3. «مضلة» على وزن «مفعلة،» قال أرباب اللغة انّها تعني كثرة وجود الشيء في المكان وعليه فمفهوم العبارة أنّ الانحراف إلى اليمين واليسار يدعو إلى ضلال عظيم.

[ 359 ]

فالعبارة إشارة للمسألة المعروفة لدينا بأنّ السبل المنحرفة التي تقود الإنسان إلى الضلال. ولعل المراد باليمين والشمال هو الإفراط والتفريط الذين لا يوصلان إلى الهدف الذي لا سبيل إليه سوى الصراط المستقيم الذي يمثل الاعتدال بين الإفراط والتفريط، ومن هنا صرّح القرآن الكريم بقوله: (وَكَذ لِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)(1). وقد صرّح كبار علماء الأخلاق بأن كافة الصفات الفضلى إنّما هى الاعتدال بين الصفات الرذيلة التي تقع على طرفي الإفراط والتفريط.

وذهب بعض مفسّري نهج البلاغة إلى أنّ المراد بالطريق الوسطى مسألة الإمامة وولاية الأئمة المعصومين التي يقود الإفراط والتفريط فيها إلى الضلال. ولا نرى من ضير في ان تختزن هذه العبارة كافة المعاني فتشمل قضية الولاية كما تشمل سائر المسائل العقائدية والعملية والأخلاقية.

أمّا بشأن معرفة الله فقد وقعت طائفة في مصيدة التشبيه فتشبهت الخالق بمخلوقاته، بينما ذهبت اُخرى إلى تعطيل معرفته على أن ذات الخالق وصفاته متعذرة على البشر حتى المعرفة الإجمالية، وهناك الحد الوسط بين التشبيه والتعطيل والذي يعني معرفة الله عن طريق أفعاله دون كنه الذات. وبالنسبة لأفعال العباد فليس الجبر صحيحاً ولا التفويض، والطريق الوسط هو الأمر بين الأمرين، وهكذا القول بشأن الولاية لا الغلو صحيح ولا التقصير، وهذا ما يصدق على الأخلاقيات والأعمال، فمثلاً في الانفاق الصحيح هو الحد الوسط بين البخل والاسراف.

والطريف أنّ الفرق التي وقفت بوجه الإمام(عليه السلام) لم تخرج من تلك الحالتين، ففرقة الخوارج سلكت الافراط، بينما انتهج أهل الشام التفريط، وقد ضلت الفئتان في معرفة الإمام(عليه السلام). ثم خاض(عليه السلام) في خصائص الجادة الوسطى المعتدلة «عليها باقي الكتاب وآثار النبوة، ومنها منفذ السنّة، وإليها مصير العاقبة». هناك تفسيران لقوله(عليه السلام): «عليها باقي الكتاب»: أحدهما المراد القرآن الكريم; الكتاب الخالد والذي انفرد بالمعارف والقوانين والأحكام التي


1. سورة البقرة / 143.

[ 360 ]

يتعذر العثور عليها في ما سواه. والآخر المراد بالكتاب الخالد الإمام المعصوم الحافظ لكتاب الله، وهو عدل القرآن كما صرّح بذلك حديث الثقلين المعروف، ولكن يبدو المعنى الأول أنسب، ولا سيما أن آثار النبوة التي أعقبت العبارة يمكن تفسيرها بالآثار الباقية لدى الأئمة.

كما أوردت عدّة تفاسير بهذا الشأن لا تبدو صائبة.

وقوله(عليه السلام): «منها منفذ السنّة» فبالالتفات إلى كلمة منفذ يبدو أنّ المراد هو أنّ الطريق الوسطى فقط التي يمكن من خلالها الوقوف على السنة النبوية والتعرف على جوهر الدعوة، ومن هنا يتضح الفارق في هذه الملل الاربعة.

فقد أشار(عليه السلام) إلى أنّ الكتاب على هذه الجادة، ثم قال(عليه السلام) وعليها آثار النبوة، ثم أضاف ومنها منفذ السنة، وأخيراً قال وإليها مصير العاقبة من خلال هذه الجادة لا غير; كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم (وَالعاقِبَةُ لِلْمُـتَّقِـينَ)(1).

ثم تطرق الإمام(عليه السلام) إلى مصير من يزعم الإمامة وولاية الناس بالباطل، حيث يصفهم في أربع عبارات: الاولى هلاك من يدعي الإمامة بغير حق فهو ضال مضل «هلك من ادعى» والثانية أنّ من يطلب هذا المقام كذباً وافتراءً على رسول الله(صلى الله عليه وآله)لم يظفر بما طلب «وخاب(2) من افترى».

والثالثة هلاك من يقف بوجه الحق: «من أبدى صفحته(3) للحق هلك».

والأخيرة يكفي الإنسان جهل أنّه لا يعرف قدره فيتمدد أكثر من حجمه «وكفى بالمرء جهلاً الا يعرف قدره». طبعاً هناك إحتمال قائم في ألا تكون هذه العبارات الأربع تعالج مسألة الإمامة التي تعرضت لها هذه الخطبة; بل تشمل معنا أوسع وهو كل ادعاء باطل سواء في مجال الإمامة أو سائر المجالات.

فالواقع هى تحذير لأهل الباطل من مغبة التمادي في غيهم بما لا يجلب عليهم سوى البؤس والشقاء والهلاك.


1. سورة الأعراف / 128.

2. «خاب» من مادة «خيبة» بمعنى الفشل والحرمان وعدم الظفر بالشيء.

3. «صفحة» بمعنى عرض الشيء وقد يراد بها الوجه ومنها المصافحة.

[ 361 ]

أمّا قوله(عليه السلام): «من أبدى صفحته للحق هلك» فقد فسره بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ من أبدى صفحته لنصرة الحق غلبه أهل الجهل، لأنّهم العامة، وفيهم الكثرة، فهلك.

فهذا الكلام وان كان واقعياً إلاّ أنّه لا يمكن أن يكون تفسيراً للعبارة المذكورة وذلك لأنّه لا ينسجم والعبارات السابقة بشأن أدعياء الباطل، كما لا يتفق والعبارة اللاحقة بشأن الأفراد الجهال الذين لا يعرفون قدر أنفسهم. وأخيراً يختتم الإمام (عليه السلام) هذه العبارات يعرض بالنصح والموعظة التي من شأنها تخليصهم من مخالب المنافقين وأدعياء الباطل، فقد دعاهم في البداية إلى التحلي بالورع والتقوى التي تعدّ الركن الركين لكل حركة وعمل صالح، فقال(عليه السلام): «لا يهلك على التقوى سنخ(1) اصل، ولا يظمأ عليها زرع قوم» فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) قد شبه ـ بهذه العبارة العميقة المعنى ـ التقوى بالأرض الخصبة ذات المناخ المناسب التي لا تجف فيها جذور الأشجار ولا يموت فيها الزرع من قلة الماء; أرض خصبة صالحة للزراعة ذات أنهار وآبار تمد الزرع بما يحتاج، ففي الحقيقة أنّ كافة الأعمال كالبذور والحبوب التي ينبغي أن تنثر في أرض خصبة وتسقى بالمياه; وليست هذه الأرض والمياه سوى التقوى، ثم قال في الموعظة الثانية: «فاستتروا في بيوتكم» فالإمام(عليه السلام)وبنظرته الثاقبة يعلم بأنّ حكومته ستضيق الخناق على اُولئك الذين عملوا إبان عهد عثمان على سلب ونهب بيت مال المسلمين ونشروا الظلم في ربوع المجتمع الإسلامي، وعليه فهم سوف لن يسكتوا وسيسعون إلى تأليب الناس واستقطاب الجهال، وهذا هو الوقت الذي يتطلب من الإنسان أن يلزم بيته لا حين العمل والجهاد.

وعلى حد قول بعض شرّاح نهج البلاغة فان أفضل حركة في المجتمع الذي يضره العدل والحق هى السكون والصمت والسكوت.

والموعظة الثالثة بشأن الأخاء والوحدة بين صفوف أتباع الحق ونبذ كافة مظاهر الفرقة والشقاق بهدف ملاحقة الباطل والقضاء عليه، فقد قال(عليه السلام): «وأصلحوا ذات بينكم». وأخيراً


1. «سنخ» بمعنى الأصل والجذر، وكذلك محل غرس الشجر، وهو المكان الذي تَثبت فيه جذور وأصل الشجرة. ويستعمل هذا اللفظ أحيانا بمعنى الرسوخ في شيء، وكل هذه المعاني مقاربة لبعضها، وفي العبارة أعلاه تشير إلى جذور العلوم والمعارف والاعمال الصالحة والتي رسخت في أرضية التقوي والتي لايمكن أن تُجتّثَ جذورها.

[ 362 ]

يعرض بالنصح لمن اتسخ قلبه بالذنوب على عهد الحكومة السابقة أن يغسلها بماء التوبة «والتوبة من وراءكم(1)».

ثم يقول(عليه السلام): «ولا يحمد حامد إلاّ ربّه ولا يلم لائم إلاّ نفسه» إشارة إلى أنّ كافة النعم من عند الله وما يصيب الإنسان من توفيق وسعادة فبلطفه وفضله، وعليه فلا ينبغي الاغترار بالطاعة، كما أنّ مرجع الذنوب والمعاصي تقصير الإنسان فلا ينبغي أن يلوم الإنسان إلاّ نفسه ولا ينسب أخطائه إلى الآخرين أو يبررها بالقضاء والقدر، بل عليه أن يسارع إلى التوبة.

 

تأمّلان

1 ـ الجاهل من جهل قدر نفسه

إنّ أغلب المشاكل الاجتماعية إنّما تنبع من الطموحات الطائشة، أو تجاوز الإنسان لحدوده الطبيعية والطمع بالمنصب الذي لا يستحقه أو لا يمتلك الجدارة اللازمة للنهوض به; ولا شك أنّ كل هذا إنّما تفرزه قضية مهمّة تكمن في جهل الإنسان بقدره وعدم تقييمه له بصورة صحيحة، وما ذلك إلاّ لحب الذات والمبالغة في نقاط القوة وعدم الالتفات إلى نقاط الضعف. ولا شك أنّ اضرار هذا الأمر لا تقتصر على الإنسان لوحده فحسب، بل تنسحب على المجتمع بأسره، ولربما استطاع الفرد أن يشغل منصباً فيقوم بوظيفته على أحسن وجه بما يضمن له السعادة وإلى المجتمع الرفاه والأمن، غير أنّه وإثر جهله بنفسه وطمعه بما لا يستحقه يبدد طاقاته عبثاً ويكبد نفسه والمجتمع مالا يحصى من الخسائر والأضرار. وياليت الجميع كبيرهم وصغيرهم وعالمهم وجاهلهم أعادوا النظر في هذا الأمر الحيوي واقصوا عن أنفسهم الحجب التي تحول دون معرفتهم لذواتهم ليجدوا من أجل تحقيق أهدافهم وسعادة مجتمعاتهم. ومن هنا ورد التأكيد كراراً في نهج البلاغة على هذه المسألة، ومن ذلك ما ورد في الخطبة 103 «العالم من عرف قدره وكفى بالمرء جهلاً الا يعرف قدره». كما ورد في الرسالة 31 من نهج


1. «وراء» من مادة «ورى» على وزن «وزن» وفي الأصل بمعنى الاستتار، وأحيانا يطلق على الشيء الذي حُجب عن الانظار بواسطة حاجز فاصبح غير منظور باعتباره خلف الشيء أو وراءه.

وفي العبارة أعلاه جاءت هذه الكلمة بمعنى، الخلف أو الوراء.

[ 363 ]

البلاغة التي يعظ فيها ولده الحسن(عليه السلام) أنّه قال: «ومن اقتصر على قدره كان ابقى له» وجاء في الكلمة 149 من قصار الحكم «هلك امرء لم يعرف قدره». كما ورد في الرواية أنّ شخصاً قال للإمام الكاظم(عليه السلام) مررت بالسوق فاذا هو يقول أنا من شيعة محمد وآل محمد(صلى الله عليه وآله) وهو يبيع الثياب بأكثر من ثمنها. فقال الإمام(عليه السلام): «ما جهل ولا ضاع امرء عرف قدر نفسه».(1)

هناك إحتمال آخر بالمراد من معرفد قدر النفس في العبارة المذكورة وهو ألا ينسى الإنسان طبيعة خلقته فيقتصر بها على الجانب المادي المتعلق بالجسم دون الاهتمام بالمسائل المعنوية فيبيع نفسه ببعض الاُمور المادية التي تفتقر إلى القيمة الحقيقية. فالإنسان يتمتع بالروح التي تنتمي إلى عالم السمو والرفعة، أنّه خليفة الله في الأرض. أنّه كائن ملكوتي لا موجود ترأبي وإن تقولب مدّة معينة في هذا القفص المادي من أجل نيل الكمال. وعليه فالعالم من عرف نفسه ووقف على قدرها ومنزلتها، ويلتفت إلى تكريم الله سبحانه له على من سواه، والجاهل من جهل قدر نفسه فقذف بها في مستنقع الأهواء والشهوات. بالكن بالالتفات إلى قوله «من اقتصر على قدره كان ابقى له» وكذلك العبارة المعروفة لدى العلماء استنباطاً من الأحاديث المشهورة «العالم من عرف قدره ولم يتجاوز حده» يبدو أنّ الأنسب هو المعنى الأول، ويؤيده مضمون الخطبة الذي يتناول قصة طلحة والزبير وآمالهم الزائفة.

 

2 ـ الاعتدال هو الصراط المستقيم

إنّ أدنى نظرة إلى عالم الخلقة تفيد أنّ بقاء العالم إنّما يستند إلى مسألة الاعتدال والتوازن في القوى. فالمنظومات السماوية العظيمة إنّما حفظت بتوازن القوة الجاذبة مع القوة الدافعة، فلو تقدمت أحداهما على الاُخرى أو ابتعدت لما بقي أثر لتلك المنظومات، ولو اقتربتا وتصادمتا لأدّيا إلى انفجار هائل يقود إلى إنعدامها. والقانون المذكور الذي يحكم ذلك العالم الكبير كما يصدق على العالم الصغير أي عالم الإنسان، حيث تكون سلامة حياته ورمز بقائها مرهونة بحالة الاتزان التي تسود مختلف قواه الروحية والجسدية، من قبيل العناصر الداخلة في


1. بحارالأنوار 65/157 «مع قليل من التخليص والإيجاز».

[ 364 ]

تركيب الدم وتوازن حركات الأعصاب السمبثاوية والباراسمبثاوية وضربات القلب ووزن الجسم وضغط الدم وتوازن أجهزة الجسم كالجهاز التنفسي والجهاز الهضمي وبالتالي فانّ كافة أجهزته تمارس وظائفها بكل اعتدال واتزان بما يحفظ سلامة الإنسان ويكفل بقائه، ولو انحرفت هذه الأجهزة ذرة عن خط الاتزان وجنحت نحو الإفراط او التفريط لانعكس ذلك سلباً على سلامة جسم الإنسان وروحه.

القرآن من جانبه أثنى على الاُمّة الإسلامية بصفتها الاُمّة الوسط، ومن هنا جعلها حجة على سائر الاُمم. وهذه هى المسألة التي أكدها الإمام(عليه السلام) في أنّ الجادة الوسطى هى الطريق وعليها باقي الكتاب وآثار النبوة ومنها منفذ السنّة. وإليها مصير العاقبة. أمّا في المجال الاقتصادي فانّ الإفراط والتفريط قد أدى إلى ظهور النزعة الرأسمالية المقيتة التي بالغت في الملكية الشخصية بينما بالغت النزعة الاشتراكية في الملكية العامة ليعيش المجتمع ذلك التمايز الطبقي الفاحش بوجود الطبقات المرفهة الثرية والاُخرى المعدمة الفقيرة.

وأمّا على المستويات الاُخرى ـ العقائدية والسياسية والاجتماعية ـ فانّ الإفراط والتفريط هو الذي يقف وراء كل هذا البؤس والشقاء الذي تعيشه البشرية.

—–

[ 365 ]

 

 

 

الخطبة 17

 

 

ومن كلام له(عليه السلام)

 

في صفة من يتصدى للحكم بين الاُمّة وليس لذلك بأهل وفيها:

أبغض الخلائق إلى الله صنفان:

 

القسم الأول

«الصنف الأول: إنَّ أَبْغَضَ الْخَلائِقِ إِلَى اللّهِ رَجُلانِ: رَجُلٌ وَكَلَهُ اللّهُ إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، مَشْغُوفٌ بِكَلامِ بِدْعَة، وَدُعاءِ ضَلالَة، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ، ضالٌّ عَنْ هَدْيِ مَنْ كانَ قَبْلَهُ مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَى بِهِ فِي حَياتِهِ وَبَعْدَ وَفاتِهِ، حَمّالٌ خَطايا غَيْرِهِ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ».(1)

—–

 

نظرة إلى الخطبة

وردت الخطبة ـ كما يتضح من عنوانها ـ في صفات من يتصدى للقضاء وهو ليس له بأهل


1. نقل صاحب كتاب «مصادر نهج البلاغة» هذه الخطبة عن طائفة من العلماء ممن عاشوا قبل السيد الرضي ومنهم:

1 ـ الكليني في الكافي بطريقين 2 ـ ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث 3 ـ أبو طالب المكي في قوت القلوب 4 ـ الهروي في الجمع بين الغريبين 5 ـ القاضي النعمان في كتاب اصول المذهب.

كما نقلها عن طائفة اُخرى من العلماء بعد السيد الرضي كالطوسي في الأمالي والطبرسي في الاحتجاج والمفيد في الإرشاد.

[ 366 ]

فيسوق الاُمّة إلى الضلال والهاوية.

فقد صنف الإمام(عليه السلام) هؤلاء الأفراد إلى صنفين:

الصنف الأول: من يشق طريق الضلال عن علم ويحكم هوى النفس ويبتدع في الدين فهو ضال لنفسه مضل لغيره.

الصنف الثاني: الجاهل المتشبه بالعالم ويجهل بجهله فهو يعيش الجهل المركب; وليس له ذرة مما يؤهله للتصدي للقضاء، فهو فريسة للخطأ والزلل والشبهات، يخرج الحق بالباطل ويريق دماء الأبرياء بغير حلها ويهدر الأموال لغير أصحابها. ويحتمل أن يكون المراد بالصنف الأول حكام الظلم والجور والبدعة والضلالة، والصنف الثاني القضاة الجهال. وعليه فكلمة الحكم الواردة في الخطبة ذات معنى عام واسع تشمل القضاء والحكومة.

ويختتم الإمام(عليه السلام) خطبته بالشكوى إلى الله من هؤلاء الأفراد الذين ولوا ظهورهم للقرآن وحسبوا المعروف منكراً والمنكر معروفاً. وبناءً على ما تقدم فالخطبة على ثلاثة أقسام، يختص الأول والثاني منها بوصف هذين الصنفين والثالث بالشكوى إلى الله منهم ومن كان على شاكلتهم.

—–

 

الشرح والتفسير

أبغض الخلائق

استهل الإمام(عليه السلام) كلامه بتصنيف أبغض الخلائق إلى صنفين «إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان» ومن البديهي أنّ للحب والبغض بالنسبة لله مفهوم يختلف عمّا هو عليه بالنسبة للانسان; لأنّ الحب والبغض من قبيل الحالات والتغيرات التي تطرأ على روح الإنسان إثر رغبته واشمئزازه تجاه بعض الأشياء; بينما يكتسب الحب بالنسبة لله معنى الشمول بالرحمة والبغض معنى الطرد منها. ثم يخوض الإمام(عليه السلام)في صفات الصنف الأول; أي أصحاب الأهواء من الحكام، فيشير قبل أي شيء إلى أصل بؤسهم وشقائهم، فقال(عليه السلام): «رجل وكله الله إلى نفسه». فروح الإنسان حية بالتوكل على الله والوثوق بما عنده; أي أنّه يسعى سعيه ويبذل

[ 367 ]

قصارى جهده من أجل النهوض بعمله وتطوير حياته، مع ذلك لابدّ أن يعلم بأنّ الذات الإلهية هى مصدر كل خير وبركة ونعمة وعطاء. إلاّ أنّ الغرور والكبر وحب الذات قد يجعل الإنسان غافلاً عن هذه الحقيقة فيرى نفسه مستقلاً في مقابل الله فتتشوه بنظره جميع الأشياء. هذا الانقطاع عن الله هو ايكال الإنسان إلى نفسه; وهو أساس بؤس الإنسان وشقائه. ومن هنا ترى رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا ينفك عن التضرع إلى ربّه منادياً:

«اللّهم... لاتكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً»(1) وهو ذات المعنى الذي صرّح به أميرالمؤمنين علي(عليه السلام): «إلهي كفى بي عزا أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً»(2) كما ورد ذلك عن المعصوم(عليه السلام)قوله: «إنّك ان وكّلتني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير»(3).

وما أن يفرغ الإمام(عليه السلام) من بيان السبب الرئيسي لشقوة هؤلاء حتى يتطرق إلى افرازات ذلك الشقاء ليوجزها في ثمانية ارتبطت مع بعضها برباط العلة والمعلول فقال(عليه السلام): «فهو حائر عن قصد السبيل» والمراد بقصد السبيل هو الحد الوسط الفاصل بين الإفراط والتفريط والذي يوصل الإنسان إلى الله; الأمر الذي أشار له القرآن الكريم بالقول (وَعلى اللّهِ قَصْدُ السَّبِـيلِ)(4) ومن البديهي أنّ الإنسان إنّما يستطيع تمييز السبيل ـ الذي صورته الروايات بأنّه أرفع من الشعرة وأحد من السيف ـ من بين آلاف السبل الانحرافية إذا شملته الألطاف والعنايات الإلهية; امّا إذا انفصل عن الله ووكل إلى نفسه فانه سيعيش الحيرة والقلق التي تنتهي به إلى الضلال والسقوط في الهاوية.

الافراز الثاني «مشغوف بكلام بدعة» ومن هنا ينطلق نحو الافراز الثالث «ودعاء ضلالة». شغف من مادة شغاف على وزن كلاف بمعنى المولع بالشيء حتى بلغ حبه شغاف قلبه، وهو غلافه; وهو التعبير الذي أورده القرآن الكريم بشأن حب زليخا لنبي الله يوسف(عليه السلام)على لسان طائفة من نساء مصر «قد شغفها حباً»، فالعبارة إشارة إلى أنّ مثل هؤلاء الأفراد


1. بحار الأنوار 83 / 153.

2. بحار الأنوار 91 / 94.

3. بحار الأنوار 83 / 152.

4. سورة النحل / 9.

[ 368 ]

من ذوي حبّ الذات يتعلقون بشدة بأحاديثهم المبتدعة; التعلق الذي يؤدي إلى دعوة الآخرين إلى الضلال والانحراف.

القرآن أيضاً يقول: (وَما دُعاءُ الكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلال)(1)، وسنتطرق في الأبحاث القادمة ـ تأملات ـ إلى حقيقة البدعة ودوافعها ونتائجها. أمّا الوصف الرابع «فهو فتنة لمن افتتن به».

وفي الصفة الخامسة والسادسة «ضال عن هدى من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته». المراد بمن كان قبله الأنبياء وأوصيائهم بالحق; في إشارة إلى اتضاح سبيل الهداية مسبقاً بما لا يدع من مجال لسلوك طريق الضلال; مع ذلك فقد ولى ظهره لسبيل الهداية والقى بنفسه في ظلمات الضلال. والأنكى من ذلك أنّ اضلال هؤلاء الأفراد للآخرين لا يقتصر على حياتهم فهم مدعاة للضلالة حتى بعد وفاتهم، فهم شركاء في هذه الضلالة، حيث ورد في الحديث النبوي المشهور: «من سنّ سنّة حسنة عمل بها من بعده كان له أجره ومثل اُجورهم من غير أن ينقص من اُجورهم شيئاً، ومن سنّ سنّة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزره ومثل أوزارهم من غير ان ينقص من اوزراهم شيئاً»(2).

فالعبارة تحذير حاد لاُولئك الذين يحثون الخطى نحو البدع ويشيدون صروح الضلالة، في أنّ شقائهم وبؤسهم سوف لن يقتصر على حياتهم بل قد يتجاوز حتى مماتهم بآلاف السنين وعليهم أن يدفعوا كفارة تلك البدع ويستعدوا لتحمل تبعاتها. كما ورد عن الإمام علي(عليه السلام)تحذير شديد آخر في الخطبة 164 حيث قال: «وإنّ شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به فأمات سنة مأخوذة واحيى بدعة متروكة» وأمّا الوصفان الأخيران المترتبان على الصفات السابقة فهما «حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته» فالعبارة ليست كلاماً تعبدياً; بل هى منطقية تماماً. وذلك لأنّ أية معونة ومساعدّة في ارتكاب الذنب تعدّ شركة فيه; ولما كان أتباع هؤلاء المضلين يقارفون الذنوب بمحض إرادتهم فلا ينقص من ذنبهم شيئاً، وهذا ما أشار له القرآن الكريم صراحة في الآية 25 من سورة النحل إذ قال (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً


1. سورة رعد / 14.

2. ميزان الحكمة 4 / 566، كما ورد مضمون هذا الحديث في عدّة روايات نقلتها أغلب الكتب.

[ 369 ]

يَوْمَ القِـيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ).(1) والتعبير الآخر الذي اعتمده القرآن بشأن ارتهان الإنسان بذنبه هو تعبير غاية في الروعة والدقة (كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ رَهِـينَةٌ)(2).

فكما أنّ المحجوز لا يطلق من العذاب مالم يكفر عن ذنوبه; كما أنّ التعبير باكمال بالنسبة لذنوب الآخرين هو الآخر تعبير عميق، كأن الذنوب (كما يفهم من كلمة وزر) حمل عظيم بثقل صاحبها ومن أسس لها وتصده عن القرب الإلهي وتلقي به في قعر جهنم. ومن هنا تتضح مدى خطورة الوادي الذي يسقط فيه من وكله الله إلى نفسه، وأي مصير مشؤوم ينتظره.

—–

 

تأمّلان

1 ـ ما البدعة ومن المبتدع؟

لقد ورد الذم في هذه الخطبة للبدعة والمبتدع الذي يسوق الناس إلى الضلال; كما تضافرت الروايات الإسلامية ـ إلى جانب سائر خطب نهج البلاغة ـ التي تذم البدعة وأصحابها، ومن ذلك ما روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) انّه قال: «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»(3). كما ورد عنه(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة قيل يا رسول الله وكيف ذاك؟ قال: إنّه قد اُشرب قلبه حينها»(4).

والبدعة في اللغة بمعنى الإتيان بشيء لا سابقة له، امّا فقهاء الإسلام فقد عرفوها باضافة شيء إلى الدين أو نقصانه دون قيام دليل معتبر على ذلك; ولما كانت المعارف والأحكام الإلهية واجبة الثبوت عن طريق الوحي والأدلة المعتبرة، فان البدعة من الكبائر، وهى أساس الفساد والانحراف، ولو لم تمنع البدع لأضاف الأفراد بعقولهم القاصرة إلى الدين ما شاءوا وانقصوا منه ما أرادوا، فلا يبقى من الدين شيئاً وتمحى آثاره; ولا شك أنّ قانون تحريم البدع


1. سورة نحل / 25.

2. سورة المدثر / 38.

3. شرح نهج البلاغة للمحقق الخوئي 3 / 251.

4. اصول الكافي 1 / 54، باب البدع.

[ 370 ]

هو الذي صان القرآن والإسلام وحفظه من تلاعب الجهال وأصحاب الأهواء. والذي ينبغي أن نخلص إليه ممّا سبق وعلى ضوء التعاريف الفهقية هو أنّ البدعة لا تشمل الاختراعات والابداعات العلمية والفنون الطبيعية والطبية والصناعية، كما لا تشمل التجديد في الثقافة والأدب والسنن والعادات والتقاليد. فالبدعة ما أحلت حراماً أو حرمت حلالاً وأضافت دين الله أو انقصت منه ممّا ليس فيه دون قيام دليل معتبر على تلك الاضافة أو النقصان، أو الإتيان بدين جديد ودعوة الناس إليه دون الاستناد إلى الوحي أو الدليل، هذه هى البدعة، وهى من الكبائر التي توعد الله عليها بالعذاب. ومن هنا نقف على خواء الوهابية التي اعترضت حتى على ركوب الدراجة على أنّها مركب الشيطان أو ما قام به بعض الاتباع ممن عمد إلى خطوط الهواتف فقطعها على أنّها بدعة فمما لاشك فيه أنّ مثل هذه الأعمال تعدّ ممارسات حمقاء ليس لها أدنى صلة بمفهوم البدعة كما صورها الفقهاء، ومما يؤسف له أنّ تأريخ هذه الحركة مليء بمثل هذه الممارسات الشائتة. ويماثلهم اُولئك الذين سلكوا سبيل الإفراط تجاه هذه الحركة ليقولوا بعدم وجود أية ثوابت في الدين; الأمر الذي يهدد كافة قيم الدين ومثله ويعرضها للزوال، حيث يمهدون السبيل أمام هذا وذلك للدس في الدين ما شاءوا. ونختتم بحثنا هذا بما قاله أمير المؤمنين(عليه السلام) ـ في كلماته القصار، الكلمة 123: «طوبى لمن ذل في نفسه... وعزل عن الناس شره ووسعته السنة ولم ينسب إلى البدعة». فقد ورد السنة في الإمام مقابل البدعة، فمن أطاع الله واستن بسنة رسوله(صلى الله عليه وآله)فارق البدعة، أمّا من عصى الله وفارق سنة نبيّه(صلى الله عليه وآله) فهو على البدعة، وهو ضال لنفسه مضل لغيره.

 

2 ـ أخطر الذنوب، حمل ذنوب الآخرين

تقتصر أغلب الذنوب على المسؤولية الفردية وإن كانت من قبيل الكبائر كالأفعال المنافية للعفة وشرب الخمر وسائر المحرمات، غير أنّ أخطر الذنوب هى تلك التي تدعو الآخرين لمقارفتها بحيث يبوء صاحبها بوزر تلك الذنوب من دون أن ينقص من أوزار اُولئك شيئاً، وهذا ما يصدق على أئمة الظلم والفساد من أهل البدع الآمرون بالمنكر والناهون عن المعروف. وأحياناً تطالهم تبعة الذنب بل وتطال نسلهم لقرون بعد مماتهم، وعلى الآثم أن يدفع

[ 371 ]

ثمن ذنوب هؤلاء بأجمعها (كما أنّ العمل الصالح كذلك قد تشمله بركاته لقرون).

وقد صور القرآن الكريم وضع هؤلاء الاثمة بقوله (وَلَيَـحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِـهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القِـيامَةِ عَمّا كانُوا يَفْتَرُونَ)(1). وأعظم خطر تختزنه هذه الذنوب في الغالب عدم صدق التوبة عليها; وذلك لأنّ من شروط التوبة إزالة آثار الذنب; فأنى للإنسان بإزالة آثار مثل هذه الذنوب التي قد تتخذ أبعاداً واسعة لتشمل منطقة بأكملها، أو موت الكثير من الأفراد على هذه الذنوب التي ساقهم لارتكابها، أو ظهور الجيل الجديد الذي يعمل بهذه الذنوب بعد وفاته؟

بالتالي لابدّ لهذا الإنسان من التأني في حركته، حذراًمن مقارفة مثل هذه الذنوب التي لا سبيل للتخلص من تبعاتها «حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته».

—–


1. سورة العنكبوت / 13.

[ 372 ]

[ 373 ]

 

 

القسم الثاني

 

«الصنف الثاني: وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً، مُوضِعٌ فِي جُهّالِ الاُْمَّةِ، عاد فِي أَغْباشِ الْفِتْنَةِ عَم بِما فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ; قَدْ سَمّاهُ أَشْباهُ النّاسِ عالِماً وَلَيْسَ بِهِ، بَكَّرَ فاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْع; ما قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمّا كَثُرَ، حَتَّى إِذا ارْتَوَى مِنْ ماء آجِن، وَاكْتَثَرَ مِنْ غَيْرِ طائِل، جَلَسَ بَيْنَ النّاسِ قاضِياً ضامِناً لِتَخْلِيصِ ما الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ، ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ: لا يَدْرِي أَصابَ أَمْ أَخْطَأَ: فَإِنْ أَصابَ خافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ ـ جَاهِلٌ خَبّاطُ جَهالات، عاش رَكّابُ عَشَوات، لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْس قاطِع، يَذْرُو الرِّواياتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ. لا مَلِيٌّ وَاللّهِ بِإِصْدارِ ما وَرَدَ عَلَيْهِ وَلا أَهْلٌ لِما قُرِّظَ بِهِ، لا يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شَيْء مِمّا أَنْكَرَهُ، وَلا يَرَى أَنَّ مِنْ وَراءِ ما بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِما يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضائِهِ الدِّماءُ، وَتَعَجُّ مِنْهُ الْمَوارِيثُ».

—–

 

الشرح والتفسير

الجاهل المتشبه بالعالم

بعد أن فرغ الإمام(عليه السلام) من بيان الصنف الأول بشكل جامع، تطرق إلى صفات الصنف الثاني ليتحدث عن ذلك الشخص الذي يغط في هالة من الجهل والتخبط في حين يرى نفسه عالماً دون الاستناد إلى ركن وثيق من علم أو عالم. فيبين بادئ ذي بدء خمس صفات لمثل هؤلاء الأفراد. الاولى «ورجل قمش جهلاً» فاستناداً إلى ما أورده أرباب اللغة بشأن مفردة

[ 374 ]

القمش التي تعني جمع الأشياء المتناثرة دون تناسب وكذلك بمعنى الأشياء التي لا قيمة لها، فان الذي يفهم من كلام الإمام(عليه السلام)أنّ هؤلاء الجهال المتشبهون بالعلماء إنّما يتجهون صوب خواء من العلم الذي يفتقر إلى القيمة كما يفتقر إلى النسبة المنطقية. وقد علق المرحوم العلاّمة الخوئي في شرحه لهذا الكلام على أنّهم يحصلون على المعلومات من فم هذا وذاك ومن الروايات الضعيفة غير المعتبرة وعن طريق القياس والاستحسان والمصادر من هذا القبيل (ذات الحجم الكبير والقيمة القليلة أو المعدومة).

الصفة الثانية أنّه يهرع بسرعة في أوساط الجهال من عوام الاُمّة ليجمع له بعض الأنصار: «موضع(1) في جهال الأمة» ومن الطبيعي ألا يهب لنصرة هؤلاء ويتمحور حولهم سوى تلك الطائفة من الجهال، وليس لهؤلاء من مكان بين العقال. فهدفهم هو لفت انتباه الجهال إليهم والنفوذ في أوساطهم لأنّهم يعيشون اليأس من اقتحام دنيا العقلاء.

الصفة الثالثة «عاد(2) في أغباش الفتنة» بالالتفات إلى أنّ بعض أرباب اللغة(3) قد عنى غبش من مادة أغباش بشدّة الظلمة أو ظلمة آخر الليل التي تعتبر أفضل فترة للسارقين واللصوص، يتضح أنّ مثل هؤلاء الأفراد يفكرون دائماً في الاصطياد من ماء الفتن. فهم يهربون دائماً من النور والضياء ويلوذون بالظلمة وعتمة الليل كفرصة مناسبة من أجل خداع الجهال; ولا غرو فلو تبددت ظلمة الفتنة وبزغت شمس العلم والمعرفة لانكشف النقاب عن صورتهم الحقيقية ولافتضحوا أمام القاصي والداني.

وأشار(عليه السلام) إلى الصفة الرابعة من صفات تعاسة هؤلاء الأفراد «عم بما في عقد الهدنة»(4). ومن الواضح أنّه ليس المراد بالهدنة هنا الصلح بين المسلمين وغير المسلمين، لأنّ الكلام وبشهادة العبارات اللاحقة وارد بشأن القاضي بين الناس. وبناءً على هذا فالمراد بالهدنة الصلح بين الناس وحل المنازعات بالطرق السلمية; وبعبارة اُخرى فانّ الهدنة هنا تقابل


1. «موضع» من مادة «ايضاع» بمعنى السرعة في الحركة (وهو يعطي معنى اللازم لا المتعدي رغم أنّه من باب الافعال) وهو هنا إشارة لحركة الجهال المتشبهين بالعلماء السريعة بين الجهال.

2. «عاد» من مادة «العدو» بمعنى الركض.

3. مقاييس اللغة، الجوهري، لسان العرب.

4. «هدنة» بمعنى الصلح والمسالمة بين الناس.

[ 375 ]