![]() |
![]() |
كما يحتمل إلاّ تكون العبارات الثلاث المذكورة بشأن فرد واحد، بل يفعل العدو هذه الاُمور بشأن عدة أفراد كأن يعرق لحم البعض ويهشم عظم الآخر ويفري جلد الثالث وعلى ضوى هذا التفسير يمكن حل السؤال الوارد بشأن ترتيب العبارات في أنّ الإمام (عليه السلام)لم جعل فري اللحم في آخر العبارة. فكأنّ جواب الإمام(عليه السلام) أنّ جنايات العدو تجاهكم في مرحلة هى فصل اللحم عن العظم، ثم يتقدم في مرحلة اُخرى ليهشم العظم وأخيراً لا يبقى أمامه سوى فري جلد البدن. وذهب بعض المفسرين إلى أنّ هذه العبارات إشارات إلى بعض الحوادث التي وقعت بعد شهادته (عليه السلام) وسيطرة معاوية وأهل الشام على العراق ولم يرحموا صغيراً ولا كبيراً ولا صحيحاً ولا مريضاً ولا فقيراً ولا غنياً ولا رجالاً ولا نساءاً(3). ولكن يبدو أنّها ليست مختصة بذلك الزمان، وإن كانت أشد وأقسى آنذاك.
1. شرح نهج البلاغة ابن ميثم البحراني 2 / 81 .
2. في ظلال نهج البلاغة / 228.
3. مفتاح السعادة 6 / 82 .
أمّا العبارة«ما ضمت عليه جوانح صدره» ـ بالالتفات إلى أن الجوانح جمع جانحة بمعنى الاضلاع ـ فالمراد بها القلب، وهدف الإمام من قوله«ما ضمت عليه جوانح صدره» بيان روحية جيش الكوفة ومدى عجزه. ثم يتطرق الإمام(عليه السلام)إلى نقطة مهمّة وأساسية يكشف فيها عن إتخاذه القرار الحاسم بشأن المستقبل وما يحمله من أحداث «أنت فكن ذاك إن شئت فأمّا أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه قراش(1) الهام، وتطيح(2)السواعد والأقدام، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء».
وأمّا من المخاطب بقوله(عليه السلام) أنت فكن ذاك؟ هنالك احتمالان: الأول أن إنّما خاطب من يمكن عدود من نفسه كائنا من كان، غير معين ولا مخصص، والاحتمال الاخر أنّه خاطب بذلك الأشعث بن قيس، فانّه روى أنّه(عليه السلام) قال وهو يخطب ويلوم الناس على تثبيطهم وتقاعدهم:
هلاً فعلت فعل ابن عفان! فقال له:«إن امراً مكن عدوه من نفسه، يعرق لحمه ويهشم عظمه ويفري جلده. أنت فكن ذاك...» فالواقع هو أنّ الإمام (عليه السلام) فصل نفسه عنهم بعد أن يأس منهم، فافهمهم أنكم إن آثرتم الاستسلام للعدو فسبيلي غير سبيلكم وليس للعدو عندي إلاّ السيف وسأقاتله بمفردي، فلكل وظيفة وليس أنا من يتقاعس عن إداء وظيفته، فان تخليتم عن وظيفتكم ورضيتم لأنفسكم الذل والهوان والاستسلام للعدو وعرضتم البلد الإسلامي للدمار والابتزاز وخليتم وأهل الشام لينهبوا الأموال ويعتدوا على الاعراض، فليس لي إلاّ أن أقاتلهم وحدي وأنا مستعد للشهادة التي لا أوثر عليها شيئاً ولن أشعر بالضعف أبداً. وكأنّ الإمام(عليه السلام) أراد أن بهذه الكلمات أن يشد أزر ذلك النزر اليسير من الأفراد الشجعان الذين لا يخلو منهم جيش الكوفة، كما يزيل الشك عن قلوب بعض المترددين ليلتحقوا به، ويرشد التأريخ إلى مدى الأثر الذي لعبه كلام الإمام(عليه السلام)فيهم. فقد شعروا بقوتهم من جديد وتأهبوا لمنازلة العدو.
1. «قراش» جمع «قراشه» بعنى العظام الرقيقة التي تلي القحف أو عظام الجبهة والرأس، وهام جمع هامة بمعنى الرأس كما تطلق على زعيم القبيلة.
2. «تطيح» من مادة «طوح» بمعنى الهلاك أو الاشراف على الهلاك. ولما كان فصل اليد والرجل يشكل القضاء عليهم فقد اُطلقت بهذا المعنى في العبارة المذكورة.
قد تشهد الحياة الاجتماعية والسياسية بعض اللحظات الحساسة التي تجعل الزعماء في موضع لا يحسدون عليه، وتتفعل هذه اللحظات حين يشتد الضعف والخلاف والترديد في إتخاذ القرار; الأمر الذي يمنح العدو بعض عناصر القوة في المباغتة.
وهنا لابدّ أن ينبري الزعيم الشجاع ليعلن قراره الحاسم بهذا الشأن ليفهم الجميع بأنّه مستعد للقتال وخوض غمار الحرب بمفرده سواءاً كان هناك من يقف إلى جانبه أم لا، فليس هنالك سوى الشهادة التي تأبى المقارنة بالخضوع والاستسلام. وهذا ما أشار إليه الإمام (عليه السلام)في الخطبة، وقد وقفنا على مثيله من أبي الضيم والأحرار الإمام الحسين(عليه السلام). فقد إتفقت كلمة الأصحاب ليلة عاشوراء في مواكبة إمامهم (عليه السلام) ولا سيما حين رفع الإمام(عليه السلام)بيعته عن الجميع وأذن لهم بالانصراف، حيث انصرف أغلب الضعفاء والعجزة وانفرجوا عن الإمام(عليه السلام) وهربوا من خوض الجهاد، ولم يبق معه إلاّ قلّة قليلة، لينهض كل واحد منها ويعبر عن موقفه ومساندته للإمام (عليه السلام) وان قتل سبعين قتله، وآخر قال لو اُقتل واُحرق ثم اُقتل ويفعل بي ذلك سبعين مرة لما تركتك، وما شابه ذلك من المواقف التي عبر عنها صحبه الاوفياء(1).
وقد أشار أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ـ في الرسالة 36 من رسائله في نهج البلاغة ـ إلى هذا المعنى، حيث قال لأخيه عقيل«وأما ما سألت عنه من رأيي في القتال: فان رأيي قتال المحلين حتى ألقى الله لا يزيدنى كثرة الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشة ولا تحسبن ابن أبيك ـ ولو أسلمه الناس ـ متضرعاً متخشعاً ولا مقراً للضيم واهناً». كما نصطدم في قصة موسى(عليه السلام)بقومه الذين أعربوا عن خوفهم من مجابهة العمالقة لما بلغوا بوابة بيت المقدس فضعفت إرادتهم وترددوا في إتخاذ القرار، حتى تمردوا على نبيّهم موسى(عليه السلام)وأخيه هارون(عليه السلام) واعلنوا موقفهم.
المخزي بكل صراحة (قالُوا يا مُوسىْ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِـيها فَاذهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هـهُنا قاعِدُونَ)(2).
1. للوقوف على خطبة الإمام(عليه السلام) ليلة عاشوراء وما قاله صحبه الاوفياء راجع بحار الانوار 44 / 392.
2. سورة المائدة / 24.
فما كان من موسى(عليه السلام) إلاّ أن أعلن موقفه منهم وانفصاله عنهم (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِك ُ إِلاّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ القَوْمِ الفاسِقِـينَ)(1).
وهذا هو موقف نبي الله نوح(عليه السلام) (وَا تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوح إِذ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِن كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذكِـيرِي بِآياتِ اللّهِ فَعَلى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونَ)(2).
ولا شك إنّ لهذا الموقف الصادم الذي يتخذه الزعيم أثره الكبير في نفوس أتباعه، حيث يشعر الأفراد بارتفاع معنوياتهم وقوة شوكتهم إلى جانب عودة الضعفاء إلى الحق والشعور بالقوة والاقتدار ويضطرها لاتخاذ ذات الموقف.
وأدنى معطيات ذلك الموقف أنه يشكل وثيقة تأريخية حية في سيرة هؤلاء الزعماء الابطال والذي يلهم الأجيال العزم والإرادة والقوة، وهذا ما نلمسه بوضوح في الملحمة الحسينية في كربلاء والتي مازالت تلهم الامم والشعوب كل عناصر القوة والاقتدار في مواجهة الظلم والاضطهاد والطغيان.
—–
1. سورة المائدة / 25.
2. سورة يونس / 71.
«أَيُّها النّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ، فَأَمّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْما تَعْلَمُوا وَأَمّا حَقِّي عَلَيْكُمْ: فالْوَفاءُ بِالْبَيْعَةِ وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ، وَالاِْجابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَالطّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ».
—–
الشرح والتفسير
يختتم الإمام (عليه السلام) خطبته بالتعرض لاهم القضايا المرتبطة بالحكومة والتي تكمن في حق الإمام على الاُمّة وحق الاُمّة على الإمام، فيوجزها بعبارات مقتضية عظيمة المعاني، حيث يشير إلى أربعة متبادلة لكل منهما. فقد تحدث بادى زي بدء عن حقوق الاُمّة، ومن شأن تقديم حقوق الاُمّة على الإمام على العكس، أنّه مدعاة للتأثير في نفوس السامعين، إلى جانب كشفه عن البعد الشعبي والجماهيري للحكومة الإسلامية، كما يفيد عمق فارق هذه الحكومة مع الحكومات المستبدة الغاشمة والحكام الطغاة الذين يرون أنفسهم ما لكي رقاب الاُمّة فيعاملونها معاملة المالك والمملوك أو الاقطاع والمزارع.
فقد قال (عليه السلام):«أيها الناس إنّ لي عليكم حقاً، ولكم علي حق».
والحق وإن ذكر بصورة مفردة إلاّ أنّه يفيد معنى جنس الحق الذي ينطوي على مفهوم عام، أما تنكيره فيشير إلى عظمة هذه الحقوق، لأنّ الاتيان بالنكرة قد يفيد التعظيم أحياناً.
فيتطرق الإمام (عليه السلام) إلى الحق الأول للاُمّة فيقول «فأمّا حقكم على: فالنصحية لكم».
النصيحية تعني الخلوص ومن هنا يصطلح على العسل الخالص بالناصح.
كما وردت بمعنى الخياطة، ولذلك يطلق الناصح على الخياط، ثم اطلقت على كل عمل خير خالص خال من الغل والغش.
وتستعمل هذه المفردة بشأن الله والنبي والقرآن وأفراد الاُمّة والإمام والأمّة، حيث تتمتع بالإشارة إلى أحد مصاديقها الواسعة حسب مقتضى الحال ومورد الاستعمال.
وقد ورد في بعض المصادر اللغوية أنّ النصيحة تشتمل على معان متفرقة، فمثلاً النصيحة لله تعني الاعتقاد بوحدانيته واخلاص النيّة له في العبادة ونصرة الحق، والنصحية للقرآن تعني التصديق به والعمل بأحكامه والدفاع عن آياته، تجاه تأويل الجهلاء وتحريف الغلاة، والنصحية للنبي هى التصديق بنبوته ورسالته وطاعة أوامره.
ومن هنا يبدو أنّ المراد بالنصيحة في العبارة العمل من أجل الارتقاء بالجوانب المادية والمعنوية للاُمّة من خلال البرامج والمشاريع الصحيحية، حيث تشكل هذه المشاريع الخطوة الاولى لتحقيق خير الاُمّة، وعليه فلابدّ أن يكون للإمام والولي والزعيم مشروعاً صحيحاً وجامعاً يتضمن تأمين المصالح المادية والمعنوية لأفراد الاُمّة ويأخذ بايديهم إلى الكمال المنشود.
والحق إن هذه المسألة لمن المسائد الحيوية المهمّة في عالمنا المعاصر والتي تحظى بأهمية فائقة، حيث يعتقد أغلب العلماء والمنكرين أن العراقيل التي تنطوي عليها المسيرة الاجتماعية إنّما أفرزتها بالدرجة الأساس مشكلة عدم وجود المشاريع والخطط الصحيحة.
ثم يشير (عليه السلام) إلى الحق الثاني ـ ذات الصلة بالجانب الاقتصادي ـ فيقول «وتوفير فيئكم عليكم.»
فالعدالة الاجتماعية في المجال الاقتصادي تعد من أهم مشاكل المجتمعات البشرية، فأغلب الحروب والنزاعات الدموية ومعظم المفاسد الاجتماعية إنّما تعزى إلى تغييب العدالة الاجتماعية.
ومن هنا فانّ إعادة الأمن والسلام والنظام والاستقرار والوقوف بوجه المفاسد الاخلاقية ومختلف الانحرافات إنّما تتطلب بادىء ذي بدء إحياء العدالة الاجتماعية وتفعيلها في المجتمع.
وإستناد إلى أنّ المفردة «فيء» حسب أرباب اللغة أنّها العودة والرجوع إلى حالة الخير
والاحسان، فانّها تطلق إيضاً على الظل حين يرجع من طرف الغرب إلى الشرق.
وتطلق هذه المفردة في الآيات القرآنية والاحاديث النبوية على الأموال التي تصل المسلمين من الكفار، فقد تطلق على الأموال التي تصل دون القتال، وحتى على مثل هذه الأموال والانفال التي تعني الثروات الطبيعية للحكومة الإسلامية التي ليست لها ملكية شخصية.
والفيئ في العبارات المذكورة تعني جميع أموال بيت المال، فقوله (عليه السلام) توفير فيئكم تعني أنّ وظيفة الحاكم الإسلامي تعني إداء الأموال العامة إلى المحتاجين والمعوزين وأصحاب الحق، أي تنظيم الاُمور الاقتصادية والمعاشية للاُمّة أما الحق الثالث الذي أشار إليه الإمام (عليه السلام)فيرتبط بالتعليم والشؤون الثقافية «وتعليمكم كيلا تجهلوا».
نعم فالإمام لابدّ أن يعتمد الاسلوب التعليمي الصحيح ويهب لمكافحة الجهل والاُمية ويرفع المستوى الثقافي لدى الناس ويستأصل جذور الجهل التي تقود الاُمّة إلى التخلف والانحطاط. وأمّا الحق الرابع والأخير فهو «وتأديبكم كيما تعلموا».
فالواقع أنّ الإمام (عليه السلام) أوجز الحقوق المهمّة للاُمة في أربع هى:
1ـ المشاريع والخطط الصحيحة
2ـ العدالة الاجتماعية في المجال الاقتصادي
3ـ التعليم
4ـ التربية والتهذيب والقضاء على الفساد الاخلاقي
جدير بالذكر أنّ الإمام عبر عن الحق الثالث بقوله «وتعليمكم كيلا تجهلوا» والحق الرابع «وتأديبكم كيما تعلموا».
والحال أنّ نتيجة التعليم هى العلم والمعرفة، بينما يقود التأديب إلى تربية الخصال الأخلاقية لا العلم والمعرفة، إلاّ أنّ مراد الإمام (عليه السلام):
لابدّ أن تقفوا على آثار الفضائل وأضرار الرذائل، لتتحلوا بالاولى وتواجهوا الثانية ـ فالحق الثالث يشير في الواقع إلى العقل النظري بينما يشير الحق الرابع إلى العقل العملي ثم تطرق الإمام (عليه السلام) إلى حقوق الإمام على الاُمّة الإسلامية وأوجزها هى الاُخرى في أربع
فقال(عليه السلام):«وأما حقي عليكم: فالوفاء بالبيعة».
والبيعة هى العهد بين الاُمّة والإمام; العهد الموثق الذي يجب العمل به، وعلى ضوء هذا العهد فانّ الإمام والحاكم لابدّ أن يأخذ بنظر الاعتبار مصالحة الاُمّة ويرسى دعائم الأمن والاستقرار ويقاتل العدو ويمهد السبيل أمام الاُمّة للسمو والتكامل، كما يجب على الاُمّة أن تشد أزره وتقف إلى جانبه وتتجنب كل ما من شأنه تشد أزره وتقف إلى جانبه وتتجنب كل ما من شأته المساس بهذا العهد والميثاق الحق الثاني الذي ذكره الإمام (عليه السلام):«والنصيحة في المشهد والمغيب» فلا يكونوا منافقين يظهرون المحبّة والاخلاص في حضوره، فان غاب عاثوا الفساد وسلكوا الخيانة.
فقد لايكون الإمام حاضراً بينهم على الدوام، إلاّ أنّ الله حاضرا لا يخفى عليه شئ ولا ينبغي أن يعيش المومن الغفلة عن هذا الأمر أمّا الحق الثالث الذي ذكره الإمام (عليه السلام):«والإجابة حين أدعوكم» فلا ينبغي أن تتعللوا ببعض الذرائع فراراً من مواكبتي، لابدّ أن تطيعوا أوامري وتقتفوا أثري، والحق الرابع والاخير «والطاعة حين آمركم» فلعل البعض يلبي دعوة الإمام، إلاّ أنّه لايطيع مايصدره من أوامر، وعليه فاجابة الدعوة لابدّ أن تكلل بطاعة الاوامر.
وبالطبع فانّ حقوق الإمام على الاُمّة إنّما تعود بالنفع مباشرة على الاُمّة، وعليه فلا ينبغي لهم أن يمنوا على الإمام، بل الإمام يمن على الاُمّة بانه يعتمد هذه الحقوق لاعادة الأمن والاستقرار إلى الاُمّة واعمار بلادها. وقد صرح بعض شرّاح نهج البلاغة بأنّ هذه الحقوق المتبادلة إنّما تختص بالإمام العادل المنصوب من جانب الله سبحانه، لا لكل إمام صالح كان أم طالح، ومن هنا قال الإمام(عليه السلام): «إنّ لي عليكم حقاً»(1).
لكن يبدو أنّ عبارة الإمام شاملة عامة وهذا ما يفهم من قوله (عليه السلام)«لابدّ الناس من أمير بر أو فاجر»(2) فكل من تزعم أمور المجتمع وأراد أن ينهض بالاُمّة لابدّ أن يحترم الحقوق الأربع التي ينبغي أن تتمتع بها الاُمّة والتي أشار إليها الإمام (عليه السلام) ويبدو أن العقل والمنطق يرشد إلى ما أورده الإمام (عليه السلام) في الخطبة.
1. مفتاح السعادة 6 / 84 ـ 85 .
2. نهج البلاغة، الخطبة 40.
إنّ الحكومة رابطة بين الإمام والاُمّة على غرار رابطة الرأس بالجسد، حيث يتعذر القيام بالوظائف دون تظافر جميع الجهود، بعبارة اُخرى فانّ أولياء الله في الوقت الذي يكوتون فيه خلفاء الله في الخلق، فهم خلفاء الاُمّة من أجل ضمان مصالحها، ومن هنا كانت الحقوق المتبادلة بين الإمام والاُمّة من أثقل الحقوق وأعظمها.
وقد وردت الأبحاث المسهبة في الروايات بشأن هذه الحقوق، والتي تفيد مدى إهتمام الإسلام بهذا الموضوع الحيوي.
فقد افرد المرحوم الكليني باباً في المجلد الأول من كتابه أصول الكافي بهذا الخصوص وقد نقل أول حديث فيه عن أبي حمزة انه سأل الإمام الباقر (عليه السلام): «ما حق الإمام على الناس»؟
قال (عليه السلام):«حقه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوه» قال فقلت له: «وما حقهم عليه».
قال: «يقسم بينهم بالسوية ويعدل في الرعية».
ولا يستبعد أن تكون الجملة الاولى إشارة إلى المسائل الاقتصادية والثانية إلى القضايا الاجتماعية والسياسية. ثم قال (عليه السلام)آخر الحديث:«فاذا كان ذاك في الناس فلا يبالي من أخذ هاهنا وهاهنا»(1) في إشارة إلى أنّ الناس على كل حال إنّما يحصلون على حقهم. سواء كان مصداقه هنا أم هناك.
حقاً أن سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) انموذج مهم لابدّ من اعتماده كقدوة في الحكومة الإسلامية. فقد كان (عليه السلام) شديداً في أمر العدالة حتى وقف نفسه وضحى بها من أجلها. قال ابن أبي الحديد :
روى على بن محمد بن أبي يوسف المدائّني عن فضيل بن الجْعد، قال: آكدُ الأسباب في تقاعد العرب عن أميرالمؤمنين عليه السلام أمْر المال، فإنّه لم يكُنْ يُفَضِّلُ شريفاً على مشروف، ولا عربيّاً على عَجَمىّ، ولا يُصانع الرؤساء وأمراء القبائل، كما يصنع الملوك، ولا يستميلُ أحداً إلى نفسه. وكان معاوية بخلاف ذلك، فترك الناس علياً والتحقوا بمعاوية; فشكى على
1. اصول الكافى 1 / 405.
عليه السلام إلى الأشتر تخاذُلَ أصحابه، وفرار بعضهم إلى معاوية، فقال الأشتر: يا أميرالمؤمنين; إنا قاتلنا أهل البَصْرة بأهلِ البصرة وأهل الكوفة، ورأي الناس واحد، وقد اختلفوا بعد، و وضعفت النيّة، وقلً العدد، وأنت تأخُذُهم بالعدل، وتعمل فيهم بالحق، وتُنْصِف الوضيع من الشريف; فليس للشريف عندك فَضْلُ منزلة على الوضيع، فضجّت طائفة ممّن معك من الحقّ إذ عُمُّوا به، واغتمُّوامن العدل إذ صاروا فيه، ورأوا صنائعَ معاوية عند أهل الغَناء والشرف، فتاقَتْ أنفُس النّاس إلى الدنيا، وقَلّ مَنْ ليس للدنيا بصاحب، وأكثرهم يَجْتوي الحقّ ويشتري الباطل، ويؤثر الدنيا، فإن تَبْذُلِ المال يا أميرَالمؤمنين تَمِلْ إليك أعناقُ الرجال، وتَصْف نصيحتُهم لك، وتَسْتَخْلِصْ وُدّهم; صنع اللّه لك يا أميرالمؤمنين! وكَبتَ أعداءك، وفضّ جمعهم، أوهن كيدَهم، وشَتّت أمورَهم، إنّه بما يعملون خبير.
فقال عليّ عليه السلام: أمّا ما ذكرت من عَمَلنا وسِيرتنا بالعَدْل; فإنّ اللّه عزّوجلّ يقول: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ); وأنا من أن أكون مُقَصِّراً فيما ذكرتَ أخْوَفُ.
وأما ما ذكرت من أنً الحق ثَقُل عليهم ففارقونا لذلك، فقد علم اللّه أنّهم لم يُفارقونا من جَوْر، ولا لجُاوا إذ فارقونا إلى عَدْل، ولم يلتمسوا إلاّ دنيا زائلة عنهم كان قد فارقوها; وَلَيُسْأَلُنَّ يوم القيامة: أللدنيا أرادوا أم للّه عملوا؟
وأمّا مَا ذكرْتَ من بَذْل الأموال واصطناع الرجال; فإنّه لا يَسَعُنا أن نؤتيَ أمراً من الفىء أكثرَ من حقّه، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى وقوله الحق: (كَمْ مِنْ فِئَة قَلِـيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِـيرَةً بِإِذنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ)، وقد بعث اللّه محمّدا صلى اللّه عليه وحْدَه; فكثّره بعد القلة، وأعَزَّ فئته بعد الذِّلَّة; وإِنْ يُرِدِ اللّه أنْ يولِيَنا هذا الأمرَ يذلّل لنا صَعْبَه، ويُسِهِّل لنا حَزْنه، وأنا قابل من رأيك ما كان للّه عزّوجلّ رضاً; وأنت من آمن الناس عندي، وأنصحِهم لي، أوْثَقِهم في نفسي إنْ شاء اللّه.
عادة ما يحدث تعارض بين الحق والمصلحة ليكون أحدهما مقابل الآخر. وغالباً ما يميل
ساسة الدنيا في هذه الحالة إلى المصلحة ويقدمونها على الحق. والتأريخ مليىء بنماذج هذا التعارض وما أكثره في عصرنا الراهن حيث نشاهده كل يوم ـ أما أولياء الله والقادة الربانيين فهم لا يترددون في إيثار الحق. وفي مقدمتهم أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) الذي سلك الحق مع أعدائه فضلا عن أصحابه فقد قيل بأن العدل في تقسيم بيت المال حقاً لكنه لا يتفق مع المصلحة ولابد من تقديم الأشراف والأثرياء على غيرهم في مقابل الحد من سهم الضعفاء، بينما كان الإمام(عليه السلام) لا يتهاون في إجراء العدل وإن شقّ على صحبه وإنفرجوا عنه وإلتحقوا بعدوه، ولعلنا نلمس ذلك في هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلاغة. ولعل أغلب هذه المشاكل لم تكن لتظهر على السطح لو تسلم الإمام(عليه السلام) ذمام الأمور بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله) كما أمر الله ورسوله بذلك، إلا أن قضية التمييز في العطاء قد ظهرت على عهد الخلفاء وبلغت ذروتها على عهد عثمان الذي كان ينفق المال على بطانته وقرابته دون حساب، حتى طبعوا على هذه الإمتيازات فصعب إعادتهم إلى الحق وجادة الصواب. أضف إلى ذلك فإن إزدياد حجم الغنائم وكثرة أموال بيت المال هى الأخرى كانت سبباً لأن يضحي البعض كطلحة والزبير ـ وهما من السابقين إلى الإسلام وصحابة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ بالحق من أجل مصالحهم الشخصية، ومن هنا تعقدت المشاكل التي إعترضت حكومة الإمام(عليه السلام) ـ إلا أن أميرالمؤمنين(عليه السلام) ورغم علمه بظهور ما لا يحصى من المشاكل إن هو آشر الحق على المصلحة، لكنه لم يتخل عن سياسته المعهودة لعلمه بأن الهزيمة والخذلان تكمنان في إيثار المصلحة على الحق، ناهيك عن كون نفس هذا الإيثار يعني تعطيل أحد القيم الإسلامية، في حين إحياؤها ونقلها للأجيال المستقبلية يفوق أهمية تحقيق بعض الإنتصارات الوقتية ولعل هذا الأمر يشكل ردا على أكثر الأسئلة التي تطرح بشأن حكومة علي(عليه السلام) ـ وهذا ما سنتحدث عنه في حينه في الأبحاث القادمة إن شاء الله.
—–
ومن خطبة له (عليه السلام)
بعد التحكيم وما بلغه من أمر الحكمين وفيها حمد الله على بلائه، ثم بيان سبب البلوى.
«الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفادِحِ وَالْحَدَثِ الْجَلِيلِ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللّهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَيْرُهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ، وَتُعْقِبُ النَّدامَةَ. وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي، لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِير أَمْرٌ!
فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ، وَالْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ حَتَّى ارْتَابَ النّاصِحُ بِنُصْحِهِ، وَضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ، فَكُنْتُ أَنا وَإِيّاكُمْ كَما قالَ أَخُو هَوازِنَ:
أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى *** فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلاَّ ضُحَى الْغَدِ»
—–
كما ذكرنا سابقا فقد أورد الإمام(عليه السلام) هذه الخطبة بعد إنتهاء قضية التحكيم. فقد كانت نتيجة
1. وردت هذه الخطبة مع اختلاف طفيف في مروج الذهب للمسعودي والكامل لابن أثير وأنساب الأشراف للبلاذري وتاريخ الطبري والإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري وصفين لنصر بن مزاحم، كما رواها البسط بن الجوزي في تذكرة الخواص وأبوالفرج الإصفهاني في الأغاني (مصادر نهج البلاغة، 1 / 459).
التحكيم شاقة على العالم الإسلامي. وقد دلت على أن الإمام(عليه السلام) نهى عن التحكيم وحث على مواصلة القتال خشية تلك النتيجة ـ ومن هنا شدّد الإمام(عليه السلام) في ذمه لأهل الكوفة وحملهم مسؤولية تلك النتيجة بسبب تمردهم وعدم طاعتهم.
الشرح والتفسير
خطب الإمام (عليه السلام) هذه الخطبة في ظل ظروف عصيبة ومأساة عظيمة، فقد أثمرت مؤامرة معاوية وعمرو بن العاص إثر استغلال جهل أبو موسى الأشعري ومن وقف إلى جانبه، فقد تمكن ابن العاص من حسم التحكيم لصالحه، ظاناً أنّه عزل الإمام علي (عليه السلام) عن الخلافة ونصب معاوية مكانه!
طبعاً الإمام (عليه السلام) كان قد شعر ببالغ الآسى والحزن لأنّه تكهن بهذه النتيجة وقد أطلع أهل الكوفة عليها، إلاّ أنّ الجهل والعصبية والأنانية والتخاذل حال دون الاتعاظ بإرشادات الإمام (عليه السلام) ومواعظه الحكيمة.
على كل حال إستهل الإمام (عليه السلام) الخطبة ـ كما درج عليه في سائر الخطب ـ بحمد الله والثناء عليه، الحمد والثناء الذي يستبطن نكهة خاصة، فقد أورده الإمام (عليه السلام)حتى في ظل هذه الحادثة الأليمة والبلاء العظيم «الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب (1) الفادح (2) والحدث الجليل».
فالطريف أنّ الإمام (عليه السلام) أولاً يحمد الله على هذه الحادثة ليعلم أنّ حمد اللّه والثناء عليه لا يقتصر على الحوادث المسرة والتوفيقات والنجاحات والفيوضات المعنوية والمادية، بل يجب حمده على كل حال في السراء والضراء والعافية والبلاء والغلبة والفشل، حتى الحوادث المريرة تشتمل على فلسفة لو سبر غورها لتبيّن أنّها جزء من النعم الإلهية.
1. «خطب» على وزن ختم العمل المهم بين الإنسان والآخرين ومن هنا يصطلح بالمخاطبة على الحوار الذي يدور بين فرد وآخر.
2. «فادح» بمعنى ثقيل ومن هنا يقال أفدحه الدين لمن أثقل كاهله.
ثانياً: أنّه ينسب هذه الحادثة المريرة إلى الدهر، ونعلم أن الدهر لايعني سوى أهله، وإلاّ فبزوغ الشمس والقمر وهطول المطر وهبوب الرياح وسائر الظواهر الطبيعية ليست على شئ حتى تخلق مثل هذه الحوادث فالناس وبفعل أعمالهم الشائنة هم الذين يكونون السبب لمثل هذه الحوادث!
ولا شك إنّ هذه الحادثة لم تكن لتقع لوطاع أهل العراق الإمام (عليه السلام)والتفتوا إلى تحذيراته واتعظوا بنصائحه. والمراد بالخطبب الفادح قضية التحكيم التي جرت الويلات على العالم الإسلامي.
صحيح أنّ قضية التحكيم ـ كما سيمر علينا في البحث القادم ـ لم تغير من حقيقة الأمر شيئاً، الا أنّها كانت ذريعة كبرى لمعاوية ورهطه من أجل إغواء الجهال وتحريف الأفكار، كما أدت إلى ظهور البدع في العالم الإسلامي.
وقوله(عليه السلام) «حدث جليل» هو تأكيد آخر لاثار السوء لتلك البدعة المشؤومة.
ثم يردف (عليه السلام) الحمد والثناء بالشهادة لله بالوحدانية ولمحمد (صلى الله عليه وآله)بالعبودية والنبوة «وأشهد أن لا اله إلاّ الله لا شريك له، ليس معه إله غيره، وأنّ محمّداً عبده ورسوله» فالاتيان بالشهادتين في مطلع الخطبة وأن تضمن التأكيد من جديد على لزوم تقوية دعائم التكامل الإنساني وإحياء الاصول العقائدية الإسلامية، إلاّ أن يشير إلى قضية الحكمين، وذلك أن الاُمّة قد جاوزت أصل التوحيد واتجهت صوب أفعال الشرك وتجاهلت التأسي برسول الله(صلى الله عليه وآله) فاستسلمت لاهوائها.
ثم تطرق (عليه السلام) إلى الهدف الأصلي من الخطبة «أما بعد، فان معصية الناصح الشفيق العالم المجرب(1) تورث الحسرة وتعقب الندامة». فالعبارة بمنزلة الكبرى وبيان قاعدة كلية في أنّ المستشار إذا تحلى بأربع صفات فانّ مخالفته توجب الندامة والحسرة لا محالة. الاولى صفة النصح وارادة الخير ومقتضى ذلك السعي لاحقاق الحق.
الثانية القلب المفعم بالعطوفة والرأفة والحب وإرادة السعادة والخير النابعة من أعماق
1. «مجرب» على وزن محقق ممن يتمتع بمعرفة عظيمة بفعل كثرة التجارب إلاّ أنّ العرب تلفظه مجرب بالفتح على وزن مقرب.
القلب لمن يطلب الاستشارة. الثالثة العلم والوقوف على كافة جوانب الأمر وتحليل جميع الملابسات ودراسة الحوادث والنتائج المتمخضة عنها الرابعة التجربة الكافية في القضايا الفردية والاجتماعية المهمة; أي التحلي بالعقل العملي إلى جانب العقل النظري فاذا كان هنالك مثل هذا الفرد يتمتع بمثل هذه الصفات فانّه يبلغ بالإنسان واقع الأمر لا محالة، كما أنّ مخالفته لاتقود سوى إلى الحيرة والضلال والندم والخسران الذي يفرزه الجهل والغرور.
وما إنّ يفرغ الإمام (عليه السلام) من بيان الكبرى (القاعدة الكلية) حتى يتطرق إلى الصغرى والمصداق المطلوب فيقول «وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت (1) لكم مخزون رأيى، لو كان يطاع لقصير أمرا!» فقد كشف الإمام (عليه السلام) عن مخالفته لاصل التحكيم فضلا عن كيفيته والطريقة التي تم فيها.
ولقد أخيرهم عن آثار هذه القضية المشؤومة، إلاّ أنّ تعصبهم ولجاجتهم حالت دون سماعهم لرأى الإمام (عليه السلام) فاصروا على باطلهم والآن يجنون ثمار جهلهم والعبارة «لو كان يطاع لقصير أمر» مثل مشهور عند العرب، فهو قصير صاحب جذيمة، وحديثه مع جذيمة ومع الزياء مشهور فضرب المثل لكل ناصح يعصى بقصير، ويطلق على الأفراد الذين لايصغون إلى الناصح المجرب الشفيق والذي لا يعقب سوى الندم.
فالإمام (عليه السلام) يشبه نفسه بقصير وأهل الكوفة بجزيمة الجاهل ومستشاريه البلهاء، حتى وقعوا في شباك عمرو بن العاص ومعاوية. ثم قال (عليه السلام): «فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة والمنابذين(2) العصاة، حتى إرتاب الناصح بنصحه، وضن(3) الزند(4) بقدحه(5)».
لقد حذرتكم من أنّ رفع المصاحف على الحراب مكر وخديعة، فقد بلغ القتال مرحلة
1. «نخلت» من مادة «نخل» بمعنى تنقية الشئى، واستعمال هذه المفردة في الخطبة تشير إلى الرأي الصائب الذي طرحه الإمام (عليه السلام) على أصحابه بشأن التحكيم.
![]() |
![]() |