![]() |
![]() |
1. «نابغة» من مادة «نبوغ» الظهور والشهورة وتصطلح العرب بالنابغة على المرأة المشهورة بالفساد، كما تطلق على الافذاذ من الأفراد.
2. «دعابة» بالضم المزاح واللعب.
3. «تلعابة» بكسر التاء كثير اللعب الذي يشغل الناس بكلامه وأفعاله.
4. «أعافس» من مادة «معافسة» شدة المزاح.
5. «أمارس» من مادة «ممارسة» الانهماك بالمزاح.
إشارة إلى فساد أسرته، لأنّ العرب كانت تنسب الولد لأُمّه إن كانت مشهورة بالشرف والمجد أو بالوضاعة والفساد، كما تعني مفردة النابغة الظهور والبروز، إلاّ أنّها تشير إلى الاشتهار بالفساد إذا أطلقت على المرأة، فقد كانت النابغة أم عمرو بن العاص أمّة لرجل من عترة اسمها الأصلي سلمى أو ليلى، وقد واقعها أبوسفيان فولدت عمرو، فاختلف فيه حيث واقعها أمية بن خلف وهشام بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي، حيث ادعاه كلهم، فحكمت اُمّه فيه فقالت: هو من العاص بن وائل، وذلك لأنّ العاص بن ائل كان ينفق عليها كثيراً. وكان أشبه بأبي سفيان الذي قال عنه: أما إني لا أشك أنّي وضعته في رحم اُمّه، فأبت إلاّ العاص.(1)
الواقع أنّ الإمام(عليه السلام) قدم بهذه العبارة لما بعدها، بمعنى لاينبغي التعجب من مثل هذا الإنسان الذي يكيل التهم للصالحين ويفتري عليهم الكذب. والمفردة دعابة تفيد كثرة المزاح، وتلعابة من يمازح الناس ويهزل معهم، وأعافس وأمارس بمعنى واحد تقريباً وهو معالجة النساء بالمغازلة، ثم اتخذت معنى أوسع لتطلق على كل هزل ومزاح. فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام)قد اختصر بهذه العبارات كافة التهم التي نسبها عمرو بن العاص للإمام(عليه السلام)زوراً وبهتاناً، لتكون مقدمة للرد عليه. والجدير بالذكر أنّ أعداء الإمام(عليه السلام) لم يتورعوا عن التشبث بمثل ما ورد في الكلام المذكور لما عجزوا عن الطعن في شخصية الإمام(عليه السلام) ولم يروا فيه أدنى ضعف، فهو المعروف بعلمه وتقواه وزهده وورعه وشجاعته وصبره وحلمه، فرموه بتهمة المزاح بهدف إثبات عدم جدارته بالخلافة; الأمر الذي يثبت صلاحيته وجدارته بها، فهم في ذلك كالمثل المعروف: «الغريق يتشبث بكل حشيش»، فعمدوا إلى هذه الذريعة الجوفاء. وبالطبع فاننا سنتحدث في البحث القادم إن شاءاللّه عن المزاح متى يكون مباحاً أو مذموماً. ثم ردّ الإمام(عليه السلام)على كذب بن العاص في ذلك الاتهام قائلاً: «لقد قال باطلاً، ونطق آثماً. أما ـ وشرّ القول الكذب»، من يسعه التفكر إلى المزاح اللطيف الذي لايشوبه الباطل والبعيد عن كل إفراط وتفريط؟ ومن يستطيع تجاهل جدية الإمام(عليه السلام) في خطبه ورسائله وقصار كلماته؟! فقد كان أعظم جدية ممن سواه، كما كان ذا إرادة جبارة في زعامته، وان كان يعمد إلى المزاح مع
1. ربيع الأبرار للزمخشري، نقلا عن ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة 6/283.
بعض أصحابه بغية مواساتهم وتخفيف الهم والغم عن قلوبهم; الأمر الذي يشاهد بوضوح في حياة إمامه الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله). أما العدو فهذا ديدنه، فهو لايكف عن الكذب والدجل والتشبث بأتفه الذرائع من أجل النيل من الطرف المقابل. ثم واصل الإمام(عليه السلام) كلامه ليذكر ست صفات رذيلة إتصفت بها سيرة عمرو بن العاص: «إنّه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويسأل فيبخل، ويسأل فيلحف،(1) ويخون العهد، ويقطع الإلّ(2)» لاشك أنّ كل من يطالع سيرة عمرو بن العاص وسجله الأسود يقف بوضوح على هذه الرذائل في شخصيته.
والخلاصة فقد كان وضيعاً، لايتورع عن إرتكاب أفظع الرذائل من أجل الدنيا والظفر بحطامها، فهو يعد إذا كانت الاُمور لصالحه، بينما يخلف إذا كانت بضرره. فقد كان يضحي بالغالي والنفيس من أجل الحصول على الدنيا، ولاسيما أمام معاوية الذي كان شديد الحاجة إليه، وهذا ما كان يدفعه إلى إعطائه ما يصبو إليه. أمّا نقضه للعهود والمواثيق فحدث ولا حرج، بل كان لايرحم حتى قرابته ومن له صلته به. وأخيراً دوره في التحكيم ليس بخاف على أحد. قال بعض المؤرخين أنّه عاش تسعين سنة، وذكر اليعقوبي(3) أنّه عاش تسعين سنة ولما حضرته الوفاة قال لابنه: لود أبوك أنّه مات في غزات ذات السلاسل، إني قد دخلت في اُمور لاأدري ما حجّتي عنداللّه فيها. ثم نظر إلى ماله فرأى كثرته فقال: ياليته كان بعراً، ياليتني مت قبل هذا اليوم بثلاثين سنة، أصلحت لمعاوية دنياه وأفسدت ديني، آثرت دنياي وتركت آخرتي، عمي علىّ رشدي حتى حضرني أجلي، كأني بمعاوية قد حوى مالي وأساء فيكم خلافتي.
على كل حال ليس هنالك من لايعلم بهذه الرذائل التي إنطوت عليها شخصية عمرو بن العاص. ثم أشار الإمام(عليه السلام) إلى أرذل الأعمال التي ارتكبها عمرو بن العاص في حياته، العمل الذي إنعدم مثيله في التأريخ، وذلك يوم صفين حين رأى نفسه مقتولا بيد علي(عليه السلام) فعمد إلى كشف عورته، لأنه كان يعلم بأنّ حياء الإمام(عليه السلام) لايدعه ينظر إليه في تلك الحالة، فاغتنم تلك
1. «يلحف» من مادة «الحاف» بمعنى الاصرار والالحاح واصلها من اللحاف وهو الغطاء المعروف، ولما كان الشخص المصر يلف من حوله فقد اطلقت عليه هذ المفردة.
2. «الإل»، العهد، والميثاق، كما تعني القرابة، والمراد من قطع الال أن يقطع الرحم.
3. تأريخ اليعقوبي (طبق نقل الغدير 2/175).
الفرصة ليهرب من بين يديه. فشاع هذا الأمر بين العرب آنذاك حتى أخذت الناس تضرب به المثل في أن عورة عمرو أنجته من الموت. فقد قال الإمام(عليه السلام): «فإذا كان عند الحرب فأيّ زاجر وآمر هو! ما لم تأخذ السّيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم(1)سبّته(2)» فقد قال ابن أبي الحديد: وأما خبر عمرو في صفين واتقائه حملة علي عليه السلام، بطرح نفسه على الأرض وإبداء سوأته،(3) فقد ذكره كل من صنف في السير كتاباً، وخصوصاً الكتب الموضوعة لصفين والقصة كالاتي: قال نصر بن مزاحم في كتاب صفين قال:
حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي عمرو، وعن عبد الرحمن بن حاطب، قال كان عمرو بن العاص عدواً للحارث بن نضر الخثعمي، وكان من أصحاب علىّ عليه السلام، وكان عليّ(عليه السلام) قد تهيبته فرسان الشام، وملأ قلوبهم بشجاعته، وامتنع كل منهم من الإقدام عليه. وكان عمرو قلّما جلس مجلساً إلاّ ذكر فيه الحارث بن نضر الخثعمي وعابه.
فشاعت هذه الأبيات حتى بلغت عمراً، فأقسم بالله ليلقين عليّاً ولو مات ألف موتة. فلما اختلطت الصفوف لقيَه فحمل عليه برمحه، فتقدم علىُّ(عليه السلام) وهو مخترط سيفاً معتقلٌ رمحاً، فلما رهقه همز فرسَه ليعلُوَ عليه، فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض شاغراً برجليه; كاشفاً عورته، فانصرف عنه لافتا وجهه مستدبِراً له، فعدَّ الناس ذلك من مكارمه وسؤدُده وضرِب بها المثل.(4)
واوردت التواريخ قال معاوية يوماً بعد استقرار الخلافة له لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله، لا أراك إلاّ ويغلِبنُي الضحك; قال: بما ذا؟ قال: أذكر يوم حَمل عليك أبو تراب في صِفيّن، فأزريت نفسك فَرَقاً من شَبَاً سنانه، وكشفت سوأتك له; فقال عمرو: أنا منك أشدّ ضحكاً; إنّي لأذكرُ يومَ دعاك إلى البِراز فانتفخ سَحْرُك، ورباَ لسانُك في فمك وغَصِصْتَ بريقك، وارتعَدَتْ فرائصُك، وبدا منك ما أكره ذِكْرَه لك; فقال معاوية: لم يكن هذا كلّه وكيف يكون ودوني عَكّ
1. «قرم» الذكر من الجنس، كما وردت بمعنى الشخص العظيم والسيد، وهذا هو المعنى المراد في العبارة، لأن عمرو بن العاص كان يعلم اَن أميرَالمؤمنين علي(عليه السلام) يصرف وجهه عنه اِذا ما كشف عورته.
2. «سبة» من مادة «سب» على وزن شق الشتم وكل شئ يكره ذكره، وهى هنا إشارة إلى العورة.
3. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/312.
4. كتاب «صفين» لنصر بن مزاحم /224 «بحسب ما نقله الغدير، في 2/158.
الأشعرِيون! قال: إنك لتعلم أن الذي وصفتُ دون ما أصابك، وقد نزل ذلك بك ودونك عكّ الأشعريون، فكيف كانت حالك لو جمعكما مأقِطُ الحرب! فقال: يا أبا عبد الله، خُضْ بنا الهزل إلى الجِدّ، إن الجْبن والفرار من عليّ لا عَار على أحد فيهما.(1)
ثم قال(عليه السلام) ردا على إفتراء عمروبن العاص: «أما واللّه إنّي ليم نعني من اللّعب ذكر الموت» فالإمام(عليه السلام) لايغفل عن الموت طرفة عين، وذلك لأنّ الموت قانون يشمل جميع الخلائق لايعرف الاستثناء ولم يعنى له وقت، ويعلم الإمام(عليه السلام) على وجه اليقين أن الموت هادم اللذات وأنّ الإنسان يتحول إلى وحش ضاري إذا نسى الموت ومحكمة العدل الإلهي. فهل للإمام(عليه السلام) من فرصة للمزاح واطلاق العنان للهوى وهو ما عليه من الذكر؟ قطعا لايجوز ذلك على الإمام(عليه السلام)، بينما لم يدفع ابن البانغة للتفوه بذلك الكلام سوى نسيان الآخرة والغفلة عن الموت: «و إنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الاْخرة» نعم إذا كذب أو إفترى ولم يتورع عن القيام بأي عمل من أجل تحقيق مطامعه الدنيوية فذلك معلول لنسيانه الموت والآخرة. وما أسلفنا فان من نسى الآخرة وتجاهل العدل الإلهي أصبح كائنا خطيراً يخشى منه، لأنّه لايتوانى عن ارتكاب أبشع الأعمال دون أن يكترث حتى لشرفه وحيثيته. ثم يستدل(عليه السلام)على ذلك بقوله: «إنّه لم يبايع معاوية حتّى شرط أن يؤتيه أتيّةً،(2) ويرضخ له على ترك الدّين رضيخةً(3)». فقد أشار الإمام(عليه السلام) بهذه العبارة إلى تلك الواقعة المعروفة بين الناس والتي أشرنا إليها في الخطبة السادسة والعشرين، والقصة هى: لما نزل علي(عليه السلام) الكوفة بعد فراغه من أمر البصرة، كتب إلى معاوية كتاباً يدعوه إلى البيعة أرسل فيه جرير بن عبداللّه البجلي، فقرأه واغتم بما فيه، وذهبت به أفكاره كل مذهب، وأحب الزيادة في الاستظهار، فاستشار عمرو بن العاص، فكتب له معاوية كتاباً، فسار حتى قدم على معاوية. فقال له معاوية: إنّي أدعوك إلى جهاد علي بن أبي طالب. قال عمرو: واللّه يا معاوية ما أنت وعلي حملي بعير، ليس له هجرته
1. روى ابن ابي الحديد ذلك عن المؤرخ المشهور الواقدي (شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 6 / 317.
2. «الاتية» بمعنى العطية من الايتاء بمعنى الاعطاء .
3. «رضيخة» من مادة رضخ، «رضخ» له رضيحة أعطاه قليلا، والمراد بالعبارة أنّ عمرو بن العاص باع آخرته ودينه بذلك المتاع الزهيد من الدنيا، ولاسيما أنّه لم يتمتع بذلك المقام سوى بضع سنوات.
ولا سابقته ولاصحبته ولاجهاده ولافقهه ولاعلمه. ثم قال فما تجعل لي إن شايعتك على حربه وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر؟ قال: حكمك، فقال: مصر طعمة. فتلكا عليه معاوية، وقال: إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك أنّك إفما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا، فقال عمرو: دعني عنك. حتى استجاب له معاوية آخر الأمر.(1) والعجيب أنّ الدنيا لم تف له حيث لم يحكم مصر سوى بضع سنوات ثم ندم ندماً شديداً أواخر عمره من فعاله، فكان يلعن نفسه، ولم يكن أمامه من مخرج.(2)
كلنا نعرف هذا الشخص وقد سمعنا عن مكره ودوره الهدّام في التأريخ الاسلامي، ولعل الجميع يعلم بخدعته في رفع المصاحف على أسنة الرماح في معركة صفين حين أو شك جيش الشام على الهزيمة; الامر الذي أثر بشدة على بعض السذج من جيش علي(عليه السلام) فاجيروا الإمام(عليه السلام) على الكف عن القتال والرضوخ للتحكيم. ولد لاربع وثلاثين سنة قبل البعثة. أبوه العاص بن وائل المعروف بعدائه للاسلام والذي لقبه القرآن الكريم بالابتر «إن شانئك هو الابتر»(3) لأنه قال لقريش: سيموت هذا الابتر ـ رسول الله(صلى الله عليه وآله) ـ غدا فينقطع ذكره. وأما أمه فقد ذكر المؤرخون فقد وقع عليها خمس فولدت عمروا فادعاه كلهم، فحكمت أمه فيه فقالت: هو من العاص بن وائل لأنه كان ينفق عليها كثيرا، ولحسان بن ثابت أشعار فيه.
وقد توجه إلى الحبشة حين هاجر اليها المسلمون ليكيد جعفر أو يقتله، وقد اعلن اسلامه هناك ليسدد ضربته للاسلام والمسلمين. ويرى البعض أنه قصد الحبشة يوم الخندق وقال لصحبه: ارى أن نذهب إلى الحبشة فان ظهر قومنا عدنا اليهم وان ظهر محمد بقينا في الحبشة. فدخل الحبشة قبل جعفر وقد حمل الهدايا إلى النجاشي وطلبوا منه أن يأذن لهم بقتل جعفر.
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/61 (بتخليص).
2. هناك كلام بين المؤرخين بشأن موت عمرو، غير أنّ العلاّمة الأميني ذكر في غديره وابن أبي الحديد في شرحه 6/321: والصحيح أنّه مات في سنة ثلاث واربعين، فلم تدم حكومته لمصر أكثر من خمس سنوات.
3. سورة الكوثر / 3.
فلم يجبهم النجاشي الذي أسلم باطنا. فقال عمرو: لم أكن أعلم بمنزلة محمد وأنا على دينه الان. فلما عاد إلى المدينة استقبله النبي (صلى الله عليه وآله) وأمره وبعثه إلى ذات السلاسل. ثم ولاه البنى عمان (في الشام) فبقى هناك حتى وفاة النبي(صلى الله عليه وآله)، ثم ولاه عمرو فلسطين والاردن، وحين ولى عمر معاوية على الشام وجه عمرو بن العاص لمصر ففتحها، فولاها اربع سنوات على عهد عثمان ثم عزله، فنقم عليه وهاجر إلى فلسطين. ولما نهض معاوية في الشام استنجد بعمرو فاشترط عليه ولاية مصر فأجابه. فبقى فيها حتى توفي عام 43 وله تسعون سنة.
قيل عرف بالشجاعة في الجاهلية وان لم ينقذه من القتل في صفين الاعورته لأنه يعلم بأن عليا(عليه السلام) لا يقتله.(1)
يرى العلامة الاميني أنه لم يسلم وقد تظاهر بالاسلام وهو مصداق لمن قال فيهم الإمام علي(عليه السلام): «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أسلموا ولكن استسلموا واسروا الكفر، فلما وجدوا أعوانا، رجعوا إلى عداوتهم منا»(2).
لم يكن يتورع عن معاداة علي(عليه السلام) حتى قال لعائشة: ليتك قتلت يوم الجمل. فقالت: ولم لا أبا لك؟ قال: لدخلت الجنة وشنعنا بك على علي بن أبي طالب.(3)
واخيرا قال ابن ابي الحديد: وكان عمرو أحد من يؤذي رسول الله(صلى الله عليه وآله) بمكة ويشتمه ويضع في طريقه الحجارة; لأنه كان(صلى الله عليه وآله) يخرج من منزله ليلا فيطوف بالشعبة، وكان عمرو يجعل له الحجارة في مسلكه ليعثر بها. وهو أحد القوم الذين خرجوا إلى زينب ابنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) لما خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة، فروعها حتى أجهضت جنينا ميتا فلما بلغ ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله) نال منه وشق عليه مشقة شديدة ولعنه.(4)
ممّا لاشك فيه أن روح الإنسان ترهق من جراء المشاكل; فلابدّ من ترويحها بالاستجمام
1. الغدير 2/126; شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 6/ 282.
2. الغدير 2/ 126.
3. شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 6/ 322.
4. شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 6/282.
وطرائف الحكم، وإلاّ كسلت وشلت عن النشاط، ومن هنا فان العقل والمنطق والفطرة تقتضي أن يلجأ هذا الإنسان إلى المزاح بغية التخفيف من حدة المعاناة والتعب والارهاق، فان تم هذا الأمر في ظل الموازنة والاعتدال فهو ليس مذموما فحسب، بل من الاُمور المطلوبة، وأبعد من ذلك تكتسب درجة الضرروة والوجوب، لتعد جزءا من مكارم الأخلاق والبشاشة وطلاقة الوجه. والذي تفيده سيرة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وأئمة الدين(عليهم السلام)وأولياء اللّه ـ بل وكافة العقلاء ـ أنّهم كانوا يلجأون إلى المزاح في أعمالهم طيلة مدّة حياتهم. إلاّ أنّ ما يجدر ذكره هو أنّ هذا المزاح إنّما يتحول إلى سخرية واستهزاء لو خرج من حد الاعتدال أو شابه الاثم والغيبة والنميمية، كما يكون وسيلة للثأر وإراقة ماء وجه الآخرين، حيث يتعذر على الإنسان أحياناً إظهار مكنون قلبه من الحقد والضغينة فيلجأ إلى هذا الاسلوب، وهنا يتحول المزاح إلى رذيلة بشعة من الرذائل الكاشفة عن سوء الخلق. وهذان هما المعنيان الذان كشفت عنهما بعض الروايات الإسلامية التي مدحت المزاح من جانب وعدته فضيلة، وتلك التي ذمته وعدته رذيلة. ولابأس هنا بذكر بعض الروايات الإسلامية الواردة بهذا الشأن:
1 ـ ورد في الحديث أنّ أحد أصحاب الإمام الكاظم(عليه السلام) سأله عن المزاح فقال(عليه السلام): «لا بأس ما لم يكن» (أي مالم يخالطه الاثم) ثم قال: «إن رسول اللّه كان يأتيه الاعرابي، فيهدي له الهدية ثم يقول مكانه: أعطنا ثمن هديتنا! فيضحك رسول اللّه; وكان إذا اغتم، يقول: ما فعل الاعرابي؟ ليته أتانا».(1)
2 ـ وورد عن الإمام الكاظم(عليه السلام) «المؤمن دعب لعب، والمنافق قطب غضب».(2)
3 ـ عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «ما من مؤمن إلاّ وفيه دعابة; قلت: وما الدعابة؟ قال: المزاح».(3)
4 ـ بل ورد في الروايات أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كان يمزح، حيث جاء في الخبر أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)قال لأمرأة من الأنصار: «الحقي زوجك فإن في عينه بياضاً» فسعت نحوه مرعوبة، فقال لها:
1. اصول الكافي 2/663.
2. تحف العقول /41 باب مواعظ النبي.
3. اصول الكافي 2/663.
ما دهاك؟ فأخبرته، فقال: نعم إن في عيني بياضاً لاسوء، فخفضي عليك. فهذا من مزاح رسول اللّه(صلى الله عليه وآله). وأتت عجوز من الأنصار إليه(صلى الله عليه وآله)، فسألته أن يدعوا اللّه تعالى لها بالجنّة، فقال: «إن الجنّة لاتدخلها العجز»(1) فصاحت، فتبسم(صلى الله عليه وآله) وقال: (إِنّا أَنْشَأْناهُـنَّ إِنْشاءً * فَجَعَلْناهُـنَّ أَبْـكاراً)(2) وهكذا سائر الروايات...
وفي نفس الوقت وردت الروايات التي ذمت المزاح، ومن ذلك ما روي عن علي(عليه السلام) أنّه قال: «المزاح يورث الضغائن»(3) وقال: «لكل شئ بذر وبذر العداوة المزاح»(4) وجاء في الخبر أنّ المزاح يحد من العقل ويذهب بالهيبة وهو العدو الاصغر(5). وقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): «لايبلغ العبد صريح الإيمان حتى يدع المزاح والكذب»(6).
ومن الواضح أن ليس هنالك من تضاد بين هاتين الطائفتين من الروايات، لأنّ الطائفة الاولى تحدثت عن أصل المزاح، بينما تحدثت الطائفة الثانية عن الإفراط وتجاوز الحد في المزاح. أو بعبارة اُخرى: الطائفة الاولى ناظرة إلى المزاح الموزون الذي لايستند إلى أي غرض ومرض وحقد وضغينة، أمّا الطائفة الثانية فهى ناظرة إلى المزاح الباطل، والشاهد على ذلك ما جاء في الخبر عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «إني أمزح ولا أقول إلا حقا»(7). والشاهد الآخر أغلب الروايات التي صرحت بذم كثرة المزاح. فقد روي عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: «كثرة المزاح تذهب البهاء وتوجب الشحناء»(8). كما عبرت بعض الروايات عن ذلك بالإفراط في المزاح. ويتضح مما أوردنا من الروايات ـ ولاسيما تلك التي وردت عن علي(عليه السلام) ـ أنّ الإمام(عليه السلام)كان يمزح أحياناً بالحق; الأمر الذي يجعله فضيلة من فضائله وأنّه كان كريم الخلق بشر الوجه، إلاّ أنّ العدو كان يندفع بكل همجية وضغينة ليشوه حتى هذه الصفات الحميدة فيه، بهدف
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/330.
2. سورة الواقعة / 35 ـ 36.
3. تحف العقول /86 .
4. ميزان الحكمة /4، ح 18869.
5. ميزان الحكمة 4 / باب ذم المزاح.
6. ميزان الحكمة 4/ ح 18877.
7. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/320.
8. غرر الحكم.
إقصائه من مكانته، ونموذج ذلك ما ورد في هذه الخطبة. فقد نفى(عليه السلام) في هذه الخطبة عن نفسه كثرة المزاح، المزاح الممدوح الذي يهدف إلى جلاء الروح ونشاطها وإدخال السرور على قلوب المؤمنين.
ونختتم الكلام بهذا الحديث:
فقد جاء في الخبر أنّ يحيى(عليه السلام) لقي عيسى(عليه السلام)، وعيسى مبتسم، فقال يحيى(عليه السلام): مالي أراك لاهيا كأنّك آمن! فقال(عليه السلام): مالي أراك عابساً كأنك آيس؟
فقالا: لانبرح حتى ينزل علينا الوحي. فأوحى اللّه إليهما: أحبّكما إلىّ الطلق البسام، أحسنكما ظنا بي.(1)
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/333.
ومن خطبة له (عليه السلام)
وفيها صفات ثمان من صفات الجلال
أشار الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة إلى ثلاثة اُمور مهمة: الأول ذكره لبعض صفات الجلال والكمال بعبارات قصيرة عظيمة المعاني. الثاني دعوة الناس للاعتبار بما تفرزه حوادث الحياة ولاسيما الموت الذي يقف لهذه الحياة بالمرصاد. الثالث التعرض لدرجات أولياء اللّه والنعم المطلقة الخالدة التي يتنعمون بها في الجنّة. أمّا تعبير السيد الرضي (ره) في بداية الخطبة بالقول «ومنها» يفيد أنه وكديدنه قد إقتطف هذه العبارات من خطبة طويلة.
—–
1. سند الخطبة: رواها أبو نعيم الإصفهاني في كتاب حلية الأولياء والسبط بن الجوزي الذي عاش بعد السيد الرضي (ره) في كتاب تذكرة الخواص ومحمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤل (مصادر نهج البلاغة 2/122).
«وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ: الاَْوَّلُ لا شَيْءَ قَبْلَهُ،الاْخِرُ لا غايَةَ لَهُ، لا تَقَعُ الاَْوْهامُ لَهُ عَلَى صِفَة، ولا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّة، وَلا تَنالُهُ التَّجْزِئَةُ والتَّبْعِيضُ، ولا تُحِيطُ بِهِ الاَْبْصارُ والْقُلُوبُ».
—–
يقسم علماء العقائد صفات اللّه إلى قسمين: صفات الجمال وصفات الجلال. وتطلق صفات الجمال على الصفات الثبوتية من قبيل; العلم والقدرة. وتطلق صفات الجلال على الصفات السلبية من قبيل; عدم وجود الشريك والشبيه. ولما كانت الصفات الثمان الواردة في القسم الأول من الخطبة ثبوتيه وسلبية فانّ الذي ذكر عنوان لها ليس على ضوء علماء العقائد، بل يراد بالجلال هناك المعنى اللغوي والاشارة إلى عظمة هذه الصفات. على كل حال فانّ معرفة اللّه والتعرف على صفات جماله وجلاله، تعد معين كل خير وحسن وأساس جميع الفضائل الأخلاقية والأعمال الصالحة، ومن هنا فقد إستهل الإمام(عليه السلام) أغلب خطبه بالإشارة إلى جانب من هذه الصفات، ليحمل القلوب نحو عظمته سبحانه وصفات جلاله وجماله. فقد قال(عليه السلام): «و أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له» فالأوصاف وإن كانت ثلاث وهى نفي الشريك والمعبود وصفة التوحيد، غير أنّها تعد جميعاً إلى حقيقة واحدة وهى توحيده في الذات والصفات والعبودية. ولما كان التوحيد أساس صفات اللّه سبحانه، فقد تطرق الإمام(عليه السلام) إلى هذه الصفة قبل كل شئ، وسنرى لاحقاً أنّ سائر الصفات السبع إنّما تنبع من صفة التوحيد. ثم قال(عليه السلام) في الصفة الثانية «الأوّل لا شيء قبله» هذه واحدة من الصفات التي
تنزهه عن الشبه; لأنّه وجود لامتناهي، ومثل هذا الوجود أزلي، والوجود الأزلي قبل كل شئ وبعد كل شئ، فلو كان قبله شئ لانتفت أزليته. ثم قال(عليه السلام) في الصفة الثالثة: «و الاْخر لا غاية له» كما أشرنا آنفا فانّ هذه نتيجة لعدم تناهيه، وبعبارة أخرى إنتفاء نظيره. ومن الواضح أنّ الصفة الثانية والثالثة ثبوتية: فأوليته في الأزل، وآخريته في الأبدّ. وقال(عليه السلام) في الصفة الرابعة: «لا تقع الاْوْهام(1) له على صفة» فنحن نعلم أنّ عقلنا محدود لايسعه إدراك سوى المحدودات، وعليه فليس للوهم أن يحيط بذاته المقدسة وصفاته المطلقة التي هى عين ذاته، وبعبارة اُخرى فانّ علمنا بصفاته إنما هو من قبيل العلم الإجمالي، وإلاّ فالعلم التفصيلي بذاته وصفاته متعذر على مخلوقاته. ويتضح مما ذكر أنّ الأوهام هنا بمعنى الأفكار، غير أنّ الفكر حين يعجز يعبر عنه بالوهم. ثم أشار الإمام(عليه السلام) في الصفة الخامسة والسادسة إلى نفي الكيفية والكمية عن الذات الإلهية المقدسة قائلاً: «و لا تعقد القلوب منه على كيفيّة، ولا تناله التّجزئة التّبعيض» والكيفية عبارة عن الشكل والهيئة التي تتخذها الأشياء، سواء كانت هذه الهيئة قابلة للرؤية أو السماع أو اللمس. وبالطبع فانّ الكيفية إنّما ترتبط بالامور التي تكون أوصافها زائدة على ذاتها، أمّا من كانت صفاته عين ذاته، وكانت ذاته خالية من التعدد فليس للكيفية من سبيل إلى ذاته، بعبارة اُخرى فان الكيفيات ناشئة من المحدوديات والذات الإلهية اللامحدودة لاكيفية لها. كما أنّ الاشتمال على الجزء والبعض من خواص الأجسام، ومن هنا فالكمية من عوارض الجسم، ولما كان اللّه سبحانه منزه عن الجسمية، لم تجز عليه التجزئة والتبعيض، وليس للكمية من سبيل إلى ذاته المقدسة. بعبارة أخرى: إنّما تطلق الكمية حيث الزيادة والنقصان، وعليه فليس للّه من كمية حيث ليس هنالك من زيادة أ ونقصان في وجوده المطلق اللامتناهي. على ضوء ما مر معنا فان التجزئة والتبعيض لفظان متراد فان يفيدان معنى واحد، ألا أنّ بعض شرّاح نهج البلاغة احتملوا أنّ التجزئة إشارة إلى الأجزاء العقلية (كالجنس والفصل المنطقيين) والتبعيض إشارة إلى الأجزاء الخارجية. عى كل حال فمفهوم
1. «أوهام» جمع «وهم» على وزن فهم تعني لغويا ما يخطر على القلب، وقد وردت في الخطبة بمعنى إجالة الفكر التي لاتبلغ كنه الذات الإلهية المقدسة وصفاته سبحانه، وبعبارة أخرى لاتبلغ كنه ذاته حتى ذروة حركة العقل التي عبر عنها هنا بالوهم.
العبارة هو أن الذات الإلهية ليست مركبة من أجزاء لافي الخارج ولا في الذهن، لأنّه لو كان متركبا من أجزاء لاحتاج إليها، والحال أنّه غني بالذات، والمحتاج ممكن الوجود، لاواجب الوجود. ثم قال(عليه السلام) في الصفة السابعة والثامنة: «و لا تحيط به الاْبصار والقلوب» أمّا قوله(عليه السلام)لاتحيطه الابصار، فواضح، لأنّ الإنسان يرى بعينه الالوان والضوء ومن ثم الأجسام، ولما كان اللون من خواص الجسم، وللجسم زمان ومكان وأجزاء، فالنتيجة أنّه محتاج وممكن الوجود، واللّه أعظم وأجل شأناً من ذلك وان ذهب بعض علماء العامة استناداً إلى بعض الروايات ـ المخدوشة السند أو الدلالة ـ إلى رؤية اللّه سبحانه يوم القيامة، الأمر الذي يعتبر من الشرك; لأنّ ذلك يستلزم كون اللّه جسما له زمان ومكان وجهة ولون، أمّا نحن وعلى ضوء تعاليم أئمتنا(عليه السلام) نعتقد بأنّ الرؤية محالة على اللّه سبحانه، لافي هذا العالم ولا في عالم الآخرة! والأدلة العقلية التي أشارت إلى جانب من ذلك في الخطبة إنّما تثبت هذه الحقيقة، وليس للاستثناء من سبيل إلى الأدلة العقلية.(1) أمّا عدم إحاطة العقول بذاته المطهرة فلكونها غير محدودة، وليس للعقل المحدود قدرة إدراك غير المحدود، ولذلك قلنا سابقاً إن علمنا بذاته وصفاته سبحانه إجمالي لاتفصيلي. والذي يجدر ذكره هو أنّ الإمام(عليه السلام) عبر بعدم الاحاطة بشأن نفي الرؤية بواسطة العين وكذلك الرؤية العقلية، والذي يمثل في الواقع الدليل على المطلوب، لأنّ الاحاطة بالشئ من لوازم الرؤية أو المشاهدة العقلية، وكيف يحاط وجود مطلق لامتناهي.
وهنا يقتدح هذا السؤال وهو أنّ الإمام(عليه السلام) قال: «لاتدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان»(2) أفلا يناقض هذا الكلام ما ورد في الخطبة؟ والجواب على هذا السؤال أنّ المراد من عدم إحاطة العقل بذاته هو نفي إدراك كنه الذات، وبعبارة اُخرى: العلم التفصيلي; أمّا ما ورد في الخطبة 179 من رؤية اللّه من قبل القلوب يشير إلى العلم الإجمالي. فقد ورد عن الإمام الجواد(عليه السلام) أنّه قال: «أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولاتدركها ببصرك، فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف أبصار العيون»(3). على كل حال فان ما أورده الإمام(عليه السلام) من
1. راجع بهذا الشأن (نفي رؤية اللّه) المجلد الأول من هذا الكتاب، وكتاب رسالة القرآن 4/232 ـ 251.
2. نهج البلاغة، الخطبة 179.
3. ميزان الحكمة 3/1893، ح 12316.
صفات في هذه العبارات بشأن الذات المقدسة، إنّما يشير إلى ذروة قدرة الإنسان على معرفة اللّه. فليس هنالك من يورد مثل هذه الصفات سوى المعصوم ولاسيما أميرالمؤمنين علي(عليه السلام). ونختتم البحث بما ذكره ابن أبي الحديد بهذا الشأن فقد قال: وإعلم أن التوحيد والعدل والمباحث الشريفة الإلهية، ما عرفت إلاّ من كلام هذا الرجل، وأن كلام غيره من أكابر الصحابة لم يتضمن شيئاً من ذلك أصلاً; ولا كانوا يتصورونه، ولو تصوروه لذكروه. وهذه الفضيلة عندي أعظم فضائله(عليه السلام).(1)
![]() |
![]() |