3. «ضن» من مادة «ضنن» بمعنى البخل والامساك.

4. «زند» بمعنى الخشب الذي يشعلون به النار (حيث كانوا يولدون النار سابقا بضرب خشبتين ببعضهما، ثم اطلق على كل وسيلة لاشعال النار ومنه الزناد.).

5. «قدح» ومنه القداحة ما يخرج منه النار.

[ 231 ]

خطيرة وأو شك على نهايته وقد لاحت بوادر النصر، إلاّ أنّكم لم تسمعوا كلامي وتركتم القتال وإذ عنتم للتحكيم. وقد قلت لكم إن كان ولابدّ فابعثوا ابن عباس حكما، فلم تقبلوا، ثم أشرت عليكم بما لك الأشتر فلم تستجيبوا وأبيتم إلاّ أبي موسى الأشعري الاحمق الجاهل الذي لايقوى على ابن العاص فلم تكن النتيجة سوى خيبتكم وخسرانكم وندمكم(1).

والعبارة «المخالفين الجهاة» ان مخالفتكم لي لم تقتصر على سوء تشخيصكم، بل كان ذلك بدافع من جفائكم وعصيانكم وطغيانكم. وقد أكد هذا المعنى بقوله «المنابذين العصاة».

وأمّا قوله «ضمن الزند بقدحه» فهو مثل أيضاً يقال لمن يكف عن الافصاح بالحقايق لعدم وجود من يسمع، فقد إراد (عليه السلام) خالفتموني حتى ظننت أنّ النصح الذي نصحتكم به غير نصح، لا طباقكم واجماعكم على خلافي، وتعني العبارة الأخيرة أنّه لم يقدح لي بعد ذلك رأي صالح لشدة ما لقيت منكم من الاباء والخلاف والعصيان. ثم قال (عليه السلام) فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى *** فلم تستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد

وأخو هوازن صاحب الشعر هو دريد بن الصمة، وأبياته مذكورة في الحماسة. وكان من خير هذا الشعر أنّ عبدالله وهو اسم أخر لعارض وهو أخو دريد ـ كان أسود إخوته، فغزا ببني جشم وبني نصر إبني معاوية بن بكر بن هوازن; وغنم مالاً عظيماً بمنعرج اللوى ; فمنعه دريد عن اللبث، وقال: إنّ غطفان ليست بغافلة عنا، فحلف أنّه لايريم حتى يقسم، وأوقعوا بعبدالله وقتلوه فهرب دريد بعد أن نجى منهم، فانشد هذا البيت الذي إستشهد به الإمام (عليه السلام)في الخطبة(2).

 

 


1. راجع مروج الذهب 2 /290 وسترد بعض الايضاحات لهذه الخطبة لاحقاً.

2. الاغاني لابى الفرج الاصفهانى 10 /3، شرح نهج البلاغة للعلاّمة الخوئي 4 /88 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 205.

[ 232 ]

تأمّلان

1ـ قصة التحكيم

إن الذي دعا إليه طلب أهل الشام له وإعتصامهم به من سيوف أهل العراق، فقد كانت أمارات القهر والغلبة لاحت، ودلائل النصر والظفر وضحت. وفي هذه الأثناء رفع أهل الشام المصاحف على الرماح. فسأل مالك الإمام(عليه السلام) مواصلة القتال. فقام الأشعث بن قيس مغضباً فقال: يا أميرالمؤمنين أجب القوم إلى كتاب الله فإنك أحق به منهم، وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال ـ فقال(عليه السلام): هذا أمر ينظر فيه.

فنادى الناس من كل جانب: الموادعة. فقال(عليه السلام): أيها الناس إني أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وصحبهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغاراً ورجالا، فكانوا شر صغار وشر رجال، ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل، إنهم ما رفعوها أنهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحق مقطعه، ولم يبق إلا أن يقطع داير الذين ظلموا. فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفا مقنعين في الحديد، شاكي سيوفهم على عواتقهم وقد اسودت جباههم من السجود فنادوه باسمه لا بأمير المؤمنين: يا علي أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم. فقال لهم: ويحكم أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب إليه. إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكني أعلمتكم أنهم قد كادوكم، وإنهم ليس العمل بالقرآن يريدون. قالوا: فإبعث إلى الأشتر ليأتينك ـ فقال الأشتهر: قل لعلي(عليه السلام)ليس هذه بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي. فارتفع وهج القوم وعلت الأصوات وقالوا لعلي(عليه السلام): والله ما نراك أمرته إلا بالقتال، فابعث إليه يأتيك وإلا فوالله إعتزلناك. فبعث له الإمام(عليه السلام) ثانية. فقال الأشتر: أبرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم. قال: ألاترى إلى الفتح. ثم أقبل الأشتر حتى إنتهى إليهم فصاح فيهم أمهلوني فواقا فإني قد أحسست بالفتح. فلم يجيبوه. فلما إنتهى الأمر إلى الحكمين قال(عليه السلام) هذا إبن عباس أوليّه ذلك فهو لابن العاص. فلم يوافق الأشعث ورهطه. فقال(عليه السلام): فإني أجعل الأشتر. فقال الأشعث:

[ 233 ]

وهل سعرّ الأرض علينا إلا الأشتر. ثم إضطر الإمام(عليه السلام) لقبول أبوموسى. فاتفق معه عمرو بن العاص على أن يخلع كل صاحبه ويدعون الناس للشورى. فتقدم أبوموسى ثم قال: أيها الناس أجمع رأيي ورأي صاحبي على خلع عليّ ومعاوية ويكون الأمر شورى بين المسلمين. فقام عمرو بن العاص وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلعه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية في الخلافة، فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.(1)

 

2ـ الاستفادة من آراء الآخرين

لاشك أنّ الشورى تشكل أحد اُسس التعاليم الإسلامية التي حظت بأهمية فائقة في الآيات القرآنية والروايات والأخبار. فالقرآن يرى أنّ المشورة من علامات الإيمان، ويجعلها في مصاف الصلاة والزكاة ـ التي تعد من أركان الإسلام ـ (والَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأُمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).(2)

كما أمر الله سبحانه صراحة باستشارة المؤمنين في الاُمور المهمة، رغم إتّصال رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالوحي وكونه العقل الكامل (وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(3) والمهم في قضية المشورة إنتخاب المستشار الذي يتحلى ببعض خصائص الصفات التي وردت في الخطبة التي نحن بصددها: «الناصح الشفيق العالم المجرب» ، والحق أنّ مخالفة الفرد الذي يتصف بهذه الصفات لا تفضي سوى إلى الحسرة والندامة.

صحيح أنّ المتعصبين في صفين لم يستشيروا الإمام (عليه السلام) إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) أبدى رأيه الذي يمثل رأي الناصح الشقيق والعالم المجرب، إلاّ أنّهم وللاِسف الشديد لم يستجيبوا لرأى الإمام(عليه السلام) وهبوا لمجابهته وهددوه بالقتل، فلم تتمخض النتيجة سوى عن ندمهم التاريخي الذي جر الويلات على العالم الإسلامي.

—–


1. إقتباس وتلخيص لما ورد في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/206 ـ 256.

2. سورة الشورى / 38

3. سورة آل عمران / 159.

[ 234 ]

[ 235 ]

 

 

الخطبة(1) 36

 

 

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

في تخويف أهل النهروان

 

«فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا النَّهَرِ، وَبِأَهْضَامِ هَذَا الْغائِطِ، عَلَى غَيْرِ بَيِّنَة مِنْ رَبِّكُمْ، وَلا سُلْطان مُبِين مَعَكُمْ: قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ الدّارُ وَاحْتَبَلَكُمُ الْمِقْدارُ. وَقَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هَذِهِ الْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِباءَ الْمُنابِذِينَ، حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَى هَوَاكُمْ وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفّاءُ الْهَامِ، سُفَهاءُ الاَْحْلامِ; وَلَمْ آتِ ـ لا أَبا لَكُمْ ـ بُجْراً وَلا أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً».

—–

 

نظرة إلى الخطبة

واضح أنّ الإمام (عليه السلام) خطب هذه الخطبة في النهروان جنب النهر في يوم القتال عام 37 هـ. وقد أشار (عليه السلام) ألى ثلاثة اُمور:

1ـ عدم خوض القتال دون قيام الدليل الشرعي والبينة من الله، وإلاّ فأنّهم يقضون على أنفسهم.


1. وردت هذه الخطبة أو بعضها مسندة أو مرسلة من قبل المؤرخين والمحدثين.

م ـ قال ابن أبي الحديد (2/283) نقلها ابن حبيب البغدادي (المتوفي عام 254).

ب ـ ابن قتيبة الدينوري في الامامة والسياسة، 1/127.

ج ـ البلاذري في أنساب الأشراف، 2/371.

ء ـ الطبري في تأريخ الرسل والملوك، 6/3377.

[ 236 ]

2ـ أنّ القوم تذرعوا بقضية التحكيم، والحال أنّ الإمام (عليه السلام) كان يرفضها منذ البداية.

3ـ أنّهم يقاتلون الإمام(عليه السلام) دون أن يصدر عنه ما يدعو لذلك من معصية، فانّ كان هنالك من خلاف فقد صدر منهم ومن بعض الأفراد، ومن الجهل تحميل الإمام(عليه السلام) مسؤولية ذلك الخلاف، وهكذا أتم عليهم الإمام(عليه السلام) الحجة.

 

الشرح والتفسير

إتمام الحجة على الخوارج

كما أشرنا سابقاً فان الإمام(عليه السلام) خطبها قبل بدأ معركة النهروان التي أفرزتها قضية التحكيم. فقد خرجت تلك الطائفة الجاهلة على الإمام بعد التحكيم لتعتبره هو المسؤول عنه، في حين كان الإمام(عليه السلام) يعارض أصل التحكيم من الأساس إلى جانب رفضه الحكم. فالواقع أنّ الخطبة إتمام الحجة عليهم. فقد إستهل خطبته بالقول «نحن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة وعنصر الرحمة ومعدن العلم والحكمة ـ نحن أفق الحجاز، بنا يلحق البطيء وإلينا يرجع التائب»(1) ثم خاطبهم قائلاً: «فانا نذير لكم أن تصبحوا صرعى(2)باثناء هذا النهر، وبأهضام(3) هذا الغائط (4) على غير بينة من ربّكم، ولا سلطان مبين معكم». فعبارة الإمام(عليه السلام)نبوءة صريحة بشأن عاقبة معركة النهروان حيث أخبرهم بأنّهم سيصرعون دون النهر، والافضع من ذلك موقفهم العسير يوم القيامة واسوداد وجوههم، حيث ليس لهم من دافع للقتال سوى العصيبة والجهل دون وجود أية بينة.

شرعية يمكنهم الاستناد إليها وعليه فهم يهلكون أنفسهم في الحياة الدنيا وليس لهم في الآخرة إلاّ النار. ثم قال(عليه السلام) «قد طوحت(5) بكم. الدار وأحتبلكم (6) المقدار» والمفردة (دار) إشارة


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 283.

2. «صرعى» جمع «صريع» من مادة «صرع» بمعنى طريح، و تعني الجنازة أو المقتول الملقى على الأرض; كما يطلق على من يسقط على الأرض في المصارعة، و من هنا يطلق مرض الصرع على من يغمى عليه و يقع على الأرض.

3. «أهضام» جمع هضم وهو المطمئن من الوادي وتعني الكسر والضغط.

4. الغائط ما سفل من الأرض والمراد هنا المنخفضات.

5. «طوحت» من مادة «طوح» بمعنى السقوط والهلكة، وإذا ورد من باب التفعيل كما ورد في الخطبة فانّه بمعنى القذف في المتاهة والمضلة.

6. «احتبل» من مادة «حبل»، أوقعكم في حباله، والمقدار القدر الإلهي.

[ 237 ]

إلى دار الدنيا أو بعبارة اُخرى الاغترار بالدنيا والعبودية لها و«احتيل» من مادة حيل بمعنى الفخ، والمراد بالمقدار حسب بعض شرّاح نهج البلاغة الفكر الخاطىء والتحليل العبثي لمختلف الحوادث، وقال البعض الآخر تعني القدر الإلهي. وإذا تأملنا تأريخ الحادثة سيتضح لدينا الأثر البالغ الذي لعبه كلام الإمام (عليه السلام) في هذه الطائفة، فقد كانت طائفة متعصبة لجوجة جاهلة هزيلة. ثم أشار (عليه السلام) إلى قضية التحكيم فقال «وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فابيتم علي إباء المخالفين المنابذين، حتى صرفت رأبي إلى هواكم»إنكم لتحملوني مسؤولية عمل أنتم إرتكبتموه، بل أبعد من ذلك جعلتم تهددوني بالقتل على قبوله، والآن بعد أن تبيّن لكم فداحة خطأ العمل تحاولون إلقاء تبعته علىَّ «وأنتم معاشر أخفاء الهام(1) سفهاء الأحلام». يمكن أن تكون هذه العبارة تأكيد لسفاهة وبلاهة أصحاب النهروان.

كما يمكن أن تكون العبارد السابقة ـ كما ذكر ذلك بعض شرّاح نهج البلاغة ـ إشارة إلى خفة أهل النهروان الذين تتغير أفكارهم وحركتهم لأدنى شي، فهم يتعصبون يوماً للتحكيم، وآخر يعادونه أشد العداء، أمّا العبارة الأخيرة فهى تشير إلى ضحالة فكرهم، وذلك لأن مؤامرات العدو كانت تتكشف يوماً بعد آخر ولم تكن خافية على أهل البصائر إلاّ أنّهم لم يكونوا يرونها أو يدركونها; الأمر الذي جعلهم يخدعون أكثر من مرة بحيل معاوية وبطانته، فيرتكبون ما يؤدي إلى بؤسهم وشقائهم وجر الويلات والمصائب على المسلمين. ثم يختتم الإمام(عليه السلام)خطبته بالتأكيد على هذه الحقيقة بأنّ كل ما يصيبكم من بلاء ممّا إرتكبته أيديكم ولست طرفا فيه أبداً، بل خالفتموني وشهرتم سيوفكم لتهددوني بالقتل «ولم آت ـ لا أبا  لكم! ـ بجرا ولا أردت لكم ضراً». العبارة لا أبا لكم يمكن أن تكون سباً ولعناً، تشير إلى أنّكم لم تحظوا بتربية أسرية إسلامية صحيحة، ومن هنا فانّكم تفعلون الأفعال الشائنة وتنسبوها إلى الآخرين، ويمكن أن تكون دعاءا عليهم; أي أمات الله آبائكم وهى في الواقع كناية عن ذلتهم وهوانهم; لأنّ فقدان الأب في ريعان الشباب تدعو إلى الذلة والهوان.

 


1. «الهام» جمع هامة رأس الإنسان أو سائر الكائنات الحية، واخفاء الهام تغني ضعاف الفعل.

[ 238 ]

قصة التحكيم ثم ظهور أمر الخوارج

ذكرنا حين شرحنا للخطبة الشقشقية في المجلد الأول أنّ الخوارج فئة متعصبة وجاهلة قد ظهرت من بطن صفين وقضية التحكيم. فقد أقرت مسألة التحكيم (عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري) وفرضوها على الإمام(عليه السلام). ولم يصفوا إلى قول الإمام(عليه السلام) أنها خدعة ولم يبق إلا القليل على ختم فتنة أهل الشام وزعيمهم معاوية. لكنهم تدموا بعد نتيجة التحكيم وتابوا لكنهم أفرطوا هذه المرة حيث حكموا يكفر قبول التحكيم وشعارهم الحكم لله فلابد أن يتوب علي(عليه السلام) من هذه المعصيته. قال الإمام(عليه السلام) أن التحكيم ليس كفرا، فقد أشار القرآن إلى هذه المسألة في حل الخلافات العائلية «فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها» وفي كفارة الإحرام «يحكم به ذوا عدل منكم» لكن التحكيم الذي أقررتموه كان خاطئا ـ على كل حال إقتنع هؤلاء ـ وكان من بينهم بعض المتظاهرين بالعبادة والإتيان بالمستحبات ـ بقشور الإسلام وتركوا جوهره فاجتمعوا ضد أميرالمؤمنين(عليه السلام) في منطقة قرب الكوفة تدعى الحروراء قرب النهروان. فبالغ الإمام(عليه السلام) في وعظهم ونصحهم حتى عاد أكثرهم إلى رشده بينما بقي أربعة آلاف منهم فلما تثبت المعركة صرعوا جنب النهر ولم ينج منهم إلا القليل كما أخبر الإمام(عليه السلام).

وقد شهدت حياة الخوارج وسيرتهم العديد من التناقضات العجيبة ومن ذلك:

1ـ لقيهم عبدالله بن الخباب في عنقه مصحف، على حمار، ومعه إمرأته وهى حامل، فقالوا له: إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك، فقال لهم: ما أحياه القرآن فأحيوه،

وما أماته فأميتوه، فوثب رحيل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فيه، فصاحوا به، فلفظها تورعا. وعرض لرجل منهم خنزير فضربه فقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض، ثم قالوا لابن الخباب: حدثنا عن أبيك. فقال: إني سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: ستكون بعدي فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، فكن عبدالله المقتول ولا تكن القاتل ـ قالوا: فما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟ قال: إن عليا أعلم بالله وأشد توقيا على دينه وأنفذ بصيرة ـ فقالوا: إنك لست تتبع الهدى، ثم قربوه إلى شاطىء النهر فأضجعوه فذبحوه.(1)


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/281 و تأريخ الطبري 2/60 ـ 61، حوادث عام 37.

[ 239 ]

2ـ قال قيس بن سعد بن عبادة: إستنطقهم الإمام(عليه السلام) بقتل عبدالله بن الخباب فأقروا به، فقال: إنفردوا كتائب لأسمع قولكم كتيبة كتيبة. فأقرا جميعا بقتله. فقال علي(عليه السلام): «والله لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله هكذا وأنا أقدر على قتلهم به لقتلتهم».(1)

3ـ حين هجم الخوارج على جيش الإمام(عليه السلام) إلتفت إلى أصحابه فقال: والله لا ينجو منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة.

والعجيب أنه لم يقتل من أصحاب الإمام(عليه السلام) سوى تسعة ولم ينج من الخوارج إلا ثمانية.

4ـ كانت قضية الخوارج قد فعلت فعلها في الإمام(عليه السلام) وقد إنعكست سلبا على الوسط الإسلامي، فكان(عليه السلام) لا ينفك عن التحدث عنها ليبين للناس كيفية إنحرافهم فيعتبروا بهم، ولا غرو فمثل هذا التفكير السطحي المشوب بالجهل والعناد لا يخلو منه عصر ومصر. والخطب التي تحدث فيها الإمام(عليه السلام) عن الخوارج هى الخطبة: 40، 59، 60، 61، 121، 122، 127، 184، والرسالة 77، 78 والتي سنعرض لشرحها جميعا إن شاء الله.

الجدير بالذكر أن خط الخوارج ـ كما ذكرنا ـ تيار يتواجد على مدى التأريخ ولا يقتصر على عهد علي(عليه السلام) ـ فهم فئة لا تعرف من الدين سوى ظاهره ولا تعتد إلا بأفعالها وأعمالها وترى إنحراف كل من سواها وقد ملئت سيرتها بالتناقضات، فهى بلاء وآفة تصيب المجتمع. والغريب في الأمر أن الإمام(عليه السلام) أشار إلى هذه الفئة كظاهرة فوصفهم في الخطبة 60 قائلا: «كلا والله، إنهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء كلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين.

—–


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/271 ـ 282.

[ 240 ]

[ 241 ]

 

 

الخطبة(1) 37

 

 

 

ومن كلام له (عليه السلام)

 

يجري مَجرى الخطبة وفيه يذكر فضائله(عليه السلام) قاله بعد وقعة النَّهروان.

 

نظرة إلى الخطبة

بناءً على ما ذكره ابن أبي الحديد فانّ هذه الخطبة تشتمل على أربعة فصول لا يمتزج بعضها ببعض:

الفصل الأول: يشير فيه الإمام(عليه السلام) إلى خدماته الجليلة التي أسداها للإسلام إبان انبثاق الدعوة الإسلامية فقد أوجز ذلك بقوله: «فقد قمت بالأمر حين فشلوا وتطلعت حين تقبعوا ونطقت حين تعتعوا ومضيت بنور الله حين وقفوا، كالجبل لا تحركه القواصف ولا تزيله العواصف. لم يكن لأحد في مهمز ولا لقائل في مغمز».


1. قال صاحب مصادر نهج البلاغة هذه من الخطب المعروفة التي رواها أغلب العلماء والمحدثين الذين عاشوا قبل السيد الرضي(ره) ومنهم:

1 ـ الجاحظ في البيان والتبيين 1 / 170.

2 ـ ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة 1 / 150.

3 ـ ابن عبد ربة في العقد الفريد 4 / 71.

4 ـ البلاذري في كتاب أنساب الأشراف (في شرح سيرة علي (عليه السلام)) / 380.

5 ـ القاضي نعمان المصري في دعائم الإسلام 1 / 391 (مع اختلاف وما ورد في النهج وقال الشارح الخوئي يستفاد من بحار الأنوار والإحتجاج والإرشاد أنّ هذه الخطبة جزء من الخطبة 27 (شرح نهج البلاغة، الخوئي 4 / 21).

[ 242 ]

الفصل الثاني يشير إلى وقوفه الصلب على الدوام بوجه الظلمة من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل.

الفصل الثالث يشير إلى إستحالة الكذب عليم لأنه أول من صدق بالنبي (صلى الله عليه وآله) وعليه فلا ينبعي أن يستسرب الشك إلى إخباره عن المغيبات التي أخبره بها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

الفصل الرابع يختتم الخطبة بعذره في البيعة لمن سبقه من الخلفاء، وأنّه فعل ذلك طاعة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وخشية الفرقة والتشتت في صفوف المسلمين واستغلال ذلك من قبل خصوم الدعوة الإسلامية.

—–

[ 243 ]

 

 

القسم الأول

 

«فَقُمْتُ بِالاَْمْرِ حِينَ فَشِلُوا وَتَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا وَنَطَقْتُ حِينَ تَعْتَعُوا وَمَضَيْتُ بِنُورِ اللّهِ حِينَ وَقَفُوا ـ وَكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وَأَعْلاهُمْ فَوْتاً فَطِرْتُ بِعِنانِها وَاسْتَبْدَدْتُ بِرِهانِها، كالْجَبَلِ لا تُحَرِّكُهُ الْقَواصِفُ وَلا تُزِيلُهُ الْعَواصِفُ. لَمْ يَكُنْ لاَِحَد فِيَّ مَهْمَزٌ وَلا لِقائِل فِيَّ مَغْمَزٌ».

—–

 

الشرح والتفسير

الصمود أمام العواصف

ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ الفصل الأول من الخطبة يتضمن ذكر الإمام (عليه السلام)لمقاماته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيام أحداث عثمان، وكون المهاجرين والأنصار كلهم لم ينكروا ولم يواجهوا عثمان بما كان يواجهه به وينهاه عنه إلاّ أنّ سياق الكلام يشير إلى الحوادث التي وقعت على عهد النبي (صلى الله عليه وآله)ولا سيما في بداية انطلاق الدعوة الإسلامية. فقال (عليه السلام)«فقمت بالأمر حين فشلوا وتطلعت(1) حين تقبعوا(2) ونطقت حين تعتعوا(3) ومضيت بنور الله حين وقفوا. وكنت أخفضهم صوتاً وأعلاهم فوتاً(4)» ثم أضاف (عليه السلام) أنّه تألق تلك المدة وحاز السبق على الآخرين «فطرت بعنانها واستبددت برهانها(5)، كالجبل لا تحركه


1. «تطلعت» من مادة «طلع» بمعنى مد العنق بحثا عن شي، وأصلها طلوع بمعنى الظهور والبروز.

2. «تقبعوا» من مادة «قبع» بمعنى الاختباء، وأصله تقبع القنفذ إذا أدخل رأسه في جلده.

3. «تعتعوا» من مادة «عتع» بمعنى تلعثم اللسان، والمراد ترددوا في كلامهم.

4. فوت تعني فقدان الشي، وتطلق على التفاوت بين شيئين وابتعاد هما عن بعضهما بحيث لا يدرك أحد هما الآخر، ومن هنا تطلق هذه المفردة على من يسبق الآخرين، وهذا هو الذي اريد بها في العبارة.

5. «الرهان» من مادة «رهن» بمعنى جعل الشي عند الاخر، ومن هنا يطلق الرهن على وثيقة الدين، كما يطلق الرهان على جوائز المسابقات، والمراد بقوله «استبددت برهانها» إنفردت بجائزة هذه المسابقة الإلهية.

[ 244 ]

القواصف ولا تزيله العواصف، لم يكن لأحد فىّ مهمز(1) ولا لقائل في مغمز(2)».

فقد أشار الإمام(عليه السلام) إلى أربعة اُمور هى: ـ

الأول: أنّ الآخرين كانوا آنذاك يعانون من الضعف والعجز، وأنا الذي نهضت بالأمر وقمت بوظيفتي.

الثاني: أنّ الخوف دفع الآخرين آنذاك لأن يقبعوا في جحورهم وأنا الذي إنبريت للأمر وكنت أتطلع إلى العدو.

الثالث: أنا الذي نطق لساني بالحق وبيان الحقائق الدينية والتعاليم الإسلامية حين عجز الآخرون عن الكلام.

الرابع: لم يعتريني الشك آنذاك كما إعترى الآخرين فواصلت سبيلي على هدي من ربي ونور إيماني ويقيني بالوحي.

ورغم كل ما تقدم لم أكن لأتفاخر على أحد «كنت أخفضهم صوتاً» ثم يخلص(عليه السلام)من كل ذلك إلى نتيجة مؤداها «فطرت بعنانها واستددت برهانها». ثم يعود(عليه السلام)للتأكيد على ما مضى من حوادث وكيف واجهها فقال «كالجبل لا تحركه القواصف ولا تزيله العواصف» مع ذلك فقد خضت ما خضت و«لم يكن لأحد فىّ مهمز ولا لقائل فىّ مغمز».

كما أوردنا آنفا فانّ المراد بهذه العبارات ما حدث في بداية إنبثاق الدعوة الإسلامية; لأننا نعلم جميعاً بانّ علياً (عليه السلام) كان أول من أسلم حين كان الإسلام غريباً ولم يكن هناك من يهب للدفاع عن الإسلام والقرآن والنبي(صلى الله عليه وآله) ; المعنى الذي يلمس بوضوح في يوم الدار حين انطلقت الدعوة الإسلامية للعلن بعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية.

ولم يجب النبي (صلى الله عليه وآله) ويعلن دعمه له ووقوفه إلى جانبه سوى علي (عليه السلام) وفي ليلة المبيت نام على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) لينجو من مؤامرة قريش التي استهدفت قتله، ناهيك عن فتح خيبر حين عجز الآخرون، وبروزه لعمرو بن عبدود العامري في الأحزاب حين لم يكن غيره من انبرى لقتاله.


1. لم يكن في مهمز من الهمز يعني لم يكن في عيب أعاب به.

2. «الغمز» بمعنى الطعن والغماز من يبحث عن العيوب ويطعن بالناس، وهذا هو المراد بالعبارة.

[ 245 ]

كما يحتمل أن يكون المراد بالقيام بالأمر والجمل اللاحقة الدفاع عن الإسلام على عهد الخلفاء، لانّ أغلب المورخين المسلمين يقرون بان علياً (عليه السلام) كان المفزع في حل المشاكل والمعضلات التي تواجه المسلمين.

فقد وردت العبارة المعروفة عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب «اللّهم لا تبقني لمعضلة ليس لها أبو الحسن»(1).

أو ما تناقلته كتب الفريقين والتي تؤكد هذا المعنى، حتى صرح بعض أرباب اللغة أنّ العبارة «مشكلة ليس لها أبو الحسن» أصبحت مثلاً لدى العرب. وهنالك إحتمال ثالث في أن يكون المراد قيامه (عليه السلام)بأمر الخلافة بعد انهيار حكومة عثمان وإثر تلك العواصف التي عصفت بالمسلمين بعد مقتل الخليفة الثالث، فقد تصدعت آنذاك عرى المجتمع الإسلامي، وقد تأهبت عناصر النفاق ومن تبقي من أسلاف الجاهلية ومشركي العرب، فلم يكن للاُمّة من أمل سوى علي (عليه السلام)، أجل لقد نهض الإمام (عليه السلام) بالامر في ظل تلك الظروف وحفظ وحدة المسلمين.

أما قوله «كنت أخفضهم صوتاً» فلعله إشارة إلى تواضع الإمام (عليه السلام) إلى جانب كل تلك الانتصارات والنجاحات، أو إشارة إلى أن الإمام (عليه السلام) لم يكن من أهل التظاهر وإثارة الصخب والضوضاء فهذه معاني الأفراد الضعفاء العجزة.

ومن هنا أردفها بقوله «وأعلاهم فوتا» التي تعني السبق على الآخرين، السبق في الإيمان والهجرة، والسبق بالجهاد والقتال، وأخيرا السبق في كافة الفضائل الأخلاقية.

وقوله (عليه السلام)«فطرت بعنانها واستبددت برهانها» هو الآخر تأكيد لهذا الأمر، ولا سيما أن فاء التفريع وردت في البداية كنتيجة للبرامج السابقة، أي أنّي ركبت مركب النصر وسبقت الآخرين، وذلك لانّي لم أشعر بالضعف طرفة عين ولم أهب الحوادث المرعية وأفقد الفرص المواتية، ومع ذلك لم أثير أية ضجة أو صخب وضوضاء.

ثم يشبه نفسه (عليه السلام) بالجبل العظيم الذي لا تحركه القواصف ولا تزيله العواصف. والطريف في الأمر أن الإمام (عليه السلام) ذكر القواصف ثم أردفها بالعواصف، وذلك لان القواصف تعني الرياح


1. ورد هذا الحديث بعدة تعبيرات في أغلب مصادر العامة، ومن أراد الوقوف على المزيد فليراجع الغدير 3 /97.

[ 246 ]

العاتية الكاسرة، والعواصف الرياح السريعة الجارفة، في اشارة إلى أنّ الحادثة كانت من الشدة بحيث تقضي على الإنسان في موضعه، وأحيانا تكون أكثر شدة فتجرفه كما تجرف أوراق الشجر وتقذف به في مكان سحيق.

ثم قال (عليه السلام): «ولم يكن لأحد في مهمز ولا لقائل في مغمز». فالمعروف أنّ من يعمل يخطي ومن يرد الميدان الاجتماعى ويمارس الأنشطة والفعاليات فانّه يتعرض إلى بعض الانتقادات من هنا وهناك، فما ظنك بالإمام(عليه السلام) الذي كان سباقاً في كل الميادين. وبالطبع فانّ العيوب والمطاعن في غيره لم تحص رغم ندرة إقتحامه للميدان الاجتماعى.(1)

—–


1. لقد أوردنا توضيحات مسهبة بهذا الشأن في شرح الخطبة الشقشقية.

[ 247 ]

 

 

القسم الثاني

 

«الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ، رَضِينا عَنِ اللّهِ قَضاءَهُ وَسَلَّمْنا لِلَّهِ أَمْرَهُ».

—–

 

الشرح والتفسير

القوي عندي ضعيف

لما كانت عدالة الإمام (عليه السلام) هى السبب الذي يقف وراء أغلب الحوادث الأليمة والحروب الدامية، واعتياد الناس لسنوات على الظلم والجور والاضطهاد على عهد الخلفاء الثلاث ولاسيما عصر عثمان، فانّهم لم يكونوا مستعدين بهذه السهولة لقبول منطق المساواة أمام القانون وفي العطاء من بيت المال.

فالإمام (عليه السلام) يؤكد في هذه الخطبة أنّي سأواصل سيرتي في العدل وإحقاق الحق وانتزاعه من القوي، بل هذا هو هدفي من الحكومة، وبناءً عليه فالقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه والضعيف قوي حتى آخذ الحق له «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه» ومن هنا كان لاينفك (عليه السلام) عن تأكيده على الحديث المعروف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي ضمنه عهده إلى مالك بعد أن أوصاه قائلا: واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه للّه الذي خلقك... فقد سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول لن تقدس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متتعتع».(1)


1. نهج البلاغة، الرسالة 53.

[ 248 ]