![]() |
![]() |
كيف لايعومون في بحر مالح لايسعهم شرب ماء والاُمّة لم تقف إلى جانبهم وتدعم نهضتهم «أفواههم ضامزة(3)، وقلوبهم قرحة».
ليس هنالك من قلق لدى الأفراد الذين يعيشون اللااُبالية في مثل هذه المجتمعات، ولايقلقهم سوى منافعهم الشخصية، أمّا المجاهدون الذين تكف أفواههم بالقوة، إنّما يتحرقون الماً وقلوبهم تشعر عمق الفاجعة ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة(4) إلى أنّ المراد بقلوبهم قرحة أنّها تخاف الله، بينما تشير قرينة الكلام إلى أنّ قروح قلوبهم إنّما تعزى الى الفساد الذي
1. «أخمل» من مادة «خمل» بمعنى أسقط ذكره حتى لم يعد له بين الناس نباهة.
2. «اجاج» من مادة «أجج» بمعنى الملوحة والمرارة.
3. «ضامزة» من مادة «ضمز» بمعنى السكوت والتحفظ عن الكلام
4. شرح نهج البلاغة لابن ميثم، والعلاّمة الخوئي وفي ظلال نهج البلاغة لمحمد عبده.
لايستطيعون القضاء عليه ولعل هناك من ينسب هذه المفردات من قبيل الضعف والعجز والسكوت والتقية إليهم كنتيجة لأعمالهم وعدم قيامهم في الوقت المطلوب، ومن هنا نبه الإمام(عليه السلام) إلى إزالة هذا الظن فقال(عليه السلام): «قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلّوا».
فقد خاضوا الجهاد على كافة المستويات وبشتى الطرق والاساليب، من خلال الوعظ باللسان إلى جانب النهضة المسلحة وتقديم الضحايا حتى كثر القتل في صفوفهم فقل عددهم، وذلك لأنّه لم يكن لهم نصير و لم يكن هنالك من توازن في القوى مع أعدائهم الذين يفوقونهم عددا وعدة. فقد قاتلوا على أمل تحقيق النصر وإجتثاث جذور الفساد ولم تبق منهم إلاّ قلّة لم يكن أمامها سوى التقية حفظا لنفسها ودينها.
والعبارة «قتلوا حتى قلوا» لا تعني أنّهم وتروا ولم يبق منهم إلاّ القليل، بل تعني أستشهد فريق منهم وبقي فريق آخر، والعبارة من قبيل إسناد أوصاف الجزء إلى الكل.
وهنا يطرح هذا السؤال: الاستضعاف المذكور يتعلق بأي زمان، والإمام (عليه السلام)كان هو الذي يحكم المجتمع؟ وتأمل تأريخ عصر الإمام (عليه السلام)يوضح الاجابة على هذا السؤال، كما ورد ذلك في بعض كلماته من أنّ الفساد الاجتماعي كلمة في عصره بلغ درجة بحيث خفت شعاع شمس حكومة الإمام (عليه السلام) في الكوفة وأطرافها، وقد اجتمعت لكمة سائر المناطق من قبيل الشام ومصر التي عاشت ذروة الشر والفساد والانحراف على إقصاء الصالحين عن مرح الأحداث.
—–
«فَلْتَكُنِ الدُّنْيا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثالَةِ الْقَرَظِ وَقُراضَةِ الْجَلَمِ وَاتَّعِظُوا بِمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ، قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَارْفُضُوها ذَمِيمَةً، فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ».
—–
الشرح والتفسير
يدعو الإمام (عليه السلام) الناس في ختام هذه الخطبة بعبارات مقتضبة بعيده المعاني إلى الزهد في الدنيا بصفته مفتاح سعادة الإنسان بعد أن ذكر صفات الأصناف الأربعة الأثيمة والصنف الخامس الذي يمثل الاتقياء من أولياء الله، مؤكدا على أن البؤس والشقاء الذي طال الأصناف الأربعة إنّما يستند إلى حب الدنيا والتعلق بزخارفها.
فقال (عليه السلام):«فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة(1) القرظ وقراضة(2) الجلم(3)».
والتشبيهات رائعة غاية في الدقة، فالقرظ (على وزن مرض) بمعنى ورق الأشجار الذي يستفاد منه لدبع الجلود حتى يشدها ويجعلها أكثر فائدة، وبالطبع فإن الحثالة التي تطرح بعد الاستفادة تكون قذرة ومتعفنة ومدعاة للنفرة، وكذلك حين تقص أصواف الحيوانات تطرح بعض القطعات الصغيرة منه على الأرض دون أن يكون لها أدنى فائدة. فالتشبيه الأول
1. «حثالة» بالضم: القشاوة وما لاخير فيه، واَصله ما يسقط من كل ذي قشر، ومن هنا تطلق الحثالة على حشاشة الدهن المتساقطة.
2. «قراضة» من مادة «قرض» بمعنى قطف الشي وتطلق على القطع الصغيرة المتناثرة من المقراض ومن هنا يطلق المقراض على المقص.
3. «جلم» على وزن قلم بمعنى المقراض.
استبطن النفرة والثاني التفاهة وعدم القيمة والاعتبار، والإمام (عليه السلام) يوصي بأن تكون الدنيا أهون من هذا في الأعين، الدنيا التي أدى عشق أموالها إلى ظهور القوارين، وعشق مناصبها إلى ظهور الفراعنة والطواغيت الظلمة، وأنّ حبّها رأس كل خطيئة.
من جانب آخر فقد أشار (عليه السلام) إلى قصر مدة الدنيا وضرورة الاتعاظ بها «واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم».
لقد جمعوا لها وجهدوا من أجلها وانصرفوا، ولم تعد قصورهم الخاوية وتيجانهم البالية وقدرتهم الجوفاء التي خلفوها هنا وهناك سوى عبرة لمن اعتبر، فان اعتبربها فهو المطلوب، وإلاّ ستكونون أنتم عبرة يعتبر بكم من يأتي بعدكم.
القرآن الكريم من جانبه لم ينفك عن دعوة الناس للاعتبار بالماضين، فقد أورد عبارات توقظ الضمير وتهز الاعماق بشأن الفراعنة وضرورة الاتعاظ بهم (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّات وَعُيُون* وَزُرُوع وَمَقام كَرِيم * وَنَعْمَة كانُوا فِـيها فاكِهِـينَ * كَذ لِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ * فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ).(1)
غير أنّه من المؤسف أن بني إسرائيل لم يعتبروا بهذه الدروس حتى أصبح مصيرهم عبرة لغيرهم.
ثم قال (عليه السلام): وارفضوها ذميمة، فانّها قد رفضت من كان أشغف(2) بها منكم».
ومن الطبيعي أن يكون مراد الإمام (عليه السلام) بهذه الدنيا المذمومة هى الدنيا التي تقود صاحبها إلى الظلم والطغيان والهوى والفساد لا الدنيا التي تشكل الجسر لعبور أولياء الله إلى الآخرة.
كلام السيد الرضي
قال الشريف الرضي: وهذه الخطبة ربما نسبها من لاعلم له إلى معاوية، وهى كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) الذي لايشك فيه، وأين الذهب من الرغام، وأين العذب من الاجاج! وقد دل على ذلك الدليل الخريت ونقده الناقد الباصر عمرو بن بحر الجاحظ، فانّه ذكر هذه الخطبة
1. سورة الدخان / 25 ـ 29.
2. «أشغف» من مادة «شغف» بمعنى اَكثر تعلق بالدنيا و حبالها. وقد أخذت في الأصل من شغاف وهو الغلاف الذي يضم القلب، كما تستعمل في العشق الشديد الذي يجتاح القلب وينفذ إلى أعماقه.
في كتاب البيان والتبيين وذكر من نسبها إلى معاوية، ثم تكلم من بعدها بكلام في معناها، جملته أنّه قال: وهذا الكلام بكلام علي عليه السلام أشيه، وبمذهبه في تصنيف الناس، وفي الأخبار عما هم عليه من القهر والاذلال، ومن التقية والخوف، أليق. قال: ومتى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد ومذهب العباد.
الدنيا في عين أولياء الله.
ماورد في الخطبة بشأن الأصناف الخمسة في عصر الإمام (عليه السلام) (من يقعد به عن طلب الإمرة قلّة ماله، ومن يطلب الامارة ويفسد في الأرض، ومن يظهر ناموس الدين ويطلب به الدنيا، ومن لامال له أصلاً ويطلب الملك ولايطلب الدنيا، وأولياء الله الاتقياء الأبرار) لا يقتصر على عصر الإمام (عليه السلام) وزمانه، وهم متواجدون في كافة المجتمعات الماضية والمعاصرة والآتية، وإنّ كافة المشاكل التي تعاني منها المجتمعات إنّما تنشا من الأصناف الأربعة المذكورة، التي سفكت الدماء وأحرقت الاخضر واليابس وجرعت اتباع الحق صنفوف الأذى والعذاب.
مع ذلك فان الدنيا لم تف لهم وقد أتت عليهم حتى آخرهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم.
أما العبارات التي أوردها الإمام (عليه السلام) بشأن كل صنف وعلاماته وصفاته جعلت من اليسير التعرف عليهم.
ولما كان حبّ الدنيا والتعلق بحطامها هو مصدر الشر والفساد الذي سلكته هذه الأصناف، فانّ الإمام (عليه السلام) إختتم خطبته بتصوير حقيقته الدنيا بما يجعل العاقل لا يعيرها أدنى أهمية، فقد وصفها بادى ذي بدء بانها اتفه من حثالة القرظ (و هو ما يسقط من ورق السلم أو ثمر السط يدبغ به ممّا لاخير فيه ولا قيمته له)، ثم أشار إلى تقلب حال الدنيا وعدم دوامها وكيف قضت على الماضين وجعلتهم عبرة للآخرين.
فقد ورد في حديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مر بجثة حيوان متعفنة ملقاة على الطريق فأومأ إليها قائلا: أترون هذه هنية على أهلها؟ فو الله الدنيا أهون على الله من هذه على أهلها» ثم واصل(صلى الله عليه وآله) حديثه عن الدنيا قائلا: الدنيا دار من لادار له ومال من لامال له ولها يجمع من لاعقل له وشهواتها يطلب من لافهم له وعليها يعادي من لا علم له وعليها يحسد من لا فقه له ولها يسعى من لايقين له»(1).
1. بحار الانوار 70 / 122.
وجاء في حديث أن الدنيا مثلت للمسيح (عليه السلام) كعجوز شمطاء فسألها: كم تزوجت.
قالت: كثير. كلهم طلقت. قالت: بل كلهم قتلت. قال(عليه السلام): يا ويح أزواجك الباقين، ألا يتعظون بازواجك الماضين(1)».
—–
1. منهاج البراعة 4 / 58; بحار الانوار 14 / 328.
ومن خطبة له (عليه السلام)
عند خروجه لقتال أهل البصرة، وفيها حكمة مبعث الرسل، ثم يذكر فضله ويذم الخارجين.
قال عبد الله بن عباس: دخلت على أميرالمؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف(2) نعله فقال لي: «ما قيمة هذا النعل؟».
فقلت: «لا قيمة لها!» فقال (عليه السلام):«و الله لهي أحب إليّ من أمرتكم(3) إلاّ أنت أقيم حقا أو أدفع باطلاً». ثم خرج فخطب الناس.
أورد الإمام (عليه السلام) هذه الخطبة في ظل ظروف دعا فيها أصحابه للتعبئة وإطفاء نار الفتنة التي
1. روى السيد الرضي (ره) هذه الخطبة في موضعين من نهج البلاغة: مرة هنا و أخرى في الخطبة 104 حيث قال هناك: وقد مر جانب من هذه الخطبة (إشارة إلى هذه الخطبة 33) وقد ذكرتها ثانية بسبب إختلاف بعض العبارات. قال صاحب مصادر نهج البلاغة: ومن هنا يتضح مدى إحتياط السيد الرضي في نقل كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام). ثم قال: يفهم من رواية الشيخ المفيد في الإرشاد أنّ الإمام(عليه السلام) خطبها في الربذة حيث توقف هناك جمع من حجاج بيت الله وقد تجمعوا حين سمعوا بالإمام(عليه السلام) ليصغوا إلى كلامه ولم يكن الإمام(عليه السلام) قد خرج من خيمته. قال إبن عباس دخلت الخيمة فرأيت الإمام(عليه السلام) يخصف نعله. فقال: يابن عباس: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها. قال: قل. قلت: أقلّ من درهم. قال: والله، لهي أحب إليّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا. فقلت: لقد إجتمع حجاج بيت الله ليسمعوا ما تقول. هلا أذنت لي أن أخطبهم؟ قال (عليه السلام): لا أنا أحدّثهم. فخرج من الخيمة فخطب بهذه الخطبة (مصادر نهج البلاغة، 1/ 421 ـ 422).
قال صاحب المستدرك ومدارك نهج البلاغة رواها الشيخ المفيد في كتاب الإرشاد، المستدرك، ص 242.
2. «يخصف» من مادة «خصف» بمعنى وصل الأشياء ورقعها.
3. «اِمرة» على وزن فطرة بمعنى الحكومة.
أشعلها طلحة والزبير في البصرة.
وقد أطلق الإمام (عليه السلام) ـ قبل إيراد الخطبة ـ تلك العبارات التاريخية الخالده لابن عباس; العبارات التي تتحدث عن سمو روح الإمام (عليه السلام) ومقامه الشامخ ومدى معرفته بالله سبحانه، فقد قال (عليه السلام)«والله لهي ـ النعل ـ أحب إلي من إمرتكم الا أن اُقيم حقا أو أدفع باطلاً».
هذه هى أهداف الإمام (عليه السلام) من الامرة والخلافة. ثم ينتقل الإمام (عليه السلام)إلى بيان خصائص العصر الجاهلي وانبثاق الدعوة الإسلامية، في اشارة إلى بروز مبادى العصر الجاهلي ثانية وانه لابدّ أن يقتفي آثار رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويقتدي بهديه فيقبر الفتن ويبقر الباطل ليخرج منه الحق.
ثم إختتم (عليه السلام) الخطبة بذم طائفة من قريش ممن أشعلوا نار الجمل ولم تكن دوافعهم من تلك المعركة سوى الحسد والبغض وحب الدنيا.
—–
«إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله) وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً وَلا يَدَّعِي نُبُوَّةً فَساقَ النّاسَ حَتَّى بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ وَبَلَّغَهُمْ مَنْجاتَهُمْ فاسْتَقامَتْ قَناتُهُمْ وَاطْمَأَنَّتْ صَفَاتُهُمْ ـ أَما وَاللّهِ إِنْ كُنْتُ لَفِي ساقَتِها حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذافِيرِها ما عَجَزْتُ وَلا جَبُنْتُ وَإِنَّ مَسِيرِي هَذا لِمِثْلِها: فَلاَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِهِ».
—–
الشرح والتفسير
أشار الإمام (عليه السلام) ـ كما ذكرنا ـ إلى بعثة النبي الإكرم (صلى الله عليه وآله) وظهور الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية وكيف كانت حياة الناس في العصر الجاهلي وكيف أصبحت إبان انطلاقه الدعوة، ومدى السعادة التي ظفروا بها، فقال (عليه السلام):«إنّ الله بعثت محمداً (صلى الله عليه وآله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة».
أثار بعض شرّاح نهج البلاغة هذا السؤال: كيف يقال لم يكن لاحد من العرب كتاباً سماوياً ولم يكونوا يتبعون نبياً من الأنبياء، والحال كانت طائفة من اليهود والنصارى تعيش هناك ولديها التوراة و الانجيل؟ ثم أجابوا على السؤال من خلال الاشارة إلى تحريف التوراة والانجيل، وعليه فلم يكن لديهم كتاباً بالحق، كما أن اليهود والنصارى كانوا أتباعاً كاذبين، ثم إستدلوا على ذلك بالاية الكريمة (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِـيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِـيراً).(1)
1. سورة الانعام / 91.
كما إحتمل البعض أن يكون المراد بذلك العرب الذين كانوا يشكلون الأكثرية وكانوا على الشرك والوثنية.
الإجابة الاُخرى التي يمكن الرد بها على ذلك السؤال أنّ اليهود لم يكونوا من سكنة الجزيرة العربية بمعنى المواطنة، بل تفيد السير التأريخية أنّهم حين قرأوا في كتابهم البشارة بظهور نبي الإسلام وأنّ ظهوره بات وشيكا قدموا هناك لدركه، وإن شعروا في ما بعد بالخطر على مصالحهم فسلكوا سبيل النفاق وعادوا النبي (صلى الله عليه وآله)، النصارى أيضاً كانوا من المهاجرين ويشكلون الاقلية هناك.
على كل حال فانّ الإمام (عليه السلام) أشار إلى إبتعاد الأقوام الجاهلية عن أجواء الوحي والنبوة، الأمر الذي يصور مدى غرقهم في وحل الشرك والفساد.
ثم تطرق (عليه السلام) إلى الأوضاع التي بلغوها في ظل إنبثاق الدعوة والاستضاءة بنور الوحي وبزوغ شمس الإسلام «فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم»(1) فهو لم يخلصهم من الشرك والكفر و الانحراف العقائدي وينقذهم من الفساد الأخلاقي والظلم والجور وسوء العدل فحسب، بل أخذ بيدهم إلى حيث القوة والعزة والحكومة والحضارة والمدنية، ومن هنا قال (عليه السلام)«فاستقامت قناتهم(2) واطمأنت صفاتهم(3)».
وعليه فقد ظفروا بالنصر المعنوي إلى جانب شمولهم بالنعم المادية و ما ذلك إلاّ ببركة النبي(صلى الله عليه وآله) ونزول القرآن الكريم والتعبير بمحلتهم إشارة إلى المنزلة الراقية التي ينبغي أن يبلغها الإنسان الفاضل، ومنجاتهم إشارة إلى نقطة النجاة التي ليس معها خوف وخشية ولا قستبطن سوى الفلاح والصلاح.
والعبارة «إستقات قناتهم» وعلى اضواء الاستقامة التي تعني الاستواء والثبات والقناة بمعنى الرمح تعني القوة والقدرة والانتصار على العدو.
1. «بوأ» من مادة «بوء» بمعنى تعبيد المكان ضد النبوة بمعنى المرتفع وغير المعبد، وقد وردت هنا بمعنى تنظيم وترتيب موقع الاستقرار.
2. «قنات» من مادة «قنو» بمعنى جذع الشجرة، كما تغني العود والرمح، والمراد بها هنا القوة والغلبة والدولة، وقوله إستقامت قناتهم تمثيل لاستقامة أحوالهم.
3. «صفات»، حجر مستوي وكبير ومحكم وواسع.
أمّا بعض شرّاح نهج البلاغة فقد ذهب إلى أنّ الاستقامة هنا تشير إلى الرمح كناية عن أنتظام الاُمور ونظم الحكومة والدولة والمجتمع والقوة والمنعة، ولكن لما كان الرمح عادة مستقيم وإذا إعوج كسر ولا يمكن تسويته (لأنّه يصنع عادة من الخشب لا الفزات)، فانّ العبارة يمكن أن تكون إشارة إلى اطمينان البال واستقرار الذهن; لانّ الجنود يغرسون حرابهم في الأرض وتبقى مستوية مستقيمة حين الهدوء والاستقرار; الأمر الذي يفيد أنّهم كانوا آمنين من حملات العدو.
أمّا العبارة «إطمأنت صفاتهم» فهى تشير إلى إستحكام منزلتهم في ظل ظهور الإسلام ونهضة رسول الله(صلى الله عليه وآله) بحيث إستقرت حياتهم الفردية والاجتماعية.
فالصحارى التي كانت تردد عليها العرب، كانت مليئة بالرمال والحصى المتحركة بحيث يصعب إجتيازها، بينما تسهل حركته وذهابه وايابه وجلوسه إذا إستقر على حجر كبير واسع ومحكم ومستقيم.
ثم قال (عليه السلام):«أمّا والله إن كنت لفي ساقتها(1) حتى تولت بحذا فيرها(2)».
ففي الاوضاع التي يكون فيها الجيش مستجد أو العدو قوي بحيث يحتمل التقهقر والانسحاب، فان آمر الجيش يجعل بعض مساعديه الشجعان في المؤخرة ليسوقوا الجيش إلى الإمام ويحثونهم على التقدم كما يحولوا دون تراجعهم.
وكأنّ الإمام (عليه السلام) أشار إلى هذه المسألة في أن النبي (صلى الله عليه وآله) قلدني مسئوؤلية في سوق الجيش إلى الإمام وتجاوز المخاطر والمشاكل التي تواجهه، أو المراد أنّى والنبي (صلى الله عليه وآله) في موخرة هذا الجيش ونسوقه إلى الإمام وقرينة ذلك قوله فساق الناس» على كل حال فانّ كل هذه إشارات إلى عصر نهضة النبي الإكرم (صلى الله عليه وآله) والدور الهام الذي لعبه الإمام علي(عليه السلام) في إنتصار الجيش الإسلامي على معسكر الكفر والشرك.
1. «ساقه» من مادة «سوق» جمع سائق، واصلها سوقه واصحب ساق بيت الاعلال.
2. «حذا فير» جمع حذ فور بمعنى الشريف والجمع الكثير، وقد جاءت هنا بمعنى جميع جوانب الموضوع. وهنا ينبغي الالتفات إلى أن. ضمير الهاء في ساقتها يعود إلى الناس في عصر الجاهلية الذين إعتنقوا الإسلام، ويمكن أن يكون الضمير في تولت وحذا فيرها عائدا إلى أعداء الإسلام الذين تقهقروا ابان نصر الإسلام، كما يمكن أن يعود إلى أهل الجاهلية الذين أقبلوا على الإسلام.
وفي إشارة إلى قيامه بوظيفته على أحسن وجه وبلائه الحسن قال «ما عجزت ولاجبنت» فمن البديهي أنّ الانسحاب إنّما يستند إلى الضعف والعجز أو الخوف والرعب، فقوله (عليه السلام) «ما عجزت ولا جبنت» يتضمن نفيه لعوامل الضعف والتقهقر.
ثم يربط (عليه السلام) هذه المقدمة بذي المقدمة فالإمام (عليه السلام) أشار إلى نقطة مهمّة وهى أنّ الاُمّة الإسلامية آنذاك بدأت تعود إلى الافكار والسنن الجاهلية وهى تبتعد كل يوم أكثر من ذي قبل عن مسيرة النبي (صلى الله عليه وآله) والقرآن والإسلام، ونموذج ذلك الحركة الظالمة لمشعلي نار الجمل من أجل الحصول على المناصب من خلال نكث البيعة وسفك دماء المسلمين.
فقد أراد الإمام (عليه السلام) الوقوف بوجه هذه العودة إلى الجاهلية وتجديد رسالته ووظيفته التاريخية في الحفاظ على المسيرة الإسلامية.
ومن هنا قال «فلا نقبن(1) الباطل حتى يخرج الحق من جنبه.» وبالالتفات إلى أن «أنقبن» من مادة «نقب» بمعنى ثقب الشئ وشقه، فانّ العبارة تشير إلى حقيقة هى أنّ الحق لايظهر ما لم تتبدد حجب الباطل، بعبارة اُخرى فانّ الباطل يسعى على الدوام ليغطي على الحق وبكتمه، فاذا شقت حجب الباطل، تنفس نور الحق واتضح عياناً للجميع. ويمكن أن تكون العبارة إشارة الى قيام أساس العالم على الحق، وإنّ الحق كامن في باطن كل موجود، ولاسيما في الفطرة البشرية، بينما الباطل أمر عارض طارىء على الإنسان.
فاذا زال هذا العارض ظهر الحق من باطن الأشياء. وقد ورد مثل هذا المعنى في الخطبة 104 «وآيم الله لابقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته».
كما ورد في شرح الخطبة فان «ذي قار» موضع بين البصرة والكوفة شهد معركة قبل
1. «أنقبن» من مادة «نقب» بمعنى الثقب والشق ويطلق النقب على الآبار تحت الأرض وذلك لأنها تنقب الأرض ـ ومنه البحث والتنقيب حين تأمل المطالب وإظهار الحقائق والنقيب العالم بحال القوم.
الإسلام بين العرب والجيش الساساني الذي هزم في المعركة وانتصر فيها العرب.(1) وقيل في تسميته أنه كان فيها بئراً ماؤه أسود كالقير.
عن ابن عباس، قال: لما نزلنا مع عليّ عليه السلام ذا قار، قلتُ: يا أميرالمؤمنين، ما أقلّ مَنْ يأتيك من أهل الكوفة فيما أظنّ! فقال: واللّه لَيأتينّى منهم ستة آلاف وخمسمائة وستون رجلاً; لا يزيدون ولا ينقصون.
قال ابن عباس: فدخلَني واللّه من ذلك شكٌّ شديد في قوله، وقلت في نفسي: واللّه إن قدِمُوا لأعَدّنّهم.
ثم نفَر إلى عليّ عليه السلام إلى ذِى قار من الكوفة في البحر والبرّ ستةُ آلاف وخمسمائة وستون رجلاً. أقام علىّ بذى قار خمسة عشر يوماً، حتى سمع صهيل الخيل وشحيج البغال حوله. قال: فلما سار بهم منقلة، قال ابنُ عباس: واللّهِ لأعُدّنّهم، فإن كانوا كما قال، وإلاّ أتممتُهم من غيرهم; فإنّ النّاس قد كانوا سمعوا قوله. قال: فعرضتُهم فو اللّه ما وجدتُهم يزيدون رجلاً، ولا ينقصون رجلاً، فقلت: اللّه أكبر! صدق اللّه ورسوله! ثم سرنا.
لعل كلام إبن عباس إشارة إلى أن الإمام(عليه السلام) سمع هذه الأمور من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ثم أخبر بها.
قال ابن أبي الحديد بعد ذلك: فلما قدم أهلُ الكوفة على عليّ عليه السلام، سلّما عليه، وقالوا: الحمدُللّه يا أميرالمؤمنين، الَّذى اختصَّنَا بموازرتك، وأكرَمنا بُنصرتك; قد أجبناك طائعين غيرَ مكرهين، فمرْنا بأمرك.
قال: فقام فحمداللّه وأثنى عليه وصلى على رسوله وقال:
مرحباً بأهل الكوفة، بيوتاتِ العرب ووجُوهها، وأهل الفضل وفرسانها، وأشدِّ العرب مودّة لرسول اللّه صلى اللّه عليه ولأهل بيته.(2)
مهما قيل ويقال بشأن عظمة الإسلام وانبثاقه وسط اُمّة متخلفة ومتعصبة فهو قليل. فقد
1. الكامل لابن أثير 1/482.
2. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 187 ـ 188 (بتصرف).
إنطوت الاُمّة في العصر الجاهلي على سلسلة من الانحرافات والصفات الرذيلة، ونكتفي هنا بالاشارة فقط إلى التعصب الذي كان سائدا آنذاك والذي لم يكن يسمح لأفكار الآخرين باختراقه.
ويعتقد أحد المحققين المسيحيين بالارتباط الوثيق بين التعصب الجاهلي ومناخ الحجاز، فيقول:«تتصف تلك المنطقة بالجفاف، فكانت طبيعة الناس هى الاخرى الصلابة والشدة، وكان من الاعجاز تسلل الأفكار الإسلامية إليه».
وإذا أضفنا إلى ذلك الجهل والابتعاد عن العلم وهبوط المستوى الفكري والضحالة الثقافية والتلوث بأنواع الخرافات التي تدعو إلى التعصب والعناد لأدركنا حجم الاعجاز في هدايتهم وانتشالهم من تلك الدوامة.
وقد تعرض القرآن الكريم إلى جانب من تلك العصبية، ومن ذلك قوله (سَـأَلَ سائِلٌ بِعَذاب واقِـع)(1) وقوله (وَ إِذ قالُوا اللّهُمَّ إِنْ كانَ هـذا هُـوَ الحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً...).(2)
وتشير أسباب نزول مثل هذه الآيات إلى عمق التعصب الذي كان يحكمهم بحيث كانوا مستعدين للتضحية بانفسهم تعصبا حقا إن هداية مثل هذه الاقوام تبدو من المعاجز الكبرى; الأمر الذي أشيرله في الخطبة المذكورة، وإن عادت تلك الاُمّة للأسف بعد رحيل النبي الإكرم(صلى الله عليه وآله) بمدّة قصيرة إلى جاهليتها الاولى وتسلمت بعض المناصب الحساسة في الحكومة الإسلامية لتذهب جهود النبي(صلى الله عليه وآله) أدارج الرياح، ومن هنا فقد سعى الإمام(عليه السلام)جاهداً لاعادة الاُمّة إلى عصر الرسالة.
لقد ورد في بداية الخطبة عبارة «يخصف نعله» التي تذكرنا بحديث النبي(صلى الله عليه وآله)بشأن فضائل علي (عليه السلام) خاصف النعل. حيث جاء في سنن الترمذي أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)كان يكلم
1. سورة المعارج / 1.
2. سورة الانفال / 3.
مشركي قريش فخاطبهم قائلا: «لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين قد إمتحن الله قلبه للايمان» فسأله من حضر: ومن ذاك؟ وسأله أبوبكر: من هو؟ وسأله عمر: ومن هو؟ فقال (صلى الله عليه وآله): هو خاصف النعل: حيث كان علي(عليه السلام) يخصف نعلي رسول الله(صلى الله عليه وآله)... ثم نقل الترمذي عن أبي عيسى أنّه حديث صحيح.(1)
ومن الطبيعي أنّ ذلك العمل الذي صدر من الإمام (عليه السلام) على عهده وعهد النبي(صلى الله عليه وآله)إنّما يفيد تواضع الإمام(عليه السلام) للناس وانصرافه عن الدنيا.
—–
1. صحيح الترمذي 5/634 (طبعة دار إحياءالتراث العربي) كما ورد هذا الحديث في كتاب ينابيع المودة/59. وورد في كتب أعلام الشيعة ومنها بحارالانوار، 32/300 وإحقاق الحق، 6/425.
«ما لِي وَلِقُرَيْش؟ وَاللّهِ لَقَدْ قاتَلْتُهُمْ كافِرِينَ وَلاَُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِينَ وَإِنِّي لَصاحِبُهُمْ بِالاَْمْسِ كَما أَنا صاحِبُهُمُ الْيَوْمَ! وَاللّهِ ما تَنْقِمُ مِنّا قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ اخْتارَنا عَلَيْهِمْ، فَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي حَيِّزِنَا فَكَانُوا كَمَا قَالَ الاَْوَّلُ:
أَدَمْتَ لَعَمْرِي شُرْبَكَ الْمَحْضَ صابِحاً *** وَأَكْلَكَ بِالزُّبْدِ الْمُقَشَّرَةَ الْبُجْرا
وَنَحْنُ وَهَبْناكَ الْعَلاءَ وَلَمْ تَكُنْ *** عَلِيّاً وَحُطْنا حَوْلَكَ الْجُرْدَ وَالسُّمْرا».
—–
الشرح والتفسير
يشير الإمام(عليه السلام) هنا إلى طبيعة علاقته في السابق والحاضر بقريش، لأنّه أورد هذه الخطبة على هامش موقعة الجمل: حيث نعلم بأنّ مؤججي نار الجمل هم طلحة والزبير وسائر الأفراد من قريش الذين خططوا لهذه المعركة بدافع من أحقادهم تجاه الإمام(عليه السلام). فقد كانوا يديرون هذه المعركة علانية أو خفية ومن هنا فانّ كلمات الإمام(عليه السلام) تضمنت تحذير الاُمّة من عدم الوقوع في شباكهم إلى جانب تنبيهها إلى الدوافع الأصلية لهذه المعركة، فاستهل(عليه السلام)كلامه قائلا: «مالي ولقريش؟ والله لقد قاتلتهم كافرين ولا قاتلتنهم مفتونين(1)» نعم فهؤلاء كانوا على الشرك، وقد التحقوا بالمسلمين بسيف علي (عليه السلام)ودعوة النبي (صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّهم وبعد وفاة
النبي(صلى الله عليه وآله) وبدافع من حب الجاه قد إبتعدوا عن الحق حتى هبوا لقتال وصي رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعد أن بايعوه طواعية.
1. «مفتونين» من مادة «فتنة» بمعنى الامتحان والابتلاء / كما جاءت بمعنى العذاب والخداع والضلال، وقد وردت هنا بمعنى الضلال.
![]() |
![]() |