إلاّ أنّ الإمام(عليه السلام) يوجه ضربة قاصمة إلى دعائم هذه العقيدة المنحرفة بقوله «والههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد».

فمما لاشك فيه لا يصدر من الله الواحد في مسألة واحدة سوى حكم واحد، فهو العالم بكافة الحقائق المحيط بجميع الأشياء فيحكم فيها بحكم واحد على ضوء المصالح والمفاسد.

فلا يخطئ في هذا الحكم ولا من سبيل للنسيان إلى ذاته المقدسة ليختلف الحكم ولا يندم ولا ينكشف له بمرور الزمان ما كان مجهولاً ـ إذن فلا يمكن تصور الاختلاف من جانب الله أبداً.

أضف إلى ذلك فانّ نبيّهم واحد، وهو معصوم في اصدار الأحكام، فيبيّن الحكم الإلهي دون زيادة أو نقيصة، وعليه فليس هنالك اختلافاً من جانبه أيضاً. وأخيراً كتابهم واحد; الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وليس للتحريف من سبيل إليه، فهو يستند إلى الوحي الإلهي الذي يأبى الاختلاف والتضاد; فهو كتاب الله (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِـيهِ اخْتِلافاً كَثِـيراً)(1).

إذن فليس هنالك اختلافاً من جانب الكتاب. فهذه العبارات في الواقع مقدمة لما سيأتي


1. سورة النساء / 82 .

[ 392 ]

من كلام في أنّ هذا الاختلاف انّما ينبع من أفكارهم القاصرة وعجزهم العلمي، وبعبارة اُخرى فانّ هذه العبارات اجابة ورد على مسألة التصويب التي تعرض لها الإمام(عليه السلام) بصورة مفصلة لاحقاً.

والواقع هو أنّ الاعتقاد بالتصويب وصحة الآراء المتناقضة إنّما هو انحراف عن أصل التوحيد ونزوع نحو نوع من الشرك. فالتوحيد الإلهي يعني أنّ الله واحد، وتوحيد النبوة يرى أنّ نبوة اُولي العزم واحدة في كل عصر، وتوحيد الشريعة في أن الكتاب السماوي واحد.

وعليه فالميل نحو تعدد الأحكام الواقعية ليس سوى الشرك الذي يتقاطع صراحة وأصل التوحيد.

 

تأمّلات

1 ـ مسألة التصويب ونشأتها

تعتبر هذه المسألة من أهم المسائل الإسلامية ذات الصلة الحميمة بمسألة «الاجتهاد» و«الرأي» و«القياس» و«الاستحسان» وما إلى ذلك، كما ترتبط بالأحداث السياسية والتأريخية التي أعقبت وفاة النبي(صلى الله عليه وآله). وإليك شرحها باختصار بعيداً عن الاطالة والخروج عن اُسلوب البحث:

1 ـ أنّ عصر الرسالة كان مفعماً بالأحداث المعقدة الاجتماعية والسياسية والعسكرية بحيث لم تدع للمسلمين من مجال للوقوف على كافة الأحكام، وإن بينت اصولها الاساسية في القرآن.

2 ـ لقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامية بعد النبي(صلى الله عليه وآله) بحيث كانت تظهر مسائل جديدة كل يوم في الأحكام الفقهية الإسلامية حتى رأى المسلمون أنفسهم أمام كم هائل من المسائل المستحدثة ولم يروا أجوبتها في الأحاديث النبوية الشريفة.

أضف إلى ذلك منع بعض الخلفاء (عمر) الصحابة من تدوين السنّة(1) مخافة أن تختلط


1. المرحوم العلاّمة الأميني ذكر في المجلد السادس من الغدير الأدلة على هذه المسألة من أهم مصادر العامة من قبيل سنن ابن ماجة وسنن الدارمي ومستدرك الحاكم في تذكرة الحفاظ وكنز العمال وغيرها تحت عنوان «نهي الخليفة عن الحديث» وبيّن كيف ان عمر نهى عن تدوين أحاديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهدد بالحبس والنفي كل من رواها.

[ 393 ]

بالقرآن، حتى اندثرت أغلب أحاديث رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فأصبح هناك نقصاً حاداً في المصادر الإسلامية، حتى رأى الفقهاء ولا سيما الخلفاء الذين كانوا يشهدون كل يوم هجوم المسائل الفقهية الجديدة أنّهم يعيشون حرجاً شديداً، بحيث إذا زعموا أنّ الإسلام لا يمتلك الردود تجاه مختلف القضايا الحقوقية والجزائية والفردية والاجتماعية، فند زعمهم بالآية القرآنية (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِـيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً)(1).

فالدين الخاتم الذي لا يعرف معنى للمكان والزمان بل يتصف بالعالمية والخلود لابدّ أن يلبي كافة الحاجات على مدى الدهور والعصور إلى نهاية الدنيا، ولكن كيف بذلك مع هذه الأحاديث القليلة التي نقلت عن رسول الله(صلى الله عليه وآله). وهنا لا ينبغي أن ننسى بأنّ هذا المأزق الحرج إنّما نشأ من تجاهل وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله)وحديثه المعروف بحديث الثقلين الذي قرن فيه العترة الطاهرة من أهل بيته بالقرآن الكريم وأنّ الاُمّة ان تمسكت بهما معاً فانّها لن تضل بعده أبداً(2). فلو عمل المسلمون بهذه الوصية وتلقوا أحاديث الأئمة المعصومين التي تمثل الامتداد الطبيعي لأحاديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) فانّ مشكلة لم تكن لتحدث قط ولم يشهد المسلمون هذه المعضلة التي عصفت بالفرق الإسلامية، وهذا بعينه ما جعل أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)لا يشعرون بنقص تجاه أية مسألة من المسائل الفقهية، وقد نقلت الآلاف المؤلفة من أحاديث هذه العترة لتمكن فقهاء الإمامية من التعامل مع كافة القضايا الفقهية على ضوء النظرة الإسلامية.

3 ـ أخيراً وبهدف خروج فقهاء العامة من هذا المأزق والطريق المسدود لم يكن لهم من سبيل سواء اللجوء إلى القياس والاستحسان والاجتهاد بالمعنى الأخص وتشريع القوانين والأحكام من الفقهاء ـ فانبروا ليقسموا المسائل إلى قمسين: مسائل منصوصة ومسائل لا نص فيها (أي المسائل التي ورد بشأنها حكم في الكتاب والسنّة والمسائل التي لم يرد فيها نص في


1. سورة المائدة / 3.

2. لقد تحدثنا بالتفصيل في كتاب نفحات القرآن ج 9 بحث «الولاية والإمامة العامة في السنّة» عن حديث الثقلين وتواتره في المصادر الروائية للفريقين ومصادره المعروفة في صحيح مسلم والترمذي والدارمي ومسند أحمد وخصائص النسائي ومستدرك الصحيحين وسنن البيهقي وغيرها من المصادر.

[ 394 ]

الكتاب ولا السنّة). فافتوا في المسائل المنصوصة طبق ماورد في النص. وأمّا المسائل التي لم يرد فيها نص فقالوا: حل المشكلة يكمن في أنّه إن كان له شبيه ونظير في الأحكام الإسلامية قاسوا عليه، مثلاً إذا ورد في باب الصلاة حكم قاسوا الصوم بذلك الحكم، ان ورد حكم في الحج قاسوا عليه أحكام العمرة، وإذا لم يكن هناك من شبيه في الأحكام الإسلامية يجتمع الفقهاء ويتدارسوا مصالح ومفاسد ذلك الأمر ثم يتخذوا بشأنه حكماً وهذا ما أسموه بالاجتهاد (بالمعنى الأخص).

وبعبارة اُخرى فان هناك من قال صراحة: مالم يرد فيه النص ليس له في الإسلام قانون خاص، وهذه وظيفة الفقهاء في أن يضعوا له حكماً من خلال الظن وتخفيف ثقل المصالح والمفاسد وما يرونه أقرب إلى المصلحة. وهكذا أصبح الاجتهاد بمعنى حق الفقيه في التشريع متداولاً بينهم.(1)

وهنا لابدّ من الالتفات إلى أنّ للاجتهاد معنيان مختلفان إذا لم يميز بينهما فان ذلك يؤدي إلى عدّة نتائج سيئة:

المعنى الأول للاجتهاد هو الاجتهاد العام والذي يعني استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وسائر الأدلة الشرعية. وهذا هو الاجتهاد الذي يعتقد به كافة علماء الشيعة، وهو الاجتهاد الذي أنكره الأخباريون قولاً واعتقدوا به عملاً، لأنّ كبار الأخباريين يستدلون بالكتاب والسنة لاثبات الأحكام الشرعية كما يراعون أحكام العام والخاص والمطلق والمقيد وأمثال ذلك.

المعنى الثاني للاجتهاد هو الاجتهاد الخاص وهو الاجتهاد في المسائل التي لم يرد فيها نص في الكتاب أو السنة، فيلجأ على ضوئه إلى التشريع وسن الأحكام مع الأخذ بنظر الاعتبار المصالح والمفاسد والتشابه والتناظر. وهذا النوع من الاجتهاد يختص بجمع كثير من علماء العامة وهو ما يصطلحون عليه بالاجتهاد بالمعنى الأخص. وأمّا ما ذكرنا آنفاً بعدم وجود مثل هذا الاجتهاد لدى علماء الشيعة إنّما يعزى إلى الثر الهائل الذي لديهم من أحاديث الأئمة


1. الاصول العامة للفقه المقارن / 617.

[ 395 ]

المعصومين(عليهم السلام)كما يرون أنّ الموارد التي لا نص فيها قليلة جداً ولا تتطلب الاجتهاد بالمعنى الثاني، وذلك لأنّهم يلجأون في مثل هذه الحالات إلى القواعد الكلية أو ما اصطلحوا عليه بـ «الاصول اللفظية» و«العملية» التي تبيّن حكم المسألة والعجيب أن طائفة من علماء العامة تعتقد بأنّ الموارد التي لانص فيها انّه لا حكم لها «مالا نص فيه لا حكم فيه» وهذه وظيفة العلماء في وضع الأحكام لمثل هذه الحوادث (والالتفات إلى هذه المسألة يعدّ ضرورة لفهم الكلمات القادمة في الخطبة); الأمر الذي يتنافى تماماً وإكمال الشريعة.

4 ـ إذا ما اعطي حق التشريع ووضع الأحكام في «ما لا نص فيه» للفقيه وبالالتفات إلى كثرة عدد الفقهاء ولكل منهم الحق في التشريع، وليس هنالك من الزام في جمعهم في شورى لتصوب حكماً واحداً فانّ ذلك سيؤدي إلى اختلاف الآراء وربما تناقضها في المسألة الواحدة وهنا يبرز مأزقاً آخر وهو: هل يمكن قبول جميع هذه الآراء المختلفة على أنّها حكم الله، أم هناك حكم واحد حق والبقية باطل؟ ولما لم يكن هناك من تفاوت بين هذه الآراء لأنّها صادرة من الفقهاء; وليس هنالك من حكم واقعي لله ليكون معياراً في تمييز الصحيح من السقيم فسوف لن يبقى هنالك من سبيل سوى التمسك بعقيدة التصويب، أو بعبارة أفضل فقد سقطوا في وادي التصويب وقالوا كل هذه الآراء تمثل الحكم الواقعي! ويعزز ذلك أنّهم يقولون بعدالة الصحابة وأحياناً عدم خطأهم في الرأي، ومن هنا كانت هناك آراء متعددة بعدد المجتهدين في الموضوع الواحد، وكلها تعتبر الحكم الواقعي للمسألة.

فهم حين اعتقدوا بأنّ المرجع في تعيين الخلافة رغم خطورتها إنّما وكل إلى أهل الحل والعقد (العلماء) فما المانع في أن يوكل للعلماء الحق في سن القوانين والأحكام في المسائل الفرعية التي لم يرد نص بحقها ـ ومن هنا ظهرت عقيدة التصويب بكل نتائجها وأخطارها بين طائفة من المسلمين إثر عدم العمل بوصية الرسول(صلى الله عليه وآله) والالتزام بحديث الثقلين.

5 ـ غلق باب الاجتهاد: فقد أدت هذه المسألة إلى تنامي الآراء والعقائد المختلفة والمتضاربة في المجتمع الإسلامي وبين فقهاء المسلمين، لتتخذ صبغة خطيرة، كما كانت السبب في ترديد الاُمّة في مسائلها الدينية واتاحة الفرصة لأعداء الإسلام بالتفوه ضد الإسلام والمسلمين والأحكام الإسلامية وهنا انبرت طائفة من المسلمين لتوضع حداً لهذا الوضع

[ 396 ]

المؤسف فارتكبت عملاً قبيحاً تجسد في غلق باب الاجتهاد. فقد صرحوا بأن هذا الحد يكفي ولا يحق لأحد بعد هذا ممارسة الاجتهاد! وحيث اختلفت الاُمّة طوائف في الأحكام الشرعية وذهبت كل طائفة لاتباع عالم. فاختاروا أربعة من هؤلاء الفقهاء ممن لهم أتباع كثيرون (وهم أبو حنيفة ومالك ومحمد بن ادريس الشافعي وأحمد بن حنبل) ثم الزموا الناس بتقليد أحد هؤلاء الأربعة وأبطلوا سائر الآراء والعقائد للحيلولة دون الاختلاف والتمزق; بينما لا نرى هنالك من دليل في الكتاب أو السنّة على إمامة هؤلاء الفقهاء الأربعة، وليس لهم أدنى امتياز على من سواهم سوى كثرة أتباعهم، كما لم يقم الدليل على غلق باب الاجتهاد وحصره بهؤلاء الأربعة لكل عصر ومصر! وكما أشار الإمام(عليه السلام) في الخطبة رقم 16 «ألا وأنّ الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها، فتقحمت بهم في النار». فانّ هذه الهفوات العظيمة إنّما افرزتها الزلات الاولى حتى تبلورت كسلسلة ارتبطت حلقاتها لتؤدي بالتالي بأصحابها إلى النار. لقد خلق غلق باب الاجتهاد اليوم مشاكل عويصة لفقهاء العامة وعلمائهم; وذلك لأنّهم يرون أنفسهم اليوم أمام سيل جارف من المسائل المستحدثة التي ليس لها من حكم في المذاهب الأربعة; ومن هنا انبرت جماعة منهم علانية واُخرى خفية تطالب بفتح باب الاجتهاد بوجه الفقهاء والخروج من حالة التقوقع والانطواء على المذاهب الأربعة، كما خاضوا في ضرورة الافتاء في المسائل المستحدثة وإعادة النظر في المسائل السابقة وهم يتساءلون عن علية حصر الاجتهاد في المذاهب المذكورة، مع العلم قد ظهر العلماء الذين فاقوهم، وحتى على فرض عدم تفوقهم على أسلافهم، فمثل هذا السؤال يبقى مطروحاً، إذا اُغلق باب الاجتهاد فمن يتصدى للإجابة على المسائل المطروحة اليوم؟

أمّا أتباع أهل البيت(عليهم السلام) فقد بقوا في أمان من هذه العاصفة الهوجاء، فهم لم يعتقدوا بغلق باب الاجتهاد (طبعاً الاجتهاد بالمعنى الأول لا الثاني) طرفة عين أبداً، وقد منحوا فقهائهم وعلمائهم حق استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها المعروفة، في ذات الوقت الذي حظروا فيه الاجتهاد بالمعنى الثاني على كائن من كان.

سؤال:

هنا سؤال يطرح نفسه: الاجتهاد بالمعنى الأول هو الآخر يقود إلى الاختلاف وعليه

[ 397 ]

فليس هنالك من فارق بين الاجتهاد بالمعنى الأول أو الثاني؟

جواب:

إنّ الالتفات إلى نقطة قد يوضح الجواب على السؤال المذكور، وهى أنّ الاجتهاد بالمعنى الأول يعني استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة، وعليه فالمحور الأصلي للاجتهاد هو نصوص الكتاب والسنّة التي يجمع عليها الفقهاء، فهناك الوحدة التي تجمع هؤلاء الفقهاء، وإن كان هنالك بعض الاختلاف في الاستنتاجات; إلاّ انّ هذه الاختلافات طفيفة عادة، ومن هنا نرى وحدة آراء الفقهاء في غالبية المسائل المشهورة، ولا يوجد سوى اختلاف بسيط في بعض تفاصيل المسائل.

أمّا الاجتهاد بالمعنى الثاني فهو لا ينطوي على محور معين يجتمع حوله الفقهاء، بل المعيار لدى كل فقيه فكره ورأيه، ومن هنا كانت الخلافات لاتعد ولا تحصى، فقد تطالعنا عدّة آراء في المسألة الواحدة; الأمر الذي يشوه سمعة الشريعة الإسلامية ويسيء إلى كيانها. أضف إلى ذلك فانّ أنصار الاجتهاد بالمعنى الأول الذي يعني استنباط الحكم من القرآن والسنّة يقولون: إنّ دين الله لم ولن يكون ناقصاً، وليس هنالك من واقعة ـ بالأمس واليوم والغد ـ ألا ولله فيها حكم قد ورد في العمومات والاطلاقات أو الأدلة الخاصة للكتاب والسنّة وهى واضحة لدى أئمة العصمة(عليهم السلام). فمن بلغ باجتهاده ذلك الحكم فقد أصاب، ومن لم يبلغه فقد أخطأ، فان لم يقصر في مقدمات الاجتهاد واستفرغ مافي وسعه كان معذوراً عند الله ومأجوراً. وهذا هو الاعتقاد بالتخطئة في مقابل الاعتقاد بالتصويب ولذلك يقول أصحاب هذا الاعتقاد «للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد» بينما زعم أنصار الاجتهاد بالمعنى الثاني أن «كل مجتهد مصيب» أي أنّ كافة الأحكام المتناقضة للمجتهدين والتي تمثل آرائهم هى أحكام إلهية واقعية حقة (لابدّ من الالتفات والتأمل في هذا الأمر).

—–

 

2 ـ نتائج القول بالتصويب وغلق باب الاجتهاد

نشير بصورة مختصرة إلى المفاسد التي ترتبت على القول بالتصويب وغلق باب الاجتهاد:

[ 398 ]

1 ـ الاعتراف بنقصان الدين (والعياذ بالله) من حيث الأحكام والاعتماد على آراء الفقهاء وأفكار الأفراد غير المعصومين من الخطأ في إكمال أحكام الشريعة وسد النقص.

2 ـ غلق باب الاجتهاد يعني الاعتقاد بعدم أحقية أي فرد في الاجتهاد بعد الفقهاء الأربعة من العامة! لأنّ فتح هذا الباب قد يؤدي أحياناً إلى ظهور عشرات الآراء والفتاوى المختلفة في المسألة الواحدة; كما نعلم أنّ غلق باب الاجتهاد، يغلق الطريق على فقهاء الإسلام في التصدي للرد على المسائل المستحدثة فيزج بمسلمي العالم بمأزق خانق لا يمكنه النجاة منه بالنسبة للأحكام الشرعية.

فالاقتصار على المذاهب بأربعة تأريخ خطير ذا شجون، كما دل على أنّ هذه البدعة في الإسلام وبسلبها لاستقلالية الفقهاء قد جرت الويلات. وعلى ضوء ما أورده المقريزي في كتاب الخطط المقريزية وكذلك ابن الفوطي وآخرين أنّه لم تكن هناك من ضابطة معينة في انتخاب هذه المذاهب الأربعة سوى أنّ كثرة المذاهب قد ارعبت ولاة البلدان الإسلامية المختلفة وأدت إلى ظهور موجة من الفوضى والهرج والمرج من جانب، ومن جانب آخر أنّ العلل السياسية والاجتماعية هى التي أدت إلى انتشار هذه المذاهب في كافة بلدان العالم الإسلامي; وعليه فلم يكن بالإمكان اسقاطها. ولذلك تواطئ الفقهاء والحكام آنذاك بالوقوف بحزم بوجه كل من يتفوه بما لم يرد في المذاهب الأربعة المذكورة، والعجيب أنّ هذه المسألة قد حدثت في القرن السابع عشر. فقد انطلقت في مصر عام 665 وفي بغداد 631 بحيث قرر أساتذة المدرسة المستنصرية المعروفة في عام 645 عدم قبول أي طالب ينتمي إلى غير هذه المذاهب.

وهكذا فقد اغلق باب الاجتهاد بعد مرور سبعة قرون على ظهور الإسلام وبلوغ الاجتهاد ذروته، ليصبح كافة الفقهاء مقلدين لهؤلاء الأئمة الأربع ففقدوا استقلاليتهم الفقهية. وما هذا إلاّ نتيجة طبيعية لذلك الانحراف الذي وقع في القرن الأول. فقد اُقصيت العترة الطاهرة عدل القرآن الكريم وأحد الثقلين وفتح باب القياس والاستحسان والاجتهاد بالرأي وظهرت هذه الآراء المتناقضة التي جرت الفوضى، فكان كل رأي حكم الله، والمؤسف له هو

[ 399 ]

أنّ مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) لم تتخذ مكانها حتى في مصاف المذاهب الأربعة.(1)

فالحق أنّ ذلك الانحراف الأول هو سبب ظهور هذه البدعة، البدعة التي لم يكن هنالك من سبيل سواها.

3 ـ الهرج والمرج الفقهي والقضائي الذي أفرزته الآراء المتعددة والمتناقضة التي قد يصل عددها أحياناً إلى عدد المجتهدين; ومما لاشك فيه أنّ المشاكل آنذاك تفوق مشاكل المجالس التشريعية في عصرنا الحاضر بكثير، وذلك لأنّ مجالس العصر تشهد على الأقل حضور الوكلاء لبلد أو منطقة من العالم في مكان واحد فيتخذ القرارات على أساس أكثرية الآراء التي تتمتع بالوحدة كحد أدنى بالنسبة لمنطقة معينة; أمّا الاجتهاد بالرأي والتصويب فهو يسمح لكل مجتهد من المجتهدين أن يشرع بمفرده، والأعجب من ذلك كل ما يتوصل إليه من حكم فهو حكم الله الواقعي، وخلافاً لمجالسنا المعاصرة التي تكون أحكامها أحكاماً وضعية بشرية، فانّ أحكام المجتهدين آنذاك تمثل الأحكام الإلهية التي يلزم الناس بأتباعها.

وأخيراً لا نروم الخروج من بحثنا في الشرح والتفسير ولذلك نوكل من أراد المزيد بهذا الشأن إلى المصادر المعروفة.(2)

—–


1. للوقوف على التفاصيل انظر كتاب «توضيح الرشاد في تأريخ عصر الاجتهاد» للمحدث المحقق المرحوم الحاج الشيخ آقا بزرك الطهراني.

2. أنوار الاُصول 2 / 519 ـ 543 و3 / 632 ـ 658، المستصفى للغزالي 2 / 234، الاُصول العامة للفقه المقارن / 305 و617.

[ 400 ]

[ 401 ]

 

 

القسم الثانى

 

«أَفَاَمَرَهُمُ اللّهُ سُبْحانَهُ بِالاِاخْتِلافِ فَأَطَاعُوهُ! أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ! أَمْ أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحانَهُ دِيناً ناقِصاً فاسْتَعانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمامِهِ! أَمْ كانُوا شُرَكاءَ لَهُ، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى؟ أَمْ أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحانَهُ دِيناً تامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدائِهِ، وَاللّهُ سُبْحانَهُ يَقُولُ: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْء» وَفِيهِ تِبْيانٌ لِكُلِّ شَيْء، وَذَكَرَ أَنَّ الْكِتابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لا اخْتِلافَ فِيهِ فَقالَ سُبْحانَهُ: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً».

—–

 

الشرح والتفسير

الاختلافات غير المبررة

يفند الإمام(عليه السلام) في هذا الكلام بالأدلة المحكمة مسألة الاجتهاد بالرأي وتصويب آراء المجتهدين وبالتالى حق الفقهاء في اصدار الأحكام، ثم يصنف الإمام(عليه السلام) ذلك إلى خمسة اُسس ويغلق كافة الطرق على هولاء، ثم يبين بجلاء تام خطأ هذا اللون من التفكير.

فقد قال(عليه السلام) بعد أن تساءل على نحو الاستنكار عن السب الذي يقف وراء هذا الاختلاف في المسائل الفقهية «أفامرهم الله سبحانه بالاختلاف فاطاعوه».

حقا لا يمكن قبول هذا الامر، فالله واحد أحد يدعو إلى الوحدة ويحذر من الاختلاف والفرق فهو القائل:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِـيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(1) وبناءا على هذا فان


1. سورة آل عمران / 103.

[ 402 ]

الاختلاف تابع من موضع آخر، رام الإمام(عليه السلام)الإشارة إليه «أم نهاهم عنه فعصوه» فالحق أنّ هذا الأمر يشكل أحد مصادر الاختلاف; غير أن القضاة الذين يوردون عدّة آراء بشأن مسألة واحدة لايسعهم الاقرار بمثل هذا الاحتمال!

و عليه فان ردّهم على هذا السؤال سيكون بالسلب. ثم تطرق الإمام(عليه السلام) إلى الاحتمال الثالث فقال(عليه السلام): «اَم انزل الله سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه». من المسلم به أنّه ليس هنالك مسلم يقول بنقصان دين الله وإن الله استعان بالعباد لا كماله، بل بالعكس قد صرحت الآيات القرآنية باكمال هذا الدين من جميع الجهات (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِـيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً)(1).

ثم يورد الإمام(عليه السلام) الاحتمال الآخر الذي يبدو بطلانه واضحا وضوح الشمس في رابعة النهار لا أم كانوا شركاء له، قلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى» فمن البداهة أنّ من قال يتعدد الآلهة فانّه عليه أن يؤمن بانّ لكل منهم سهم في التشريع واصدار الأحكام; فهل للمسلم الذي ينطلق في عقيدته من التوحيد أن يعتقد بوجود الشركاء ويرى في الفقهاء والقضاة شركاء لله؟ وبعبارة اُخرى فان أحد فروع التوحيد (بعد توحيد الذات والصفات) هو توحيد الأفعال،أحد تفرعات توحيد الأفعال هو توحيد الحاكمية والتشريع; وعلى ضوء ذلك فانّ الحكومة لله وحده وتنتهي إليه، فلا حكم إلاّ حكمه ولا أمر إلاّ أمره!

و لو لم يكن الأمر كذلك لاختفى الحق سبحانه بقسم من التشريع ثم يفوض القسم الآخر منه للعقول البشرية العاخرة.

و هل لغيره من إحاطة قامة بمصالح الأحكام ومفاسدها! أو يجوز على الله أن يفوض زمام اُمور عباه لمشرعين يصدر كل منهم حكماً وقانوناً على ضوء ظنه ورأيه القاصر بحيث يعيش العباد في هالة من الفوضى والقلق والحيرة في ظل الآراء المتناقضة المتضاربة!

ثم يتطرق الإمام(عليه السلام) إلى آخر احتمال فيقول: «أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه». لا شك ولا شبهة أنّه ليس هنالك من ينسب


1. سورة المائدة / 3.

[ 403 ]

مثل هذا القول إلى النبي(صلى الله عليه وآله); وذلك لأنّ حتى اُولئك الذين لايقرون بمسألة العصمة بصورة مطلقة ويظنون بعدم وجود الدليل على عصمة النبي(صلى الله عليه وآله) في كافة الميادين، فانّ الحد الأدنى أنّهم يسلمون بعصمته في التبليغ وأداء الوحي، حيث لا يبقى من مفهوم للنبوة والرسالة دون الاعتقاد بالمعنى المذكور.

آنذاك يعود الإمام(عليه السلام) إلى أصل المسألة فيكشف النقاب عن هذه الحقيقة وهى أنّ الإسلام قد شرع كل ما من شأنه تلبية حاجات البشرية ومتطلياتها، وعليه فالإمام(عليه السلام)يصادر ما أوردوه من قولهم «ما لا نص فيه لاحكم فيه» بالاستناد إلى قوله «و الله سبحانه يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شيء وفيه تبيان لكل شيء)(1) فالآيتان دليلان واضحان على أن الله لم ينزل ديناً ناقصاً عولهم يستعن باحد لا كماله; بل جاء في القرآن كل ما يحتاج إليه، بعضها في العمومات وبعضها الآخر في الأحكام الخاصة التي سيأتي الحديث عنها إن شاء الله في مبحث التأملات ولم ينس الإمام(عليه السلام) أن يسلب حربة التناقض من القضاة الذين يستشهد كل منهم بآية يتباين مفهوماً وسائر الآيات فقال(عليه السلام): «و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنّه لا إختلاف فيه» ثم يعزز الإمام(عليه السلام)دعوى عدم الاختيارات في الآيات القرآنية متشهدا بالقرآن «فقال سبحانه! ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافاً كثيراً»(2).

فالواقع أنّ علم الإنسان محدود، وأنّ تقادم الزمان أو تغيير المكان وكشف الظواهر الجديدة إنّما يدعوه إلى تغيير أفكاره باستمرار، ومن هنا فقد يورد كاتب بعض الموضوعات المتناقضة خلال حياته، وليس ذلك بعجيب، هذا من جانب، ومن جانب آخر فان رصيد الإنسان النسيان، فلعه يتحدث اليوم عن شيء فينساه بعد شهر أو سنة ليتحدث عن خلافه. إلاّ أنّ هذه الاُمور لا تصدق على البارىء سبحانه العالم بكل شيء «و ما كان وما يكون» والعالم بالمحال لو كان كيف يكون، فليس لمرور الزمان من أثر على ذاته المقدسه; فهو فوق الزمان والمكان، وناهيك عن هذا فليس هنالك من مفهوم للنسيان بالنسبة لله سبحانه،


1. لابدّ من الالتفات إلى أن قوله «ما فرطنا في الكتاب من شئى» هو نص الآية 38 من سورة الانعام، أمّا قوله «فيه تبيان لكل شيء» فهو مضمون الآية 89 من سورة النحل لا عينها «ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء».

2. سورة النساء / 82 .

[ 404 ]

فكيف الحال هذه ان يصدر عنه أدنى إختلاف أو تناقض.

وزيدة الكلام أنّ الإمام(عليه السلام) قد قند ببيان واضح بليغ عقيدة التصويب والتمسك بالقياس والاستمسان والاجتهاد بالرأي، فالله سبحانه أنل ديناً كاملاً وقرآنا جامعا يلبي كافة حاجات البشرية، وإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) لم يتوانى في تبليغ الرسالة، كما أنّ الله لم يقبل للاُمّة الإسلامية أي اختلاف ودعا االمة مرارا إلى الاخاء والوحدة. وبناءاً على ما تقدم فما تفسير الاعتقاد بصحة الآراء المتناقضة وتصويب الفتاوى المختلفة على أنّها جميع حكم الله المطابق للواقع، سوى الانحراف والضلال.

 

شمولية القرآن

لقد تضمن القرآن الكريم الآيات الصريحة التي تبيّن كافة اُمور المسلمين ومتطلباتهم وحاجاتهم إلى يوم القيامة. كما صرّحت الروايات الإسلامية بهذا الأمر، ومن ذلك ما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «ان الله تبارك وتعالى انزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك شيئاً تحتاج إليه العباد، حتى لايستطيع عبد يقول لو كان هذا أنزل في القرآن، إلاّ وقد أنزل الله فيه»(1) ولكن هنا يبرز هذا السؤال: إننا نرى أحكاماً مختلفة لم ترد في القرآن الكريم وهذا الأمر لاينسجم وشمولية القرآن الكريم; مثلا لم يرد في القرآن شيء بشأن عدد ركعات الصلاة والسلع التي تجب عليها الزكاة وتصاب الزكاة وبعض مناسك الحج وعدد اشواط السعي بين الصفا والمروة والطواف ومسائل اُخرى في القصاص والحدود والديات وآداب القضاء وشرائط المعاملات وأنواع المعاملات المستحدثة وما شاكل ذلك من الموضوعات الشرعية. وللإجابة على هذا السؤال لابدّ من الالتفات إلى ثلاثة اُمور:

الأول: أنّ القرآن يشتمل على الأحكام الكلية والقواعد العامة والعمومات والاطلاقات التي يتمّ حل أغلب المشكلات على ضوئها. فمثلاً الآية (أَوْفُوا بِالعُقُودِ)(2) في المعاملات والاية


1. تفسير نور الثقلين، 3 / 74، اصول الكافي، 1 / 59 (هناك احتمالان بشأن هذه الرواية: الأول انّ «لو» شرطية، والآخر أنّها حرف تمني و«إلاّ» احياناً للإستثناء واخرى للتنبيه، راجع مرآة العقول، 1 / 202.

2. سورة المائدة / 1.

[ 405 ]

(وَما جَعَلَ عَلَيْـكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج)(1) في أبواب العبادات و(لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)(2) في حقوق الو الذين وسائرالآيات من هذا القبيل التي من شأنها الاجابة على أغلب الأسئلة والمسائل المستحدثة أضف إلى ذلك فان القرآن الكريم صرّح بأنّ السنة النبوية تمثل إحدى المصادر الرئيسية للأحكام الشرعية والمعارف الإسلامية (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهيكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(3) كما وصفة في آية اُخرى بانّه مبين القرآن ومفسره (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَـيِّنَ لِلنّاسِ ما نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ)(4).

 

النبي(صلى الله عليه وآله) من جانبه وعلى ضوء حديث الثقلين فقد جعل أهل بيته وعترته(عليه السلام)من مصادر الأحكام الشرعية والمعارف الإسلامية، ولو التزم المسلمون بوصية القرآن والنبي الأكرام(صلى الله عليه وآله)بما بقي هناك سوال في مجال الأحكام دون إجابة.

و أخيراً يستفاد من الروايات الإسلامية المختلفة أنّ للقرآن ظاهر وباطن، وظاهره المعاني والمفاهيم المعلومة لدى الجميع ويعملون على ضوئها، أمّا باطنه فهو معاني ومفاهيم اُخرى ليس لاحد من سبيل إليها سوى النبي(صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين(عليهم السلام)، الذين يتعاملون مع الآيات وفق روية وإدراك آخر.

و بناءاً على هذا لو إصطف الثقلان (القرآن وأهل البيت) ولم يفصلهما المسلمون عن بعضهما، لا ستفادوا من هذا العدل القرآني الذي يحل أغلب معضلاتهم.

فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «أنا اعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة وفيه خير السماء وخير الأرض وخير الجنّة وخبر النار وخبر ما كان وما هو كائن، اعلم ذلك كما أنظر إلى كفي ان الله يقول فيه تبيان كل شيء»(5) وجاء في نهج البلاغة


1. سورة الحج / 78.

2. سورة البقرة / 233.

3. سورة الحشر / 7.

4. سورة النحل / 44.

5. اصول الكافي، 1 / 61 (كما نقل المرحوم الكليني في هذا الباب عدّة روايات).

[ 406 ]

«و في القرآن نبأ ما قبلكم وخير ما بعدكم وحكم ما بينكم»(1) وقال(عليه السلام)في موضع آخر بشأن القرآن «إلاّ أنّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم»(2) ولم يقتصر نقل هذه الأحاديث على أهل البيت(عليهم السلام)، بل نقلت من طرق العامة أيضا، فقد روى السيوطي في الدر المنشور عن الصحابي المعروف ابن مسعود «أنّ فيه علم الأولين والاخرين». وروى عن الاوزاعي في تفسير الآية «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء. قال: بالسنة»(3). وقد روى السيوطي في كتاب الاتقان هذا المعنى عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «في كتاب الله نبأ ما قبلكم وخبر ما يعدكم وحكم ما بينكم»(4) ثم قال: وقد أورده الترمذي وغيره.

—–


1. نهج البلاغة، الكلمات قصار، الحكمة 313.

2. نهج البلاغة، الخطبة 158.

3. الدر المنشور 4 / 127 ـ 128.

4. الاتقان، نوع 65 من العلوم المستفادة من القرآن.

[ 407 ]

 

 

القسم الثالث

 

«وَإِنَّ الْقُرْآنَ ظاهِرُهُ أَنِيقٌ وَباطِنُهُ عَمِيقٌ، لا تَفْنَى عَجائِبُهُ، وَلا تَنْقَضِي غَرائِبُهُ، وَلا تُكْشَفُ الظُّلُماتُ إِلاَّ بِهِ».

—–

 

الشرح والتفسير

أناقة القرآن وعمقه

يختتم الإمام(عليه السلام) خطيته ـ في القسم الثالث ـ يوصف القرآن الكريم بخمس صفات تنطوي على حقائق عظيمة بشأن أهمية القرآن، مشيرا إلى ضرورة عدم غفلة القضاة والفقهاء عن هذا القرآن والاستضاءة بنور حقائقه ومعارفه، إلى جانب الشعور بانّ القرآن يغنيسهم عمّا سواه من المصادر الاُخرى سوى السنة التي تستند القرآن يغنيسهم عمّا سواه من المصادر الاُخرى سوى السنة التي تستند إلى القرآن وتفسير مضامينه. فقد قال في صفته الاولى «و إنّ القرآن ظاهره أنيق»(1).