—–


1. الكافى 2/126.

2. بحارالأنوار 79/138.

3. كنزالعمال، ح 31 ـ 3.

4. خصال الصدوق /80 الباب 3، ح 1.

[ 201 ]

 

 

الخطبة(1) 83

 

 

 

ومن خطبة له (عليه السلام)

 

وهى الخطبة العجيبة وتسمى «الغراء»

و فيها نعوت اللّه جل شأنه، ثم الوصية بتقواه ثم التنفير من الدنيا، ثم ما يلحق من دخول القيامة، ثم تنبيه الخلق إلى ما هم فيه من الأعراض، ثم فضله عليه السلام في التذكير.

 

نظرة إلى الخطبة

نقل ابونعيم الاصفهاني جانبا من هذه الخطبة في حلية الاولياء وقال في سبب ورودها ان الإمام(عليه السلام) شيع جنازة لما ارتفع صراخ أهله حين وضع في القبر فأقسم الإمام(عليه السلام) أن الموت لا يذر أحدا ولو شاهدوا ما يشاهد هذا الميت لبكوا على أنفسهم دونه، ثم نهض(عليه السلام) إثر ذلك فاورد هذه الخطبة.

الخطبة تشير إلى أنّ الإمام(عليه السلام) كان بصدد إعداد قلوب الناس وايقاظهم من غفلتهم، وهى خطبة عظيمة المضمون بعيدة المعنى لها فعل السحر في النفس بفضلها تتضمن عدداً من الدروس والعبر التي تصنع الإنسان وتهذبه ويمكن تقسيمها إلى إثني عشر قسماً(2) كل منها يكمل الآخر:


1. سند الخطبة: هذه الخطبة من خطبه(عليه السلام) المعروفة وفيها من اللطائف والدقائق ما عده ابن أبي الحديد من معجزاته التي فات بها البلغاء وأخرس الفصحاء، وفي قول الرضي (ره): «ومن الناس من يسمي هذه الخطبة بالغراء» دليل على أنّها كانت معروفة بين الناس. رواها الجاحظ، كما رواها حسن بن شعبة في كتاب تحف العقول والآمدي وابونعيم الإصفهاني وابن أثير على كل حال فانّ هذه الخطبة أشهر من حاجتها إلى مناقشة الاسناد. ( مصادر نهج البلاغة 2/107).

2. لابدّ من الالتفات هنا إلى ان الخطبة تنقسم على أساس تقسيم كلي إلى إثني عشر قسماً، كما أنّ بعض أقسامها تنقسم فرعياً إلى عدّة أقسام، ومن هنا فانا قسمنا هذه الخطبة في شرحها، وتفسيرها إلى ثمانية عشر قسماً.

[ 202 ]

القسم الأول: يخوض فيه الإمام(عليه السلام) بحمداللّه والثناء عليه وبيان صفات جلاله وجماله ليهيئى القلوب لسماع المواعظ والنصائح.

القسم الثاني: الوصية بالتقوى بفضلها رأس المال الأصلي للإنسان في حياته المادية والمعنوية.

القسم الثالث: ذم الدنيا بفضلها العقبة الكؤود التي تحول دون التقوى والورع.

القسم الرابع: الحديث عن المعاد والحشر وأهوال يوم القيامة لتكون القلوب منفتحة على الاتعاظ بالزواجر.

القسم الخامس: التعرض لاحوال الإنسان من خلال بيان عاقبته.

القسم السادس: التذكير ثانية بالورع والتقوى.

القسم السابع: لما كان الالتفات إلى النعم الإلهية يقود الإنسان إلى معرفة اللّه وشكره على نعمه وطاعته، تطرق(عليه السلام) في هذا القسم إلى النعم التي أفاضها اللّه سبحانه على الإنسان.

القسم الثامن: المواعظ والإرشادات التي تفتح العقول والقلوب.

القسم التاسع: الحديث عن التقوى ثالثة الإشارة إلى كونها أفضل الزاد والمتاع في سفر الآخرة.

القسم العاشر: الكلام عن خلق الإنسان مذ كونه جنيناً إلى موته وما بعد الموت بعبارات توقظ الضمير البشري.

القسم الحادي عشر: التحذير من عدم السبيل إلى الرجعة بعد الموت ولا تدارك ما فرط في الدنيا.

القسم الثاني عشر والأخير: إشارة إلى الدروس والعبر التي يختزنها تأريخ الماضين وبيان أحوال الاقوام بعبارات مثيرة وحساسة رائعه; الأمر الذي جعل السيد الرضي (ره) يقول: بعد أنّ خطب الإمام(عليه السلام) هذه الخطبة إقشعرت لها الجلود، وبكت العيون، ورجفت القلوب.

—–

[ 203 ]

 

 

القسم الأول

 

«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلا بِحَوْلِهِ ودَنا بِطَوْلِهِ مانِحِ كُلِّ غَنِيمَة وفَضْل، وَكاشِفِ كُلِّ عَظِيمَة وأَزْل أَحْمَدُهُ عَلَى عَواطِفِ كَرَمِهِ وسَوابِغِ نِعَمِهِ وَأُومِنُ بِهِ أَوَّلاً بادِياً وأَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هادِياً وأَسْتَعِينُهُ قاهِراً قادِراً أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كافِياً ناصِراً وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً(صلى الله عليه وآله) عَبْدُهُ ورَسُولُهُ أَرْسَلَهُ لاِِنْفاذِ أَمْرِهِ وَإِنْهاءِ عُذْرِهِ وتَقْدِيمِ نُذُرِهِ».

—–

 

الشرح والتفسير

البعيد القريب والعالي الداني

يستهل الإمام(عليه السلام) خطبته المشهورة بالغراء بالحمد والثناء والصلوات على النبي(صلى الله عليه وآله) ثم يعرج على صفاته سبحانه وتعالى، فيحمده بادئ ذي بدء لأربع صفات من صفاته: «الحمدللّه الذي علا بحوله(1)، ودنا بطوله،(2) مانح(3) كل غنيمة وفضل، وكاشف كل عظيمة وأزل»(4) إننا نعلم أنّ صفات اللّه على خلاف صفات عباده المحدودة; فهو قريب وبعيد، وظاهر وباطن، وله صفات اُخرى متناقضة لا تجمع في عباده، إلاّ أنّها تجمع في ذاته اللامتناهية. فقد أشار الإمام(عليه السلام) في العبارة الاولى إلى هذا المعنى فقال: «الحمدللّه الذي علا يحوله» فهو قريب


1. «حول» بمعنى تغيير الشئ وفصله عن آخر، ومن هنا يطلق «الحائل» على ما يفصل بين شيئين، وإذا إستعملت هذه المفردة على اللّه فانه تعني قدرته على دفع ا لخطر عن عباده ومن القول: لاحول ولا قوة إلاّ باللّه.

2. «طول» على وزن «قول» بمعنى النعمة ومن مادة «طول» على وزن نور ما يبين امتداد الشئ، ولما كانت النعم امتداد وجود المنعم فقد اطلقت عليها هذه المفردة.

3. «مانح» من مادة «منح» على وزن منع تعنى في الأصل إعطاء ا للبن والصوف وولد الحيوان لشخص، ثم اطلقت على كل عطاء، حتى صرح أرباب اللغة بأن منح تعنى أعطى.

4. «الأزل» تعني الضيق والشدة، ثم اطلقت على كل بلاء ومصيبة، كما يصطلح بالأزل على الكذب، وقد وردت في الخطبة بمعنى المصيبة.

[ 204 ]

في علوه، وعلوه معلول لقدرته، بينما قربه معلول لنعمته ومنته. ثم أشار في العبارة الثانية إلى أنّه مصدر البركات الذي يفيض الغنيمة والفضل على العباد، وفى نفس الوقت يكشف عنهم الكرب والبلاء، وكيف لايرتجى منه ذلك وهو ما عليه من القدرة واللطف والمحبة. ولعلنا نلمس هذا المعنى في الآية القرآنية الكريمة: (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَة فَمِنَ اللّهِ ثُـمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّـرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ).(1)

ومن البداهة أنّ غير اللّه ـ لأنّ قدرته محدودة ـ لايسعه أي نعمة أو فضل، كما لايستطيع أن يدفع أي بلاء أو ضرر، وليس هنالك مثل هذه الاستطاعة والقدرة سوى للذات المقدسة. ثم يخوض(عليه السلام) في علية الحمد والثناء، بعبارة اُخرى كان الحديث في العبارات السابقة عن صفات المنعم، أمّا هنا فقد جرى الحديث عن النعم: «أحمده على عواطف كرمه، وسوابغ(2) نعمه» فالواقع هو أنّ للنعم الإلهية صفتان وسيعة شاملة ودائمة مستمرة. وليس هذا سوى لقدرته وكمال لطفه الذي أغرق الإنسان بوابل نعمه ولم يقطعها عنه طرفة عين، ثم قال(عليه السلام): «وأومن به أولاً بادياً(3)، وأستهديه قريباً هادياً، وأستعينه قاهراً قادراً، وأتوكل عليه كافياً ناصراً» فالإمام(عليه السلام) يقرن كل شئ بدليله، فالإيمان به لكونه سابق كل شئ في الوجود وهو واجب الوجود وقد عمت آثاره كافة ارجاء العالم، كما يستدل على سؤاله الهداية لأنّه الهادي للعباد وهو قريب منهم قادر على هدايتهم. ولما كان الركن الثاني للإيمان ـ بعد الاقرار للّه بتوحيد ـ الشهادة بالنبوة قال(عليه السلام): «وأشهد أن محمداً ـ صلى اللّه عليه وآله ـ عبده ورسوله». ثم أشار(عليه السلام) إلى الوظائف الثقيلة للنبوة ليوجزها بثلاث عبارات: «أرسله لانفاذ أمره، وإنهاء عذره، وتقديم نذره»(4). فالعبارة الاولى إشارة إلى قيام النبي(صلى الله عليه وآله)ودعوته الاُمّة إلى الإيمان باللّه، والعبارة الثانية إلى اتمام الحجة بواسطة إبلاغ أحكام اللّه واستعراض الأدلة العقلية والمعجزات، والعبارات الثالثة إشارة إلى بيان العذاب الإلهي في الدنيا والآخرة لاُولئك الذين يعصون أوامر اللّه سبحانه.


1. سورة النحل / 53.

2. «سوابغ» جمع «سابغة» بمعنى الواسع والكامل وقد ورد تفسير هذا الاصطلاح في شرح الخطبة 63.

3. بادياً أي سابقاً كل شئ من الوجود، ظاهراً بذاته مظهرا لغيره، والبادي من بدو بمعنى الظهور والبداية، فاللّه بادئ الوجود، كما أنّ آثاره ظاهرة عمت السموات والأرض.

4. «نذر» جمع «نذير»، وردت هنا بمعنى الايات والأخبار التي تحذر من معصية اللّه.

[ 205 ]

 

 

القسم الثاني

 

«أُوصِيكُمْ عِبادَ اللّهِ بِتَقْوَى اللّهِ الَّذِي ضَرَبَ الاَْمْثالَ ووَقَّتَ لَكُمُ الاْجالَ وَأَلْبَسَكُمُ الرِّياشَ وأَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعاشَ وأَحاطَ بِكُمُ الاِْحْصاءَ وأَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزاءَ وآثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوابِغِ والرِّفَدِ الرَّوافِغِ وأَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوالِغِ فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً ووَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً فِي قَرارِ خِبْرَة ودارِ عِبْرَة أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيها ومُحاسَبُونَ عَلَيْها».

—–

 

الشرح والتفسير

دور التقوى في تقرير مصير الإنسان

ما أن فرغ الإمام(عليه السلام) من حمداللّه والثناء عليه والشهادة لرسول اللّه بالنبوة في المقطع الاول من الخطبة حتى تطرق(عليه السلام)إلى أهم مسألة تلعب دورها في تقرير مصير الإنسانية ألاوهي التقوى، فيوصي بها الجميع ثم يذكر عشر صفات للّه كلها تدعو إلى التقوى. فتارة يتحدث عن النعم الموفورة، وتارة أخرى عن الحساب والجزاء، وأحياناً يشير إلى النذر الإلهية وإتمام الحجة، كما يتكلم عن محدودية عمر الإنسان وما يتعرض له من تمحيص واختبار، وكل واحد منها من شأنه أن يسوقه إلى التقوى فقال(عليه السلام): «أوصيكم عباداللّه بتقوى اللّه الذي ضرب الأمثال» فالأمثلة والتشبيهات التي وردت في القرآن الكريم وأحاديث النبي(صلى الله عليه وآله) وكلمات المعصومين(عليهم السلام)لتقريب الحقائق العقلية إلى الأذهان وتجعلها في متناول الحس، لا تخرج عن أربع صور هى: تشبيه المحسوس بالمحسوس (بالطبع المحسوس الثاني لابدّ أن يكون أوضح من المحسوس الأول)، تشبيه المعقول بالمحسوس، وتشبيه المحسوس بالمعقول، وأخيراً تشبيه المعقول بالمعقول، والغرض من كل هذه التشبيهات هو الاستئناس بالمسائل التربوية والأوامر

[ 206 ]

والنواهي الإلهية بحيث يكون مفهومها قريباً لدى النفس ولا تبقى ألغاز المفاهيم المعقدة. ثم قال(عليه السلام): «ووقت لكم الآجال» فلكل عمر وأجل معين وقد خط الموت والفناء على جبين الجميع، سواء كان هذا الأجل هو النهاية القطعية للحياة; أي الأجل المسمى، أو النهاية المشروطة; أي الأجل المحتوم. فقد قال سبحانه وتعالى: (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لايَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(1) وقال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فان)(2).

ومن البديهي أن يتجه الإنسان نحو التقوى حين يلتفت إلى تقلب الحياة الدنيا وقصر العمر. ثم قال(عليه السلام): «وألبسكم الرياش(3) وأرفغ(4) لكم المعاش» حيث طرح الإمام(عليه السلام)مسألة اللباس من بين جميع النعم ثم أشار إلى كافة نعم الحياة والعيش، ولعل كون اللباس من أهم النعم، الذي لايقتصر على حفظ الإنسان من البرودة والحرارة ويصونه من الأخطار والصدمات التي تتهدده ويستر عيوبه فحسب، بل لأنّ القرآن شبه التقوى باللباس في آياته، ومن هنا كان هنالك تناسب مع أصل الحديث عن التقوى، وهذا ماحدا بالإمام(عليه السلام) إلى تقديم الخاص قبل العام في إطار حديثه عن النعم. والجدير بالذكر أنّ وجود هذه النعم الفضيلة الواسعة التي عمت حياة الإنسان لهي الدافع لمعرفة اللّه وبالتالي تقواه. فكيف يعرف الإنسان هذه النعم ولا يجّد في رعاية حرمة وليها. فقد ورد في القرآن الكريم قوله سبحانه: (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ )(5). يذكر أن لريش الطيور ألوان مختلفة وجمالية خاصة ، ومن هنا فانّه يعني الزينة أيضاً، ولما كانت التقوى تستر عيوب الإنسان وتحفظه من وساوس الشيطان وهى زينة له، فانّ مفردة اللباس في الآية


1. سورة الاعراف / 34.

2. سورة الرحمن / 26.

3. «الرياش» من مادة «ريش» ظاهر اللباس، كما اطلق على كل نعمة موفورة. وقال بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ الريش لايعني ظاهر اللباس فقط، فقد ورد في الآية 26 من سورة الأعراف: «يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً» ولكن يبدو أنّ الآية تدل على عكس مراده لأنّ اللباس على نوعين: لباس يغطي بدن الإنسان مصداق (يواري سواتكم) ولباس الزينة. وقد أشار القرآن إلى الأمرين، ثم اتبعه بالحديث عن لباس التقوى «ولباس التقوى ذلك خير».

4. «أرفغ» من مادة «رفغ» على وزن هدف بمعنى أوسع، أوسع عليكم النعم.

5. سورة الأعراف / 26.

[ 207 ]

الشريفة تشير إلى التقوى(1) ثم قال(عليه السلام): «وأحاط بكم الاحصاء، وأرصد لكم الجزاء» طبعاً إذا التفت الإنسان إلى هذه المسألة وهى أنّ الحساب الإلهي دقيق ـ وكأنّه قلعة محكمة يصعب إختراقها حيث لايسع أي عمل أو قول صدر من الإنسان أن يفلت من الحساب، كما أنّ كل قول وعمل إنّما يحمل جزائه معه، فان هذا الأمر سيدعوه إلى الورع والتقوى وإجتناب معصية أوامر اللّه سبحانه، والعبارة: «أحاط بكم الاحصاء» المستقاة من الآية الكريمة: (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيء عَدَداً)(2) إنّما هى عبارة رائعة تشير إلى أنّ الإنسان قد خضع لدائرة الاحصاء الإلهي بحيث لايصدر منه شيئاً دون حساب، والعبارة: «أرصد لكم الجزاء» تصور الثواب والعقاب كمراقب كمن للإنسان بحيث لايغادر أي عمل صدر منه، ثم قال(عليه السلام): «وآثركم بالنعم السوابغ، والرفد(3) الروافغ،(4) وأنذركم بالحجج البوالغ» الايثار تفضيل الشخص على النفس أم الآخرين، ومنه ماورد في الآية 91 من سورة يوسف: (تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنا). أمّا ما تصوره بعض شرّاح نهج البلاغة من أنّ الايثار تقديم الآخر على الذات، أو فيما يحتاجه المؤثر ليس بمستقيم، ولما لايمكن تصور أي من هذين المعنيين على اللّه فليس من الصواب الاتجاه نحو المعنى المجازي.(5) على كل حال فان المراد بالعبارة هو أنّ اللّه سبحانه قد فضل الإنسان على سائر مخلوقاته وأفاض عليه نعمه وكراماته; الأمر الذي صرح به القرآن الكريم: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّـيِّباتِ وَفَـضَّلْناهُمْ عَلى كَثِـير مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِـيلاً)(6). فاذا إلتفت الإنسان إلى هذا النعم الإلهية بما فيها تفضيله على سائر المخلوقات، سيثار لديه حس الشكر، وكما أوردنا سابقاً فانّه سيتجه


1. هنالك خلاف بين مفسري القرآن وشرّاح نهج البلاغة بشأن محل إعراب (ريشا) فعدها البعض عطفاً على لباساً ومن هنا فسروها بشئ أوسع أو مغاير للباس، بينما اعتبرها البعض الآخر (مفعول له) تبين هدف نزول اللباس على الإنسان وهو ستر العيوب ثم الزينة، ويبدو المعنى الأخير أكثر إنسجاماً مع الآية الشريفة.

2. سورة الجن / 28.

3. «رفد» جمع «رفد» على وزن دفع بمعنى نصيب، وعطاء وجائزة.

4. «روافغ» جمع «رافغة» من مادة «رفغ» وكما أشرنا سابقاً فانها تعني السعة والرفعة.

وعلى هذا الاساس فان «الرفد» و«الروافغ» تأتي بمعنى عطايا الله سبحانه وتعالى.

5. جاء في مقاييس اللغة أنّ أصل هذه المفردة يعنى تقديم الشئ هذا ما صرح به الراغب في مفرداته. وقال في كتاب التحقيق في كلمات القرآن الكريم: «حقيقة الايثار إثبات الفضيلة وتقديم صاحب الفضل».

6. سورة الاسراء / 70.

[ 208 ]

لمعرفة المنعم وبالتالي الامتناع عن مخالفته والتمرد على أوامره والتحلي بالورع والتقوى. أمّا الحجج البوالغ المتمثلة بالأنبياء والكتب السماوية والمعجزات والأدلة العقلية والنقلية فهى الاُخرى من دواعي الورع والتقوى وأمّا ذكر النعم إلى جانب الحجج فيمكن أن يكون إشارة إلى أنّ اللّه في الوقت الذي يغدق كل هذه النعم على الإنسان، إلاّ أنّه يحذره من استغلالها وأنّ عليه أن يوظفها بما يقوده إلى الفلاح والسعادة. ثم إختتم(عليه السلام) كلامه بهذا الشأن قائلاً: «فأحصاكم عدداً، ووظف لكم مدداً،(1) في قرار خبرة(2)، ودار عبرة، أنتم مختبرون فيها، ومحاسبون عليها» لقد سبق الحديث في الصفة الثانية عن أجل الإنسان وفى الصفة الخامسة عن إحصاء الناس وعددهم، ثم كرر(عليه السلام)هذين الوصفين لأهميتهما وتأثيرهما المباشر في تجلي حقيقة التقوى في وجود الإنسان، كما يمكن أن يفيد هذا التكرار معنى آخر، فقد كان الحديث في العبارات السابقة عن الاحاطة بأعمال الإنسان، ومن هنا أردف بالكلام عن جزاء الأعمال، أمّا هنا فقد ورد الكلام عن أحصاء الناس بحيث لايشرد أحدهم عن مراقبة اللّه سبحانه، كما صرح بذلك القرآن: (إِنْ كُـلُّ مَنْ فِي السَّمـواتِ وَالأَرضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمـنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَـدّاً)(3). ولئن أشار إلى انتهاء الأجل فانّ ذلك مقدمة للعبارات التالية (الحياة في دار الإمتحان والابتلاء) وفى الواقع هى من قبيل البيان الإجمالي والتفصيلي للعبارة السابقة. وأمّا قوله(عليه السلام): «قرار خبرة ودار عبرة» فواضح في أنّ حياة الناس تمثل امتحانهم واختبارهم; الأمر الذي أشار إليه القرآن بالقول: (أَحـَسِبَ النّاسُ أَنْ يُـتْرَكُوا أَنْ يَـقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُـفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِـهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ).(4). والتعبير بالعبرة يشير إلى الاعتبار بمصير الظلمة والأقوام الطاغية والأفراد الذين تلطخت أيديهم بالذنوب والمعاصي، وأنّ العقاب الإلهي لايقتصر على الآخرة بل يطيل


1. «مدد» جمع «مدة»، أي عين لكم أزمنة تحيون فيها، فالمدّة جزء من الزمان، كما تأتي بمعنى اِنتهاء زمان معين.

2. «خبرة» تفيد معنى المصدر واسم المصدر تعني العلم والاطلاع، ومن هنا يقال «أهل الخبرة» لمن كان لهم العلم الكافي بالشيئ، كما تعني الإمتحان وقد وردت هنا بهذا المعنى; أي في دار ابتلاء واختبار وهى دار الدنيا.

3. سورة مريم / 93 ـ 94.

4. سورة العنكبوت / 2 ـ 3.

[ 209 ]

الأفراد حتى في الحياة الدنيا. والضمير في العبارة «ومحاسبون عليها» يعود إلى دار الدنيا; أي كما أنّ الدنيا دار بلائكم وتمحيصكم فان حسابكم يتعلق بها بما أسلفتم من أعمال وتمتعتم من نعم أفاضها اللّه عليكم.

—–

 

التقوى في كل زمان ومكان

كما أوردنا آنفاً فانّ الإمام(عليه السلام) أعقب الحمد والثناء بالدعوة إلى الورع والتقوى التي تختزن كافة مقومات السعادة الإنسانية وتحدد مكانة الإنسان لدى اللّه وتشكل أفضل الزاد إلى الآخرة. والجدير بالذكر أنّ الإمام(عليه السلام) لايكتفي بالوصية بالتقوى بل يشير إلى جميع الاُمور التي من شأنها بلوغ التقوى، ومنها النعم الإلهية المختلفة وقصر عمر الإنسان والاحاطة التامة للّه سبحانه بالناس وأعمالهم وأقوالهم والدروس والعبر التي تتضمنها حياة الأقوام السابقة، بل وحتى الاُمم الحاضرة، إلى جانب الالتفات إلى هذا المعنى وهو أن هذه الدار الدنيا هى قاعة اختبار وامتحان وأنّ اللّه واتر أنبيائه ورسله وأنزل معهم الكتب السماوية لانذار العباد، والحق أنّ هذا ذروة الفصاحة والبلاغة في أن تجمع كل هذه الاُمور التي تصور التقوى بمعناها الكبير بهذا العبارات القصيرة.

حقاً إنّ تأمل هذه الاُمور الواردة في الخطبة ليقود الإنسان إلى إستشعار الورع والتقوى والاحساس بحضوره سبحانه على الدوام. فأنى للإنسان أن يتمرد على خالفة وقد شعر بفيض نعمه عليه وأيقن بالقيامة والبعث والحساب وآمن بالحجج الإلهية التي تضمنتها الكتب السماوية وصدحت بها أنبياء اللّه ورسله والأئمة(عليهم السلام)، وهو يرى قصر عمره وتقلب أحوال الدنيا والدروس والعبر التي إشتملت عليها حياة سالف الاُمم.

—–

[ 210 ]

[ 211 ]

 

 

القسم الثالث

 

«فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا، يُونِقُ مَنْظَرُهَا ويُوبِقُ مَخْبَرُها، غُرُورٌ حائِلٌ، وضَوْءٌ آفِلٌ، وظِلٌّ زائِلٌ، وسِنادٌ مائِلٌ، حَتَّى إِذا أَنِسَ نافِرُها واطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا، قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا، وقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا، وأَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِها، وأَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهاقَ الْمَنِيَّةِ قائِدَةً لَهُ إِلَى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ، وَوَحْشَةِ الْمَرْجِعِ، ومُعايَنَةِ الْمَحَلِّ وثَوابِ الْعَمَلِ، وكَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ، لا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِراماً، ولا يَرْعَوِي الْباقُونَ اجْتِراماً، يَحْتَذُونَ مِثالاً، ويَمْضُونَ أَرْسالاً، إِلَى غايَةِ الإِنْتِهاءِ، وصَيُّورِ الْفَناءِ».

—–

 

الشرح والتفسير

حقيقة الدنيا

يعرض الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة بالذم الشديد الدنيا، حيث كان حديثه عن دار الامتحان والعبرة، فيشرح هنا خصائص هذه الدار بعبارات روعة في الفصاحة والبلاغة. من جانب آخر خاض الإمام(عليه السلام) في التقوى، ونعلم أنّ العقبة الكؤود التي تعترض سبيل التقوى إنّما تكمن في حبّ الدنيا والتعلق بمادياتها، ومن هنا ذمها الإمام(عليه السلام) ليحط من قدرها لدى الناس ويقوى عندهم حس التقوى. فقد أشار(عليه السلام) إلى ثمان من مميزات الدنيا فقال(عليه السلام): «فانّ الدنيا رنق(1) مشربها، ردغ(2) مشرعها» عادة ما يكون مستوى الأنهار التي يستفيد الإنسان


1. «رنق» صفة مشبهة بمعنى الكدر. وعليه فانّ العبارة (رنق مشربها) إشارة إلى كدر شرب الدنيا، أمّا رونق فتعني الجمال، وذلك لأنّ اللغة العربية تتضمن أحياناً مادة واحدة لمعنيين متضادين.

2. «ردغ» من مادة «ردغ» على وزن فتق كثير الطين والوحل. وفي التشبية الذي ورد أعلاه في الخطبة حيث وصفت الدنيا بمثابة نهر كبير ينتهي جريانه بماء مملوء بالطين والوحل.

[ 212 ]

من مياهها أكثر إرتفاعاً من سطح الأرض المجاورة لها بحيث يصعب التزود منه، ومن هنا يحفر جزء من ساحل النهر ليمكن الوصول إلى ماءه بسهولة، وتصطلح العرب على هذا الجزء الذي يسهل الوصول إلى الماء بالشريعة أو المشرع حيث ينتهى إلى الماء يطلق عليه المشرب; فاذا تلوث المشرب بالطين والوحل أو تلوث الماء بحيث يتعذر التزود منه يعمد إلى إحداث شريعة بصورة مناسبة، أو يجعل عليه قنطرة لحل تلك المشاكل. الغرض هو أن الإمام(عليه السلام) شبه نعم الدنيا بالماء، إلاّ أن المؤسف له هو أنّ الوصول إلى الماء يمر عبر الوحل ونقطة بلوغ الماء كانت موضعاً يلوث الماء، ومن هنا فانّ هذا الماء يدعو إليه العطاش من بعيد، إلاّ أنّهم حين يصلوه يرون أنفسهم أمام سيل من المشاكل، فلا يتمكنوا من الحصول على الماء العذب، والحق أنّ هذا هو حال متع الدنيا كالمال والمقام وما إلى ذلك; وذلك لأنّ نيل الدنيا يحتم على الإنسان الاغماض عن الكثير من الفضائل الأخلاقية واعتياد الكذب والغدر والخيانة والذل، وكل من هذه الرذائل مستنقع يكمن في طريق الوصول، فاذا وصل اصطدم بأنواع الحسد والطمع; الأمر الذي يعكر صفو الماء. ثم قال(عليه السلام) «يونق(1) منظرها، ويوبق(2) مخبرها» لقد ورد هذا التناقض لظاهر الدنيا وباطنها بعدّة صور في عبارات أئمة العصمة، ومن ذلك ما ورد عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام): «فإنّما مثل الدنيا مثل الحية: لين مسها، وقاتل سمها»(3)ويشبهونها أحياناً بالمرأة الجميلة التي تقتل أزواجها الواحد تلو الآخر. وبالطبع فأنّ أوصاف الدنيا ليست بالخافية على الإنسان اللبيب، فظاهرها أنيق ساحر وباطنها خطر قاتل. ثم قال(عليه السلام): «غرور حائل(4)، وضوء آفل،(5) وظل زائل، وسناد(6) مائل» ممّا لاشك فيه أنّ الدنيا تنطوي على عناصر الجمال والخداع، إلاّ أنّها تنتهي لمجرد أن يريد الإنسان التمتع بها، ومن هنا


1. «يونق» من مادة «آنق» على وزن شفق يعجب، وقوله(عليه السلام) «يونق منظرها» إشارة إلى المنظر العجيب للدنيا.

2. «يوبق» من مادة «وبوق» يهلك «وموبق» بمعنى مهلك.

3. نهج البلاغة، الرسالة 68.

4. «حائل» من مادة «حال» بمعنى التحول والانتقال واطلاق «الحول» على السنة لتحولها. وعليه فالحائل المتغير.

5. «آفل» من مادة «افول» بمعنى الغياب ومنه اُفول الشمس والقمر غروبهما.

6. «سناد» بالكسر ما يستند إليه وهو الدعامة، ولما كانت الدنيا دعامة معوجة ولا يمكن الاستناد إليها عبرت عنها خطبة «سناد مائل».

[ 213 ]

عبر عنها الإمام(عليه السلام) بالغرور الحائل، لأنّ الغرور بالضم من لوازم الجمال الظاهري، أمّا الغرور بالفتح تعنى الشخص الخادع ومن هنا اُطلق الغرور على الشيطان. ولما كانت أمتعة الدنيا براقة فقد عبرعنها الإمام(عليه السلام)بالضوء، إلاّ أنّ هذا البريق ليس له دوام وسرعان ما يخفت، الأمر الذي جعل الإمام(عليه السلام) ينعت ذلك الضوء بالآفل. وتتصف بظلها الوداع المؤقت كظل شعاع الشمس على الأشجار الذي سرعان ما ينقشع ويزول، ومن هنا فان الظل الزائل الذي تمثله أمتعة الدنيا يمكن أن يكون ركنا يوثق به، غير أنّه ركن خاو، ولذلك عبر عنه(عليه السلام) بالسناد المائل. ثم أشار(عليه السلام) إلى سائر خصائص الدنيا، وبعبارة أخرى فانّه تعرض للصفات المذكورة بتشبيهات وتعبيرات جديدة فقال(عليه السلام): «حتى اذا أنس نفارها، واطمان ناكرها، قمصت(1)بأرجلها، وقنصت(2) بأحبلها(3)، وأقصدت بأسهمها(4)» فقد صور الإمام(عليه السلام) الدنيا ووضعها بثلاثة تشبيهات: الأول شبه الدنيا بمركب طيب الظاهر، إلاّ أنّه سرعان ما يجمع ويطرح راكبه أرضاً. ثم شبهها بالصياد الذي يرمي بشباكه وينثر فيها حبوب فخه فاذا إقترب صيده لم يجدله من سبيل إلى الهرب، وأخيراً شبهها بالصياد الذي يكمن في الطريق فاذا شاهد صيده صوب إليه سهامه.

والجدير بالذكر في العبارة «حتى إذا أنس نافرها...» انها تشير إلى حقيقة وهى أنّ خداع الدنيا ليس بالشئ إلهين الذي يمكن تجاوزه بسهولة، بل تجر إليها أحياناً حتى الزهاد والعباد لتلقي بهم في حبائلها وشباكها، ومن هنا ينبغي أن يلتفت الجميع إلى مدى خطورة هذه الدنيا الغرارة والمداومة على هذا الذكر: «اللّهم لاتكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا». ثم أشار(عليه السلام) إلى عاقبة أمر الإنسان فقال: «وأعلقت المرء أوهاق(5) المنية قائدة له إلى ضنك المضجع(6)،


1. «قمصت» من مادة «قمص» على وزن شمس بمعنى رفع اليدين وطرحهما معاً ومنه قمص الفرس، كما تستعمل هذه المفردة كناية عن الذل بعد العز.

2. «قنصت» من مادة «قنص» بمعنى الصيد والقانص الصياد.

3. «أحبل» جمع حبل.

4. «أسمهم» جمع سهم وجمعه الآخر سهام.

5. «أوهاق» جمع «وهق» على وزن شفق بمعنى الحبل الذي يربط به عنق الإنسان أو الحيوان  .

6. «ضنك المضجع»، ضنك يعني ضيق ومضجع الموضع الذي يضع الإنسان عليه ضلعه، والمراد به في العبارة القبر.

[ 214 ]