعني في الأصل ذهاب واياب الشيء ومن هنا يطلق لجة على البحر المائج، كما يطلق اللجوح على الأفراد الذين يصرون على شيء، كما تطلق على موج البحر.

3. هذا التفسير يصدق في حال كون الباء في «بذنبه» والباء في «بعفوالله» باء السببية، ولكن اذا كانت الباء للالصاق فيكون مفهوم الجملة: الشخص الذي تلوث وابتلى بالذنوب، وبقي بعيداً عن الناجين، ولكن العفو الالهي يشمل هذا الشخص فيصبح من الناجين. لكن المعنى الأول هو الارجح طبق المقاييس الأدبية.

[ 334 ]

«كانّي انظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء، حتى ما يرى منها الاشرف(1) المسجد، كانه جؤجؤ طير في لجة بحر». ويبدو أن اختلاف العبارات يستند إلى رواة الحديث الذين قد نقلوا بعضها من حيث المعنى، أو أنّهم أخطأوا في تدوين الحديث، ويبعد الاحتمال على أنّ الإمام(عليه السلام)قد كرر هذا الكلام في أكثر من موضع وقال فيه ما يناسبه.

 

تأمّلات

1 ـ نبوءة النبي(صلى الله عليه وآله) بشأن موقعة الجمل

الجدير بالذكر أن عدة روايات صرحت بإخبار النبي(صلى الله عليه وآله) عن يوم الجمل وخروج عائشة وتحذيره لها. ومن ذلك لما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة طلبوا لها بعيراً أيّداً يحمل هَوْدَجها، فجاءهم يعلَى بن أمية ببعيره المسمى عَسْكراً، وكان عظيم الخلق شديداً، فلما رأتْه أعجبها، وأنشأ الجمَّال يحدّثها بقوته وشدته، ويقول في أثناء كلامه: «عسكر»، فلما سمعت هذه اللفظة، واسترجعتْ، وقالت: ردّوه لا حاجة لى فيه، وذكرت حيث سئلت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذكر لها هذا الاسم، ونهاها عن ركوبه، وأمرَت أن يطلب لها غيرهُ فلم يوجد لها ما يشبهه، فغيِّر لها بجلال غير جلاله، وقيل لها: قد أصبْنا لك أعظم منه خلقا، وأشدّ قوة، وأتيتْ به فرضيت.

وأرسلت إلى حفصة تسألها الخروج والمسير معها، فبلغ ذلك عبداللّه بن عمر، فأنّى أخته فعزم عليها فأقامت وحطَّتِ الرّحال بعد ما همّت.

كتب الأشتر من المدينة إلى عائشة وهى بمكة، أمّا بعد: فإنّك ظعينة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، وقد أمرك أن تقرِّى في بيتك، فإنْ فعلتِ فهو خير لك، فإن أبيتِ إلاّ أن تأخذي مِنْسأتك، وتُلقى جلبابك، وتبدي للناس شعيراتك، قاتلتك حتى أردك إلى بيتك، والموضع الذي يرضاه لك ربّك.

فكتبت إليه في الجواب: أمّا بعد، فإنّك أول العرب شَبّ الفتنة، ودعا إلى الفرقة وخالف


1. «شرف» على وزن هدف بمعنى الموضع المرتفع.

[ 335 ]

الأئمة، وسعى في قتل الخليفة، وقد علمت أنّك لن تعجز اللّه حتى يصيبك منه بنقمة ينتصر بها منك للخليفة المظلوم، وقد جاءني كتابُك، وفهمت ما فيه; وسيكفينيك اللّه; وكلّ من أصبح مماثلاً لك في ضلالك وغيّك، إن شاء اللّه.

وقال أبومحنف: لما انتهت عائشة في مسيرها إلى الحوأب، وهو ماء لبني عامر بن صعصعة، نبحتها الكلاب; حتى نفرت صِعاب إبلها، فقال قائل من أصحابها: ألا ترون، ما أكثر كلاب الحوأب، وما أشد نُباحها! فأمسكت زمام بعيرها، وقالت: وإنّها لكلاب الحوأب! ردّونى ردّونى; فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه يقول... وذكرت الخبر، فقال لها قائل: مهلاً يرحمك اللّه! فقد جُزْنا ماء الحوأب; فقالت: فهل من شاهد؟ فلفّقوا لها خمسين أعرابياً، جعلوا لهم جُعْلا، فحلفوا لها: إن هذا ليس بماء الحوأب، فسارت لوجهها.(1)

والعجيب أن مثل هذه الروايات كانت سببا لتردد عائشة، بينما لم تكن كل تلك الروايات الصحاح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد روت أكثرها سببا لترددها وإنصرافها. وهذا لعمري من العجائب. كما يفهم من هذه الحكايات أنها سرعان ما كانت تخدع وتغير رأيها.

 

2ـ ذم أهل البصرة

ما ورد من ذم للبصرة في الخطبة المذكورة يتعلق بعضه بتأثير المناخ وموقع المدينة وأوضاعها الإجتماعية (حيث كانت ميناءا وموضعا لإستقطاب أنواع الثقافات والأفكار والأخلاق الملوثة والتي كانت هناك ومازالت في مثيلاتها) إلا أنّ البعض الآخر يرتبط بروحية وصفات سكنتها، والذي لا يلزم أن يكون كذلك في كل عصر ومصر، بل هو إشارة لاولئك الناس في ذلك العصر والزمان والذين كانوا يستسلمون لمحظطات طلحة والزبير القبيحة فينقضوا البيعة ويريقوا تلك الدماء. وعليه فلا منع من أن يسود تلك المنطقة الأخيار في سائر العصور. ولذلك وردت بعض الأخيار التي تقيد مدح هذه المنطقة، ومن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حين إخباره منه... فقرّاؤهم أفضل القرّاء وزهّادهم أفضل الزّهاد وعيّادهم


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/225.

[ 336 ]

أفضل العبّاد وتجارهم أصدق التجار... ونساؤهم خير النساء.(1)

فلا منافاة أبدا أن يجد قوم ويجتهدوا في طريق تهذيب النفس وتزكيتها فيتطهروا من الرذائل الأخلاقية وينطلقوا صوب السمو والكمال، سيما إن كانت رذائلهم الأخلاقية من قبيل معركة الجمل وما ترتب عليها من نتائج هزّتهم وأعادتهم إلى رشدهم.

 

3 ـ المحيط والاخلاق

تتضح مسألتان من عبارات الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة:

الاولى الأثر الذي بلعبه المحيط الطبيعي والجغرافي في خلق ومزاج الإنسان، حيث قال(عليه السلام): «ماؤكم زعاق... بلادكم انتن بلادالله تربة أقربها من الماء واَبعدها من السماء». والاُخرى تأثير المحيط الاجتماعي في أخلاق الناس: «و المقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه».

ولكن من المسلم به أنّ هذا التأثير يقتصر على تمهيد السبيل وتوفير الأرضية ولا يرقى لأن يكون علة تامة قط; ولذلك هناك الأفراد الأخيار الذين يعيشون في هذه الأوساط. بل على العكس فهنا لك الأفراد المعروفون بالفساد والانحراف والسيرة الخبيثة والشريرة وهم يعيشون في المناطق التي تتمتع بالمناخ المناسب من أجل تعالي الأخلاق وبلورة المزاج.

—–


1. بحارالأنوار 32 / 256 (مضمون الرواية).

[ 337 ]

 

 

الخطبة 14

 

 

 

ومن كلام له(عليه السلام) في مثل ذلك

 

«أَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْماءِ، بَعِيدَةٌ مِنَ السَّماءِ، خَفَّتْ عُقُولُكُمْ، وَسَفِهَتْ حُلُومُكُمْ، فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِل، وَأُكْلَةٌ لاِكِل، وَفَرِيسَةٌ لِصَائِل».(1)

—–

 

نظرة إلى الخطبة

هذه خطبة اُخرى أوردها الإمام(عليه السلام) بعد الجمل ولعلها تشكل مع سابقتها خطبة واحدة ثم فصلها الشريف الرضي(رحمه الله) . على كل حال فانّ الإمام(عليه السلام) يعرض بالذم ثانية لأهل البصرة ويتحدث عن خوائهم الفكري الذي جعلهم يتحولون إلى إلعوبة بيد المنافقين من اَصحاب المطامع، وأخيراً يحذرهم(عليه السلام) من مغبة مواصلة هذا الطريق الضال.

 

الشرح والتفسير

ذم أهل البصرة ثانية

كما أشرنا سابقاً فان هذا الكلام هو قسم آخر من تلك الخطبة التي أوردها الإمام(عليه السلام) في ذم


1. جاء في مصادر نهج البلاغة أن المرحوم الشيخ المفيد تقل في كتاب الجمل / 217 عن الواقدي أنّ علياً(عليه السلام)حين انتصر في المعركة ووزع الغنائم على الجنود ألقى هذه الخطبة: كما وردت مع إختلاف طفيف في كتاب الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري وكتاب عيون الأخبار لابن قتيبة (مصادر نهج البلاغة، 1 / 348).

[ 338 ]

أهل البصرة بعد موقعة الجمل حيث ضمته(عليه السلام) سبع صفات قبيحة إتصفوا بها. فقد وصفهم في العبارة الاولى والثانية «أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السماء». يمكن أن تكون العبارتان إشارة إلى الجوانب المادية في أنّ هذه المنطقة قريبة من ماء البحر والشط وهى بعيدة عن السماء، أو إشارة إلى الجوانب المعنوية كأن يكون المراد أن أرض قلوبكم ورغم قربها من ماء الحياة بفعل وجود الإمام، إلاّ أنّها بعيدة عن سماء رحمة الله ومغفرته. أو أن تكون هذه العبارة واردة في المسائل المادية والعبارة الاُخرى في المسائل المعنوية هناك نقاش وبحث بين الشرّاح في هذا الشأن، غير أنّ ظاهر العبارة ـ بالالتفات إلى المعنى الحقيقي للأرض والسماء ـ فانّ المراد المعنى الأول، فليس هنالك من خلاف في أنّ أرضهم قريبة من الماء ولها المشاكل التي تنطوي عليها الحياة عند ساحل البحر، ولا سيما البصرة التي يمر بها ذلك الشط الكبير ويصب في البحر ممّا يجعلها عرضة لظاهرة المد والجزر; أمّا كيفية إبتعادها عن السماء، فقد ذكر بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ أرباب علم الهيئة وصناعة التنجيم يذكرون أن أبعد موضع في الأرض عن السماء «الابلة» وذلك موافق لقوله(عليه السلام) ـ ومعنى البعد عن السماء ها هنا هو بعد تلك الأرض المخصوصة عن دائرة معدل النهار والبقاع، والبلاد تختلف في ذلك. وقد دلت الارصاد والآلات النجومية على أنّ أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو الابلة والابلة هى قصبة البصرة. وهذا الموضع من خصائص أميرالمؤمنين(عليه السلام)لأنّه أخبر عن أمر لاتعرفه العرب،لاتهتدي إليه، وهو مخصوص بالمدققين من الحكماء، وهذا من أسراره وغرائبه البديعة.

ولكن لايبدو هذا الكلام مقبولا لدى العلماء المعاصرين، لأن البصرة كسائر الموانئ العالمية المساوية لسطح ماء البحر، ونعلم أنّ مياه بحيرات العالم متصلة مع بعضها وتقع في مستوى واحد; والحال هنالك عدّة مناطق على سطح الكرة الأرضية وهى أوطئ من سطح البحار. لكن يحتمل ألا تكون المقارنة بالنسبة لجميع المناطق على سطح الكرة الأرضية، بل مع بعض البلدان والمناطق الإسلامية المتعارفة آنذاك.

ثم قال(عليه السلام) في العبارة الثالثة والرابعة «خفت عقولكم، وسفهت حلومكم» والدليل الواضح على هذا ما أورده الإمام(عليه السلام) في الخطب السابقة من انقيادهم السهل واستسلامهم لأهواء

[ 339 ]

طلحة والزبير وتقديمهم التضحيات الجسام ذودا عن جمل عائشة وبالتالي هزيمتهم وفضيحتهم المنكرة التي جرت عليهم الندم والحسرة. عقول جمع عقل وحلوم جمع حلم، ويبدو أن (الحُلُم والحِلم) من آثار العقل بعبارة اُخرى فانّ العقل هو القوة المدركة لدى الإنسان والفكر واعلم واجالة الرأي في الأعمال من نتائجه، ولما كانت عقول أهل البصرة خفيفة فانّ أفكارهم كانت ضعيفة تثار بسرعة إثر الدعايات السيئة التي يمارسها ذوي الأهواء والمطامع. ومن هنا قال الإمام(عليه السلام)في العبارة الخامسة والسادسة والسابعة: «فأنتم غرض(1) لنا بل(2)، واُكلة لأكل، وفريسة(3) لصائل(4)».

و من البد يهي أن يقع الأفراد السذج من ذوي الأفكار السطحية الهشة لقمة سائغة في شباك صيادي الدين والإيمان والمتعطشين إلى الشراء والمال والجاه والمنصب; ومن هنا فانّ العنصر الذي يمكنه ضمان المجتمعات الإنسانية إزاء هؤلاء المكرة المخادعين، إنّما يكمن في رفع المستوى الثقافي لدى الرأي العام وايقاف الاُمّة على مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية; الأمر الذي أكده الإسلام، وهذا هو أحد الأهداف التي تستبطنها خطب صلاة الجمعة. فلو إستدرك أهل البصرة وعادوا إلى أنفسهم وأفكارهم وألموا بشرائط الزمان والمكان لما أصبحوا العوبة بيد طلحة والزبير الذين نقضنا بيعة الإمام(عليه السلام) وتظاهرا عليه وألبوا الناس على قتاله فسالت تلك الدماء وحتى إنتهى الأمر إلى قتلهما. والسؤال المطروح هنا: هل هناك معنى واحد للعبارات الثلاث «فأنتم غرض لنابل» «و اكلة لآكل» «و فريسة لصائل» أم لها معاني متعددة؟ لايبعد أن تكون كل عبارة إشارة إلى جانب من جوانب المسألة. فالعبارة الاولى تبيّن الاستهداف من بعيد في أنّ الساسة يسعون لرميكم بسهامكم وايقاعكم في شباكهم ولو من بعيد. والعبارة الثالثة تبيّن هذا الاستهداف من قريب بينما تبين العبارة الثانية النتيجة


1. «غرض» بمعنى الهدف وهو ما ينصب ليرمى بالسهام، ثم اطلق على كل هدف، كما ذكر له معان اُخرى من قبيل الملل والشوق.

2. «نابل» من مادة «نبل» بمعنى الضارب بالنبل.

3. «فريسة» من مادة «فرس» على وزن فرض بمعنى الضرب، ولما كان الحيوان الوحشي يضرب فريسة بالأرض اِطلق عليه المفترس، كما اطلق اسم الفرس على الحصان لضربه الأرض برجله.

4. «صائل» من مادة «صول» و«صولة» بمعنى الحملة والقهر والغلبة.

[ 340 ]

النهائية لهذا الاستهداف والصيد. وهنا لابدّ من الالتفات إلى أنّ هذا الذم إنّما يرد بشأن اُولئك الذين أصبحوا آلة رخيصة بيد المنافقين، وإلاّ فالبصرة آنداك وما تبعه من أزمان قد حفلت بالأفراد الأخيار الذين أثنى عليهم الإمام(عليه السلام) كما ورد في شرح الخطبة السابقة.

—–

[ 341 ]

 

 

الخطبة 15

 

 

 

ومن كلام له (عليه السلام)

 

فيما رده على المسلمين من قطائع(1) عثمان

«وَاللّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّساءُ وَمُلِك بِهِ الاِْماءُ، لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً. وَمَنْ ضاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ».(2)

—–

 

نظرة إلى الخطبة

هذه من الخطب التي أوردها الإمام(عليه السلام) بعد أن بايعه الناس في المدينة حيث توعد فيها كافة الأفراد الذين تطاولوا على بيت المال إبان عهد عثمان إلى جانب بطانته وقرابته ممن حذا حذوهم، ويطالبهم باعادتها إلى بيت المال وإلاّ سيقف بوجههم بكل قوة. وهكذا يضع الإمام(عليه السلام) حداً لأطماع الطامعين، ثم يختتمها بعبارات قصيرة بعيدة المعنى بشأن العدالة وقيمتها في المجتمع.


1. «القطائع» ما يقطعه الإمام بعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج، ويسقط عنه خراجه، ويجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج، وقد كان عثمان أقطع كثيراً من بني اُمية وغير هم من أوليائه وأصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة، وقد كان عمر أقطع قطائع، ولكن لأرباب الغناء في الحرب والآثار المشهورة في الجهاد; عثمان أقطع القطائع صلة لرحمه وميلا إلى أصحابه من غير عناء في الحرب ولا أثر .

2. جاء في مصادر نهج البلاغة أن هذه الخطبة قد ذكرت في كتاب الاوائل لأبي هلال العسكري وكذلك كتاب دعائم الإسلام للقاضي النعمان المصري وإثبات الوصية للمسعودي مع بعض الاختلاف (مصادر نهج البلاغة 1 / 350).

[ 342 ]

الشرح والتفسير

القسم على إعادة الأموال المغصوبة

كما يفهم من مضمون الخطبة فانّها وردت في بداية الخلافة الظاهرية لأميرالمؤمنين علي(عليه السلام). وقال ابن أبي الحديد إنّ هذه الخطبة ذكرها الكلبي مروية مرفوعة إلى أبي صالح عن ابن عباس(رحمه الله) أنّ علياً(عليه السلام) خطبها في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة. والحق أنّ هذه الكلمات كانت كالماء البارد الذي سكب على ألسنة اللهب والنار المتقدة في صدور الاُمّة ; فقد سادت السكينة والهدوء قلوب أولئك الذين كانوا يأنون من إنعدام العدالة على زمن عثمان إلى جانب اُولئك الذين شعروا بها جس القلق على النظام الإسلامي وقوانينه الحقة، فاستبشروا بعودة الإسلام الأصيل والحكومة الإسلامية التي كانت تتطلع لها الفطرة الإسلامية، ولولا هذه السياسة التي أعلنها الإمام(عليه السلام) بهذه العبارات لما هدأت المدينة ولتكررت هجمات أبناء الاُمّة على دار عثمان ولسفكت الدماء واهدرت الأموال. فقد إستهل الإمام(عليه السلام) كلامه بالقسم بارجاع كافة الأموال التي نهبت من بيت المال مهما فعل بها «و الله لو وجدته قد تزوج به النساء،ملك به الاماء، لرددته». ثم أضاف(عليه السلام) مذكرا بأنّ إجراء العدالة قد يثير غضب البعض إلاّ أنّ ذلك خطأ فادح، لأن العدل أساس راحة المجتمع ومن ضاق صدره من العدل فانّه سيكون أضيق إذا ماساد الجور والظلم «فان في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق». فقد بيّن الإمام(عليه السلام) في البداية عزمه الراسخ على إعادة الأموال التي اُخذت ظلماً وعدواناً من بيت المال وإن تزوج بتلك الأموال أو تملك بها الإماء، فلابدّ أن تعاد إلى بيت مال المسلمين، لتعلم الاُمّة بأنّ القانون الذي سادها سابقاً لم يكن قانون الإسلام فهو ليس النموذج الإسلامي الذي يحتذى به في المسيرة السياسية. ثم عزز هذا العزم بالمنطق والدليل «فانّ في العدل سعة». و أخيراً يعرض بالنصح لاُولئك الذين مد أيديهم إلى بيت المال وظنوا بأنّ عزم الإمام(عليه السلام)هذا سيتضمن ضررهم، في أنّ الأمر بالعكس سيكون بنفعهم; لأن من ضاق عليه العدل فالظلم عليه أضيق، فالعدالة تمنحه الأموال الحلال ولا تسلبه سوى الأموال المحرمة اللامشروعة، ولكن إذا لم يستجب للعدل وعاش الظلم والجور، فانّه سيخاطر بجميع أمواله المحللة منهاالمحرمة. صحيح أنّ الظلم ممكن أن يجر نفعاً على الظالم خلال مدّة قصيرة، إلاّ أنّه

[ 343 ]

ليس كذلك على المدى البعيد، وقد أثبت التأريخ كيفية تحطم الظلمة بنفس هذه القوانين الظالمة التي شرعوها وفرضوها على الناس بقوة الحديد والنار; حتى خانهم أقرب مقربيهم وطعنوهم من خلفهم. قال الكلبي: ثم أمر(عليه السلام) بكل سلاح وجد لعثمان في داره;تقوى به على المسلمين فقبض، و أمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة، فقبضت، وأمر بقبض سيفه ودرعه، وأمر ألا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير داره، وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث اُصيبت أو أصيب أصحابها. فبلغ ذلك عمرو بن العاص، وكان بأيلة من أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان، فنزلها فكتب إلى معاوية: ما كنت صانع فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها. هذا وقد إختلفت أقوال المفسرين وشرّاح نهج البلاغة بشأن مراده بقوله «من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق» وأحد التفاسير هو ما ذكرناه سابقاً. التفسير الآخر هو أن بسط العدالة فيه رضى الله وخلقه والانسجام مع نظام الوجود، بينما يوجب الظلم غضب الله وخلقه ويؤدي إلى ضيق الدنيا والآخرة. وتفسير آخر هو أنّ سلب الإنسان شيء بالعدل قد يشق عليه، إلاّ أنّ سلبه ظلماً سيكون عليه أشق وأصعب. وأخيراً أنّ الوالي إذا ضاقت عليه تدبيرات اُموره في مظنة أن يمنع ويصد عن جوره. وإذا لم يطق الإنسان العدل والانصاف فأنّى له بتحمل الظلم والجور. ولانرى من ضير في جمع كل هذه التفاسير كمراد لمفهوم تلك العبارة.

 

تأمّلات

1 ـ معطيات العدالة في المجتمعات البشرية

لقد ورد التأكيد كراراً في نهج البلاغة على مسألة العدل والانصاف، بل المعروف أنّ الإمام علي(عليه السلام) من كبار باسطي العدل في المجتمع الإنساني، حتى أسماه المفكر المسيحي المشهور جورج جرداق الإمام علي صوت العدالة الإنسانية. وقد تظافرت الروايات الإسلامية ـ وعلى غرار كلمات الإمام علي(عليه السلام)في نهج البلاغة ـ الواردة بهذا الشأن وبعبارات غاية في الروعة واللطافة، منها ما ورد عن الإمام السجاد علي بن الحسين(عليه السلام) أنّه قال: «العدل أحلى من

[ 344 ]