2 ـ اسراف عثمان

ورد في التواريخ أنّه أعاد الحكم بن أبي العاص، بعد أن كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله، قد سَيَّره ثم لم يرده أبوبكر ولا عمر، وأعطاه مائة ألف درهم.

وأقطع مروان فدك، وقد كانت فاطمة عليها السلام طلبتْها بعد وفاة أبيها صلوات اللّه


1. بحار الأنوار 72 / 36.

2. بحار الأنوار 72 / 39.

3. بحار الأنوار 75 / 83 .

4. مستدرك الوسائل 11 / 320.

5. تفسير الصافي، سورة الرحمن / 7.

[ 345 ]

عليه، تارةً بالميراث، وتارة بالنِّحْلة فدُفِعت عنها.

وأعطى عبدالله بن أبى سرْح جميع ما جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقيّة بالمغرب; وهى من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أنْ يَشْرَكه فيه أحد من المسلمين.

وأعطى أباسفيان بن حرب مائتى ألف من بيت المال، في المال، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال، وقد كان زوّجه ابنته أم أبان، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح، فوضعها بين يدي عثمان وبكى فقال عثمان: أتبكى أن وصلت رحمى! وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة، فقسَّمها كلَّها في بني أميّة. وأنكح الحارث ابن الحكم ابنته عائشة، فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد صَرْه زيد بن أرقم عن خزنه.

وانضم إلى هذه الاُمور اُخرى نقمها عليه المسلمون، كتسيير أبي ذر رحمه اللّه تعالى إلى الرّبذة; وضَرَب عبدالله بن مسعود حتى كسر أضلاعه، وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود، وردّ المظالم، وكفّ الأيدي العادية والانتصاب لسياسة الرعيّة، وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين.(1)

ومن هنا يتضح أمران: الأول: علة قيام الناس ضد عثمان، والثاني السبب الذي دفع ببعض الأفراد من قبيل طلحة والزبير ومعاوية وسائر كبار مكة والمدينة. أو لايمكن خلاصة ذلك فيما ورد في خطبته(عليه السلام) من قوله: «والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الاماء، لرددته، فان في العدل سعة ـ ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق».

 

3 ـ الإجابة عن سؤال مهم

يتساءل البعض ألم يكن من الأفضل أن يتجاوز الإمام(عليه السلام) الماضي ـ عفا الله عمّا سلف ـ ويستأنف في زمان خلافته مسيرة العدالة ليجتث جذور الحقد والبغضاء من صدور العناصر الانتهازية والنفعية؟ ويمكن العثور على جواب هذا السؤال في كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقد


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 199.

[ 346 ]

ورد في بعض الروايات والقسم الآخر من هذه الخطبة أنّه قال(عليه السلام): «الا أن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال اعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال فان الحق القديم لا يبطله شيء ولو وجدته...»(1).

ومن البديهي أنّ الناس لو رأوا ناهبي بيت المال يتقلبون في البلاد بكل حرية ويسخرون عملياً من جرحهم لمشاعر الآخرين وأنّ العدالة ليست بصدد الماضي فانّهم لن يطيقوا مثل هذه العدالة ولا يرونها تنسجم وأي منطق وعقل حيث ينعم لصوص الأمس بالحرية والراحة بينما لا تطال العدالة سوى لصوص اليوم; فهذا الازدواج من شأنه أن يدخل اليأس في قلوب الناس من بسط العدالة. الفقه الإسلامي هو الآخر نص على وجوب عودة الأموال المغصوبة إلى أصحابها وليس هنالك من فارق بين الأمس واليوم، أمّا مسألة تقادم الزمان المطروحة هذا اليوم فبغض النظر عن اهمالها في الفقه الإسلامي، فانّها إنّما ترتبط بالدعاوي لا بالأموال المغصوبة.

—–


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 269.

[ 347 ]

 

 

الخطبة 16

 

 

 

ومن كلام له(عليه السلام)

 

لما بويع في المدينة وفيها يخبر الناس بعلمه بما تؤول إليه أحوالهم وفيها يقسمهم إلى اقسام

 

القسم الأول

«ذِمَّتِي بِما أَقُولُ رَهِينَةٌ. وَأَنا بِهِ زَعِيمٌ إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَثُلاتِ، حَجَزَتْهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهاتِ أَلا وَإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عادَتْ كَهَيْئَتِها يَوْمَ بَعَثَ اللّهُ نَبِيَّهُ(صلى الله عليه وآله). وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَلَتُساطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاكُمْ وَأَعْلاكُمْ، أَسْفَلَكُمْ وَلَيَسْبِقَنَّ سابِقُونَ كانُوا قَصَّرُوا، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبّاقُونَ كانُوا سَبَقُوا. وَاللّهِ ما كَتَمْتُ وَشْمَةً، وَلا كَذَبْتُ كِذْبَةً وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذا الْمَقامِ وَهَذا الْيَوْمِ».(1)

—–

 

نظرة إلى الخطبة

الخطبة من اُولى خطبه(عليه السلام) بعد مقتل عثمان وتوليه(عليه السلام) الخلافة في المدينة، ويبدو تفسيرها


1. لقد نقلت هذه الخطبة في عدّة كتب منها:

1ـ الشيخ الطوسي، تلخيص الشافي 3 / 53، 2ـ الجاحظ، البيان والتبيين 3 / 44، 3ـ العقد الفريد 4 / 132، 4ـ إرشاد المفيد، 5ـ كتاب الجمل، 6ـ عيون الأخبار، 7ـ المسعودي، اثبات الوصية، 8ـ كنز العمال، 9ـ الكليني، روضة الكافي / 67، 10ـ تاريخ اليعقوبي، ج 11ـ المجلسي، بحار الأنوار.

[ 348 ]

سهلاً بالالتفات إلى موقعها وزمان صدورها، وهى تدور حول أربعة محاور:

المحور الأول: الفات انتباه الاُمّة إلى الامتحان الذي ستمر به وتشبيه ذلك الزمان بزمان رسول الله(صلى الله عليه وآله) واننهضته كنهضة النبي(صلى الله عليه وآله) التي طفرت بالاُمّة من عصر الجاهلية والظلمة إلى عصر الهداية والنور، وإن كان إحتمال هذه النهضة صعب ثقيل على البعض وكون الامتحان شاق. فالانحرافات التي أعقبت رحيل النبي(صلى الله عليه وآله)والتي أدت إلى التمييز في عطاء بيت المال وسلب ونهب ثروات الاُمّة واغداق المناصب الحساسة على من تبقى من رجالات الجاهلية إنّما تتطلب ثورة إصلاحية قام بها الإمام علي(عليه السلام). ثم يذكر الإمام(عليه السلام) الناس بضرورة العودة إلى الإسلام الأصيل والاعتبار بعاقبة ومصير الأقوام الماضية.

المحور الثاني: يقارن(عليه السلام) بين المعصية والذنب والورع والتقوى ثم يبيّن كل منهما وكيف تصعب السيطرة على المعاصي بينما يتيسر نهج التقوى ويحذر الاُمّة من المخاطر التي تتربص بمصيرها.

المحور الثالث: إشارة مقتضبة عميقة المعنى لمسألة الحق والباطل محذراً الاُمّة من عدم الاستيحاش من الحق رغم قلة سالكيه والاستئناس بالباطل لكثرة سالكيه، والعمل بالحق الذي لا يقود سوى للغلبة والنصرة الإلهية.

المحور الرابع: الذي يشمل سلسلة من النصائح والمواعظ التي تعدّ كل واحدة منها ركن مهم من الأركان التي ينبغي الالتفات إليها في الحياة من قبيل الوعظ بالابتعاد عن الإفراط والتفريط والتمسك بالقرآن والسنّة وضرورة معرفة الذات والدعوة إلى الآخاء والاتحاد وإصلاح ذات البين والتوبة من المعاصي والوثوق بأنّ البركة والخير منه سبحانه.

—–

 

الشرح والتفسير

اليقظة والوعي في الامتحان

تعتبر هذه الخطبة ـ كما أشرنا سابقاً وعلى ضوء ما صرّح به بعض شرّاح نهج البلاغة مثل ابن أبي الحديد ـ من الخطب المهمّة التي أوردها(عليه السلام) لما تمت له البيعة بالخلافة، فحذر الاُمّة ممّا ينتظرها وأبان لها المخاطر والانحرافات التي تتربص بها.

[ 349 ]

فقد قال بادئ ذي بدء: «ذمتي بما أقول رهينة وأنابه زعيم»(1) في إشارة إلى صدق القول وحقانيته ووجود الضمانات القائمة عليه، ولذلك ينبغي عليكم تلقيه دون نقاش إلى جانب الالتزام به والعمل بمقتضاه. امّا المغزى الذي ينطوي عليه هذا التعبير فإنّما يكمن في إلفات نظر السامع إلى أهمية وخطورة المضمون الذي يختزنه الكلام والتعامل مع أهدافه.

ثم خاض الإمام(عليه السلام) في تفاصيل هذا المضمون في أن من استشعر الورع والتقوى وخشى العواقب نأى بنفسه بعيداً عن الشبهات ومامن شأنه تعريضه لتلك العواقب «ان من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات(2) حجزته(3) التقوى عن تقحم الشبهات». ارجعوا إلى التأريخ وتأملوا ما أصاب الأقوام الماضية من عقوبات بفعل الانحراف عن الحق والتلوث بالمعاصي والذنوب واستفحال الهوى والشهوات وحب الذات! ارجعوا إلى زمان انبثاق الدعوة وقيام النبي(صلى الله عليه وآله)وتدارسوا المؤامرات التي حاكتها الأقوام الجاهلية ضده ثم انظروا كيف كانت عواقبهم ومصائرهم لتتضح لكم معالم الطريق فتجوبوا الظلمة بنور التقوى والهداية; الكهف الحصين الذي يأمنكم من الضربات الموجعة التي يمكن أن تسددها لكم النفس الامارة وتزينها الشياطين. ثم يكشف الإمام(عليه السلام) النقاب عن الواقع الخطير الذي يعيشونه ويطلعهم على صعوبة الامتحان «ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه(صلى الله عليه وآله)». اعلموا أنّ أمامكم امتحان لا ينحج فيه سوى من استشعر نفسه كمال التقوى والاخلاص. فالإمام(عليه السلام)يميط اللثام عن هذه الحقيقة في أنّ الاُمّة في عصر الخليفة الثالث ولا سيما أواخر عمره قد عاشت البذخ في بيت المال والمناصب التي فوضت لغير أهلها من الأفراد الصالحين والمفاسد التي اجتاحت المجتمع الإسلامي والاختلافات التي عصفت بوحدتها وكأنّها عادت القهقري إلى عهد الجاهلية وكأن بيعته كبيعة رسول الله(صلى الله عليه وآله) التي تطالبه بنهضة تجديدة كتلك التي أسسها النبي(صلى الله عليه وآله); تلك النهضة المعطاء التي صهرت الاُمّة في الإسلام الأصيل.


1. «زعيم» من مادة «زعم» بمعنى بيان الكلام الذي يحتمل فيه الخلاف، ثم أطلق الزعيم على من يكفل شخصاً ويضمنه لأنّه يكون عرضة للتهمة، وقد جاءت هذه المفردة في العبارة بمعنى الضامن والكفيل، كما يطلق الزعيم على القائد الذي يتولى زمام الاُمور لأنّه يتكفل بالأعمال المهمّة.

2. «مثلات» جمع «مثلة» على وزن عضلة بمعنى مقارنة شيء بآخر، ثم اُطلقت على العذاب الإلهي والعقوبة التي تحذر الإنسان من ارتكاب ما يوجبها.

3. «حجز» من «حجز» على وزن عجز بمعنى الحائل بين شيئين وقد وردت بهذا المعنى في العبارة، فالتقوى تحول دون الوقوع في الشبهات.

[ 350 ]

ومن الطبيعي أن تهب بعض الفئات التي تعرض مصالحهم اللامشروعة للخطر لابداء ردود الفعل واظهار المقاومة; الأمر الذي يعقد الامتحان بما يجعل الحاكم الخبير كالإمام علي(عليه السلام) يوقظ الاُمّة وينبهها إلى الأخطار المتربصة بها وهنا لابدّ من الالتفات إلى أنّ البعض فسّر البلية بالبلاء والمشاكل، في حين نراها تعني الامتحان والاختبار ويؤيد ذلك سائر عباراته الواردة في الخطبة. ثم خاض(عليه السلام)في تفاصيل هذا الامتحان الإلهي الكبير ليوضحه بمثالين، فقد ذكر أولاً «والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة(1) ولتغربلن غربلة»(2) وهذه هى الطبيعة التي تسود كل نهضة ربانية في غربلة المجتمع حين تتويج مسيرتها بالنصر. فهناك إقصاء لأصحاب السطوة الخونة واستبدالهم بالمجموعة الصالحة المستضعفة، وهذا بعينه ما مارسه رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعيد انتصار ثورته المباركة. فقد نحي أبو سفيان ومن لف لفه من طغمة الفساد ليفسح المجال لصهيب والخباب وبلال. أضف إلى ذلك فقد نحيت الشخصيات المستبدة التي استندت إلى منطق القوة على عهد عثمان بعد بيعة أمير المؤمنين علي(عليه السلام)لتخلفها القوى الشعبية المخلصة.

وثانياً «ولتساطن سوط(3) القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم». نعم فطبيعة كل ثورة أن تضع في النهضات الربانية التي تنبثق في المجتمعات الفاسدة فانّها تطيح بالمفسدين وترفع المستضعفين ليمارسوا دورهم في السلطة.

ثم يواصل الإمام(عليه السلام) كلامه بالقول: «وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا» والعبارة الثانية إشارة إلى بعض الأفراد كطلحة والزبير الذين كانا يوماً في الصفوف الاولى بينما دفعتهم بعض العوامل للتراجع عن تلك الصفوف، بينما تشير العبارة الاولى إلى بعض الأفراد كصحب الإمام(عليه السلام) وأتباعه الذين أصبحوا يوماً جلساء الدار، بينما سنحت لهم الفرصة على عهد الإمام ليتقدموا ويسبقوا كما احتمل البعض أن يكون المراد المستقبل الذي سيشهد تردي الأوضاع فيتقدم بنو أمية ويتصدرون الاُمور ويتأخر السابقون


1. «بلبلة،» ذكر أرباب اللغة عدّة معان لهذه المفردة منها الاختلاط وهذا هو المعنى المناسب لها في هذه العبارة.

2. «غربلة،» لها معنيان أحدهما فصل الخبيث من الطيب بالغربال (بكسر الغين وضمها) والآخر القطع والفصل.

3. «سوط» أي كما تختلط الابزار ونحوها في القدر عند غليانه فينقلب أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها، وكل ذلك حكاية عمّا يؤولون إليه من الاختلاف وتقطع الأرحام وفساد النظام.

[ 351 ]

في الإسلام فتعود الجاهلية بأقطابها ليتسلموا زمام الامور، ولكن لما كانت هذه الخطبة قد أوردت إثر مبايعة الإمام(عليه السلام) مباشرة فان المعنى الأول يبدو هو الأنسب. ثم يؤكد الإمام(عليه السلام)هذا الأمر بقسم آخر «والله ما كتمت وشمة(1) ولا كذبت كذبة، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم».

وما كل هذه الاُمور إلاّ ليفيق الناس ولا يستسلمون للمؤامرات كمؤامرة الجمل وصفين والنهروان ويعلموا أنّهم أمام امتحان صعب فيلتفتوا إلى أنفسهم، إلاّ أنّ المؤسف له هو أنّهم لم يعيروا نصح الإمام(عليه السلام) أية آذان صاغية ولم يتدبروا الأمر فكان من ذلك أن فشلوا في الامتحان أيما فشل.

يبدو أنّ مراد الإمام(عليه السلام) من هذه العبارة هو المغيبات التي أطلعه عليها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وكما ذكرنا في حينه ـ في مبحث علم غيب النبي(صلى الله عليه وآله) والإمام ـ أنّ الأئمة المعصومين هم قادة الاُمّة على مدى العصور والدهور ولا يمكن لهذه القيادة إلاّ تنطوي على علم الغيب والاحاطة بأسرار الماضي والمستقبل; وذلك لأنّ هناك رابطة وثيقة بين حوادث اليوم والأمس والغد، ومن هنا كانوا يطلعون أصحابهم على جانب ممّا ينتظرهم في المستقبل أو يعلنوا ذلك للناس ليكونوا أكثر حزماً ووعياً في التعامل مع الأحداث وينأوا بأنفسهم بعيداً عن حبال الشيطان وشراكه. وهذا ما نلمسه بوضوح كراراً ومراراً في سيرة الإمام علي(عليه السلام)وكيف أنّه حذر الاُمّة ولفت انتباهها إلى الأخطار التي تتربص بها. ومن الطبيعي أن يتعظ البعض ويتمرد البعض الآخر.

—–

تأمّلان

1 ـ التأريخ يعيد نفسه

من المعروف أن الأحداث التأريخية سلسلة من الوقائع المتكررة التي تتخذ أشكال مختلفة، ومن هنا فان الأفراد الذين يتأملون بعمق الماضي التأريخي يتمكنون من التعامل بمعرفة أفضل مع الحوادث الراهنة والآتية، ومن هنا رأينا القرآن الكريم مشحوناً بقصص


1. «الوشمة» في الأصل بمعنى الخال الذي يوخز بالابرة ثم يطلي بمادة ملونة تحت الجلد، كما أطلقت على الأشياء الصغيرة كقطرة ماء المطر أو الحديث القصير، وقد وردت هنا بالمعنى الأخير.

[ 352 ]

الأنبياء والأقوام السالفة التي تعكس بجلاء أحداث اليوم والمستقبل. الإمام(عليه السلام)ـ في هذا المقطع من الخطبة ـ أشار إلى هذه النقطة المهمّة: «ان من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات، حجزته التقوى عن تقحم الشبهات» ثم قال(عليه السلام): «الا وان بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه(صلى الله عليه وآله)». ذات الفئات المناهضة للحق، والانحرافات والضلال والمؤامرات والفتن. فافيقوا وانطلقوا خلف إمامكم مخافة ان تضلوا ـ ولو أمعنا النظر وقارنا حوادث عصر الإمام(عليه السلام) بعصر النبي(صلى الله عليه وآله)لوجدنا شبهاً كبيراً، وليس هذا إلاّ أنّ المنافقين ومن تبقى من عصر الجاهلية سعوا وبشتى الطرق للقضاء تدريجياً على تعاليم النبي(صلى الله عليه وآله); ولا سيما أنّهم سعوا لاختراق مراكز القوة لممارسة دور أكبر فى تشويه الثقافة الإسلامية واستبدالها بثقافة جاهلية; الأمر الذي لمسنا آثاره بوضوح في العصر الأموي.

فالحق أنّ بعض الظواهر الإسلامية كانت قائمة في عصر الخليفة الثالث، إلاّ أنّ هذه الظواهر لم يبقى منها إلاّ قشورها في العصر الاموي. على غرار الشعائر الإسلامية كالصوم والصلاة والحج التي كانت سائدة على عهد بني اُمية ولكن أية صلاة وصوم وحج؟!

 

2 ـ بيان الحقيقة أم رعاية المصلحة

كثير هم الذين يعتقدون بأنّ المصلحة تكمن في كتمان الحقائق عن الناس، حذراً من ابداء ردود الفعل الطائشة، والحال ليست مصلحة الزعماء ومصالح عموم الاُمّة ـ باستثناء بعض الحالات الخاصة ـ سوى اطلاع الناس على الحقائق وفسح المجال أمامهم لاقتحام الميدان عن علم ومعرفة. فالتعتيم الخبري وتغييب الاُمّة عن الأحداث يمثل الاسلوب الذي يعتمده الطغاة والجبابرة الذين لا يفكرون سوى في تحقيق أطماعهم ومآربهم، على العكس من الزعماء الربانيين وأئمة المسلمين الذين يكرسون جهودهم لنجاة الاُمّة من مشاكلها المادية والمعنوية، فهم يسعون باخلاص لكشف الحقائق والواقعيات لأنّهم يستنصرون الاُمّة ويرومون دعمها واسنادها. والطريف في الأمر أنّ الإمام(عليه السلام) لا يكتم الوقائع عن الاُمّة ـ كما ورد في هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلاغة ـ فحسب، بل يطلعها حتى على الحوادث المستقبلية التي سمعها من النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) فيقول لهم لا أبخل عليكم حتى بالأخبار عن الكلمة الواحدة التي من شأنها أن تنبهكم إلى الأخطار المحدقة بكم حرصاً على عدم الاغترار بوساوس الشيطان والوقوع في شباكه.

[ 353 ]

 

 

القسم الثاني

 

«أَلا وَإِنَّ الْخَطايا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْها أَهْلُها، وَخُلِعَتْ لُجُمُها، فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النّارِ، أَلا وَإِنَّ التَّقْوَى مَطايا ذُلُلٌ، حُمِلَ عَلَيْها أَهْلُها وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ. حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَلِكُلّ أَهْلٌ، فَلَئِنْ أَمِرَ الْباطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ، وَلَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ فَلَرُبَّما وَلَعَلَّ، وَلَقَلَّما أَدْبَرَ شَيْءٌ فَأَقْبَلَ».

—–

 

قال السيد الشريف: وأقول: إنّ في هذا الكلام الأدنى من مواقع الاحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان، وإنّ حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به. وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان، ولا يطلع فجها إنسان، ولا يعرف ما أقول إلاّ من ضرب في هذه الصناعة بحق، وجرى فيها على عرق «وما يعقلها إلاّ العالمون».

 

الشرح والتفسير

الذنوب شماس كالخيل

يواصل الإمام(عليه السلام) البحث السابق بشأن الأوضاع المتأزمة بعد بيعة الإمام(عليه السلام)والتي تمثل ثورة تصحيحية في العالم الإسلامي، حيث يتطرق إلى نقطة غاية في الأهمية من خلال تشبيه رائع، وهى ضرورة السيطرة على الذنب منذ بدايته حيث إذا ترك له العنان وتمادي في مقارفة شبيهه، جذبه إليه وسيطر على كيانه وسلبه زمام المبادرة وأوقعه في واد سحيق فقد وصف(عليه السلام)الذنوب والمعاصي بالخيول الجامحة التي يصعب السيطرة عليها «ألا وإن الخطايا خيل شمس(1)


1. «شمس» من مادة «شموس» و«شماس» على وزن فتوح وكتاب بمعنى التغيير وعدم الاستقرار ومن هنا اطلق اسم الشمس، حيث تتحرك على الدوام، وشمس التي وردت في العبارة جمع شموس بمعنى الفرس الجموح الذي يمنع ظهره من الركوب.

[ 354 ]

حمل عليها أهلها، وخلعت نجمها، فتقحمت بهم في النار» ياله من تشبيه رائع، فركوب الفرس الجامح خطير، وتشتد الخطورة إذا فقد لجامها الذي يلجم عنانها، ثم تتضاعف هذه الخطورة أكثر من ذي قبل إذا كان هذا الجموح في أرض تشتمل على بعض المطيات. وهذا هو التصوير الواقعي للذنب، فارتكاب الذنب يقود الإنسان إلى ذنب آخر وهكذا، على سبيل المثال قد يرتكب الإنسان خيانة فيكتمها، وإذا استجوب حال مالا يحصى من الأكاذيب للتغطية على خيانته كما يقسم كاذباً أو يلجأ إلى اتهام الآخرين، فاذا لم يجد ذلك نفعاً ربما لا يتورع عن سفك دم من يعلم بخيانته، بغية عدم افتضاح أمره وهكذا يصبح أرضية خصبة لمقارفة ما شاء من الذنوب; ولا غرو فقد أصبح كالخيل الشموس التي خلع لجامها فهى تقذف بصاحبها إلى الهاوية.

ثم ذهب(عليه السلام) إلى الصورة المعاكسة التي شبه فيها التقوى بالخيل الذلول فأوصلت راكبهاالموضع الذي يريد «ألا وإن التقوى مطايا ذلل(1) حمل عليها أهلها، وأعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنّة» نعم فالأعمال الصالحة سلسلة متعاقبة الحلقات، فالعمل الصالح يكون سبباً لآخر وهكذا الإتيان بسائر الأعمال الصالحة. على سبيل المثال إذا ربّى أحدهم ولده تربية صالحة فسيعده للإتيان بالخيرات والبركات، وسيكون له تأثيره البالغ في وسطه بما يحث رفاقه وأصحابه على القيام بمثل هذه الأعمال، وهكذا يسير المجتمع نحو السعادة والصلاح والفلاح. جدير بالذكر أنّ الإمام(عليه السلام) عبر عن الذنوب بالخيل الشمس وعن التقوى بالمطايا الذل، فالخيل من مادة خيال، فيطلق «المختال» على الفرد المغرور والمتكبر الذي يعيش الخيالات، ومن هنا اصطلح على الفرس بالخيل لأنّه عادة ما يدعو راكبه إلى الغرور والفخر. على العكس من المطايا جمع مطية من مادة المطو على وزن العطف بمعنى الجد والنجاة في السير; وبناءً عى هذا فان المطية دابة هنيئة سريعة تسير قدماً نحو الإمام(عليه السلام) بكل هدوء دون أن تجمح بصاحبها وتقحمه في المتاهات ـ ومن هنا تتضح ذروة فصاحته وبلاغته في كلماته(عليه السلام)


1. «ذلل» جمع «ذلول» وهى المروضة الطائعة.

[ 355 ]

حتى تلك الكلمات القصيرة والعبارات الصغيرة. ثم يحذر الإمام(عليه السلام)من صعوبة الامتحان الإلهي في ظل حكومته وطيلة حياتهم مواصلاً البحث السابق بشأن الذنب والتقوى فقال(عليه السلام): «حق وباطل، ولكل أهل».

أجل فالحياة البشرية ومنذ بدء الخليقة كانت وما زالت مسرحاً للصراع بين هذين الاتجاهين ويختصر الإمام(عليه السلام)كلامه بالإشارة إلى مسألة حساسة وهى أنّ الباطل إذا قدر له أن يحكم فلا عجب في ذلك فهذا ما حصل منذ قديم الزمان: «فلئن أمر الباطل لقديماً فعل». وإن قل الحق وأتباعه فلا داعي للقلق ولعله يزداد فيهزم الكفر في عقر داره «ولئن قل الحق فلربما ولعل» أنّ قصة الصراع بين الحق والباطل وما تخلله من وسائل وأدوات وما تمخض عنه من نتائج طيلة التأريخ الإنساني قصة ذات شجون وسنتطرق إلى هذه التفاصيل في الأبحاث القادمة بما يتناسب وسائر الخطب الواردة بهذا المجال.

أمّا القضية الجديرة بالذكر والتي حظت باهتمام الإمام(عليه السلام) هى ضرورة عدم الاستيحاش من الحق لقلة سالكيه والاستئناس بالباطل لكثرة سالكيه; لأنّ التأريخ يشهد على الدوام بكثرة أتباع الباطل وقلة أتباع الحق، وكثيراً ما كانت تحسم المعارك والصراعات لصالح الحق; وهذا ما صرّح به القرآن الكريم على لسان طالوت: (كَمْ مِنْ فِئَة قَلِـيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بِإِذنِ اللّهِ)(1). وهو المعنى الذي أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة بالقول: (قُلْ لا يَسْتَوِي الخَبِـيثُ وَالطَّـيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِـيثِ)(2). كما ورد هذا المعنى في الخطبة 1 ـ 2 من نهج البلاغة «أيّها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله». امّا المسألة التي ينبغي الالتفات إليها هى أنّ هذه الكثرة ليست دليلاً على الأحقية ولا النصر، بل يرى المنطق القرآني والروائي بل ومنطق الربانيين أنّ الملاك إنّما يكمن في الكيفية لا الكمية، ومن هنا فان زوال حكومات الباطل يستتبع زوال كافة آثارها فلا يبقى لها سوى الخزي والعار، بينما تبقى آثار حكومات الحق باقية خالدة.

على كل حال فان الصراع بين الحق والباطل وكثرة جند الباطل إنّما هى في الواقع امتحان إلهي يهدف إلى تمحيص طلاب الحق.


1. سورة البقرة / 249.

2. سورة المائدة / 100.

[ 356 ]

والنقطة الثانية التي يؤكد عليها الإمام(عليه السلام) قوله: «ولقلما أدبر شيء فاقبل». طبعاً يؤمن جميع المسلمين ـ من سنّة وشيعة وسائرالفرق ـ أنّ الحق سينتصر يوماً حين ظهور المهدي الموعود(عج) وسيدحر الباطل وإلى الأبد وستسود العالم برمته حكومة العدل الإلهي.

وعلى ضوء بعض الروايات فقد نقلت ذيل هذه الخطبة عبارة عن الإمام الصادق(عليه السلام) عن الإمام علي(عليه السلام) انّه قال: «وبنا فتح لا بكم ومنا نختم لا بكم». وقد صرّح ابن أبي الحديد بعد ذكره لهذه العبارة قائلاً: إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الزمان، وأكثر المحدثين على أنّه من ولد فاطمة(عليها السلام) وأصحابنا المعتزلة لا ينكرونه»(1).

نعم العبارة ترشد إلى عدم فقدان الفرصة والآن وقد تمهدت جميع السبل من أجل بسط العدالة وإقامة حكومة الحق في ربوع المجتمع الإسلامي فالحذار من وساوس شياطين الانس والجن ومؤامرات اُولئك الذين تبددت مصالحهم اللامشروعة وخابت ظنونهم وآمالهم، فاذا ضاعت هذه الفرصة فان عودتها لا تبدو سهلة، وهذا مادلت عليه حياة الإمام(عليه السلام) حيث لم تتعظ الاُمّة بوصاياه ومواعظه ففقدت زمام المبادرة وأضاعت الفرصة; فقد أوشك جيش الشام على الانهيار المطلق وأصبح القضاء على طاغية بني أمية يكون قاب قوسين أو أدنى فعمد ابن العاص لتلك الخدعة التي انطلقت على الاُمّة، فأبقت على تلك الحكومة الجائرة لتخلف من بعدها بني مروان وبني العباس والحجاج و...

—–

الطريف في الأمر ما أورده السيد الرضي بشأن الخطبة إذ قال: إنّ في هذا الكلام الأدنى من مواقع الاحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان، وإنّ حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به. وفيه ـ مع الحال التي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان، ولا يطلع فجها إنسان، ولا يعرف ما أقول إلاّ من ضرب في هذه الصناعة بحق، وجرى فيها على عرق «وما يعقلها إلاّ العالمون».


1. شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد 1 / 281.

[ 357 ]

 

 

القسم الثالث

 

«شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَالنّارُ أَمامَهُ! ساع سَرِيعٌ نَجا، وَطالِبٌ بَطِيءٌ رَجا، وَمُقَصِّرٌ فِي النّارِ هَوَى. الْيَمِينُ وَالشِّمالُ مَضَلَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجادَّةُ، عَلَيْها باقِي الْكِتابِ وَآثارُ النُّبُوَّةِ، وَمِنْها مَنْفَذُ السُّنَّةِ، وَإِلَيْها مَصِيرُ الْعاقِبَةِ هَلَكَ. مَنِ ادَّعَى، وَخابَ مَنِ افْتَرى. مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ.كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ. لا يَهْلِك عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْل، وَلا يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْم. فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ وَرائِكُمْ، وَ لا يَحْمَدْ حامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ، وَلا يَلُمْ لائِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ».

—–

 

الشرح والتفسير

سبيل النجاة

لما فرغ الإمام(عليه السلام) من التحدث عن صعوبة الامتحان بعد بيعته وحذر الاُمّة من وبال الذنوب والمعاصي مشيراً إلى الحق والباطل، عرج هنا بالإشارة إلى سبيل النجاة من مخالب الهوى والهوس وبلوغ السعادة ونيل الفلاح، ليكشف عن الحقائق الواردة بهذا المجال. فقد صنف الناس في مسيرتهم إلى السعادة والنجاة إلى ثلاث طوائف، فمن شغل بالجنّة والنار «وآمن بهما اعتزل كل ما يصده عن ذلك» وانهمك بالتفكير بالعاقبة (على ثلاث)، منهم من حث السير وبلغ الهدف سريعاً فهو ناجي. ومنهم من تباطأ في السير فهو مؤمل للنجاة أيضاً. أمّا الأخير من قصر في السير فهوى في النار «شغل من الجنّة والنار أمامه! ساع سريع نجا، وطالب بطيء رجا، ومقصر في النار هوى».

يرى البعض أنّ هذه الطوائف هى تلك التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة فاطر بقوله:

[ 358 ]

(ثُمَّ أَوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِـبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُـقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِـإِذنِ اللّهِ)(1). وقيل بل هم من أشارت لهم الآية القرآنية الشريفة في سورة الواقعة: (وَكُنْتُـمْ أَزْواجـاً ثَـلاثَـةً * فَـأَصْحابُ المَـيْمَنَةِ * ما أَصْـحابُ المَـيْمَنَةِ وَأَصْـحابُ المَشْأَمَةِ ما أَصْـحابُ المَشْـأَمَةِ * وَالسّـابِقُونَ السّـابِقُونَ * أُولـئِكَ المُقَـرَّبُونَ)(2). على كل حال فان هذه الطوائف الثلاث مطروحة على الدوام في المجتمع الإنساني وإذا ما اشتد الامتحان (كالذي عليه الحال إبان خلافة الإمام علي(عليه السلام)) تمايزت هذه الطوائف عن بعضها البعض; فهناك طائفة (وإن كانت غالباً قليلة) تتبع الحق دون أدنى ترديد أو تراجع وهى تحث الخطى سريعة نحو الهدف. وطائفة اُخرى أضعف ايماناً من سابقتها فهى تقدم رجلاً وتؤخر اُخرى فأحياناً تحث الخطى وتسير بوثوق نحو الهدف فتعمل الصالحات بينما تتأخر أحياناً فتقارف الطالحات فتخلط العمل الصالح بالسيء إلاّ أنّها تؤمل بأن يشملها لطف الله وفضله فيبلغ بها الهدف المطلوب.

وأخيراً الطائفة الثالثة التي فارقت الإيمان والتقوى وغلبت عليها الشقوة وهوى النفس فضاعوا وضيّعوا أنفسهم حتى وقعوا في الهاوية. فالعبارة المذكورة تبيّن بوضوح أنّ الإيمان بالمعاد فقط من شأنه أن يصون الإنسان من الفساد والانحراف والذنب. وتتناسب هذه الصيانة والحصانة من الذنب طردياً ودرجة الإيمان. وقد ذهب البعض إلى أنّ العبارة: «شغل من الجنّة والنار أمامه» جملة خيرية تفيد معنى الإنشاء; أي أنّ من يرى الجنّة والنار أمامه عليه أن يغض الطرف عن زخارف الدنيا وزبرجها! ولكن ليس هنالك من ضير في تفسير هذه الجملة بصورة الأخبار ـ على نحو الجملة الخيرية ـ أي أن مثل هؤلاء المؤمنون سيغضون طرفهم عن زخارف الدنيا. ولما فرغ الإمام(عليه السلام) من بيان خصائص الطوائف الثلاث، أخذ يدعو الاُمّة إلى انتهاج السبيل القويم والابتعاد عن سبل الانحراف مبيناً علامات كل منهما فقال: «اليمين والشمال مضلة(3) والطرق الوسطى هى الجادة».


1. سورة فاطر / 32.