1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 / 215 (بتلخيص).

2. تاريخ الطبري 3/477 (دار الاعلمي للنشر).

3. الكامل لابن اثير 3/206 (دار صادر للنشر).

[ 184 ]

وقد ذكر البخاري في صحيحه حسد عائشة لخديجة.(1)

ومعروفة هى قصة كلاب الحوئب التي بلغتها عائشة فنبحتها فقررت الرجوع بعد أن ذكرت الخبر، فلفقوا لها خميبن اعرابيا ان هذا ليس بماء الحوأب.(2)

توفيت عائشة في المدينة في 10 شوال عام 57 أو 59 فصلى عليها أبوهريرة ودفنت في البقيع.

—–


1. صحيح البخاري 5/47، ورد هذا الحديث في باب تزويج خديجة وفضائلها.

2. ذكره ابن أبي الحديد 6/225 والعلامة الاميني في الغدير 3/188 عن كتب العامة.

[ 185 ]

 

 

الخطبة(1) 81

 

 

 

ومن كلام له (عليه السلام)

 

في الزهد

 

نظرة إلى الخطبة

يخوض الإمام(عليه السلام) بادئ ذي بدء في هذه الخطبة في الزهد ليقدم بشأنه تعريفاً جامعاً رائعاً بثلاث عبارات قصيرة، ثم يوصي من يرى نفسه عاجزا عن بلوغ هذه الحقيقة بالورع عن المحرمات وشكر النعم، فقد أتم اللّه حجته بالدلائل والبراهين الساطعة.

 

—–

 


1. سند الخطبة: روى صدر هذا الكلام ـ قبل الرضي ـ الصدوق في معاني الأخبار وفي الخصال، وروى آخر الكلام البرقي في المحاسن بتفاوت، ورواه بعد الرضي صاحب غررالحكم بتفاوت يسير جداً، والقتال في روضة الواعظين ونقله عنه الطبرسي في مشكاة الانوار. (مصادر نهج البلاغة 2/88 ـ 89).

[ 186 ]

[ 187 ]

 

 

 

«أَيُّها النّاسُ الزَّهادَةُ قِصَرُ الاَْمَلِ والشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ والتَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحارِمِ فَإِنْ عَزَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلا يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ ولا تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ فَقَدْ أَعْذَرَ اللّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَج مُسْفِرَة ظاهِرَة وكُتُب بارِزَةِ الْعُذْرِ واضِحَة».

—–

 

الشرح والتفسير

حقيقة الزهد

أشار الإمام(عليه السلام) إلى حقيقة الزهد فقال: «أيّها الناس، الزهادة(1) قصر الأمل، والشكر عند النعم، والتورع عند المحارم».

فعباراته(عليه السلام) ا لثلاث بشأن الزهد تشكل الرد على التفاسير الخاطئة الواردة بهذا الخصوص، وما أكثر الأفراد الذين عجزوا عن الوقوف على معنى الزهد ويرون أنفسهم من الزاهدين. فهم يعتقدون بانّ الزهد يقتصر علياً رتداء الثياب البسيطة أو عدم ممارسة الوظائف الاجتماعية واعتزال الناس التقوقع في زاوية ومجانبة الفعاليات والأنشطة الاقتصادية، والحال ليست هذه الاُمور من الزهد في شئ. فحقيقة الزهد التي تقف بوجه الرغبة إنّما تكمن في عدم الاكتراث إلى ماديات الدنيا وزخارفها، أو بعبارة اُخرى عدم التعلق بالدنيا والاغترار بمظاهرها وإن زود بكافة الإمكانات. فمن لم يغتر بالاُمور المادية فقد جنب طول الأمل (فطول الأمل من مميزات أهل الدنيا) وشكر النعمة وهجر الذنب والمعصية، لأنّ النعم لاتشغله بنفسه وتنسيه ربه. وهناك تفسير آخر للزهد أورده الإمام(عليه السلام)في قصار كلماته، قد يبدو مختلفاً مع هذا التفسير إلاّ أنّه يتفق معه في المعنى، حيث قال(عليه السلام): «الزهد كله بين


1. «زهادة» على وزن شهادة تعنى عدم الاعتناء بزخارف الدنيا; كما تستعمل هذه المفردة بشأن الأفراد ضيقي النظر أو سيئي الخلق، إلاّ أنّ المعنى الأول هو الأشهر ومن لوازمه قصر الأمل وترك الذنوب وما شابه ذلك.

[ 188 ]

كلمتين من القرآن: قال اللّه سبحانه (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه»(1). فالعبارة تفيد أنّ حقيقة الزهد تعني ترك التبعية وقطع أغلال الأسر المرتبطة بالماضي والآتي. الركن الثاني من الأركان الثلاث الزهد قوله(عليه السلام): «والشكر عند النعم» على أنّ النعم من اللّه لامن العبد ليتعلق بالخالق ويهجر ذاته. أمّا قوله(عليه السلام): «التورع عند المحارم» فيشير إلى أنّ حب الدنيا والتعلق بها هو أساس مقارفة الذنب; الأمر الذي عبر عنه الحديث الشريف: «حب الدنيا رأس كل خطيئة»(2). وبناءاً على ما سبق فمن قصر أمله وشكر نعم ربّه وأمسك نفسه عن الذنب فهو الزاهد الحقيقي; سواء كان غنياً أم فقيراً، لأنّ الفقر ليس مقياس الزهد قط. ثم قال(عليه السلام):«فان عزب(3) ذلك عنكم، فلايغلب الحرام صبركم، ولا تنسوا عند النعم شكركم، فقد أعذر اللّه إليكم بحجج مسفرة(4) ظاهرة، وكتب بارزة العذر واضحة». فالإمام(عليه السلام) وإن أكد على
ركنين من أركان الزهد في إختتام الخطبة (ترك الذنب وشكر النعمة) إلاّ أنّ عباراته تفيد أن مراده هو أنكم إن لم تؤدوا حق النعمة في شكرها، فلا تنسوا على الأقل قضية الشكر، وإن تبلغوا مرتبة من الورع في هجر الذنوب بحيث تشمل الوقوف عند الشبهات، فلا تجعلوا الحرام يجاوز صبركم فعليكم كحد أدنى التحلي بالتقوى عند هذا الحد. أمّا ما ذكره الإمام(عليه السلام)من أسس ودعائم للزهد والتقوى فهى من الاُمور التي يجب توفرها في كل فرد، لأنّ اللّه أتم حجته وليس لأحد العذر في مخالفته. وزبدة الكلام فان ترك الذنب وشكر النعم على مرحلتين: الاولى: هى وظيفة كافة المسلمين، وهى في الواقع شرط الإيمان. والثانية: أرفع من سابقتها تنطوي على الورع والتقوى من الشبهات وقصر الامل وهذا ما يليق بالزهاد من أهل الإيمان.

 


1. نهج البلاغة، الكلمات القصار /439.

2. الكافي 2/131، ح 11.

3. «عزب» من مادة «عزوب» على وزن غروب بمعنى بعد، ومن هنا وردت بمعنى ترك الزواج، حيث يطلق عله صاحبه إسم الأعزاب.

4. «مسفرة» من مادة «سفور» على وزن قبور بمعنى الكشف وخلع الحجاب، وعليه فالعبارة تعني الأدلة التي تكشف النقاب عن الحقيقة.

[ 189 ]

تأمّل

الزاهد أمير لاأسير

لقد شحن نهج البلاغة بخطب الإمام(عليه السلام) التي تتناول مفهوم الزهد. إلى جانب ذلك فان القرآن الكريم قد تناول حقيته ومفهومه بصورة واسعة وان لم يورد هذه المفردة بكثرة. والزهد من المفاهيم التي تعرضت لها الإديان الإلهية، على أنّه يعني عدم التعلق بماديات الدنيا وحطامها، وبالطبع لايراد بالزهد حرمان الإنسان من المال والثروة والمقام والإمكانات، وإنّما يراد به عدم الانقياد والاستسلام لهذه العناصر والوقوع في أسرها، بل ينبغي له أن يكون أميراً عليها. ومن هنا نرى أنّ نبي اللّه سليمان(عليه السلام) الذي يضرب المثل بملكه وحكومته كان أميراً لا أسيرا حين رد تلك الهدايا النفيسة التي بعثت بها إليه ملكة سبأ. وقد ورد في الحديث عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لاتكون بما في يديك أوثق منك بما في يداللّه»(1). ومن هنا يتضح مدى الفارق الشاسع بين الزهد في الإسلام والرهبانية في المسيحية. فالزهد الإسلامي يعنى البساطة في الحياة والابتعاد عن التجملات وعدم الوقوع في مخالب الشهوات وأغلال الأموال والمقام، بينما تعني الرهبانية إلاّ نزواء والانعزال عن الحياة الاجتماعية. فقد ورد في الحديث أنّ عثمان بن مظعون حزن حزناً شديداً لما مات ولده واقبل على الزهد فجعل داره مسجداً وانهمك بالعبادة، فلما بلغ الخبر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)قال: يا عثمان إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يكتب علينا الرهبانية، إنّما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل اللّه.(2)

في إشارة إلى أنّك إذا أردت أن تقاطع الماديات فلا تسلك السبيل السلبي في ذلك وعليك تعقيب هذا الهدف من خلال مساره الايجابي الصحيح الذي يكمن في الجهاد ـ ثم تطرق رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إلى فضيلة صلاة الجماعة ليقف على مدى أهمية الجماعة في الإسلام ورفضه لكافة أشكال الرهبنة والعزلة. ويقابل الزهد الرغبة والتنافس على الدنيا; أي اللهث وراء الدنيا والتكالب على متاعها الذي ورد الذم عليه في الإسلام. وللزهد عدة آثار على الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان، والتي يمكن بواسطتها التعرف عليه وهى: قصر الأمل وشكر


1. كنزالعمال 3/181، ح 6059.

2. بحارالأنوار 70/114.

[ 190 ]

النعمة والورع عن المحرام وهى الأركان الثلاث التي أشارات إليها الخطبة. وهنا لابدّ من القول بأنّ الزهد لايساوي الفقر والحاجة أبدا; بل الزهد يعنى الغنى الباطني واشباع النفس بالمعنويات وترك التعلق بالماديات وعلامة ذلك مقاطعة اللذات وإجتناب التجملات. كتب أحد المفكرين المسلمين (رحمة اللّه عليه) بشأن دوافع الزهد: إنّ الزاهد يعيش حياته بمنتهى القناعة دون أي تكلّف ليقود الآخرين إلى الهدوء والسكينة، أنّه ليشعر باللذة والمتعة في أن يأكل المحتاجون ويشربون قبل أن يأكل هو ويشرب. ولعلنا نلمس هذا المعنى في ما تعارف لدى أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله):«الجار ثم الدار».

المواساة وتقاسم هموم المحرومين والمعوزين يعد الدافع الآخر من دوافع الزهد، فلماكان المجتمع على قسمين مرفه ومحروم فانّ أولياء اللّه يسعون في الدرجة الأساس إلى معالجة أوضاع المحرومين، فان لم تكن خهناك الإمكانات اللازمة، جهدواً في العيش كأدنى الطبقات المرحومة في المجتمع ليخففوا من معاناة الضعفاء ولايدعوهم يشعرون بالذلة والمسكنة بفضل ما يعانون من جشوبة العيش وخشونة الملبس، ولعل هذا هو المعنى الذي أراد أن يجسده أميرَالمؤمنين علي(عليه السلام)حين سئل عن ثوبه البالي فقال: «يخشع له القلب، وتذل به النفس، ويقتدي به المؤمنون»(1) الدافع الآخر للزهد هو الحرية والخلاص من قيد الحاجة. فالزهد والقناعة تحد من الحاجة وتؤدي بالتالي إلى النجاة من أسر الطمع والحرص على إقتناء الأشياء، من هنا يمكن القول بأنّ نفس الزهد هو الحرية. فالزاهد شجاع وعالم، ومن هنا نرى الحركا التحررية العالمية إنّما توجّه غالباً من قبل الزعماء الذين تسودهم روح الزهد.(2) ونختتم حديثنا بروايتين عن الزهد. فقد جاء في الرواية أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال لعلي(عليه السلام): «يا علي إن اللّه تعالى زينك بزينة لم يزين العباد بزينة هى أحب إليه منها: زهدك فيها وبغضها إليك وحبب إليك الفقراء، فرضيت بهم اتباعاً ورضوا بك إماماً.(3)

وجاء في الحديث وسأله إعرابي شيئاً فأمرله بألف، فقال الوكيل: من ذهب أو فضة؟ فقال: كلاهما عندي حجران، فاعط الأعرابي أنفعهما له.(4)


1. نهج البلاغة، الكلمات القصار /103.

2. إقتباس من كتاب سير في نهج البلاغة للشهيد المطهري /211.

3. بحارالأنوار 40/330، ح 13.

4. بحارالأنوار 41/32.

[ 191 ]

 

 

الخطبة(1) 82

 

 

 

ومن كلام له (عليه السلام)

 

في ذم صفة الدنيا

 

نظرة إلى الخطبة

قال المبرد في الكامل أنّ الإمام(عليه السلام) خطب هذه الخطبة حين كان يخطب فقام له رجل وقال: يا أميرَالمؤمنين صف لنا الدنيا. فقال(عليه السلام): ما أصف من دار أولها عناء، وآخرها فناء. فواصل خطبته ليصف الحياة الدنيا ومشاكلها. ومن تأمل عبارات الخطبة يمكنه أن يقف على حقائق الدنيا والمعيشة فيها، بحيث يمكن القول لم يبق الإمام(عليه السلام) من شئ في وصفه للدنيا بهذه العبارات العشر القصيرة.

—–


1. سند الخطبة: صرح صاحب مصادر نهج البلاغة قائلاً: قد تواترت عنه(عليه السلام) صفة الدنيا هذه، ومن الكتب التي رويت فيها قبل النهج، الكامل للمبرد والامالي للصدوق والمجتنى لابن دريد وتحف العقول لابن شعبة الحراني والعقد الفريد لابن عبد ربه وبعد النهج الامالي للمرتضى وتذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ومشكاة الانوار الطبرسي وغررالحكم للآمدي وكنز الفوائد للكراجكي بتفاوت. (مصادر نهج البلاغة 2/90).

[ 192 ]

[ 193 ]

 

 

 

«ما أَصِفُ مِنْ دار أَوَّلُها عَناءٌ(1)، وآخِرُها فَناءٌ فِي حَلالِها حِسابٌ وفِي حَرامِها عِقابٌ. مَنِ اسْتَغْنَى فِيها فُتِنَ، ومَنِ افْتَقَرَ فِيها حَزِنَ ومَنْ ساعاها فاتَتْهُ، ومَنْ قَعَدَ عَنْها واتَتْهُ، ومَنْ أَبْصَرَ بِها بَصَّرَتْهُ، مَنْ أَبْصَرَ إِلَيْها أَعْمَتْهُ».

—–

 

الشرح والتفسير

الدنيا وسيلة لأهدف

وصف الإمام(عليه السلام) الدنيا بعشر عبارات فصيحة بليغة، فقال في العبارة الاولى: «ما أصف من دار أولها عفاء» وقال في العبارة الثانية: «وآخرها فناء» فأدنى تأمل لحياة الإنسان في هذا العالم ليكشف أنّها مشوبة بالصعاب والمشاق، فهى تبدأ بولادته التي تحمل الألم والمعاناة للطرفين وأقصاها لأمّه، حيث يرد الوليد من وعاء مغلق إلى بيئة مفتوحة تتفاوت جذرياً عما كان عليه، إلى جانب ذلك فانّ رصيده الضعف والعجز ليس عن دفع أتفه الحشرات بل يتعذر عليه حفظ لعابه في فمه، ولا يؤمن عليه الخطر فيما ِذا أغفل عن مراقبته. ثم يجتاز مرحلة الرضاع ليواجه مشكلة الفطم فيعاني الأمرين، ثم يأخذ بالمشي شيئاً فشيئاً دون أن يكون له أدنى تجربة في الحياة والأخطار تتهدده من كل حدب وصوب، فاذا دب فيه العقل ووضع قدمه على الطريق واجه سيلاً جديداً من المشاكل فعليه أن يخوض معترك الحياة وينافس سائر الأفراد من أبناء الدنيا، وعليه أن يجد اعلم ويحظى بالزوجة ويتحمل كل ما يترتب على ذلك من الالام والمعاناة. فاذا تقدمت به السن وبلغ مرحلة الكهولة شاب الرأس وضعفت العين والاذن والقلب والعروف والعظام، نعم هذه صورة مختصرة عن حياة الإنسان تشير إلى ما


1. «عناء» بمعنى المشقة ومنها «العاني» يطلق على الأسير لماى واجه من مشقة.

[ 194 ]

يكتنفها من مشاكل وصعاب. القرآن من جانبه أشار إلى هذه الحقيقة فقال: (لَقَدْ خَلَقْنا الإِنْسانَ فِي كَبَد)(1) وكأن العناء والمشقة هى الكهف الذي يلجأ إليه الإنسان. وبالطبع لايستثنى من هذا التعب والمشقة حتى أولئك الذين يعيشون الحياة المرفهة ولكل مشاقة ومعاناته. أجل طبيعة الدنيا تتمثل بالألم والعناء ويخطئ من ظن فيها غير ذلك، ولعلنا نلمس هذه الحقيقة في الشعر الذي أنشده الشاعر المعروف أبوالحسن التهامي إثر موت ولده في شبابه حيث قال:

طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفوا من الاقذار والأكدار

ومكلف الأيّام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار

هذا بشأن عناء الدنيا، أمّا فناؤها فليس بخاف على أحد، فالفناء قد كتب فيها على جميع الأفراد المؤمن والكافر والصغير والكبير، فهذا يموت مبكراً وذاك يموت متأخراً، ولا يستثنى من قانون الموت أحد. ثم قال(عليه السلام): «فى حلالها حساب، وفي حرامها عقاب» إشارة إلى أنّ الإنسان إنّما يتحمل حتى في الآخرة تبعات هذه الدنيا، فهو إمّا عمل فيها بالحلال أو الحرام. فانّ عمل بالحلال حوسب عليه يوم القيامة، وإن عمل بالحرام عوقب عليه يوم الجزاء. ومن هنا ورد في الحديث النبوي الشريف: «يدخل الفقراء الجنّة قبل الأغنياء بخمس مائة عام»(2)أمّا كيفية الحساب وما يحاسب عليه الإنسان ومن يرد الجنّة دون حساب، فهى اُمور نستعرضها إن شاءاللّه في بحث التأملات. ثم قال(عليه السلام): «من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن» نعم هذه هى طبيعة الدنيا وانطوائها على سبيلين كلاهما يؤدي إلى المشقة. فان كان فقيراً عاش في الدنيا مهموماً مغموماً، وإن كان غنياً مرفهاً عاش فيها مشاكل اُخرى; وأقل ذلك همه في حفظ هذه الثروة وسعيه لصيانتها، ناهيك عن سهام الحسد والطمع والبغض التي تصوب إليه، وفوق كل ذلك ما يتعرض له من إمتحانات إلهية. فالبخل والحرص والطمع من جانب والآفات والبلاء والأخطار من جانب آخر، بل لعل هذا الثراء والغنى يصده عن ذكراللّه ولايدع له من مجال للخروج من التفكير فيه، وعليه ستغيب لديه المثل والقيم ولايرى


1. سورة البلد / 4.

2. بحارالأنوار 69/48.

[ 195 ]

لها من معنى سوى في الأموال. ونختتم الكلام في قوله(عليه السلام): «من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن» بالحديث الذي يؤكد هذا المعنى، فقد روي عن الإمام الباقر(عليه السلام). قال: كان على عهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) مؤمن فقير شديد الحاجة من أهل الصفة، وكان لازماً لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله) عند مواقيت الصلاة كلها لايفقده في شئ منها، وكان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) يرق له وينظر إلى حاجته وغربته، فيقول: يا سعد لو قد جاءني شئ لأغنيتك، قال: فابطأ ذلك على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)فاشتد غم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بسعد، فعلم اللّه سبحانه ما دخل على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)من غمه بسعد، فأهبط عليه جبرئيل(عليه السلام)ومعه درهمان فقال له: يا محمد إنّ اللّه قد علم ما قد دخلك من الغم بسعد، أفتحب أن تغنيه؟ فقال له: نعم، فقال له: فهاك هذين الدرهمين فاعطهما إياه، ومره أن يتجر بهما، قال: فأخذهما رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ثم خرج إلى صلاة الظهر وسعد قائم على باب حجرات رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ينتظره، فلما رآه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)قال: يا سعد أتحسن التجارة؟ فقال له سعد: واللّه ما أصبحت أملك ما أتجربه، فاعطاه النبي(صلى الله عليه وآله)الدرهمين; فقال له: اتجر بهما وترف لررق اللّه، فأخذهما سعد ومضى مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)حتى صلى معه الظهر والعصر، فقال له رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): قم فاطلب الرزق فقد كنت بحالك مغتماً يا سعد، قال فأقبل سعد لايشتري بالدرهم إلاّ باعه بدرهمين، ولايشتري شيئاً بدرهمين إلاّ باعه بأربعة دراهم، وأقبلت الدنيا على سعد فكثر متاعه وماله وعظمته تجارته فاتخذ على باب المسجد موضعاً جلس فيه وجمع تجارته إليه، وكان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)إذا أقام بلال الصلاة يخرج وسعد مشغول بالدنيا لم يتطهر ولم يتهيهأ كما كان يفعل قبل أن ينشغل بالدنيا، فكان النبي(صلى الله عليه وآله)يقول: يا سعد شغلتك الدنيا عن الصلاة، فيقول: ما أصنع، أضيع مالي هذا رجل قد بعته فاُريد أن أستوفي منه، هذا رجل قد اشتريت منه فاُريد أن أوفيه قال; فدخل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) من أمر سعد غم أشد من غمه بفقره فهبط عليه جبرئيل(عليه السلام)فقال: أيما أحب إليك، حاله آخرته، فقال له جبرئيل: قل لسعد يرد عليك الدرهمين اللذين دفعتهما إليه، فان يا سعد أما تريد أن ترد عليَّ الدرهمين الذين أعطيتكهما؟ فقال: بلى ومأتين. فقال لها لست أريد منك يا سعد إلاّ درهمين، فاعطاه سعد درهمين، قال: وادبرت الدنيا على سعد حتى ذهب ما كان جمع، وعاد إلى حاله التي كان عليها.(1)


1. وسائل الشيعة 12/297 ـ 298.

[ 196 ]

ثم أورد(عليه السلام) صفتين للدنيا من شأن الالتفات إليهما إبعاد الإنسان عن الحرص والطمع والسكون إلى الدنيا «ومن ساعاها فاتته،(1) ومن قعد عنها واتته(2)».

إشارة إلى الأعم الأغلب من الأفراد الذي يجرون نحو الدنيا ولا يبلغونها، بينما كثيرهم الذين يهجرون الدنيا فتأتيهم صاغرة. ولعل المطالعات التأريخية والوقائع تؤيد هذا الأمر في أن الجري خلف الدنيا لايفضي إلى الغنى، والانصراف عنها لا يؤدي إلى الفقر. ومن الطبيعي ألا يكون المراد بالدنيا هنا المعيشة المشرفة والخالية من الحاجة إلى الآخرين، بل يراد بها الدنيا المذمومة المشوبة بالجنون. على كل حال فالعبارة تهدف إطفاء نيران الحرص على الدنيا والذوبان فيها. وأخيراً يختتم الإمام(عليه السلام)كلامه في وصف الدنيا بصفتين أصابت أغلب مفسرّي نهج البلاغة ولا سيما المرحوم السيد الرضي (ره) جامع النهج بالدهشة والذهول ليعيشوا نشوة السكر بهذا الشراب الطهور، فقد قال(عليه السلام): «من أبصر بها بصرته، ومن أبصر اليها أعمته». فاذا تأمل المتأمل هذا القول وجد تحته من المعنى العجيب، والغرض البعيد، ما لا يبلغ غايته ولايدرك غوره; أي أنّ الإنسان إذا جعل الدنيا وسيلة لنيل الكمال وأداة للوصول إلى الآخرة وجسرا للسمو والرفعة والتكامل فستطرح عنه كافة الحجب ويرى حقائق الكون كما هى، أمّا ذاك الذي يتعامل مع الدنيا كهدف لاوسيلة فانّ ذلك سيكون حجاباً ضخماً مضروباً على عينيه يحول دون رؤيته لاقرب الأشياء فضلاً عن الحقائق، وأبعد من ذلك سيغرق في مادياتها ولا يرى لغيرها من وجود. والواقع هذا هو الفارق بين أهل الآخرة وأهل الدنيا، فهؤلاء يرون الدنيا مقدمة للآخرة واُولئك يرون الدنيا غايتهم وهدفهم. فالدنيا كالشمس إن نظرت بها أبصرت وإن نظرت إليها عميت. كما أورد تفسير آخر لهذه العبارة وهو أنّ المراد بقوله: «من أبصر بها بصرته» أنّ النظر إلى الدنيا بكل ما تشتمل عليه من الآيات الربانية إنّما يزيدنا


1. «ساعي» من مادة «سعى» تعني في الأصل الجري ومنه السعي بمعنى الجهد وكأنّ الإنسان يجري نحو الشئ وقد وردت في العبارة بشأن من يجري خلف الدنيا وكأنه يتسابق مع الآخرين، كما يمكن أن تكون إشارة إلى أولئك الذين يلهثون وراء الدنيا، والدنيا تهرب منهم. أما بعض أرباب اللغة فقد فسروا هذه المفردة بمعنى دعوة الاماء إلى الأعمال المنافية للعفة. وعليه فالعبارة الواردة في الخطبة تشبه الدنيا بالامة التي يلهث وراءها أهل الدنيا.

2. «واتته» من مادة «مؤاتاة» بمعنى طاوعته واستجابت له.

[ 197 ]

بصيرة، في حين قصر النظر على ماديات الدنيا يحرمنا من البصيرة بالآخرة بما فيها معرفة اللّه ونيل القرب منه. وذهب البعض إلى أنّ المقصود بالعبارة «أبصر بها» هو النظر إلى عيوب الدنيا وتقلباتها والدروس العبر التي تنطوي عليها، ويقيناً أنّ مثل هذه النظرة مدعاة للبصيرة والفطنة، أمّا المراد بالعبارة «أبصر إليها» التطلع إلى زخارف الدنيا ومظاهرها الخادعة التي تعمي عين الإنسان. وبالطبع لامانع من الجمع بين المعاني الثلاث في المفهوم الجامع لهاتين العبارتين. ويالها من عبارتين رائعتين عظيمتي المعنى، وكفى بهما عبرة في النجاة من الدنيا والسير نحو الآخرة، فالسلام والصلاة على أميرَالمؤمنين(عليه السلام) الذى رام تهذيب النفوس وسموها بهاتين العبارتين القصيرتين. وهناك كلمات المعصومين(عليهم السلام) التي تصور هذا المعنى أيضاً، ومن ذلك أنّ اللّه أوحى إلى داود(عليه السلام): «يا داود احذر القلوب المعلقة بشهوات الدنيا فانّ عقولها محجوبة عني»(1).

كما ورد عن أميرَالمؤمنين علي(عليه السلام) أنّه قال: «لحب الدنيا صمت الاسماع عن سماعة الحكمة وعميت القلوب عن نور البصيرة».(2)

—–

قال المرحوم السيد الرضي (ره) آخر الخطبة:

«وإذا تأمل التأمل قوله(عليه السلام) «ومن أبصر بها بصرته» وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد، ما لا تبلغ غايته ولا يدرك غوره، لا سيما إذا قرن اليه قوله «ومن أبصر اليها أعمته» فانّه يجد الفرق بين «ابصر بها» و«أبصر إليها» واضحاً نيراً، وعجيباً باهراً، صلوات اللّه وسلامه عليه».

—–

 

تأمّلان

1 ـ كيفية الحساب في الآخرة

تعدّ مسألة الحساب في يوم القيامة الذي تعرضت له الخطبة من المسائل القطعية في


1. بحارالأنوار 14/39.

2. غررالحكم، ح 7363.

[ 198 ]

الإسلام والتي وردت في أغلب الآيات القرآنية والأخبار المتواترة، ويشمل هذا الحساب جميع أعمال الإنسان من صغيرة وكبيرة وفعل وكلام بل وحتى الصمت والسكوت، كما تفيد الايات القرآنية الواردة بهذا الشأن دقة حساب الأعمال. فقد صرحت الآية 16 من سورة لقمان على لسانه وهو يعظ إبنه: (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَـبَّة مِنْ خَرْدَل فَتَكُنْ فِي صَخْرَة أَوْ فِي السَّمـواتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِـها اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَطِـيفٌ خَبِيرٌ). والذي نخلص إليه من الاُمور المتعلقة بالحساب كما وردت في الآيات والروايات ما يلي: ـ

الف ـ عمومية الحساب: وشموليته لكافة الناس من الأولين والآخرين بما فيهم الرسل والأنبياء، وقد إصطلحت الآيات القرآنية على يوم القيامة بيوم الحساب.(1) ولا تقتصر هذه العمومية على الناس فحسب، بل نشمل جميع أعمالهم، كما نلمس ذلك في الآية 47 من سورة الأنبياء: (وَنَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ لِـيَوْمِ القِـيامَةِ فَلا تُظْلَمْ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَـبَّة مِنْ خَرْدَل أَتَيْنا بِـها وَكَفى بِنا حاسِـبِينَ). وبالطبع هنالك بعض الأفراد ا لذين يردون الجنّة دون حساب لعظم أعمالهم الصالحة، كما هناك الأفراد الذين يكبون في النار دون حساب بشاعة أعمالهم السيئة، وبعبارة اُخرى فانّ حسابهم واضح، فقد جاء في الحديث عن الإمام زين العابدين(عليه السلام): «اعلموا عباداللّه إن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين وإنّما يحشرون إلى جهنم زمراً».(2)

ب ـ سرعة الحساب: يتضح من الآيات والروايات أنّ الحساب الإلهي يوم القيامة يحصل بصورة سريعة جداً; فقد وردت ثمان آيات في القرآن تصف اللّه سبحانه بأنّه سريع الحساب، كما جاء في الحديث الشريف: «إن اللّه يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح البصر»(3)، ودليل السرعة في الحساب واضح، لأنّها تتوقف لاينطوي على أية صعوية، اللّهم إلاّ أن تقتضي حكمته تأخير البعض في الحساب مبالغة لهم في العقاب أو حكمة اُخرى. فالحق أنّ أعمالنا لها تأثير على أرواحنا وأجسامنا، التي يتضح حسابها من خلال نظرة لها، من جانب


1. سورة ص / 16، 26، 53; سورة غافر / 27.

2. تفسير نورالثقلين 4/507.

3. مجمع البيان 1/297.

[ 199 ]

آخر فانّه يمكن تشبيه أعمال الإنسان بعمل السيارة، بحيث تكفي نظرة واحدة لعدادها لمعرفة كم كيلومتر قطعت، ولا سيما في عصر الحاسب الآلي ـ حيث يزودك بما شئت من المعلومات أحياناً المجرد ضغطك على زر من أزراه ـ فمسألة سرعة الحساب لم تعد بالمعقدة الفهم والإدراك على العقل البشري.

ج ـ الدقة في الحساب: الميزة الاُخرى في الحساب يوم القيامة استناداً إلى الآيات القرآنية تكمن في الدقة من قبيل الإشارة إلى المحاسبة على العمل وإن كان مثقال ذرة، أو حبّة من خردل.

د ـ التشديد في الحساب: الخاصية الاُخرى تكمن في سوء الحساب حسب تعبير الآيات القرآنية بالنسبة لاُولئك الذين كانوا يتصفون بالتشدد والتصعب في حياتهم الدنيا تجاه الآخرين وبالطبع فانّ سوء الحساب لايعني كونه الحساب السئ وغير الصحيح، فذلك لا يجوز مطلقاً على اللّه سبحانه، إنّما يراد به التشدد على من كان متشدداً.

هـ ـ اليسر في الحساب: يستفاد من بعض الآيات القرآنية وخلافاً للتعامل مع الطائفة المذكورة، فهنالك البعض الذي يخضع للحساب اليسير يوم القيامة، والمراد بهذا البعض اُولئك الأفراد الذين تعاملوا بالسهولة واليسر في حياتهم الدنيا مع الآخرين، فكان جزاء أعمالهم أن يسر اللّه عليهم الحساب يوم القيامة. فقد قال القرآن الكريم: (فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِـينِهِ * فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِـيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً)(1). وجاء في الحديث أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) قال: «ثلاث من كن فيه حاسبه اللّه حسابا يسيرا وأدخله الجنّة برحمته، قالوا: وما هى يا رسول اللّه؟ قال: تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك»(2)فالحديث يشير بوضوح إلى أنّ الحساب اليسير في يوم القيامة إنّما هو إنعكاس لحساب الإنسان اليسير لبني جنسه في الدنيا.

وـ رود الجنّة بغير حساب: إضافة إلى الطائفة المتشددة في الحساب والاُخرى السهلة، هنالك طائفة ثالثة ترد الجنّة دون أن تتعرض للحساب، وهى الطائفة التي عاشت ذروة الورع


1. سورة الانشقاق / 7 ـ 9.

2. تفسير نورالثقلين 5/573.

[ 200 ]

إذا جمع اللّه عزّوجلّ الأولين والآخرين قام مناد ـ فنادى يسمع الناس ـ فيقول: «أين المتحابون في اللّه؟» فيقوم عنق من الناس فيقال لهم: «اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب».(1)وقد ورد مثل هذا المعنى بالنسبة للصابرين(2)، كما ورد مثله في السابقين إلى الإيمان(3). وبالمقابل هنالك طائفة ترد جهنم بغير حساب، فقد روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)قال: «ثلاثة يدخلهم اللّه النار بغير حساب: إمام جائر وتاجر كذوب وشيخ زان»(4). وبالطبع هناك الطوائف الاُخرى التي أشارت إليها الروايات أنّها تدخل النار دون حساب. ومن الطبيعي أن تكون الطائفة التي ترد الجنّة دون حساب اُو تلك التي ترد النار بغير حساب أن تكون قد عملت بحيث أصبح كل وجودها نور أو ظلمة وكانت تمشي بصفتها فضيلة أو رذيلة، ومن هنا لم تعد هناك من حاجة للحساب.

 

2 ـ المذموم عبادة الدنيا لانيلها