![]() |
![]() |
قال: إنّ علياً(عليه السلام) أعاد الأموال إلى أهلها لما غلبنا في البصرة، فكان يعيد أموال كل من أقام البينة أو يأتي بالشهود، ويحلف من ليس له بينة. ولما سئل عن توزيع الغنائم سكت ثم قال: أيّكم يأخذ أُمّه في سهمه(2).
وتفيد بعض الروايات أنّه عفى عن أهل البصرة كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين فتح مكة. كما يستفاد أنّه لم يرد أن تكون هذه المسئلة سنة، لأنه كان يعلم بان شيعته ستخضع لضغوط الظلمة ولعلها تعاملهم بهذه المعاملة(3).
1. رواها إبن المغازلي الشافعي في كتاب مناقب أمير المؤمنين وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة والمحقق الكركي في نفحات اللاهوت لاحقاق الحق (6 / 440). وقد قال ابن أبي الحديد في شرحه للرسالة 65 من نهج البلاغة لو فرضنا أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يوص بعلي (عليه السلام) ـ كما تقول الإمامية ـ ولكن ألا يعلم معاوية وغيره من الصحابة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ألف مرة في علي (عليه السلام): «أنا حرب لمن حاربت وسلم لمن سالمت» وقال «اللّهم عاد من عاداه ووال من والاه» وقال «أنت مع الحق والحق معك» (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18 / 24).
2. وسائل الشيعة 11 / الباب 25 من أبواب جهاد العدو، ح 7، وللوقوف بصورة أعمق راجع كتاب أنوار الفقاهة، كتاب الخمس والانفال / 70.
3. للوقوف أكثر على هذه الروايات راجع أنوار الفقاهة (كتاب الخمس والانفال) / 75.
على كل حال فان مراد الإمام (عليه السلام) من هذه العبارة أنّه لا يكن أي بغض أوعداء لقريش، أما بذور حسدهم للإمام (عليه السلام) فسببها وقوف الإمام(عليه السلام) بوجههم في ميادين صراع الحق ضد الباطل إبان إنبثاق الدعوة الإسلامية، ولم يكن ذلك سوى إمتثالا لأوامر الله. ثم قال(عليه السلام):
«وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم» فما زال السيف الذي جندلت به الابطال في بدر وأحد والاحزاب بيدي، فالوا قع هذا تهديد صريح لمؤججي نار الجمل. وتساءل البعض أن مثل هذا الكلام يصدق على معاوية و عمرو بن العاص ومروان وأمثالهم الذين هبوا لقتال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّه لا يصدق على طلحة والزبير، فقد وقفا إلى جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في معاركه. وقد أجييب على هذا السؤال بأن الإمام(عليه السلام) لم يرد شخصاً معيناً، إلاّ أنّ الهدف بيان حقيقة أنّه كان يقاتل في سبيل الحق ضد الباطل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)ومازال بعد النبي (صلى الله عليه وآله)يقاتل في هذا السبيل (ونعلم أن قريشاً كانت تقاتل آنذاك ضد المسلمين). أضف إلى ذلك صحيح أنّ طلحة والزبير كانا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّ أغلب أصحابه الجمل ومنهم مروان كانوا من قريش. ثم أشار (عليه السلام) إلى أحد دوافع أصحاب الجمل فقال «والله ما تنقم منا قريش إلاّ أنّ الله إختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيزنا» ثم وصفهم بأنّهم أصبحوا كما قال الشاعر(1).
أدمت لعمري شربك المحض(2) صَابحا *** وأكلك بالزبد(3) المقشرة(4) البجرا(5)
ونحن وهبناك العلاء ولم تكن *** عليا وحطنا حولك الجرد(6) والسمرا(7)
نعم فهؤلاء يحسدوننا ويبغون علينا، إلاّ أنّ إرادة الله هى التي إختارتنا للنبوة والإمامة،
1. لم يرد في شروح نهج البلاغة شئ بشأن الأول هل يقابل الثاني، أم أنّها إشارة إلى أحد الشعراء الأوائل، أم المراد به اسم شاعر غير معروف. ويبدو الإحتمال الأول أنسب.
2. «المحض» بمعنى اللين الخالص بلا رغوة الذي لم يخالطه ماء، ثم إطلق على كل شئ خالص.
3. «زبد» من مادة «زبد» بمعنى استخراج شئ من آخر، ومن هنا يطلق الزيد على ما يستخرج من الحليب.
4. «مقشرة» من مادة «قشر» وتطلق على التمرة بعد نزع نواتها.
5. «بجر» على وزن برج من مادة «بجر» بمعنى ظهور السرة، كما وردت بمعنى التهم في الأكل، ويطلق الأبجر على صاحب البطن والحريص.
6. «جرد» من مادة «جرد» بمعنى الخيول الصغيرة قليلة الشعر
7. «سمراء» من مادة «سمر» بمعنى السهرة والسامر تقال لمن يقضى الليل صاحيا لسهرة أو حراسة أو هدف آخر.
مع ذلك لم نعاملهم بالمثل فقد عفونا عن أخطائهم وحفظنا هم من الاعداء، إلاّ أنّهم لم يتنكروا لهذه النعمة فحسب، بل شهروا سيوفهم علينا وهبوا لقتالنا، فقد قطعوا الرحم وقابلوا الاحسان بالجحود وأشعلوا نار حرب الجمل فسفكوا الدماء وزرعوا الفرقة في صفوف المسلمين.
فقريش تشبه بعملها هذا ذلك الحسود الذي يعترض على حكمة الله، فقد قال سبحانه (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)(1).
وقال (أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِـيمَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِـيماً)(2).
وقال (قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ المُلْكِ تُـؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِـيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ)(3).
ومن الطبيعي أنّ الإنسان المؤمن بالمفاهيم القرآنية والاصول الإسلامية لا يشعر بالحسد تجاه من يشمله الله على ضوء حكمته بالنبوة والإمامة، فلا يرى نفسه سوى مسلهم لهذه الحكمة.
قلما نجد صفة رذيلة كالحسد كانت السبب وراء هذه الأحداث الأليمة والفجائع المأساوية التي شهدتها المجتمعات البشربة طيلة التأريخ. فأغلب الناس إثر قلّة العلم وهبوط المستوى الثقا في وضعف الإيمان وعدم الثقة بالنفس ما إن يرى بعض النجاحات التي يحققها أقرانه أو أمثاله حتى تشتعل في قلبه فتائل الحسد فلا يهم سوى في كيفية تحطيم نفسية المقابل عن طريق الاتهام والتحقير والذم ومحاولة الانتقاص أو إيجاد بعض الموانع والمعوقات في طريقه، بدلاً من الشعور بالفرح والسرور والاحتذاء به من أجل تحقيق النجاح والتغلب على الصعاب
1. سورة الانعام / 124.
2. سورة النساء / 54.
3. سورة آل عمران / 26.
والانفتاح على تجاربه وارشاداته. وقد يشتد هذا الحسد حتى يبلغ درجة تدعو إلى إراقة دم المحسود من قبل الحاسد. ولا ننسى هنا أنّ أول دم إريق كان سببه الحسد، الذي دفع بقابيل لقتل أخيه هابيل حيث قبل قربان الثاني ولم يقبل قربان الأول، الأمر الذي تكرر كثيرا في التأريخ حتى قتل الأخ أخاه والابن أباه وبالعكس.
وهكذا تعود أغلب الحوادث الأليمة التي وقعت في صدر الإسلام ولا سيما في عصر خلافة أمير المؤمنين علي(عليه السلام) إلى الحسد; الأمر الذي أشار إليه الإمام(عليه السلام)في هذه الخطبة. وقد تعرضت أغلب الروايات إلى ذم هذه الرذيلة التي لا تجر سوى الفساد على المجتمع، فقد قال علي(عليه السلام): «إذا أمطر التحاسد نبت التفاسد»(1). أما النقطة المهمة التي أرشدت إليها الخطبة فتكمن في ضرورة عدم مقابلة المحسود للحاسد بالمثل، بل يسعى جاهدا لاطفاء نار الحسد من قلبه من خلال شكر النعمة ومداراة الحاسد وإطفاء حسده بمعامتله بالحب والإحسان، وما أحسن ما قال الشاعر:
إصبر على حسد الحسود فان صبرك قاتله *** النار تاكل نفسها إن لم تجد ما تأكله(2).
—–
1. غر الحكم، الرقم 5242
2. بحار الانوار 70 / 258.
ومن خطبة له (عليه السلام)
في إستنفار الناس الى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج. وفيها يتأفف بالناس، وينصح لهم بطريق السداد.
خطب الإمام(عليه السلام) هذه الخطبة كما ورد آنفا بعد فراغه من معركة النهروان. ويستفاد من ظاهر كلام ابن أبي الحديد أن الإمام(عليه السلام) خطبها في النهروان، بينما نقل عن نصر بن مزاحم أنّها أول خطبة خطبها بعد قدومه من النهروان لما كره القوم المسير إلى الشام عقيب واقعة النهروان، وأقبلوا يتسللون ويدخلون الكوفة، فلما رأى ذلك دخل الكوفة فخطبهم(2).
وصرح البعض من شرّاح نهج البلاغة أن الإمام(عليه السلام) كان حريص في النهروان على الحركة إلى الشام دون ضياع الفرصة، لأنّه كان يرى أنّ العودة إلى الكوفة تعني إسترخاء الجيش وصعوبة تجهزه ثانية، إلاّ أنّهم كانوا يتعللون ببرودة الجو ووجود الجرحى وعدم كفاية الأسلحة فلم يطيعوا أوامر الإمام(عليه السلام). فاضطر الإمام(عليه السلام) إلى دخول الكوفة ليجهزهم للقاء
1. رواها الطبري في تأريخه 6 / 51 وابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1 / 150 والبلاذري في أنسباب الاشراف / 380، وكذلك المرحوم الشيخ المفيد في الامالي (المجلس 18) بصورة أكثر إختصارا ممّا وردت في نهج البلاغة (مصادر نهج البلاغة 1 / 425) ورواها المرحوم العلاّمة المجلسي في بحار الانوار عن مطالب السئول محمد بن طلحة الشافعي (بحار الانوار 74 / 333).
2. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 192.
العدو، ولكن (وكما تكهن سابقاً) تشبثوا بالحجج، فتأثر الإمام(عليه السلام) وخطب الناس بهذه الخطبة(1).
تعالج هذه الخطبة ثلاثة مواضيع وهى:
1ـ التأكيد على جهاد العدو والعواقب الوخيمة لترك الجهاد. والذي يمثل أطول جانب من الخطبة فالإمام (عليه السلام)يعرض باللوم لأهل الكوفة ـ في هذا القسم من الخطبة الذي يشكل معظمها ـ ويذمهم بمختلف العبارات الشديدة القسوة. وبالطبع فانّ ذلك جاء بعد عدم جدوى كافة الأساليب عن طريق الاستدلال والبرهان والمنطق والمحبة لتعيئتهم للجهاد ومواجهة العدو، فلم يكن أمامه سوى هذا الاسلوب، فقد كان يشبههم أحياناً بالمجانين الذين فقدوا شعورهم وأحاسيسهم فلم يعودوا يدركوا ما يضرهم وينفعهم، وأحياناً اُخرى يشبههم بالابل التي ضل رعاتها، ثم يسعى لتعبئتهم من خلال تنبيههم إلى قسوة عدوهم.
2ـ عزمه الراسخ في مجابهة العدو سواء كان هناك من يهب لنصرته أم لم يكن.
3ـ الحقوق المتبادلة بين الإمام والاُمّة، فيعرض بادىء ذي بدء إلى حقوق الاُمّة على الإمام، فيلخصها في أربع عبارات، ثم يبين باربع عبارات اُخرى حقوق الإمام على الاُمّة. وكأن الإمام(عليه السلام) أراد أن يختتم الخطبة بما يحيل مرارة ذمه حلاوة عل ذلك يجدي نفعاً في علاج ضعفهم وتقاعسهم.
—–
1. شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 2 / 77 والعلاّمة الخوئي 4 / 72.
«أُفّ لَكُمْ لَقَدْ سَئِمْتُ عِتابَكُمْ! أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الاْخِرَةِ عِوَضاً وَبِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً؟ إِذا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهادِ عَدُوِّكُمْ دارَتْ أَعْيُنُكُمْ، كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي غَمْرَة وَمِنَ الذُّهُولِ فِي سَكْرَة يُرْتَجُ عَلَيْكُمْ حَوَارِي فَتَعْمَهُونَ، وَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَأْلُوسَةٌ فَأَنْتُمْ لا تَعْقِلُونَ! مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَة سَجِيسَ اللَّيالِي، وَما أَنْتُمْ بِرُكْن يُمالُ بِكُمْ، وَلا زَوافِرُ عِزّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ».
—–
الشرح والتفسير
يستهل الإمام(عليه السلام) خطبته بامطار أهل الكوفه بوابل عتابه ولومه وذمه لتجاهلهم المخاطر التي كانت تهدد البلد الإسلامي وعدم إكتراثهم لها، لعل قصبتهم تهتز فيحولوا دون تفاقم تلك المخاطر. فقد كان أهل الشام يشنون الغارة تلو الغارة على مختلف المناطق الإسلامية ويسفكون دماء المسلمين وينهبون أموالهم وثرواتهم. فقد قال الإمام (عليه السلام) «أف لكم(1) لقد سئمت(2) عتابكم» ودليل ذلك واضح، فالعتاب ولاسيما من شخص كعلي (عليه السلام) لابدّ أن يكون له تأثيراً واضحاً في نفس المعاتبين ودفعهم لاعادة النظر في أعمالهم الطالحة، إمّا إذا لم يحصل هذا
1. قال الراغب في المفردت «أف» في الأصل تعني كل شئ قذر وهى كلمة تضجر تطلق للمهانة والاستحقار. فمثلاً يقال «أففت بكذا» أي تضجرت منه واستقذرته. وقال البعض «أف» تعني مايجتمع من الأوساخ تحت الأظافر وقال البعض أن التراب والغبار إذا علق ببدن الإنسان فان نفخه يشيه القول«اوف» أو «اف» ثم استخدمت هذه المفردة بمعنى اظهار التضجر والنفرة ولا سيما من الاشياء الصغيرة. ونخلص ممّا ذكر ومن بعض القرائن إلى أن هذه المفردة كانت في الاصل إسم صوت.
2. «سئمت» من مادة «سئم» بمعنى الملل، التي تتعدى أحيانا بحرف من وأحيانا اُخرى بدونها، وسئمته وسئمت منه. بمعنى واحد، وعليه سئمت عتابكم بمعنى سئمت من عتابكم.
التأثير بسبب غفلة المقابل فان تكراره لا ينطوي سوى على الملل والتعب. ثم قال(عليه السلام): «أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا؟ وبالذل من العز خلفا؟» إنّ هذا سكوتكم المميت وفراركم من الجهاد يدل على أنكم أوبقتم آخر تكم واستبدلتموها ببضعة أيام من الدنيا من جانب، ومن جانب آخر فقد أفريتم دنياكم، وذلك لانكم استبدلتم العزة والرفعة بالذلة والضعة؟ والحال إن موتاً بعزة أشرف بكثيرمن حياة بذلة; الرسالة التي لقنها أولياء الله والزعماء الربانيين أتباعهم على مدى العصور والدهور. فقد قال علي (عليه السلام) في نهج البلاغة «فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين»(1) وقال سيد الشهداء «ألا وإنّ الدعي بن الدعي قد ركزني بين إثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة» ثم خاطب جيش الكوفة «إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخشون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم» فالواقع أنّ عبارات الإمام(عليه السلام)كانت تمثل دليل سئمه عتابهم وكأنّهم عقدوا العزم على إيثار الذلة والحقارة وغضب الله على العزة والشرف ورضى الله، ومن هنا لم يعد للعتاب من أثر عليهم، حتى سئم الإمام(عليه السلام)عتابهم. أمّا في العبارة اللاحقة فيشير الإمام(عليه السلام) إلى ضعفهم ليلتفتوا إلى أنفسهم فيزيلوا ذلك الضعف فقال (عليه السلام): «إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم، فأنّكم من الموت في غمرة(2) ومن الذهول في سكرة. يرتج عليكم حواري(3) فتعمهون(4)». قوله(عليه السلام)«يرتج عليكم حواري» ـ بالنظر إلى الحوار الذي يعني الكلام المكرر ويرتج من مادة (رت ج) بمعنى يغلق ـ له معنيان: الأول ما ذكر سابقاً، أي أنّ كلامي المكرر لا يؤثر فيكم فأنكم لا تدركوه، لأنّ باب الفهم أغلق بوجوهكم. والثاني أنّ لسانكم عقد عن جوابي، وذلك لأنّكم لا تمتلكون الرد المنطقي على كلامي ـ على كل حال فانّ نتيجة المعنيين واحدة تضمنتها العبارة اللاحقة وهى حيرتهم وضلالهم «وكأن قلوبكم مألوسة(5) فانتم لا تعقلون».
1. نهج البلاغة، الخطبة 51.
2. «غمرة» الواحدة من غمر وهو الستر، وغمرة الموت الشدة التي ينتهي إليها المحتضر، وهى الحالة التي كان يعيشها جيش الكوفة.
3. «حوار» من مادة «حور» بمعنى الرجوع وتطلق على المحادثة بين الأفراد والتي يصطلح عليها بالمحاورة، وقد وردت بهذا المعنى في العبارة.
4. «تعمهون» من مادة «عمه» بمعنى تتحيرون وتتردون.
5. «المألوسة» من مادة «ألس» تعني فقدان العقل، ومن هنا تستعمل حيث الخدعة التي تسلبِ عقل المقابل، وهى تعني المخلوطة بمس الجنون.
ثم يخلص الإمام (عليه السلام) إلى هذه النتيجة «ما أنتم لي بثقة سجيس(1) الليالي». وبالنظر إلى أن سجيس الليالي»
تعني ظلمة الليل فانّ معنى العبارة مادامت الليالي بظلامها فليس لي من ثقة بكم، وهى كناية عن الأبدية والخلود، لأن الظلمة لا تفارق الليل أبداً. أما اختيار ظلمة الليل فينطوي على منتهى البلاغة إستنادا إلى أفكار أهل الكوفة وأعمالهم السوداء المظلمة. ثم أكد ذلك بقوله «وما أنتم بركن يمال بكم ولا زوافر(2) عز يفتقر إليكم» وهكذا أعلن الإمام(عليه السلام)بهذه العبارات عدم ثقته واعتماده على هذه العناصر الضعيفة بعد أن تطرق لنقاط ضعفهم، أملا في إثارتهم وتعبئتهم لتوحيد الصف ومجابهة العدو. ودخولهم الميدان بكل قوة وشجاعة.
نرى أنفسنا مضطرين مرة اُخرى لملاحقة هذا السؤال: لم كل هذا العتاب واللوم من قبل الإمام(عليه السلام) ـ وهو ما هو عليه من العلم والحكمة في إدارة شؤون الناس ـ لأهل الكوفة وامطارهم بوابل من الكلمات القاسية العنيفة؟ أفلا يؤدي هذا الكلام الذي ينطوي على العتاب والذم وانعدام الثقة إلى نفرتهم وشدة تعصيّهم وابتعادهم عن الحق؟ ولابدّ من القول في الجواب أنّ الإمام(عليه السلام) قد خبر نفسية وروحية أهل الكوفة، وقد أثبت التأريخ أن اهل الكوفة لم يكونوا يتحركون إلاّ إذا داهمهم الخطر وعرضهم للزوال بالمرة، بعبارة اُخرى فانّ العتاب لايجدي معهم نفعا ما لم يجرح مشاعرهم ويثير أحاسيسهم.
ويبدو أنّ المجتمعات البشرية إنّما تشتمل دائما على طائفة ـ وإن كانت ضئيلة ـ لا تفيق إلى نفسها ما لم تتلق ضربات موجعة متتالية.
ولا يفهم من كلام الإمام (عليه السلام) إننا ينبغي أن نعتمد هذا الاسلوب تجاه من عاش الغفلة وتخلى عن وظيفته ومسؤوليته; لأنّ الأفراد على أنواع: بعضهم يعود إلى نفسه بأدنى إشارة فيستقيم
1. «سجيس» من مادة «سجس» بمعنى تغيير لون الماء وتكدره، ومن هنا اِطلقت «سجيس الليالي» على ظلمة الليل وكأنّ اَصل الاستعمال ما دامت الليالي بظلامها، وهكذا وردت في العبارة.
2. «زوافر» جمع زافرة من مادة «زفر» بمعنى التنهد وهو التنفس بصوت. كما يطلق الزفير على صوت النار، والزافزة بمعنى الأنصار والأقوام والعشيرة.
على الطريق، وبعضهم لايتحرك ما لم توخزه بابرة.
وبناءاً على هذا فان ذلك الاسلوب إنّما يختص بتلك الجماعة بفضله العلاج الأخير لدائهم.
وقد أثبت التاريخ أن ذلك الاسلوب كان قد أثر في أغلب أهل الكوفة فاندفعوا إلى النخيلة وتأهبوا لقتال أهل الشام، غير أنّ شهادة أميرالمؤمنين(عليه السلام) على يد عبدالرحمن بن ملجم أشقى الآخرين حالت دون ذلك.
والشاهد الآخر على ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) كان كثيراً ما يثني على أهل الكوفة أوائل حكومته(1)، إلاّ أنّهم حين ضعفوا واستقوى عليهم أهل الشام فكانوا يهجمون كل يوم على منطقة من مناطق البلاد الإسلامية، لم ير (عليه السلام) بداً من مخاطبتهم بهذا الاسلوب.
—–
1. على سبيل المثال راجع نهج البلاغة، الخطبة 107و118
«ما أَنْتُمْ إِلاَّ كَإِبِل ضَلَّ رُعَاتُهَا فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِب انْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ لَبِئْسَ لَعَمْرُ اللّهِ سُعْرُ نارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! تُكادُونَ وَلا تَكِيدُونَ وَتُنْتَقَصُ أَطْرافُكُمْ فَلا تَمْتَعِضُونَ!
لا يُنامُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ فِي غَفْلَة ساهُونَ، غُلِبَ وَاللّهِ الْمُتَخاذِلُونَ! وَايْمُ اللّهِ إِنِّي لاَظُنُّ بِكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى، وَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طالِب انْفِراجَ الرَّأْسِ».
—–
الشرح والتفسير
يواصل الإمام (عليه السلام) عتابه وذمه لعسكر الكوفة «ما أنتم إلاّ كابل ضل رعاتها فكلما جمعت من جانب إنتشرت من آخر» فالمراد أنّ إرادتكم ضعيفة وأفكاركم مشتتة ولا تميزون مصالحكم، فقد شبههم (عليه السلام) بالابل لضيق أفقهم وضحالة أفكارهم، وقوله «ضل رعاتها» اشارة إلى عدم طاعتهم لائمتهم وأوليائهم.
ومن البديهي أن هؤلاء الأفراد لايسعهم أن يكونوا قوة أمام العدو ولذلك قال(عليه السلام):«لبئس لعمر(1) الله سعر(2) نار الحرب أنتم».
فالحرب ظاهرة ممجوجة غير محببة وآثارها خراب البلدان وقتل الإنسان والفقر والجهل
1. لعمر الله، مفهوم هذه العلمة القسم بالعمر ومدة الحياة، ولما لم يكن للعمر من معنى بالنسبة لله فانّ المعنى هنا «قسماً بالله» وقد تقدم شرح هذه العبارة في الخطبة الرابعة والعشرين.
2. «سعر» جمع ساعر من مادة «سعر» بمعنى أوقد النار وسعر بمعنى شعلة النار، والمراد ليئس موقدو الحرب أنتم.
والبؤس والشقاء والتخلف، إلاّ أنّ نفس ظاهرة اللوم هذه قد تكون دواءاً حيوياً للمجتمع وذلك حين ينهض العدو ليهضم حقوق الاُمّة وينشر في ربوعها الذعر والفساد والانحراف.
فلا يمكن إعادة الأمن والسلام والعدل إلى المجتمع إلاّ من خلال الحرب. ومن هنا صرح القرآن الكريم قائلا:(اُذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير)(1) وقال في موضع آخر (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلاتَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لايُحِبُّ المُعْتَدِينَ)(2).
وعليه فانّ الإمام (عليه السلام) إذا أشار إلى الحرب، فانّما ذلك لتكرر إعتداءات وحملات أهل الشام وسفكهم للدماء ونهبهم للأموال بل هبوا في الواقع لمحاربة وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)من بايعته الأمّة برمتها.
ومن هنا خاطبهم «تكادون ولاتكيدون، وتنتقض أطرافكم فلا تمتعضون،(3) لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون».
ومن الواضح أنّ من لايستعد لمواجهة العدو ويتأهب لخططه التدميرية فانّ قراه ومدنه الحدودية إنّما تكون على الدوام مسرحاً لعمليات العدو ليمارس بحق أهلها القتل والدمار ونهب خيراتهم وثرواتهم، وليس هنالك من مصير بافضل من هذا المصير ينتظر اُولئك الذين يعيشون الغفلة عن عدوهم.
وما أعظم قساوة إصدار الأحكام بشأن الإمام على(عليه السلام) واتهامه بالضعف وقلّة التدبير في الحروب إذا لم يحط بحقيقة أهل الكوفة والضعف والوهن الذي كان سائدا لديهم إلى جانب عدم الطاعة والتمرد الذي طبعت عليه سجيتهم.
بعد ذلك يخلص الإمام (عليه السلام) إلى نتيجة أعمالهم فيقول «غلب والله المتخاذلون»نعم فالفشل والهزيمة لا تقتصر على هولاء الذين تصدعت وحدتهم وتخلوا عن مجابهة العدو، بل الهزيمة من القوانين الثابتة التي يمنى بها كل من يعيش هذه المفردات من قبيل الفرقة والنفاق والضعف والوهن وعدم الطاعة.
1. سورة الحج / 39.
2. سورة البقرة / 190.
3. «تمتعضون» من مادة معنى «معض» الابتئاس والغضب.
ثم قال (عليه السلام):«وآيم الله(1) اني لاظن بكم أن لو حمس(2) الوغى(3) واستحر(4) الموت، قد انفرجتم عن إبن أبي طالب إتفراج الرأس».
فقد أشار الإمام (عليه السلام) إلى عدّة اُمور بهذا التشبيه: الأول إنّ مكانته وإن كانت بمثابة الرأس من الجسد، ولكن هل للرأس ـ الذي يعتبر مركز الفكر ويضم العين والاذن واللسان ـ أن يفعل شيئا دون سائر الاعضاء؟ والثانى: هل من حياة ووجود لهذا الجسد إن فصل عنه الرأس، وإن كان فيه فهل له فعل شئ دون معونة العقل والفكر والسمع والبصر.
وأخيرا يتعذر التئام الرأس بالجسد إذا ما فصل عنه، بينما ليست هنالك مثل هذه الصعوبة في إلتئام سائر أعضاء البدن.
وعليه فان مراد الإمام (عليه السلام) هو أنكم تنفرجون عني وليس لكم العودة إلي اذا حمي الوطيس وأخذكم الخوف فهربتم مني كما احتمل بعض الشرّاح أنّ المراد بقوله:«أنفراج الرأس» هو فلق الرأس بضربة السيف التي تأبى الالتئام.(5)
يتطرق الإمام (عليه السلام) بفضله زعيماً إنسانياً وسياسياً وعسكرياً ـ في هذا القسم من الخطبة ـ إلى العوامل التي تقف وراء الضعف والفشل والهزيمة، فيجملها بعبارات قصيرة بعيدة المعاني وفي مقدمتها التشتت والفرقة وعدم إمتلاك الزعيم الأوحد، الأمر الذي يشاهد بوضوح اليوم في
1. أوردنا شرحاً وافياً في المجلد الأول ذيل الخطبة رقم 10 لعبارة «وآيم الله» التي تفيد مفهوم القسم.
2. «حمس» من مادة (ح م س) بمعنى إشتد وصلب، والحماسة والتحمس بمعنى التشديد والتشدد ولاسيما في الحرب ويقال الاحمس للرجل الشجاع الذي يقف بصلابة بوجه العدو.
3. «الوغى» بمعنى الضجيج والصوت والجلبة في ميدان القتال، كما يقال لنفس الحرب الوغى، وهكذا وردت في العبارة.
4. «إستحر» من مادة «حرر» بمعنى اشتداد الحر، وهو إشارة لايثار الفرار على الثبات في المعركة إذا إشتد القتال وبلغ حدته.
5. يبدو هذا الاحتمال مستبعدا لوجود التقدير في الجملة، لان العبارة «قد إنفرجتم عن ابن أبي طالب» تتطلب أن يكون تقدير العبارة «إنفراج الرأس» هو «إنفراج الرأس عن الجسد» أو «إنفراج الجسد عن الرأس» كما ورد مثل هذا التعبير في الخطبة 97 «انفرجتم عن علي بن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها».
والعجيب ما اورده شرّاح نهج البلاغة من تفاسير غريبة لهذه العبارة، حتى ذكروا ثمانية وجوه أو أكثر لانرى ضرورة للخوض فيها.
البلدان الإسلامية، حيث تؤدي الفرقة والانفسام إلى هذه الفوضى والانفلات في صفوف الاُمّة.
والطريف في الأمر أن الجميع يتحدث عن الوحدة، بينما يسهم كل حسب قدرته بتأجيج نيران الفرقة والاختلاف.
والثاني عدم وجود الخطط والمشاريع الصحيحة التي يمكنها مواجهة مخططات العدو الخبيثة والتي أشير إليها بالعبارة «تكادون ولا تكيدون». الثالثالاستهانة ببعض الحوادث الصغيرة ـ وهى كبيرة في الواقع ـ والتي تعرض لها الإمام(عليه السلام)بقوله«وتنتقص أطرافكم فلا تمتعضون» فاغلب الحوادث الصغيرة تكشف عن عمق بعض المسائل المهمة الخفية، فتغيير بسيط في البدن قد يعكس حالة مستعصية في باطنه، وهذا ما عليه الحال بالنسبة للقضايا الاجتماعية والسياسية والعسكرية.
فاذا رأينا العدو قد هجم على منطقة حدودية صغيرة، أو إغتال شخصية من البلد، لابدّ أن نعلم بأنّه إنّما يعدّ نفسه لمعركة أكبر وأعنف، وإلاّ لما تجاسر وارتكب ذلك العمل.
وعليه لابدّ من الالتفات إلى الأعمال في بدياتها وعدم الغغلة عن القضايا العضال التي تستبطنها وتختزنها. الرابع يقظة العدو وغفلتنا، فالعدو منهمك على الدوام في إعداد العِدة والعُدة، بينما ننظر بكل سذاجة إلى الاوضاع القائمة على أنها تمثل السلام العادل والمشرف، فاذا قدر لنا أن نفيق من غفلتنا، رأينا زمام المبادرة قد سلبت من أيدينا. الخامس خوف الموت والفرار من الشهادة في سبيل الله والتي أشار إليها الإمام(عليه السلام) بقوله «وآيم الله! انى لأظن...». والواقع إن الإنسان ليغفل عن حقيقة مفادها أن خشية الموت سبب الموت: والاستعداد للتضحية والفداء يعد من أسباب حفظ النفس.
كانت هذه بعض النقاط المهمة المرتبطة بالضعف والهزيمة التي أوردها الإمام(عليه السلام)في هذه الخطبة وسنتابع تفاصيل هذه المسألة في الابحاث القادمة ذات الصلة. فقد تطرق الإمام(عليه السلام)في الخطبة الخامسة والعشرين إلى سائر عوامل الضعف والفشل والهزيمة.
—–
«وَاللّهِ إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْرُقُ لَحْمَهُ وَيَهْشِمُ عَظْمَهُ وَيَفْرِي جِلْدَهُ لَعَظِيمٌ عَجْزُهُ، ضَعِيفٌ ما ضُمَّتْ عَلَيْهِ جَوانِحُ صَدْرِهِ.
أَنْتَ فَكُنْ ذاكَ إِنْ شِئْتَ فَأَمّا أَنَا، فَوَاللّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَراشُ الْهامِ، وَتَطِيحُ السَّواعِدُ وَالاَْقْدامُ، وَيَفْعَلُ اللّهُ بَعْدَ ذَلِكَ ما يَشاءُ».
—–
الشرح والتفسير
يتحدث الإمام(عليه السلام) عن العناصر الضعيفة والهزيلة التي تمكن عدوها من نفسها فيقول «والله إن إمرء يمكن عدوه من نفسه يعرق(1) لحمه ويهشمّ(2) عظمه و يفري(3) جلده لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمت عليه جوانح(4) صدره»
فالعبارة تبين بصراحة أنّ الضعف والوهن بلغ ذروته في جيش الكوفة بحيث اندفع العدو يكل ما اُوتي من قوة ليسدد له الضربات التي تحز اللحم وتطحن العظام، وهى أروع عبارة تجسد تسلط العدو وتحكمه في مصير الضعفاء العجزة، كما تضمنت قمة الفصاحة
1. «يعرق» من مادة «عرق» بمعنى فصل اللحم عن العظم، كما ورد بمعنى فصل اللحم عن العظم بالأسنان وأكله.
2. «يهشم» من مادة «هشم» بمعنى كسر الشي اليابس كما ورد بمعنى كسر مطلق العظام، أو عظام الرأى و الوجه.
3. «يفري» من مادة «فرى» بمعنيشق الشئ و تمزيقه.
4. «جوانح» جمع «جانحة»، و هى الضلوع تحت الترائب، اصلها من مادة «جنح» بمعنى الميل و الانحراف، و قد اطلقت على الاضلاع لأنّها ليست بشكل مستقيم.
والبلاغة بحيث تكفي لا ثارة من بقي لديه ثمة إحساس وشعور.
![]() |
![]() |