![]() |
![]() |
ـ فالعبارة وإن كانت تصور الأوضاع المزرية لأهل الكوفة، إلاّ أنّها تشير إلى مدى عمق المشاكل التي إستنزفت أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) في ذلك الزمان، فقد كان محقاً في اعلانه عدم الوثوق بهم، فقد خالفوا كراراً وعودهم ونقضوا محارم عهودهم ونكثوا بيعتهم.
لم يكونوا يحسنون سوى الكلام في المجالس وإطلاق الشعارات الرنانة والكلمات
الحساسة، فاذا دقت ساعة القتال ولوا زحفاً إلى مخادعهم وهربروا هرب الشاة من الذئب.
ثم قال(عليه السلام): «ما بالكم؟ مادواؤكم؟ ماطبكم؟ القوم رجال أمثالكم».
أو تعتقدون أنّ أهل الشام خلقوا من غير طينتكم، أم لهم بقية جسمية وروحية تختلف عنكم؟ كلا.
اللّهم الافارق واحد بينكما هو الاخلاق والمعنويات.
فهم يعملون ماذا يلزمهم من أجل القتال، إلاّ أنكم لستم كذلك رعتم النعمة العظيمة التي من الله بها عليكم بان جعل لكم إماماً عادلاً مقتدراً... لقد أرعبتكم إمكاناتهم حتى انتهى بكم ذلك إلى الذل والهوان.
يا للاسف أن يبتلى زعيم مثلي برعية مثلكم.
نعم دواؤهم كان فيهم كما ورد ذلك في الشعر الذي يتسب إلى الإمام(عليه السلام):
دواؤك فيك وما تبصر *** وداؤك منك وما تشعر
ثم يختتم (عليه السلام) خطبته بالقول «أقولاً بغير علم؟ وغفلة من غير ورع؟ وطمعا في غير حق؟».
أجل هذه هى العناصر التي تقف وراء بؤسكم وتعاستكم، فأنتم ترسلون الكلام على عواهته دون أن تستندوا إلى علم أو معرفته، ثم وليتم ظهوركم للورع والتقوى وانهمكتم في الدنيا وغفلتم عن الآخرة، وأخيرا فانّكم تحلمون بالنصر دون أن تعدوا له عدّته.
هذه هى العوامل الثلاث (القول دون العمل والجهل المشوب بعدم التقوى والأمل بالنصر دون إعداد مقدماته) التي تهدد بالفشل والهزيمة كل أمّة وقوم.
لاشك أن جيش الإمام (عليه السلام) وبفضل زعيمه الرباني المعروف بالجهاد والشجاعة في ميدان الحرب كان يمتلك كافة أسباب الانتصار على العدو من جميع النواحي، إلاّ أنّه وللأسف قد شهد حالة من الضعف سلبته زمام المبادرة وزعزعت عوامل النصر، والمفروغ منه ان ذلك الضعف والوهن إذا دبّ في أمّة فانّها لن تنتظر مصيراً أحسن من ذلك المصير الذي ساد جيش الكوفة.
وقد أشار الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة التي نحن بصدرها إلى عناصر هذا الضعف والتي كان في مقدمتها تركهم للعمل وتمسكهم بالقول.
فقد كانت مجالسهم عامرة بالكلام ولا سيما عن القتال والحرب دون أن يعدوا العدة اللازمة و يأخذوا للحرب اهبتها، يكثرون من الكلام خلف الجبهات دون أن يجرأ أحدهم على الاقتراب من الخطوط الأمامية.
وكأنّ قدرة الأفراد الضعاف العجزة تتركز عادة في الأقوال والمزاعم، ولعل الإمام (عليه السلام)أشار إلى هذا المعنى بقوله: «أقوالاً بغير علم؟» سواء كان هذا العلم يعني المعرفة أو الاعتقاد أو العمل، فالنتيجة واحدة لكل من هذه التفاسير الثلاثة، لأنّ المعرفة بالشىء والاعتقاد به تدعو إلى العمل، أما ضعف العمل فانما يستند إلى عدم المعرفة والاعتقاد، الأمر الذي صرح به الإمام (عليه السلام) بقوله «العلم مقرون بالعمل، فمن علم عمل»(1)
العامل الآخر هو الغفلة وفقدان الورع، وبعبارة اُخرى فانّ عدم الالتفات إلى الحقائق والواقعيات ـ الذي تفرزه حالة عدم التقوى.
إنّما يؤدي إلى إختراق الصفوف من قبل العدو، في حين لا تصيب سهام هذا العدو اذا ما تحلت الاُمّة بالفطنة والذكاء المشوب بالتقوى بدلاً من الغفلة والتحلل من الورع والتقوى.
والعامل الاخير هو الطمع في ما لا يستحقون، أو بعبارة اُخرى الطمع في الشىء دون توفير أسبابه.
فاننا نعلم بأنّ هنالك الأسباب التي ينبغي توفرها لتحقيق بعض الأهداف.
فقانون العلة والمعلول إلى جانب الإرادة الإلهية هى التي تحكم الوجود برمته، وإن ظن بعض الجهال بيعض الاوهام والخيالات والمعادلات الساذجة كمقدمة لتحقيق الاهداف.
وقوله(عليه السلام) «طمعاً في غير حق» يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى، فانّهم كانوا يطمعون في شئ لايستحقونه، إلاّ أنّ بعض شرّاح نهج البلاغة ذهبوا إلى أنّ المراد بهذه العبارة أنّهم كانوا يطمعون بالمزيد من عطائهم في بيت المال، ويتمنون على الإمام (عليه السلام) أن يعطيهم من بيت
1. نهج البلاغة، الكلمات القصار، 366
المال أكثر من إستحقاقهم، فلما لم يلب الإمام (عليه السلام)طلبهم غير المشروع صابهم الضعف والوهن في القتال.
ومن الطبيعي أن يكون هذا التفكير المادي أينما كان عاملا من عوامل الفشل والهزيمة، كما فشل الجيش الإسلامي في معركة اُحد إثر انهماك الجنود في جمع الغنائم واهتمامهم بالجوانب المادية في ذلك الميدان الجهادي العظيم.
على كل حال فانّ هذه العوامل التي تؤدي إلى الهزيمة والفشل لاتقتصر على جيش الكوفة فحسب، بل تهدد بالفشل كافة الجيوش على مدى الدهور والعصور وأخيراً فالخطبة تصور مدى لوعة الإمام(عليه السلام).
وذروة إستيائه، وهى كافية في توضيح عمق الظروف العصيبة التي عاشها الإمام(عليه السلام).
—–
ومن كلام له(عليه السلام)
في معنى قتل عثمان وهو حكم له على عثمان وعليه وعلى الناس بما فعلوا وبراءة له من دمه.
نعلم بأنّ الآراء قد اختلفت في قتل عثمان، فهناك من ذهب إلى تقصير عثمان وأنّه كان مستحقاً للقتل; فقد سلط بطانته على بيت المال وأغدق عليهم المناصب الحساسة في الحكومة، حتى قام الناس ضده دون أن يهب أحد من المسلمين لنجدته فكان الجميع راضياً بقتله.
بينما هناك من يعتقد بعدم صوابية قتله وكان ينبغي أن يمنح فرصة التوبة ليتدارك بعدها ما فرط منه، وإن كان ولابدّ يخلعونه من الخلافة، أمّا قتله بتلك الصورة العلنية إنّما هو بدعة، أضف إلى ذلك فانّ قتله أصبح ذريعة للمنافقين من أجل بث الفرقة والشقاق في صفوف المسلمين.
و أخيراً هناك طائفة ضيقة النظر ممن لا تكلف نفسها عناء التحقيق والتفكير في سيرة
1. جاء في مصادر نهج البلاغه أن هذه الخطبة جزء من رسالة كتبها الإمام(عليه السلام)حين خلافته، ثم ضمنها الحوادث التي أعقبت وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم أمر (عليه السلام)بقراءتها على الناس من أجل وحدة الرأي العام بهذا الشأن، كما احتمل أن تكون الخطب 26،54،78 هى الاُخرى جزء من هذه الرسالة.
ثم صرح بانّ هذه الخطبة وردت مع بعض التغييرات في كتاب أنساب الاشراف (مصادر نهج البلاغه، 1 / 408).
الخليفة الثالث تراه الخليفة المظلموم الذي قتل شهيداً، كما تنزه ساحته من كل نقص وعيب.
الإمام (عليه السلام) من جانبه وفي خضم هذه الآراء المتضاربة يكشف النقاب عن الحقيقة ويعرض بالتحليل للمسائل المرتبطة بقتل عثمان.
—–
«لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قاتِلاً أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، لَكُنْتُ ناصِراً، غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: «خَذَلَهُ مَنْ أَنا خَيْرٌ مِنْهُ» وَمَنْ خَذَلَهُ، لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: «نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي» وَأَنا جامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ، اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الاَْثَرَةَ، وَجَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ وَلِلَّهِ حُكْمٌ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَأْثِرِ وَالْجَازِعِ».
—–
الشرح والتفسير
كما ذكر في بداية الخطبة فانّها تعالج قضية قتل عثمان والتعرض إلى العوامل التي دفعت إلى هذا القتل. فكلنا نعلم بان لقتل عثمان جذور معلومة نابعة من طبيعة أعماله وأفعاله، فقد أجمع المحققون على أنّ سوء تدبير عثمان في ادارة دفة الحكم وتبديل الحكومة بموروث قبلي والتطاول على بيت المال والظلم والاضطهاد الذي مارسه أقربائه وبطانته بحق الناس قد أدى إلى غضب عام حتى انبرت طائفة مؤلفة من بضعة مئات لتحاصره في داره وتهجم عليه وتقتله، وقد وقف ذلك الجيش الجرار الذي فتح مصر وبلاد الروم متفرجاً دون أن يحرك ساكنا; فقد كان ذلك الجيش ساخطاً عليه ويرى ضرورة قتله، غير أنّ الناس إنقسموا طائفتين بعد قتله:
طائفة ـ لعلها كانت تشكل الاكثرية ـ كانت راضية بهذا القتل أو على الأقل غير مكترثة له بينما ترى الطائفة الثانية أنّه قتل مظلوماً.
وفي ظل هذه الظروف إنتهز المنافقون الفرصة لبث بذور الفرقة في صفوف المسلمين وحرف مسير الخلافة عن محورها الأصيل أمير المؤمنين علي(عليه السلام) ـ والذي كان يخطى بتاييد كافة أفراد الاُمّة ـ واستغلوا قضية قتل عثمان كذريعة لتحقيق أطماعهم ومآربهم، وبعبارة اُخرى فانّهم أحالوا قميص عثمان إلى مناورة سياسية هدفها إغفال الاُمّة وصدها عن الحق.
وبالطبع فانّ أفراد من كلا الطائفتين كانوا من ضمن صحب الإمام (عليه السلام) واتباعه، وإن كانت الطائفة الثانية وعلى ضوء تصريحات بعضى المؤرخين تشكل الأقلية، وعليه فمن الطبيعي أن تكثر هذه الطائفة من سوالها لعلي (عليه السلام) عن قتل عثمان، فلم يكن أمام الإمام (عليه السلام)من بد سوى الاجابة التي تتضمن عكس الحقائق التأريخية من جانبه وعدم منح هذا وذاك الفرصة بغية إستغلالها ضد الدين.
فالخطية رد على مثل هذه الاسئلة الذي يتطرق فيه الإمام(عليه السلام) إلى بيان الحقائق التأريخية دون منح العناصر الفاسدة الحجج والذرائع فقد قال (عليه السلام):«لو أمرت به، لكنت قاتلاً، أو نهيت عنه، لكنت ناصراً».
فمفهوم هذه العبارة هى أني كنت محايداً فلم ألطخ يدي بدمه ولم أدافع عن زلاته، فالأمران ينطويان على محاذير.
و هنا يبرز هذا السؤال: كيف يمكن التوفيق بين مضمون هذه العبارة والوقائع التأريخية؟
لاننّا نعلم جميعا (و قد ذكر ذلك أغلب المؤرخين) أنّ الإمام (عليه السلام) نهى الناس عن قتل عثمان و قد بعث بالحسن والحسين (عليه السلام) إلى دار عثمان ليحولا دون زحف المعترضين، بل دخل عليه الإمام (عليه السلام) بالماء حين منعوه منه. وقد أورد الشرّاح جوابين على السؤال المذكور:
فقال البعض المراد من عدم النهي هو النهي العملي; أي أنني لم أشهر السيف عملياً ولم أقتحم الميدان دفاعاً عنه، وهذا لايتنافى ونهيه اللفظى (عليه السلام) وبعثه بالحسنين (عليه السلام) هناك.
بينما يرى البعض لاخر أنّ هذا الكلام يفيد أن الإمام (عليه السلام) لم يأمر قط بقتل عثمان، وإن كان يراه مستحقاً للعقاب على أعماله، وعليه وبغية عدم تردي الاوضاع لأسوأ ممّا كانت عليه فقد دعا الناس إلى ضبط النفس والتخلي عن العنف، إلاّ أنّه لم يفعل ما من شأنه توفير الدعم الصريح لعثمان وأعماله وما يدر منه; وذلك لأنّه كما أن سفك دمه يخلق بعض المشاكل في المجتمع الإسلامي، فانّ توفير الدعم له والدفاع عن أعماله هو الآخر يسبب مشاكل لاتقل عن سابقتها، وعليه فانّ الإمام (عليه السلام) لم ير في أي من الأمرين (الأمر بالقتل والنهي عنه) ممّا تمليه عليه وظيفته الإسلامية.
و قد أراد الإمام (عليه السلام) أن يعلن موقفه الصريح ويحول دون تفاقم الخلافات بشأن قتل عثمان من قبل الطائفتين التي تذهب إحداهما لضرورة قتله وتلك التي لاتراه مستحقاً للقتل.
ثم قال (عليه السلام):«غير أن من نصره، لايستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه، ومن خذله لايستطيع أن يقول نصره من هو خير منّي»،
فالعبارتان تبينان موضوعاً واحداً وهو إتفاق الجميع على أن حماة عثمان آنذاك كانوا من طلحاء الاُمّة، بينما كان الأفراد الذين لم يمدوا له يد العون من كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار.
فالشواهد التأريخية تفيد تواجد كبار صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المهاجرين والأنصار حين هجم الناس على بيت عثمان، ولو كانوا يرتضون عثمان وأعماله لحالوا دون وصول الناس إليه، الأمر الذي يدل على تخليهم عنه وعدم تقديم أي دعم أو إسناد له.
أمّا الأفراد الذين هبوا للدفاع عن عثمان آنذاك فقد كانوا يمثلون أراذل المجتمع الإسلامي، و ما ذلك الدفاع إلاّ لمنافعهم اللامشروعة التي كانوا يحظون بها آنذاك.
وعليه فقد كانت هذه المسألة واضحة في أنّ حماة عثمان من أمثال مروان لم يجرأوا على الزعم أنّهم خير من المهاجرين والأنصار الذين لم يدعموا عثمان.
ومن المسلم به أن أولئك الذين تخلوا عن دعم عثمان لم يكونوا يرووا أن حاشية عثمان وبطانته أفضل منهم، ومن هنا فقد إتفقت الآراء على أن حماة عثمان لم يكونوا من أخيار الاُمّة.
فالعبارة غاية في الروعة وقد أماطت اللثام عن أعمال عثمان بالشكل الذي أثار حفيظة كافة المسلمين.
ومن ذلك توزيعه أموال بيت المال على قرابته وبطانته وتسليطهم على رقاب الناس إلى جانب الظلم والجور والاضطهاد وتضييع العدل والقسط.
وقد صرح بعض شرّاح نهج البلاغة(1) بان الكلام هو ردّ الإمام (عليه السلام) على من قال بحضرته أنّ الفتنة من اُولئك الذين لم ينصروا عثمان، فلو نصره كبار الصحابة لما إجترأ جهال الاُمّة على سفك دمه، ولو رأى كبار الصحابة وجوب قتله لكان عليهم إعلان ذلك وإزالة الشبهات عن أذهان الاُمّة.
فعلم الإمام (عليه السلام) أنه المقصور بذلك الكلام، فاورد هذه الكلمات.
1. شرح نهج البلاغة لابن ميثم 2/57.
على كل حال فانّ الخطبة تبين أنّ الإمام (عليه السلام) إذا لم ينصر عثمان فانه لم يكن وحيداً في هذا الأمر، بل كان هذا موقف كبار الصحابة، فلم الإشكال على الإمام(عليه السلام)؟ ثم إختتم الإمام (عليه السلام)خطبته بتحليل دقيق عن قتل عثمان، فقال (عليه السلام): «و أنا جامع لكم أمره، استأثر(1) فأساء الاثرة، و جزعتم فأسأتم الجزع، ولله حكم واقع في المستأثر والجازع».
لقد صرح أحد الادباء العرب المشهورين بأنّ عبارات الإمام(عليه السلام) إتصفت بقلة الألفاظ وسعة المعاني، فالعبارة على قلّة لفظها جامعة شاملة حيث أوضح الإمام(عليه السلام) فيها أنّ عثمان إرتكب خطاً جسيماً وأنتم كذلك.
فقد انتهج اسلوب الاستبداد والحكم الفردي وسلط بني اُمية على رقاب الناس وأغدق عليهم بيت المال فلما تعالت أصوات المعارضة وقام المسلمون لم يعرهم آذانا صاغية، فحاصروه وهجموا عليه فتركه كبار الصحابة من الأنصار والمهاجرون، من جانب آخر فانّ الناس لم يكتفوا بهدا الحد، وبدلاً من خلعه من الخلافة وطرد أزلامه من مواقع الحكومة عمدوا إلى اراقة دمه فخلقوا فتنة إمتدت لسنوات في التأريخ الإسلامي، إلى جانب استغلالها من جانب المنافقين الذين تذرعوا بالمطالبة بدم عثمان ليسفكوا كثيرا من الدماء.
وبناءاً على ما تقدم فانّ الفريقين قد سلكوا الافراط، وعليه فانّ الله جازى كل منها بأعماله.
لقد كثر الكلام بشأن خلافة عثمان وآثارها: إلاّ أنّ كلام الإمام (عليه السلام) ورغم قصر عباراته إلاّ أنه أوجز كبد الحقيقة إلى جانب اصداره الحكم العادل بشأنه وشأن الجماهير التي قتلته.
كما يستفاد من العبارة أن الاستبداد ـ رغم إنّه سيئ مهما كان ـ على أنواع بعضها أسوأ من البعضى الآخر، واستبداد عثمان كان من النوع الاخير.
كما أنّ التعبير بالجزع عن الناس يشير إلى مدى الغضب والاستياء الذي سيطر على الناس إثر الأعمال الشائنة لعثمان وبطانته.
—–
1. «إستأثر» من مادة «اثر»، بمعنى الاستبداد كما صرح بذلك القاموس ومنه الحكومة الاستبدادية لأنّها حكومة فردية، يستعبد فيها الفرد سائر الناس.
ومن كلام له(عليه السلام)
لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل.
«لا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَيَقُولُ «هُوَ الذَّلُولُ» وَلَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً فَقُلْ لَهُ: «يَقُولُ لَكَ ابْنُ خالِكَ: عَرَفْتَنِي بِالْحِجازِ وَأَنْكَرْتَنِي بِالْعِراقِ فَما عَدا مِمّا بَدا»».
—–
الشرح والتفسير
نعلم أنّ المعركة الاولى التي فرضت على أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت معركة الجمل، حيث إتحد أنصار عثمان ومعارضيه بعد أن إصطحبوا معهم زوج رسول الله(صلى الله عليه وآله) عائشة فنقضوا البيعة واشعلوا فتيل واقعة الجمل طمعاً في الخلافة.
ثم انتهت المعركة بهزيمتهم وقتل مؤججي تلك النار طلحة والزبير.
وتفيد كافة الشواهد التاريخيه أنّ الإمام (عليه السلام) كان حريصاً على عدم وقوع القتال ليس في
1. قال صاحب مصادر نهج البلاغة نقل هذا الكلام طائفة من العلماء ممن سبقوا المرحوم السيد الرضي،منهم الزبير بن بكار (طبق نقل ابن أبي الحديد والجاحظ...) وابن قتيبة في عيون الأخبار وابن عبد ربّه في العقد الفريد.
والطريف، نقله حتى إبن خلكان في وفيات الأعيان وشهد بصحته وهو من رفع راية مخالفة نهج البلاغة. مصادر نهج البلاغة 1 / 418.
الجمل فحسب، بل في صفين والنهروان، وكان يسعى جاهدا لاطفاء نار الحرب.
والخطبة التي نحن بصددها تعد أحد تلك الشواهد، فقد بعث الإمام (عليه السلام) قبل نشوب القتال برسوله عبد الله بن عباس إلى الزبير بهذه الكلمات، فأثرت عليه وانسحب من المعركة، حتى أدركه إبن جرموز في صحراء البصرة فقتله.
فقد خاطب الإمام (عليه السلام) ابن عباس قائلا:«لاتلقين طلحة فانك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً(1) قرنه، يركب الصعب ويقول:هو الذلول».
تشبيهه لطلحة بالثور الذي يعقص قرنه إما أن يكون أراد به طغيانه وسوء خلقه، أو عدم سماعه للحق بفعل طاعته لهوى نفسه.
فالواقع أنّ العبارة تفيد تحليله لنفسية طلحة ويأسه من تأثير الكلام فيه بشأن الكف عن القتال وإلاّ فانسعاب من المعركة، إلاّ أنّه لم يقطع أمله من الزبير (و قد دلت الحوادث اللاحقة أنّ الإمام (عليه السلام) كان محقا في أمله) فأضاف (عليه السلام) قائلا:«ولكن الق الزبير فانّه ألين عريكة».(2)
فالعبارة:«ألين عريكة» واستنادا إلى «عريكة» التي تعني الطبيعة، تفيد تسليم الزبير للحق إذا سمعه، ولا سيما إذا كان قد صدر من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، على العكس من طلحة الذي كان يتصف بالأنانية واللجاجة والطغوى وحبّ الجاه والمقام الذي أعمى بصره وبصيرته وأصم سمعه عن سماع الحق.
ومن هنا ذكر المؤرخون أنّ الزبير أخذته رعدة شديدة حين دخل البصرة وعلم أنّ عمار في جيش الإمام (عليه السلام) حيث تذكر حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعمار:
«و يحك يابن سمية تقتلك الفئة الباغية».
فخشى أن يقتل عمار في المعركة، فيكون هو جزءاً من الفئة الباغية.
على كل حال قال الإمام (عليه السلام) لابن عباس: «فقل له يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق؟ فما عدا ممّا بدأ؟».
1. «عاقصا» من مادة «عقص» بمعنى التوى قرناه على أذنيه
2. «عريكة» من مادة «عرك» بمعنى الطبيعة، ولين العريكة بمعنى السلس، كما تأتى بمعنى إشتباك الشئ ومن هنا إطلقت المعركة على إشتباك الأفراد.
فالعبارة إشارة إلى التأريخ الجهادي العظيم للإمام علي (عليه السلام) على عهد النبي(صلى الله عليه وآله) والذي لم يكن خافياً على أحد بما فيهم الزبير الذي كان يقاتل إلى جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقد ورد في الاخبار أنّ علياً (عليه السلام) برز بين الصفين حاسراً، وقال: ليبرز الىّ الزبير، فبرز إليه مدججاً، فقيل لعائشة: قد برز الزبير إلى علي (عليه السلام)، فصاحت: وزبيراه!
فقيل لها: لا بأس عليه منه، إنّه حاسر والزبير دارع.
فقال له(عليه السلام): ما حملك يا أبا عبدالله على ما صنعت؟ قال: أطلب بدم عثمان، قال: أنت وطلحة وليتماه، وإنّما نوبتك من ذلك أن تقيد به نفسك وتسلمها إلى ورثته، ثم قال له: نشدتك الله أتذكر يوم مررت بي ورسول الله (صلى الله عليه وآله) متكي على يدك، وهو جاء من بني عمرو بن عوف، فسلم علىَّ وضحك في وجهي، فضحكت إليه، لم أزده على ذلك، فقلت: لا يترك ابن أبي طالب يا رسول الله زهوه!
فقال لك «مه إنه ليس بذي زهو، أما إنّك ستقاتله وأنت له ظالم»
فقال الزبير: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد كان كذلك، ولكن الدهر أنسانيه، ولانصرفن عنك. فانصرف من المعركة(1).
فالعبارة السابقة قد تكون إشارة إلى هذا الأمر. جدير بالذكر أن الزبير كان من محبي علي(عليه السلام) وقد هب للدفاع عنه حتى في حادثة السقيفة وشهر سيفه، فقام له القوم وكسروا سيفه، إلى جانب ذلك فقد منح رأيه لعلي (عليه السلام) في الشورى التي شكلها عمر لانتخاب الخليفة من بعده.
على كل حال فان هذه العبارة أثرت في الزبير وكان شكه يتزايد يوماً بعد آخر.
بمشروعية الطريق الذي سلكه حتى إتخذ قراره باعتزال القتال فاتجة الصحراء ليكمن له أحد الظلمة ـ ابن جرموز ـ فارداه قتيلاً ولم يسعه تدارك ما فرط منه.
أمّا قوله (عليه السلام): «ابن خالك» فهو تعبير لطيف جدا، وهو من باب الاستمالة والاذكار بالنسب والرحم، فقد كان الزبير ابن صفية أخت أبي طالب، وعليه فالزبير ابن عمة علي (عليه السلام) وعلي(عليه السلام)ابن خاله.
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 167.
والعبارة تهدف إلى بيان كافة الاُمور التي سمعها الزبير من رسول الله (صلى الله عليه وآله)بشأن علي (عليه السلام)ومن هنا فقد كان شديد الحب لعلي، إلاّ أنّ حب الجاه ـ الذي كان الدافع الرئيسي لحرب الجمل ـ كالحجاب الذي حال دون رويته لتلك الحقائق، فكان لهذه العبارة فعلها في نفسه حيث أزالت عنه ذلك الحجاب وجعلته يعود إلى الحق.
قال المرحوم السيد الرضي في ذيل هذه الخطبة:«وهو عليه السلام أول من سمعت منه هذه الثلمة; أعني فما عدا ممّا بدا».
وهى عبارة بعيدة المعنى، تشير إلى مسألة وهى: ما الذي صرفك عن الحق بعد أن اتضح لديك إلى الباطل(1). والعبارة من الروعة واللطافة بحيث أصبحت مثلاً في الادب العربي.
ورد في بعض الروايات أنّ ابن عباس قال: حين أبلغت الزبير رسالة الإمام (عليه السلام)أجابني: قل لعلي (عليه السلام) إني اُريد ما تريد.(2)
أي إنّك تبتغي الحكومة، فلم لا أطلبها أنا. فقد بلغ به الطمع وحبّ الجاه درجة جعلته يعتقد بأنّ علياً(عليه السلام) إنّما نهض بالأمر طلباً للحكومة ـ ولكن وكما أوردنا سابقاً فانّ الزبير لم يستطع الوقوف بوجه الحق، فما كان منه إلاّ أنّ إعتزل القتال وانصرف وإن كانت خطوته متأخرة.
طلحة من قريش وأبوه عبدالله بن عثمان من السابقين في الإسلام وقد شهد غزوات رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يشهد يدرا حيث وجهه رسول الله (صلى الله عليه وآله) حينها إلى الشام فلما عاد طالب بسهمه من الغنائم.
1. «عدا» به معنى الصرف والاعادة، وفاعله ضمير مستتر يعود إلى ما، ويحتمل أن تكون من في ممّا بمعنى عن، و بدا من مادة بدو بمعنى الظهور.
2. مصادر نهج البلاغة 1 / 411.
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): لك سهمك وأجرك. وقيل آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله)في مكة بين طلحة و الزبير، وآخى بين طلحه وأبي أيوب في المدينة. وروي عن طلحة أنّ النبي (صلى الله عليه وآله)أسماه يوم أحد طلحة الخير. أمّا قتاله مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حرو به فمما لا شك فيه مع ذلك فقد كان محباً للجاه و المقام حتى تغيير نهجه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما كانت تسمع منه بعض الكلمات ومن ذلك قوله أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمر بنات أعمامنا بالاحتجاب منا، ويتزوج بنسائنا بعد إنفصالهن عنا: فما الذي يغنيه حجابهن اليوم وسيموت غدا فننكحهن، وهنا نزلت آية التحريم بالزواج من نساء النبي (صلى الله عليه وآله)(1) فقد ذكر الفخر الرازي في سبب نزول الآية أن طلحة قال:«سأتزوج من عائشة إذا مات رسول الله (صلى الله عليه وآله)». فنزلت آية تحريم الزواج من نساء النبي (صلى الله عليه وآله) بعد وفاته.(2)
وورد في قصة الشورى التي شكلها عمر أنه أقبل على طلحة وقال: أقول أم أسكت؟ فقال طلحة: قل، فانّك لا تقول من الخير شيئاً. فقال عمر: لقد مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم اُنزلت آية الحجاب.(3)
على كل حال كان من أشد الناقمين على عثمان، ومن هنا كان يراه مروان من قتلة عثمان، وقد رماه بسهم في الجمل فقتله، وقال: الآن أدركت دم عثمان من طلحة. وقد دفعه حبّ الجاه لاشعال فتيل الجمل وسفك دماء المسلمين ولم يظفر بالخلافة حتى قتل في معركة الجمل. وذكر البعض أنّ الإمام(عليه السلام) حدثه ببعض الكلمات عى غرار الزبير فندم وانصرف من المعركة فرماه مروان بسهم فقتله. إلاّ أنّ الخطبة تفند هذا الكلام، فهى تفيد يأس الإمام (عليه السلام)من هدايته وعودته إلى الحق. وفي رواية أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) مر يقتلى الجمل فقال بشأن طلحة هذا من نكث بيعتي و أشعل نار الفتنة وألب الناس على قتلي وأهل بيتي» ثم خاطبه (عليه السلام): يا طلحة إنّي وجدت ما وعدني ربّي حقاً فهل وجدت ما وعد ربك حقاً، ثم انصرف. فقال له بعض أصحابه: أتكلمه بعد الموت يا أميرالمؤمنين. فقال(عليه السلام) والله لقد سمعني كما سمع الكفّار كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم قتلى في قليب يدر(4).
1. سورة الاحزاب / 53; الدر المنثور 5 / 214.
2. تفسير الفخر الرازي 25 / 225.
3. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 184.
4. الاحتجاج للطبرسي، نقلا عن سفينة البحار، مادة (طلح).
وهنا يبرز هذا السؤال وهو أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان يثني أحيانا على طلحة، حتى ذهب البعض إلى أنّه من العشرة المبشرة بالجنّة، فكيف يصح هذا الثناء؟ ونقول في الجواب على فرض أنّ هذا الكلام صحيح، فانّ الإنسان يعيش بعض المراحل المتألقة في سني حياته بحيث يكون يوماً إلى جانب الحق ويستحق الجنّة، ويوماً يخرج من هذا الحق ويلتحق في صفوف الباطل فيستحق غضب الله وسخطه. فالتأريخ الإسلامي حافل بالأفراد الذين كانوا على الحق وهجروه إلى الباطل أو بالعكس، وإلاّ فمن يسعه القول بأحقية من أجج نار الحرب ضد إمام زمانه وسفك كل هذه الدماء؟ فهل من انسجام بين هذا الكلام والمنطق؟ والشاهد على ما قلنا ما صرح به القرآن الكريم بشأن السابقين في الإسلام من المهاجرين والأنصار والتابعين، الذين وعدهم بالجنّة (وَالسّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرِينَ وَالأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّـبَعُوهُمْ بِإِحْسان رَضِـيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَـنّات تَجْرِي تَحْتَها الأَنْهارُ خالِدِينَ فِـيها أَبَداً ذ لِكَ الفَوْزُ العَظِـيمُ).(1)
فالآية تشمل جميع المهاجرين والأنصار، بينما نعلم هنالك من انحرف منهم عن الحق كعبد الله بن أبي سرح(2) وثعلبة ابن حاطب الأنصاري(3) فاستحقوا غضب الله وسخطه، وقد كانوا من المهاجرين والأنصار الذين وقفوا إلى جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ كما نعلم أن بعض المنافقين الذين ذمّهم القرآن بشدّة كانوا من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله). وعلى هذا الضوء فلابدّ من تقييم أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) على ضوء أعمالهم حتى آخر أعمارهم، وإلاّ شهدنا حالة من التناقض لا يمكن الخروج منها بتبرير وأما الزبير فهو الزبير بن العوام واُمّه صفية عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)
اسلم في الخامسة عشرة من عمره وهو رابع أو خامس من أسلم، هاجر إلى الحبشة ثم قدم المدينة، وقد أخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينه وبين عبدالله بن مسعود. شهد غزوات رسول الله (صلى الله عليه وآله)
1. سورة التوبة / 100.
2. ورد ذمه في تفسير الآية 93 من سورة الانعام في الدر المنثور (الدر المنثور 3 / 30) وذكر صاحب أسد الغابة أنه كان من كتاب الوحي ثم ارتد فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقتله (اسد الغابة، شرح أخبار عبدالله بن سعد بن أبي سرح).
3. جاء في أسد الغاية في معرفة الصحابة في أخبار هذا الرجل أن النبي (صلى الله عليه وآله)طرده، كما طردهالخلقاء الثلاثة (ابوبكر وعمر وعثمان) ولم يقبلوا زكاته، رغم قوله أنه من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى توفي في خلافة عثمان.
![]() |
![]() |