![]() |
![]() |
6. «نعمى» بالضم سعة العيش ونعيمه، وللنعمي مفهوم كالنعمة، حيث هو من المفاهيم الواسعة.
والانحراف ويبقى على نهجه في سلوك الصراط المستقيم. ثم أشار(عليه السلام) إلى ست صفات أخرى من صفات المتقين فقال: «و بادر من وجل، وأكمش(1) في مهل، ورغب في طلب، وذهب عن هرب، وراقب في يومه غده، ونظر قدماً أمامه» فهو يستثمر كافة فرص العمر من أجل الفوز بسعادة الدار الآخرة، فهو يقبل على ما ينبغي الاقبال عليه، ويبتعد عن كل ما من شأنه إبعاده عن سبيل السعادة والفلاح. أجل هذه هى الصفات التي تنطوي عليها التقوى والتي ينبغي للعباد أن يجعلوها نصب أعينهم ويسعون جاهدين لاكتسابها. ثم يختتم الإمام(عليه السلام) هذه المقطع من الخطبة بالإشارة إلى النتيجة التي تترتب على التقوى أو عدمها: «فكفى بالجنّة ثواباً ونوالاً، وكفى بالنّار عقاباً ووبالاً، وكفى باللّه منتقماً ونصيراً!كفى بالكتاب حجيجاً وخصيماً» حقاً أنّ الإمام(عليه السلام)لمعجز في عباراته القصيرة التي تناولت التقوى بالشكل الذي لم يسمع نظيره من أحد، وهى العبارات التي تسوق أضعف الأفراد إلى العمل والسعي والحركة، فما أحراها أن سميت بالخطبة الغراء.
أشارت الخطبة إلى الصراط; الجسر الذي يرده كافة الأفراد يوم القيامة، وقد أسهبت الروايات الإسلامية في الحديث عنه، وان لم ترد كلمة الصراط بهذا المعنى في القرآن، إلاّ في موردين ولعل المراد بهما طريق الحق والباطل في الدنيا، بينما وردت تعبيرات أخرى في القرآن الكريم من قبيل المرصاد الذي ذهب جماعة من المفسيرين إلى أنّ المراد به الصراط. على كل حال كما أسلفنا فانّ الذي يستفاد من الروايات هو أن الصراط جسر على جهنم حاد مخيف فمن عبره دخل الجنّة، ومن تعثر هوى في نار جهنم، بل صرحت بعض الروايات أنّ الصراط وسط النار، إلاّ أن المؤمنين يجتازونه كالبرق على غرار مرورهم من وسط نار الدنيا. وقد ورد في أوصاف الصراط وانه جسر على جهنم ويؤدي إلى الجنّة ولايمكن دخول الجنّة إلاّ بعد
1. «أكمش» من مادة «كمش» على وزن عطش أسرع، والمراد بها في العبارة جد السير في مهلة الحياة.
عبوره، فهناك طائفة من المؤمنين تمر عليه مسرعة كالبرق واُخرى كالفارس واُخرى كالراجل واُخرى تحبو عليه حبوا وأخيراً هناك من يعجز عن العبور فيهوى في جهنم.(1)
ويمكن فهم مضمون هذا الحديث من خلال الحديث المعروف الذي روي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) والإمام الصادق(عليه السلام) هو: «إن على جهنم جسرا أدق من الشعر، أحد من السيف»(2) وقال الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسيره للاية الشريفة: (إِنَّ رَبَّك لَبِالْمِرْصادِ)(3)، « قنطرة على الصراط لايجوزها عبد بمظلمة»(4). إلى جانب ذلك هنا لك بعض الأعمال التي صرحت الروايات الإسلامية بأنّها تسرع عملية عبور الصراط، من ذلك ما ورد في الحديث عن النبي الاكرم(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «أسبغ الوضوء تمرُّ على الصراط مرّ السحاب»(5). كما ورد في حديث آخر أنّ موسى(عليه السلام) سأل البارئ سبحانه في مناجاته إياه: «إلهي ما جزاء من تلا حكمتك سراً وجهراً؟ قال: يا موسى يمر على الصراط كالبرق»(6). والجدير بالذكر هنا ما ورد في عدة روايات من أنّ أهم شرائط عبور الصراط ولاية علي بن أبي طالب. وقد نقل كبار محدثي العامة هذه الرواية عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في مصادرهم، ومنهم الحافظ بن سمان الذي نقل في كتابه الموافقة أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: «لايجوز أحد على الصراط إلا من كتب له علي(عليه السلام)الجواز»(7)، وجاء في رواية «إذا جمع اللّه الأولين والآخرين يوم القيامة ونصب الصراط على جسر جهنم ما جازها أحد حتى كانت معه براءة بولاية علي بن أبي طالب»(8) وقد ورد هذا المضمون مع إختلاف طفيف في مناقب الخوارزمي ومناقب ابن المغازلي وفرائد السمطين
1. هذا الكلام مضمون حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) في كتاب آمالي الصدوق المجلس 33.
2. ورد الصراط بدل الجسر في حديث الإمام الصادق(عليه السلام)، بحارالأنوار 8/64 كما روي هذا الحديث عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في كنز العمال 14/386 ح 3936.
3. سورة الفجر / 14.
4. بحارالأنوار 8/66 ح 6.
5. كنزالعمال، السابق.
6. بحارالأنوار 89/197 ح 3.
7. الغدير 2/323.
8. الغدير 2/323 (نقل هذه الروايات العلاّمة الأميني من مصادر العامه مع ذكر صفحاتها، وورد في شرح الشعر المعروف للعبدي:
وإليك الجواز تدخل من شئت *** جناناً ومن تشاء جحيماً
وكتاب الرياض النظرة.(1) وكما ذكرنا سابقاً في شرحنا للخطبة فانّ الصراط في القيامة هو في الواقع تجسم صراط الدنيا وعقبة عبورها وما تنطوي عليه من حدة وخطر.
أشار الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة إلى مسألة إحياء الليل بالتهجد والعبادة على أنّها من مميزات المتقين السائرين إلى الحق. والتهجد من مادة هجود، قال الراغب في المفردات تعني في الأصل النوم، إلاّ أنّه تنتقل من معنى النوم إلى اليقظة حين تستعمل في باب التفعيل، ولما كان إحياء الليل في عرف المتقين يتمثل بالدعاء والمناجاة والعبادة، فقد استعملت كلمة التهجد بمعنى الصلاة في جوف الليل، وبالذات نافلة الليل. على كل حال فانّ لصلاة الليل آدابها الخاصة، وهى الاكسير الأعظم والكيمياء الكبرى التي تحيل تراب الإنسان ذهباً. وقد خاطب الحق سبحانه رسول الكريم(صلى الله عليه وآله) في قرآنه الكريم قائلاً: (وَمِنَ اللَّـيْلِ فَتَهَـجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).(2) الذي يفيد أنّ المقام المحمود الذي بلغه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إنّما بلغه بعبادة الليل والتهجد فيه. ويكفي في فضلها وتظافر الروايات فيها، ما ورد عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أنّه قال لعلي(عليه السلام): «عليك بصلاة الليل يكررها أربعة»(3)، كما ورد في الحديث أنه أوصى عليا(عليه السلام) قائلاً: «يا علي ثلاث فرحات للمؤمن: لقى الاخوان، والافطار من الصيام، والتهجد من آخر الليل»(4). فالحديث يفيد أنّ صلاة الليل لمن دواعي سرور المؤمن وسعادته. وجاء في الحديث أيضاً أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: «ما اتخذ اللّه إبراهيم خليلاً إلاّ لاطعامه الطعام وصلاته بالليل والناس نيام»(5). وأوصى الصادق(عليه السلام) أحد أصحابه قائلاً: «لاتدع قيام الليل فان المغبون من غبن قيام الليل»(6). الجدير بالذكر أنّ الآية السادسة من سورة المزمل عبرت عن صلاة الليل بناشئة الليل وهى عظيمة الاهمية والمؤدية إلى
2. سورة الاسراء / 79.
3. بحارالأنوار 66/392 ح 68.
4. بحارالأنوار 71/352 ح 22.
5. بحارالأنوار 84/144 ح 18.
6. بحارالأنوار 80/127.
الاستقامة «إن ناشئة الليل هى أشد وطئا أقوم قيلا» وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنّ المراد بناشئة الليل نشئة الجذبة الروحية والملكوتية التي تحصل للإنسان ببركة هذه العبادة. وسبب هذه الأهمية واضح لأنّ روح العبادة التي تبلغ بالإنسان المقامات العالية إنّما تكمن في أمرين: الاخلاص وحضور القلب. وكلاهما حاصل في الليل ولاسيما في آخره بعد تلك الاسترحة والخلود حين يكون الناس نيام وقد إنقطعت الحركة والسعي والعمل المادي فليس هنالك من تفكير في نيل بعض المتع المادية ولا الشواغل الفكرية المادية اليومية التي تشتمل عليها الحياة الإنسانية، ومن هنا كانت صلاة الليل عبادة خالصة متوجة بحضور القلب والمعنوية التامة. ويمكن لكافة الاخوة المؤمنين لمس معطيات هذه العبادة من خلال التجربة وتذوق حلاوتها بشغاف القلب فيحرصون على أدائها، فهى الموصوفة لمن أراد الدنيا، وهى كذلك لمن أراد الآخرة، وهى باعثة الرزق ومطيبة الريح ومبيضة الوجه. نسأل اللّه أن يوفقنا وإياكم للمواظبة عليها.
—–
«أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِما أَنْذَرَ، واحْتَجَّ بِما نَهَجَ، وحَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً، ونَفَثَ فِي الاْذانِ نَجِيّاً، فَأَضَلَّ وأَرْدَى، ووَعَدَ فَمَنَّى، وزَيَّنَ سَيِّئاتِ الْجَرائِمِ، وهَوَّنَ مُوبِقاتِ الْعَظائِمِ، حَتَّى إِذا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ، واسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ، أَنْكَرَ ما زَيَّنَ، واسْتَعْظَمَ ما هَوَّنَ، وحَذَّرَ ما أَمَّنَ».
—–
أشار الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة إلى أحد الأخطار المهمة للغاية التي تهدد سعادة الإنسان، ويتمثل ذلك الخطر بوساوس الشيطان ومكائده التي تعد من أعظم وسائله في خداع الناس. فقد أوصى الإمام(عليه السلام) ثالثة بالتقوى مشيرا إلى إتمام الحجة الإلهية: «أوصيكم بتقوى اللّه الّذي أعذر بما أنذر، واحتجّ بما نهج» فمن الواضح أنّ العدل الإلهي لايمكن بسطه دون إتمام الحجة الكافية، ومن هنا بين البارئ سبحانه وتعالى الحق والباطل من خلال الرسول الظاهر المتمثل بالأنبياء والأوصياء والأولياء، والرسول الباطن وهو عقل الإنسان وفطرته حتى لايعذر أحد بجهله في محاولة لتبرير تمرده وخلافه. فالواقع هو أنّ العبارة: «احتج بما نهج» إشارة إلى بيان طريق السعادة، والعبارة: «أعذر بما أنذر».
تحذير من الاخطار الكامنة في مسير الإنسان. الجدير بالذكر أنّ اللّه سبحانه لايكتفي باتمام الحجة على عباده فحسب، بل يتمها بمنتهى اللطف والرحمة، ولذلك تأكدت آلية العقل الكافية في أغلب المراحل لاتمام الحجة بالوحي بواسطة الأنبياء العظام، إلى جانب التحذير من مغبة مقارفة الاثم والذنب: (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَـتْلُو
عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنّا مُهْلِكِي القُرى إِلاّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ)(1) ثم أشار(عليه السلام) إلى أخطار الشيطان قائلاً: «وح ذّركم عدوّاً نفذ في الصّدور خفيّاً، ونفث في الاْذان نجيّاً، فأضلّ وأردى» لاشك أنّ الصفات الواردة في العبارة تشير بوضوح إلى أنّ المراد هو الشيطان، وان لم يرد إسمه صريحاً في هذه العبارة والعبارات اللاحقة. فقد خاطب الحق سبحانه آدم(عليه السلام)في كتابه العزيز قائلاً: (إِنَّ هـذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَـنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى)(2). وصرح في موضع آخر على نحو العموم قائلاً: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِـي آدَمَ أَنْ لا تَعْـبُدُوا الشَّـيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(3)طبعا يمكن أن يكون الشيطان وسيلة للسمو والتكامل بالنسبة للمؤمنين والسالكين، وذلك لأنّهم يزدادون معنوية وقرباً من الحق كلما حاربوه وصمدوا بوجه مكائده وحيله. ثم واصل(عليه السلام) كلامه بكشف اللثام عن مختلف طرق وساوس الشيطان، فاشار إلى ثلاث منها: «و وعد فمنّى، وزيّن سيّئات الجرائم، وهوّن موبقات العظائم». فالحق أنّ هذه هى المصائد الثالث والطرق الخطيرة التي ينفذ من خلالها إلى نفس الإنسان، الاولى: أنّه يمنّى الإنسان، ويجعله يعيش طول الأمل والخيالات والأوهام بشأن المستقبل، المستقبل الذي قد لايدركه الإنسان قط فيلهيه به ويستهلك جميع طاقاته من أجله وهكذا يغلق بوجهه سبيل التزكية ويصرفه عن الطاعة. والثانية: يزين له الذنوب والمعاصي التي يأباها الطبع الإنساني بوحي من ضميره ووجدانه ويجعله يرى التحلل حرية والتفسخ مدنية ومجالسة أهل الفسوق والخطيئة نوعا من أنواع التعايش السلمي، والخلاصة فقد أعد عدته لتزيين كل قبيح. والثالثة: يسعى لأن يصغر للإنسان كبائر الذنوب فيبديها له سهلة ليست بذات أهمية ويمنيه ببعض التبريرات والمسوغات من قبيل عظمة عفو اللّه ورحمته وأن ليس هناك من إنسان معصوم وهو عرضة للخطأ والزلل وان باب التوبة مفتوح وقد إدخرت شفاعة الشافعين ولاسيما النبي وأهل بيته الكرام لمثل هذه الاُمور. والحال لابدّ أن نرى النتيجة التي تنتهي إليها هذه الوساس والحيل والمكائد الشيطانية، هذا ما أشار إليه الإمام(عليه السلام) قائلاً: «حتّى إذا
1. سورة القصص / 59.
2. سورة طه / 117.
3. سورة يس / 60.
استدرج قرينته، واستغلق رهينته، أنكر ما زيّن، واستعظم ما هوّن، وحذّر ما أمّن» فالعبارة «إستدرج» تفيد أنّ وساسوس الشيطان عادة ما تتم خطوة فخطوة لتكون اكثر تأثيراً في الأفراد، فلو كانت هذه الوساوس دفعية فانّ الأفراد وأن تمتعوا بقليل من التقوى لحاربوها ووقفوا بوجهها، ولعل هذا هو المعنى الذي أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ)(1) وسائر الآيات القرآنية الواردة بهذا الشأن. أمّا العبارة «قرينته» فكأنّها أقتبست من الآية الشريفة: (وَمَنْ يَـعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمـنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)(2) فالواقع هو أنّ الشيطان على درجة من القرب من أتباعه بحيث لاتنفك مفردات حياتهم عنه وهو مقرون بهم أينما حلوا. وأخيرا تشير العبارة «إستغلق رهينته» إلى أنّ الشيطان يرتهن أتباعه ويغلق عليهم باب الرجعة ـ بالضبط كشياطين الانس الذين يزينون الفساد والانحراف للأفراد فانّ سقطوا في هذا الفخ وتلوثوا أغلقوا عليهم كافة طرق الخروج ولم يجدوا أمامهم سوى الاذعان والانقياد. أمّا يوم القيامة حيث تطرح حجب الخداع والمكر والغرور ويظهر ما كان يبطنه كل شخص، فلا يسع الشيطان هناك إلاّ الانكار، وأن يكبر ما كان إستضغره، غير أنّ هذا الانكار لايفيده، كما لايفيد أتباعه وذلك لأنّ عهد الرجعة والتوبة من الذنوب وتدارك الماضي قد ولى إلى غير رجعة.
—–
إنّ الإنسان يخوض على الدوام مواجهة تجاه عدوين كبيرين: عدو داخلي يدعى بالنفس الامارة، وعدو خارجي هو الشيطان، ولكل منهما ذات الأعمال المكملة لبعضها البعض الآخر. وعلى الرغم مما ذكرناه من أنّ هذا العدو الداخلي والخارجي بالنسبة لأهل الإيمان مصدراً للسمو والتكامل ومحاربة عناصر الذنب والمعصية، وبالتالي يوجب تكامل أرواحهم ويزيد من قربهم إلى اللّه سبحانه، مع ذلك فانّ وجود مثل هذا العدو الخطير يتطلب مزيدا من الحيطة
1. سورة البقرة / 168 و208; سورة الانعام / 142; سورة النور / 21.
2. سورة الزخرف / 36 ، كما ورد مثل هذا التعبير في سورة فصلت / 24 .
والحذر، ويضاعف من خطورته أنّه لايدعو الإنسان صراحة إلى الذنب، بل يزين الذنوب وينمق المعاصي ويصغر كبائر الذنوب، ويكبر ما صغر من الطاعات، ويريه المصائد جميلة، مستغلا كافة نقاط ضعف الإنسان لينفذ إلى أعماقه فيلقيه في مخالب الشهوات والأموال والمقام والآمال الطويلة، ومن هنا فانّ الغفلة لحظة قد تقود إلى عمر من الشقاء والبؤس والندم. ولذلك وردت التحذيرات التي أكدتها الروايات والأخبار الإسلامية، ومن ذلك أنّه أوحي إلى موسى(عليه السلام): «ما لم تسمع بموت ابليس فلا تأمن مكره»(1) وقد خضنا في شرح وساوس الشياطين في المجلد الأول من هذا الكتاب في الخطبة السابعة.(2)
—–
1. بهج الصباغة 14/350، كما ورد شبه هذا المضمون في بحارالأنوار باختلاف طفيف كأحد الوصايا الأربعة لموسى(عليه السلام) (بحارالأنوار 13/244) (مادمت لاترى الشيطان ميتا فلاتأ من مكره).
2. نفحات الولاية 1/460 ـ 467.
«أَمْ هَذا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْحَامِ، وشُغُفِ الاَْسْتَارِ، نُطْفَةً دِهَاقاً، وَعَلَقَةً مِحاقاً، وجَنِيناً وراضِعاً، ووَلِيداً ويافِعاً، ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حافِظاً،لِساناً لافِظاً، وبَصَراً لاحِظاً، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً، ويُقَصِّرَ مُزْدَجِراً، حَتَّى إِذا قامَ اعْتِدالُهُ، واسْتَوَى مِثالُهُ، نَفَرَ مُسْتَكْبِراً، وخَبَطَ سادِراً، ماتِحاً فِي غَرْبِ هَواهُ، كادِحاً سَعْياً لِدُنْياهُ، فِي لَذّاتِ طَرَبِهِ، وبَدَواتِ أَرَبِهِ، ثُمَّ لا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً، ولا يَخْشَعُ تَقِيَّةً; فَماتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً، وعاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً ]أسيرا[ لَمْ يُفِدْ عِوَضاً ]غرضا [وَ لَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً».
—–
خاض الإمام(عليه السلام) ـ في هذا المقطع من الخطبة وقد أشرفنا على نهايتها ـ في أمر مهم آخر وهو خلق الإنسان ومتابعته منذ كونه جنيناً حتى إختتام عمره ومفارقته للدنيا وبعثه في يوم القيامة، اتماماً للأبحاث السابقة حول مكائد الشيطان وضرورة إعداد العدّة والتحلي بالورع والتقوى، وبعبارة اُخرى ليكون الإنسان على حيطة وحذر فيمارس وظائفه الرئيسية ويجتنب وساوس الشيطان. فقد قال(عليه السلام): «أم(1) هذا الّذي أنشأه في ظلمات الاْرحام، وشغف(2)
1. هنالك خلاف بين شرّاح نهج البلاغة بشأن (أم) هل هى إستفهامية ومتصلة أو منقطعة؟ ويبدو من الصعب الحكم في ذلك، لأنّ ظاهر عبارة المرحوم السيد الرضي (ره) قد اختار كلاما من هذه الخطبة الطويلة ويمكن أن تكون العلاقة بين العبارات خافية هذه القطوف، وقد فسرناها منقطعه وتقديره العبارة «بل أذكركم بحال الإنسان...».
2. «شغف» من مادة «شغاف» على وزن جواب يعني في الأصل غلاف القلب، والمفردة هنا بمعنى الاغلفة المتعددة.
الاْستار، نطفةً دهاقاً،(1) وعلقةً محاقاً،(2)جنيناً وراضعاً، ووليداً ويافعاً(3)». فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام)أشار إلى ستة مراحل من حياة الإنسان، ترتبط ثلاث منها بالفترة التي يكون فيها جنين وقبل الولادة، وثلاث أخرى تتعلق بما بعد الولادة. وهى المراحل التي تطوى سريعاً وتحتفظ كل واحدة منها بميزاتها، فبعضها عجيب للغاية والبعض الآخر ينطوي على الدروس والعبر، فاللّه سبحانه وبقدرته يعد من ماء الرجل الذي يفتقر إلى الصورة والشكل بعد أنّ يتكامل في ظلمات المشيمة والرحم وبطن الاُم إلى علقة فمضغة وعظاماً ولحماً جنيناً ذا حياة، ليخرج إلى الدنيا، ثم يطوي مراحل الهداية والتكامل ليبدأ مسيرته إلى الحق. ثم أشار الإمام(عليه السلام) إلى ما زود به هذا المخلوق من وسائل وأدوات: «ثمّ منحه قلباً حافظاً، ولساناً لافظاً، وبصراً لاحظاً، ليفهم معتبراً،يقصّر مزدجراً» فقد منحه اللّه العقل ليميز به الحسن من القبيح، واللسان ليستغله في فتح صناديق كنوز العلم بالسؤال والبحث، والعين ليدرك بها الحقائق الحسية، ويصل إلى أهدافه النهائية من خلال هذه النعم الثلاثة، ثم يستفيدها في إدراك الأحكام الإلهية ويعتبر بما حوله ويبتعد عما لايليق بشأنه. فالواقع هو أن مصادر المعرفة الثلاث: العقل واللسان والعين والتي تمثل إدراك وإستيعاب المواضيع الفكرية والنقلية والعينية والحسية قد جمعت في هذه العبارة القصيرة، وبالتالي فقد أمر الإنسان باعتماده للفوز بالسعادة والرضوان.
ثم قال(عليه السلام): «حتّى إذا قام اعتداله، واستوى مثاله، نفر مستكبراً، وخبط سادراً»(4) طبعاً ليس جميع الناس كذلك، إلاّ أنّ كلام الإمام(عليه السلام) إنّما يتناول الأغلبية العظمى التي تشاهد في المجتمعات البشرية والتي تولي ظهرها لكل شئ إذا ما شعرت بالقوة والاقتدار ونالت بعض المناصب، كما تشكل تحذيرا لأهل الإيمان من ضرورة مراقبة النفس والسعي لأداء الشكر
1. «دهاق» من مادة «دهق» على وزن دهر بمعنى متتابعا وشدة الضغط، ثم استعملت بمعنى الصب بالقوة والضغط، واشارت هنا إلى صب النطفة في الرحم.
2. «محاق »من مادة «محق» على وزن محو النقص التدريجي والمحو، ومن هنا يطلق المحاق على القمر في أخره، ووصف العلقة بالمحاق بمعنى خفيت فيها ومحقت حتى زالت صورتها وتبدلت إلى جنين، أو لأنّ لها شكل ممحو وغير معين ولم تتخذ لها صورة.
3. «يافع» من مادة «يفع» على وزن نفع الغلام راهق العشرين.
4. «سادر» من مادة «سدر» المتحير والمتخبط.
والتحلي بالتقوى. ثم قال(عليه السلام) «ماتحاً(1) في غرب(2) هواه» فهم يشقون على أنفهسم من أجل الحصول على الدنيا ويسعون جاهدين للتمتع بلذاتها، ولا يقتدح في ذهنهم شيئاً من أهوائهم النفسية الا أتوه: «كادحاً(3) سعياً لدنياه، في لذّات طربه، وبدوات(4) أربه(5)» فهذه العبارات إشارة إلى أولئك الجهال الذين يوظفون كافة إمكاناتهم ويستفرغون ما بوسعهم من أجل الحصول على مال الدنيا وحطامها والتنعم بلذاتها الفانية وأشباع أهوائهم ورغباتهم الجامحة، وكأن هذا هو الهدف الذي خلقوا من أجله، والحال أنّهم يرون بأم أعينهم مصائب الدنيا ومحنها وأمراضها بالتالي الموت الذي يزيليها، فكيف تكون هدفا وهذا حالها. إلاّ أنّهم وكما يصفهم الإمام(عليه السلام): «ثمّ لا يحتسب رزيّةً،(6) ولا يخشع تقيّةً،(7) فمات في فتنته غريراً،(8) وعاش في هفوته(9) يسيراً لم يفد عوضاً ولم يقض مفترضاً» ويالها من حالة خطيرة لمن أصيب بمثل هذا الغرور والغفلة; فقد ضحى بعمره من أجل التلذذ بضعة أيام، أي لذة، تلك المشوبة بالألم والهم والغم، حتى ودع الدنيا خالي اليدين وقدم على ربّه بذلك السجل الذي يفضحه في محكمة العدل الإلهي.
—–
أشار الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة إلى النعم الإلهية التى أفاضها الرحمن على الإنسان
1 و 2 ـ ماتح تعنى من ينزل البئر إذا قل ماؤها فيملأ الدلو، و«الغرب» بمعنى الدلو العظيمة، فتفسير العبارة التي وردت في الخطبة هو أنّ بعض الأفراد الذين يسعون لاشباع أهوائهم ورغباتهم وما يحلمون به من أماني.
3. «كادح» من مادة «كدح» على وزن مدح شدة السعي، كما تعني الحرص أيضاً.
4 و 5 ـ «بدوات» جمع بدأة على وزن «غفلة» من مادة «بدو» على وزن دلو بمعنى الظهور، وأدب بمعنى الحاجة والسرور، فالعبارة «بدوات أربه» تعني الحاجات واللذات التي تخطر على ذهن الإنسان.
6. «رزية» من مادة «رزأ» على وزن عضو بمعنى النقص في الأصل، كما وردت بمعنى المصيبة.
7. «تقية» وردت هنا بمعنى التقوى ومفهوم الجملة أنّ خشوعه إلى اللّه لايستند إلى التقوى، وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ تقية هنا مفعول مطلق للنوع، وقيل مفعول له، وليس هنالك من فارق في المفهوم.
8. «غرير» بمعنى المغرور.
9. «هفوة» من مادة «هفو» رفع القدم بسرعة، ولما كانت السرعة في المشي تدعو إلى الزلل في أغلب الأحيان ولعلها تؤدي إلى الوقوع فان الهفوة تعني الخطأ والزلل والوقوع على الأرض.
منذ خلقه في رحم أمه حتى ولادته وانتهاءا باجتيازه لمراحل السمو التكامل، كما تطرق إلى قدرته سبحانه في كيفية متابعة خلقه في الظلمات الثلاث في بطن أمه وصور تكامله، وكيف جهزه بعد خروجه إلى الدنيا بالآت المعرفة من قبيل منحه القلب الحافظ والعين الباصرة واللسان الناطق، غير أن هذا الإنسان الجاحد المنكر للجميل ما أن يشعر بالقوة والقدرة حتى ينسى الهدف الذي خلق من أجله، وكأنه يخلص في النوم والأكل والشرب والشهوة واللذة، على غرار الحيوان، وقد تجاهل كل ما يرى من مصائب ومحن والام وبالتالي الموت هادم اللذة، بل لايرى هذا الموت مكتوباً عليه وكأنه مخلد في الدنيا وليس هنالك من خطر من شأنه القضاء على لذاته ومتعه، فأوامر اللّه وأحكامه لا تعنيه، وأنبيائه ورسله لم يبعثوا إليه مع ذلك سرعان مايحل أجله ويفنى عمره إذ يفاجئه الموت، فيقدم على ربّه ولاعمل له فكيف به وقد أغلقت كل الأبواب بوجهه وليس هنالك من سبيل إلى العودة والتوبة.
—–
«دَهِمَتْهُ فَجَعاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ ]غبر[ جِماحِهِ، وسَنَنِ مِراحِهِ، فَظَلَّ سادِراً، وباتَ ساهِراً، فِي غَمَراتِ الاْلامِ، وطَوارِقِ الاَْوْجاعِ والاَْسْقامِ، بَيْنَ أَخ شَقِيق، ووالِد شَفِيق، وداعِيَة بِالْوَيْلِ جَزَعاً، ولادِمَة لِلصَّدْرِ قَلَقاً;الْمَرْءُ فِي سَكْرَة مُلْهِثَة، وغَمْرَة كارِثَة، وأَنَّة مُوجِعَة، وجَذْبَة مُكْرِبَة، وسَوْقَة مُتْعِبَة».
—–
يتطرق الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة إلى نهاية عمر هذا الإنسان الغافل المغرور وكيف يقضي لحظاته الاخيرة ساعة الاحتضار بين قرابته وبطانته، وقد رسم(عليه السلام) صورة تهز النفس البشرية وترعبها من جراء ذلك المشهد، فقال: «دهمته(1) فجعات المنيّة في غبّر(2)جماحه(3) وسنن(4) مراحه(5)، فظلّ سادراً،(6) وبات ساهراً، في غمرات الاْلام، وطوارق الاْوجاع والاْسقام» وقد تم هذا الأمر الذي يشهده هذا المحتضر وهو: «بين أخ شقيق، ووالد شفيق، وداعية بالويل جزعاً، ولادمة(7) للصّدر قلقاً». نعم فقد يأس أهله وأقرباؤه من حياته
1. «دهمته» من مادة «دهم» على وزن فهم بمعنى الغشاوة وتغطية الشئ.
2. «غبر» جمع «غابر» يعني الباقي .
3. «جماح» من مادة «جمح» على وزن جمع التعنت عن الحق، ومن هنا يطلق الجموح على الحيوان الطائش.
4. «سنن» مفرد بمعنى الطريقة وسنن بالضم جمع سنة.
5. «مراح» من مادة «مرح» على وزن فرح شدة السرور المقرونة بالطغوى واستثمار نعم اللّه في الباطل.
6. «سادرا» تعني الحيرة كما تعني الصلافة، والمعنى الأول أنسب للعبارة، بينما المعنى الثاني أنسب للعبارة الاولى التي مرت في المقطع السابق.
7. «لادمة» من مادة «لدم» على وزن هدم تعني في الأصل الضاربة، ومن هنا تطلق اللادمة على المرأة التي تلطمه وجهها ورأسها حين المصاب.
وأخذوا بالبكاء وا لعويل عليه; وأنّ هذا الصراخ والعويل يقض مضجعه كلما خفت عليه غصص الموت وأفاق إلى نفسه، فيتطلع إلى الموت الذي يراه بعينه وهى تدور يميناً وشمالاً من الخوف والرعب: «و المرء في سكرة ملهثة،(1) وغمرة كارثة،(2) وأنّة موجعة، وجذبة مكربة،(3) وسوقة(4) متعبة». حقاً أنّ الاحتضار وسكرات الموت حالة عجيبة! فهذا الإنسان الذي كان متربعاً بالأمس على عرش السلطة وقد زود بكافة الإمكانات وثمل من كأس الغرور وتفاخر على سائر الكائنات، هو اليوم أسير الأمراض وقد صعبت حالته حتى يئس منه من حوله فتعالت أصواتهم بالبكاء والصراخ، ولكن ما عسى ذلك أن يجيده نفعاً. وقد شحن التأريخ بالدروس والعبر بما تضمنه من قصص أصحاب القدرة حين طرحوا على فراش الموت واستسلموا له.
فقد روي أنّ المأمون لما أثقل قال: أخرجوني أشرف على عسكري، وانظر إلى رجالي، وأتبين ملكي، وذلك في الليل، فاخرج فاشرف على الخيم والجيش وانتشاره وكثرته وما قد أوقد من النيران، فقال: يا من لايزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه، ثم رد إلى مرقده وأجلس المعتصم رجلاً يشهده لما ثقل، فرفع الرجل صوته ليقولها، فقال له ابن ماسويه: لاتصح فواللّه مايفرق بين ربّه وبين ماني في هذا الوقت، ففتح المأمون عينيه من ساعته، وبهما من العظم والكبر الأحمرار ما لم ير مثله قط، وأقبل يحاول البطش بيديه بابن ماسويه، ورام مخاطبته، فعجز عن ذلك، فرمى بطرفه نحو السماء، وقد إمتلأت عيناه دموعاً، فانطلق لسانه من ساعته، وقال: يا من لايموت ارحم من يموت، وقضى من ساعته، وحمل إلى طوس فدفن فيها.(5) وفيه قال الشاعر:
هل رأيت النجوم أغنت عن المأ *** مون شيئاً وملكه المأنوس
خلفوه بعرصتي طرسوس *** مثل ما خلفوا أباه بطوس
1. «ملهثة» من مادة «لهث» على وزن فحص إخراج الكلب لسانه حين العطش والانزعاج ، ثم اطلقت على من يلهث بشدة وراء الأشياء .
2. «كارثة» من مادة «كرث» على وزن بحث بمعنى شدة الهم والغم، أو الأسباب التي تدعو إليها.
3. «مكربة» من مادة «كرب» على وزن غرب بمعنى الوقوع في أسر الهموم.
4. «سوقة» من ساق المريض نفسه عند الموت سوقا وأسرع في نزع الروح.
5. مروج الذهب للمسعودي 3/456.
![]() |
![]() |