1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/346.

[ 295 ]

بالعلم والقدرة المطلقة، الأمر الذي يجعلنا نمتلك معرفة إجمالية بهذه الذات المقدسة. من جانب آخر فاننا إذا فكرنا في ذاته سبحانه وتساءلنا ما حقيقتها؟ هل هى نور؟ أعظم من النور؟ وجود بسيط وخالص؟ لانفهم على وجه الدقة حقيقة ذاته. وكل ما نعرفه أنّ ذاته تفوق الجسم والجسمانيات، وتترفع عن الخيال القياس والظن والوهم، وأنّه أعظم من كل ما رأينا وسمعنا وتصورنا. له علم وقدرة مطلقة، ولكن ما كيفية هذا العلم وهذه القدرة، يتعذر علينا الجواب على ذلك. وكلما أردنا أن نحصره في فكرنا لنقف على حقيقة ذاته، رأينا فكرنا قاصراً عاجزاً، بل إذا إقتربنا شبراً من حقيقة ذاته ـ كما يقول الشاعر ـ ابتعدنا عنها ميلاً. وكيف لايكون الأمر كذلك ووجودنا محدود متناهي ووجوده مطلق لامتناهي. فقد قال الإمام الصادق(عليه السلام): «فهذه الشمس خلق من خلق اللّه فان قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول»(1). فقد أراد الإمام(عليه السلام) أن يعرفنا بمحدودية قدرة باصرتنا وفكرنا إزاء ذاته المنزهة عن الحدود. ومن هنا يتوجب علينا أن نخشع للّه سبحانه ونمد أيدينا له بالدعاء لتردد ما قاله الإمام الهادي(عليه السلام) في مناجاته للحق سبحانه: «إلهى تاهت أوهام الموهمين، وقصر طرف الطارفين وتلاشت أوصاف الواصفين، واضملحت أقاويل المبطلين عن الدرك العجيب شأنك، أو الوقوع بالبلوغ إلى علوك، فأنت في المكان الذي لايتناهى ولم تقع عليك عيون باشارة ولاعبارة، هيهات ثم هيهات».(2)

إلاّ أنّ هذا لايعني أنّ المعرفة الإجمالية متعذرة علينا; فقد ملأت آثار ذاته وصفاته الوجود بأسره، فضلاعن وجودنا.

—–


1. اصول الكافي 1/93.

2. توحيد الصدوق /66.

[ 296 ]

[ 297 ]

 

 

القسم الثاني

 

ومنها: «فاتَّعِظُوا عِبادَ اللّهِ بِالْعِبَرِ النَّوافِعِ، واعْتَبِرُوا بِالاْيِ السَّواطِعِ، وازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوالِغِ، وانْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ والْمَواعِظِ، فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ وانْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلائِقُ الاُْمْنِيَّةِ، ودَهِمَتْكُمْ مُفْظِعاتُ الاُْمُورِ، والسِّياقَةُ إِلَى الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ، فـ «كُلُّ نَفْس مَعَها سائِقٌ وشَهِيدٌ»: سائِقٌ يَسُوقُها إِلَى مَحْشَرِها; وشاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْها بِعَمَلِها».

—–

 

الشرح والتفسير

الاتعاظ والاعتبار

لقد واصل الإمام(عليه السلام) كلامه بحمل مخاطبيه إلى التأمل في سالف التأريخ وحوادثه التي تنطوي على الدروس والعبر بغية توظيفها لما يخدم مصيرهم وعاقبتهم، فقال: «فاتّعظوا عباداللّه بالعبر النّوافع». نعم تذكروا عظماء التأريخ وكبكبة الملوك السلاطين والثراء العظيم الذي كان عليه الماضون والحياة المرفهة الوادعة، ثم انظروا كيف أتى الدهر عليها فأحالها ركاما بعد أن أبادهم عن آخرهم، فلم تبق من قصورهم الشاهقة سوى الاطلال، بل لم يبق من أجسادهم سوى العظام النخرة، فقد ذهبوا وأكلهم النسيان. ثم قال(عليه السلام): «واعتبروا بالاْي السّواطع،(1)ازدجروا بالنّذر البوالغ» فهى من قبيل التحذيرات التي أثارها القرآن الكريم، فهو يشرح أحيانا العذاب الأليم الذي نزل بالأقوام الطاغية الظالمة الماضية، واُخرى يتحدث عن شدة العذاب الاُخروي، وأخيراً يضطر الإنسان للتفكير بجد في عاقبته، ويحذره من


1. «سواطع» جمع «ساطعة» النور الواسع الظاهر الدلالة، كما تستعمل هذه المفردة في الاُمور المعنوية كآيات القرآن المجيد الظاهرة أو الشخصيات الإسلامية البارزة.

[ 298 ]

مقارفة الذنوب والمعاصي. ثم قال(عليه السلام): «و انتفعوا بالذّكر والمواعظ» والفارق بين هذه التحذيرات الأربع: ففي التحذير الأول يلفت الإمام(عليه السلام) انتباه الجميع إلى الحوادث التأريخية الماضية والحاضرة التي تنطوي على الدروس والعبر ليتعظ بها، وفى التحذير الثاني أشار إلى دلالته سبحانه في عالم الوجود أو الآيات القرآنية التي توقظ الضمير. وفي التحذير الثالث تطرق إلى نذر أولياء اللّه. وأخيراً تعرض في التحذير الرابع إلى نصائح أولياء اللّه ومواعظهم، وهى التحذيرات الكافية لآثارة حيطة وحذر من كان له أدنى إستعداد للتقبل. ثم واصل(عليه السلام)كلامه بالحديث عن مرارة لحظات الموت ومعالجة سكراته فقال: «فكأن قد علقتكم(1) مخالب(2)المنيّة، وانقطعت منكم علائق الأمنيّة، ودهمتكم(3) مفظعات(4) الأمور، والسّياقة إلى الورد المورود، فـ «كلّ نفس معها سائقٌ وشهيدٌ»: سائقٌ يسوقها إلى محشرها; وشاهدٌ يشهد عليها بعملها». لما كان الموت قد كتب على الجميع ولم يعنى زمانه، بحيث يفاجئ الإنسان، فانّ الإمام(عليه السلام) يتحدث عنه كأمر قد وقع، فيصرح كأنّي قد رأيتكم في مخالب الموت وقد أحاطت بكم سكراته وقد قطعت كل أمانيكم وذهبت أدراج الرياح كأنّها ضرب من ضروب الخيال والاحلام، وكأنّكم انتقلتم من هذه الدنيا إلى الآخرة، يقود كما المكان إلى المحشر. وقد ورد عن الإمام شبيه هذا المعنى في الخطبة 204 «تجهزوا رحمكم اللّه! فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقلوا العرجة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد، فان أمامكم عقبة كؤودا، ومنازل مخوفة مهولة، لابد من الورود عليها، والوقوف عندها». والعبارة «والسياقة إلى الورود المورود» إشارة إلى الآية 98 من سورة هود: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ


1. «علقتكم» من مادة «علق» على وزن فلق تعني في الأصل الرابطة الشديدة والتعلق بالشئ، كما تستعمل هذه المفردة في الحيوان المفترس الذي يمسك فريسته بأسنانه ويمتص دمائها، أو أن يفترسها بمخالبه. وقد شبهت العبارة الموت بهذا الحيوان.

2. «مخالب» جمع «مخلب» على وزن محور ومادته «خلب».

3. «دهمتكم» من مادة «دهم» على وزن فهم بمعنى الغشاوة، وتستعمل هذه المفردة حين غلبة شئ على آخر وإحاطته به، هذا هو المراد بها في العبارة، كما تستعمل في الظلمة التي تحيط بالأشياء، كما تطلق على الأخضر الفاتح، من قبيل مدهامتان التي وردت في سورة الرحمن.

4. «مفظعات» من مادة «فظع» على وزن جزع بمعنى الاخافة ومفظعات الأمر شدته، وتطلق على الحوادث العظيمة التي تخيف الإنسان.

[ 299 ]

القِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ وَبِئْسَ الوِرْدُ المَوْرُودُ). «ورد» تعني ما يشقه من طريق بمحاذاة النهر الكبير الذي يبتعد ساحله عن الماء، ليتمكن الشخص من الوصول إلى الماء بسهولة، والمورد هو الموضع الذي يرده العطاش، وهى إشارة إلى أنّ المذنبين محرومون من ماء أنهار الجنّة العذبة الزلال فيردون ماء جهنم، الذي يشوي الوجوه والبطون. وقوله(عليه السلام): «كلّ نفس معها سائقٌ وشهيدٌ». أما المراد بالسائق والشهيد فقد اختلفت فيه أقوال مفسري القرآن وشرّاح نهج البلاغة. فذهب البعض إلى أنّ المراد بالسائق الملك الذي يكتب الحسنات، والشهيد من يكتب السيئات، وقيل السائق ملك والشهيد أعضاء بدن الإنسان، أو صحيفة أعماله التي تعلق في عنقه. وهناك قول آخر أن يكون المراد بالسائق الملك الذي يجمع بين الأمرين، كأنّه قال: وجاءت كل نفس معها ملك يسوقها إلى المحشر ويشهد عليها. وأخيراً قيل السائق هو الأمر الإلهي الذي يسوق الإنسان إلى المحشر من أجل الوقوف للحساب والجزاء، والشاهد الأنبياء والعلماء، أو عقل الإنسان وأعضاؤه. إلاّ أن الأظهر في الأخبار والآثار أنّهما ملكان، أحدهما يسوق الإنسان إلى المحشر، والاخر يشهد على أعماله.

—–

 

[ 300 ]

[ 301 ]

 

 

القسم الثالث

 

ومنها في صفة الجنّة

 

«دَرَجاتٌ مُتَفاضِلاتٌ، ومَنازِلُ مُتَفاوِتاتٌ، لا يَنْقَطِعُ نَعِيمُها، ولا يَظْعَنُ مُقِيمُها، ولا يَهْرَمُ خالِدُها، ولا يَبْأَسُ ساكِنُها».

—–

 

الشرح والتفسير

درجات الجنّة

اختتم الإمام(عليه السلام) خطبته بالحديث عن نعم الجنّة وألطاف البارئ سبحانه باهلها ليخلط الانذار بالبشارة جريا على طريقة القرآن في خلق الشعور بالخوف والرجاء لدى العباد لتدفعهم بالتالي نحو السمو والتكامل والسير إلى اللّه، فقال: «درجاتٌ متفاضلاتٌ، ومنازل متفاوتاتٌ» فالعبارة تفيد أن الإنسان لاينبغي أن يقتنع بما عليه من الكمال مهما كانت المرحلة التي بلغها، وعليه أنّ يواصل مسيرته ويجد في العلم والعمل ويسعى لتهذيب نفسه. ومن الواضح أنّ نصيب الإنسان من النعم المادية والمعنوية الاُخروية إنّما يتوقف على مدى إيمانه وعمله ومعرفته وما تحلى به من أخلاق. وقد أشار القرآن كرارا إلى درجات الجنّة كقوله: (وَلِكَلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا)(1) وقال: (نَرْفَعُ دَرَجات مَنْ نَشاءُ)(2)، ثم تعرض لشرح هذه الدرجات: (وَالسّـابِقُونَ السّـابِقُونَ * أُولـئِكَ المُقَـرَّبُونَ * فِـي جَـنّاتِ النَّعِـيمِ)(3) وقال:


1. سورة الانعام / 132.

2. سورة الانعام / 83 .

3. سورة الواقعة / 10 ـ 12.

[ 302 ]

(وَأَصْـحابُ الَيمِـينِ ما أَصْـحابُ الَيمِـينِ)(1) ثم اختتمت سورة الواقعة بالحديث عن هاتين الطائفتين التي تفوق إحداهما الاخرى فقال: (فَأَمّا إِنْ كانَ مِـنَ المُقَـرَّبِـينَ * فَـرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِـيم * وَأَمّا إِنْ كانَ مِـنْ أَصْـحابِ الَيمِـينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الَيمِـينِ)(2). كما صرح القرآن بأنّ مثوى المؤمنين الصالحين «جنّات عدن» وطائفة «جنّات المأوى» واُخرى «جنّات الفردوس» وأخرى «جنّات النعيم» في إشارة إلى مقامات الجنّة ودرجاتها.(3) وجاء في الخبر أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: «الجنّة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض; الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنّة الأربعة، فاذا سألتموا اللّه، فاسألوه الفردوس»(4) وورد أيضاً «إنّ أهل الجنّة ليرون أهل عليين كما يرى النجم في أفق السماء»(5) ومن الطبيعي أن تتفاوت مقامات المؤمنين في الجنّة على ضوء إيمانهم عملهم، ولعل العدد مئة الوارد في الحديث إشارة إلى الكثرة وأنّ تفاوت المقامات أكثر بكثير من هذا العدد، كما يمكن أن تكون الدرجات الأصلية للجنّة مئة درجة، وتقسم كل واحدة منها إلى عدّة درجات، ومن هنا ورد في القرآن: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُـؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولـئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ العُلى)(6). وورد في حديث الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنّ درجات الجنّة بعدد آيات القرآن، فيقال لقارئ القرآن يوم القيامة إقرأ وارقأ.(7) ثم ذكر(عليه السلام)أربع صفات للجنّة تفوق كل واحدة منها الاُخرى، فقال(عليه السلام): «لا ينقطع نعيمها» أي نعمها ليست من قبيل نعم الدنيا التي تزداد وتنقص وتنعدم، ما ورد ذلك في الآية 35 من سورة الرعد: (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها)، ثم قال في الصفة الثانية «و لا يظعن(8) مقيمها» والصفة الثالثة «و لا يهرم خالدها» وأخيرا الصفة الرابعة «و لا يبأس(9) ساكنها».


1. سورة الواقعة / 27.

2. سورة الواقعة / 88 ـ 91.

3. انظر نفحات القرآن 6/345 «  مقامات الجنّة  »  .

4. بحارالأنوار 8/89 .

5. منهاج البراعة 6/119.

6. سورة طه / 75.

7. بحارالأنوار 8/133.

8. «يظعن» من مادة «ظعن» على وزن طعن بمعنى السفر.

9. «يبأس» من مادة «بأس» بمعنى الفقر وشدة الحاجة.

[ 303 ]

 

 

الخطبة(1) 86

 

 

 

ومن خطبة له (عليه السلام)

 

وفيها بيان صفات الحق جل جلاله، ثم عظة الناس بالتقوى والمشورة(2)

 

نظرة إلى الخطبة

تتالف هذه الخطبة في الواقع من خمسة أقسام: القسم الأول كما ورد في أغلب خطب نهج البلاغة في بيان أوصاف اللّه سبحانه; الصفات ذات الأثر البالغ في تربية الإنسان وتصده عن الذنوب والمعاصي وتسوقه إلى الخير والاحسان. القسم الثاني في وعظ الناس والتزود من هذه الدنيا والتأهب للآخرة وعدم نسيان الهدف من خلقتهم. القسم الثالث في أهمية القرآن واتمام الحجة. القسم الرابع تحذير الناس من نوم الغفلة وتدارك ما مضى من العمر في أواخره والحيطة من مكائد الشيطان. وأخيرا القسم الخامس في الاشارة إلى بعض الصفات الذميمة والتعريف بأفضل الأفراد.

فالخطبة بهذه الأقسام علاج لمرضى القلوب من أهل الغفلة.

—–


1. سند الخطبة: رويت هذه الخطبة متفرقة في الكتب الآتية وكلها سابق نهج البلاغة لأن كل واحد من مؤلفيها أخذ غرضه منها: الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري وتحف العقول لابن شعبة الحراني والمحاسن للبرقي، ما رويت فقرات منها في المجالس للمفيد والمشكاة للطبرسي والغرر للآمدي (مصادر نهج البلاغة 2/127).

2. ورد في نسخ نهج البلاغة لصبحي الصالح التي اقتبست منها متون هذا الكتاب وهى النسخة الصحيحة نسبيا، ان عنوان الخطبة هو عظة الناس بالتقوى والمشورة، ويبدو أنّه هو الذي ذكر لها هذا العنوان، في حين لم يرد في الخطبة شيئاً بشأن المشورة، فلايستبعد أن يكون الأمر قد اشتبه عليه حيث خلطها باحدى سائر خطب نهج البلاغة.

[ 304 ]

[ 305 ]

 

 

القسم الأول

 

«قَدْ عَلِمَ السَّرائِرَ، وخَبَرَ الضَّمائِرَ، لَهُ الاِْحاطَةُ بِكُلِّ شَيْء، والْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْء، والْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْء».

—–

 

الشرح والتفسير

العالم بالخفايا والاسرار

أشار الإمام(عليه السلام) إلى خمس من صفات اللّه سبحانه، يفيد التفاعل معها وتصديقها إلى الانقياد إلى الحق وتهذيب النفس وتزكيتها.

الصفة الاولى: «قد علم السّرائر».

الصفة الثانية: «و خبر الضّمائر».

الصفة الثالثة: «له الاْحاطة بكلّ شيْء».

الصفة الرابعة: «و الغلبة لكلّ شيء».

الصفة الخامسة: «و القوّة على كلّ شيء».

وقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى وحدة معنى العبارة الاولى والثانية وعدوها من قبيل المرادفات في أنّ اللّه عليم بأسرار وخفايا كل فرد. بينما قال البعض: خبر بفتح الباء بمعنى الاختبار وخبر بكسرها بمعنى العلم، فقد وردت الاولى بمعنى الاختبار في موضع آخر من نهج البلاغة «إنّما مثل من خبر الدنيا»(1) ولما كان الأصل في الجملة هو بيانها لمعنى جديد، يبدو أنّ تفسير الخبر بالامتحان أنسب، وإن كان الامتحان سبب العلم، بل قد يكون امتحان الشئ


1. نهج البلاغة، الرسالة 31.

[ 306 ]

كناية عن العلم به. على كل حال الهدف هو أن نلتفت إلى أنّ البارئ سبحانه عليم بكافة أسرارنا وما يدور في خلدنا، حتى أنه أعلم بنا من أنفسنا، فهو يعلم بسوء نياتنا وريائنا وشركنا، وعلمه بظاهرنا وباطننا على حد سواء. والعبارة «له الإحاطة بكلّ شيء» من قبيل ذكر العام بعد الخاص، لأنّ العبارات السابقة تحدثت عن احاطته العلمية سبحانه بباطن الناس، بينما أشارت هذه العبارة إلى علمه بكافة الأشياء، ومن ذلك أيضاً العبارة الرابعة والخامسة التي تحدثت عن قدرته المطلقة سبحانه، مع هذا الفارق وهو أنّ العبارة الرابعة ناظرة لغلبته وسيطرته على كل شئ، في حين تبين الخامسة قدرته على الإتيان بكل شئ. وقيل أن الفارق بينهما هو أنّ القوة على كل شئ تعني القدرة على إيجاده، والغلبة تعني السيطرة بعد الإيجاد; أي أنّ الأشياء لاتستطيع ا لخروج من قدرته سبحانه بعد إيجادها. على كل حال فانّ هذه الصفات الخمس شرح لعلم اللّه وقدرته المطلقة، ومن شأن استحضارهما مجانبة الخطايا والاندفاع نحو الطاعة والانقياد للحق.

—–

[ 307 ]

 

 

القسم الثاني

 

«فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيّامِ مَهَلِهِ، قَبْلَ إِرْهاقِ أَجَلِهِ، وفِي فَراغِهِ قَبْلَ أَوانِ شُغُلِهِ، وفِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ، ولْيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وقَدَمِهِ،لْيَتَزَوَّدْ مِنْ دارِ ظَعْنِهِ لِدارِ إِقامَتِهِ. فاللَّهَ اللَّهَ أَيُّها النّاسُ، فِيما اسْتَحْفَظَكُمْ ]احفظكم [مِنْ كِتابِهِ، واسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً ولَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى ولَمْ يَدَعْكُمْ فِي جَهالَة ولا عَمًى، قَدْ سَمَّى آثارَكُمْ، وعَلِمَ أَعْمالَكُمْ، وكَتَبَ آجالَكُمْ».

—–

 

الشرح والتفسير

الزاد إلى المعاد

لفت الإمام(عليه السلام) الانتباه سابقاً إلى قدرة اللّه وعلمه بخفايا الكائنات وأسرار الضمائر، وما ذلك إلاّ مقدمة لما أورده هنا: «فليعمل العامل منكم في أيّام مهله(1) قبل إرهاق(2) أجله، وفي فراغه قبل أوان شغله، وفي متنفّسه(3) قبل أن يؤخذ بكظمه(4)» ثم بين(عليه السلام) الهدف من هذا الجهد والعمل فقال: «و ليمهّد لنفسه وقدمه، وليتزوّد من دار ظعنه لدار إقامته» فالواقع هو أنّ العبارات السابقة تحدثت عن أصل السعي والعمل، بينما عينت الأخيرة مساره وجهته. جدير بالذكر أنّ العبارة «أيام مهله» فسّرت بالعبارات الثلاث اللاحقة، فالعبارة الاولى «قبل إرهاق أجله» إشارة إلى أصل نعمة الحياة والعمر، والعبارة الثانية «وفي فراغه» إشارة إلى


1. «مهل» على وزن اجل بمعنى المداراة والمهلة.

2. «إرهاق» من مادة «رَهَقْ» على وزن شفق بمعنى الغشية والتغطية والسيطرة، ومن هنا فان الأجل اذا جاء للانسان فانه يسيطر على كافة وجوده، وقد استفيد من هذا التعبير في الخطبة أعلاه بمعنى الأجل.

3. «متنفس» من مادة «تنفس» زمان الاتساع والراحة.

4. «كَظَم» على وزن قلم بمعنى المضيق ومجرى التنفس.

و«كَظْم» على وزن هضم، وله معنى مصدري بمعنى حبس النفس، ويستعمل كناية عن ضبط النفس عند الغضب، وما شابه ذلك.

[ 308 ]

نعمة الفراغ في مقابل الانشغال والعمل والهم بالزوجة والولد، والعبارة الثالثة «وفي متنفسه» نعمة العافية والسلامة وعدم وجود الشدائد والمصائب. أمّا العبارة «وليمهد...» فهى تشير إلى التأهب للآخرة، في حين تشير «وليتزود» إلى التجهز وكسب الزاد; على غرار ما يفعل الإنسان في هذه الدنيا، حيث يعد المنزل وأدواته ثم يتجه صوب الزاد والمتاع. ثم يواصل الإمام(عليه السلام) تحذيراته فيقول: «فاللّه اللّه أيّها النّاس، فيما استحفظكم من كتابه، واستودعكم من حقوقه». طبعاً المراد من الكتاب القرآن الكريم حيث كلف الناس بصيانته والالتزام بأحكامه، أمّا المقصود بالحقوق التي استودعها العباد فهى أحكام الحلال والحرام التي ينبغي الالتزام بها وعدم مخالفتها.(1) ثم بين الدليل من هذا الانذار بقوله: «فإنّ اللّه سبحانه لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدًى(2) ولم يدعكم في جهالة ولا عمًى، قد سمّى آثاركم، وعلم أعمالكم، وكتب آجالكم» فهى عبارات قصيرة ذات معان بعيدة تختزن المفاهيم العظيمة المؤيدة بالآيات القرآنية. فقد أشار في المرحلة الاولى إلى الهدف من وراء خلق الإنسان، ومن ثم الحديث عن الاُمور التي تنطوي عليها الحياة الإنسانية، والمرحلة الثالثة الحديث عن وجود الزعماء والعلم بالأعمال، وتطرق بعد ذلك إلى بيان الوظائف والمسؤوليات وعلم الحق سبحانه بأعمال البشر، وأخيرا الحديث عن قصر عمر الإنسان وحلول أجله. ومن الواضح أنّ الإنسان إذا إلتفت إلى هذه الاُمور وصدقها بكل كيانه ووجوده سيجد من أجل حفظ كتاب اللّه والالتزام بحقوقه. فالمهم أن يستحضر الإنسان هدف الخلق ويستفيد مما زوده به اللّه سبحانه من إمكانات، فيؤمن بأنّ اللّه عالما بأفعاله وإلاّ ينسى بأنّ عمره قصير آيل إلى زوال; الاُمور التي تلعب دوراً بناءاً في خلق شخصية الإنسان وتهذيب نفسه. فقد قال القرآن بهذا الشأن: (أَفَحَسِـبْتُمْ أَنَّما خَلَـقْناكُمْ عَـبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لاتُـرْجَعُونَ)(3) وقال: (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها)(4) وقال في الآية 30 من سورة محمد: (وَاللّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) وقال (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لايَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).(5)


1. يعود الضمير في كتابه وحقوقه إلى اللّه، ولايتناسب ارجاع الضمير في حقوقه إلى كتابه وسياق الكلام.

2. «سُدى» على وزن شما بمعنى المهمل والذي لا هدف ولا معنى له، وقد استفيد من هذا الاصطلاح هنا للتعبير عن البعير الذي لا راعي له، وقد هام في الصحراء على وجهه، فيرعى من كل مكان يصل اليه.

3. سورة المؤمنون / 115.

4. سورة الانعام / 104.

5. سورة الاعراف / 34.

[ 309 ]

 

 

القسم الثالث

 

«وَ أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ «الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْء» وعَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْماناً، حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ ولَكُمْ ـ فِيما أَنْزَلَ مِنْ كِتابِهِ ـ دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ; وأَنْهَى إِلَيْكُمْ ـ عَلَى لِسانِهِ ـ مَحابَّهُ مِنَ الاَْعْمالِ ومَكارِهَهُ، ونَواهِيَهُ وأَوامِرَهُ،أَلْقَى إِلَيْكُمُ الْمَعْذِرَةَ، واتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ، وقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ، وأَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذاب شَدِيد».

—–

 

 

الشرح والتفسير

الكتاب الجامع

 

جرى الحديث سابقا عن إتمام الحجة على العباد، وهنا يتوسع الإمام(عليه السلام) في هذا الموضوع فيقول: «و أنزل عليكم «الكتاب تبياناً لكلّ شيء» وعمّر فيكم نبيّه أزماناً، حتّى أكمل له ولك م ـ فيما أنزل من كتابه ـ دينه الّذي رضي لنفسه». نعم فقد أنزل سبحانه ذلك الكتاب الجامع الذي ينطوي على كافة المعارف الإلهية والتعاليم المادية والمعنوية على جميع مستويات الحياة البشرية كما ورد ذلك في الآية 89 من سورة النحل: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِـبْياناً لِكُلِّ شَيء وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِـينَ). كما منح نبيّه(صلى الله عليه وآله) الفرصة الكافية لابلاغ الدين واتمامه; الأمر الذي صرحت به الآية الثالثة من سورة المائدة: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِـيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً). ثم خاض في التفاصيل بغية توضيح

[ 310 ]

المطلب فقال(عليه السلام): «و أنهى(1) إليكم ـ على لسانه ـ محابّه(2) من الاْعْمال ومكارهه، ونواهيه أوامره، وألقى إليكم المعذرة، واتّخذ عليكم الحجّة، وقدّم إليكم بالوعيد، أنذركم بين يدي عذاب شديد» فقد أشار الإمام(عليه السلام) إلى إنعدام العذر بفضل القرآن وسنة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وماتضمناه من تعاليم ومفاهيم، فليس لأي فرد أن يتفوه ببعض الكلمات من قبيل «لم أكن أعلم» أو «لم أقف على هذه الاُمور» أو ما بلغتني الحجة، والحق أنّ هذه العبارة مصداق واضح لقوله سبحانه في كتابه العزيز: (قُلْ فَلِلّهِ الْحُـجَّةُ البالِغَةُ)(3).

—–

 

جامعية القرآن والسنة

تنطوي العبارة «و أنزل عليكم «الكتاب تبياناً لكلّ شيء»» المقتبسة من الآية 89 من سورة النحل على حقيقة مهمة ينبغي أن يتوقف عندها الجميع. طبعاً ليس المقصود بهذه العبارة أنّ القرآن كتاب موسوعي يضم كافة الفروع والتخصصات العلمية كالرياضيات والجغرافيا والكيمياء والفيزياء إلى جانب العلوم الانسانية وما انطوت عليه المدارس الفكرية والنزعات الفلسفية، بل المراد أنّ القرآن يشتمل على كل ما نزل من أجله وهدف إليه هذا الكتاب السماوي والذي يخلص في بلورة شخصية الإنسان وسعادته في جميع الأصعدة والميادين. فقد بين المعارف الدينية والحقائق المرتبطة بالمبدأ والمعاد ووظائف الإنسان ومسؤولياته تجاه خالقه وتجاه بني جنسه، إضافة إلى تبيين المسائل الأخلاقية والقضايا الجتماعية والمتطلبات الاقتصادية، وقد عمد أحياناً إلى بيان كافة الجزئيات والتفاصيل (كبيانه للأحكام المتعلقة بالعقود المالية ومعاملات الديون التي إستعرضتها الآية 282 من سورة البقرة، بينما أشار أحيانا اُخرى إلى الاُصول الكلية والقواعد العامة من قبيل «باب ينفتح منه ألف باب». فالآية القرآنية التي وردت ضمن الخطبة إلى جانب روايات أئمة العصمة(عليهم السلام) تذكر المسلمين بأن الهداية والسعادة إنّما تكمن في القرآن.


1. «أنهى» من مادة «إنهاء» الاعلام والابلاغ وهذا هو المراد بها في العبارة; أي أنّ اللّه ابلغكم ما يلزم على لسان نبيه.

2. «محاب» جمع «محب» اسم مكان مصدر ميمي مواضع حبه وتقابل المكاره.

3. سورة الانعام / 149.

[ 311 ]

إجابة عن سؤال

يبرز هنا هذا السؤال: ما الحاجة إلى سنة النبي وأقوال المعصومين في ظل وجود القرآن الكريم؟

والجواب على هذا السؤال واضح وهو أن أغلب الآيات تحتاج إلى شرح وتفسير وبيان الشرائط وذكر موارد الاستثناء، أو الآيات المتشابهة التي لا تفسر الا من المعصومين(عليهم السلام)بردها إلى المحكمات. على سبيل المثال ترد آية في الزكاة وتتطرق إلى مستحقيها من الاصناف الثمانية دون الإشارة إلى ما يجب فيه الزكاة وحد النصاب والشرائط المرتبطة بمرور الحول والشروط التي ينبغي توفرها في المستحقين، وكيفية جمع الزكاة وإنفاقها التي تتطلب تفسيراً من المعصومين(عليهم السلام). وناهيك عما سبق فان هنالك بعض المستحدثات التي تستجد بفعل تقادم الزمان وا لتي ينبغي البحث عن جذورها واُصولها في كتاب اللّه من أجل إستنباط الأحكام، هنا لابدّ من إرشادات المعصومين(عليهم السلام) لتفادي الزلل. والجدير بالذكر أنّ القرآن قد دعى الناس إلى الانفتاح على جميع العلوم وا لمعارف، وأمر بالرجوع إلى أهل الخبرة في كل مسألة من المسائل.

—–

[ 312 ]

[ 313 ]

 

 

القسم الرابع

 

«فاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيّامِكُمْ، واصْبِرُوا لَها أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ الاَْيّامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيها الْغَفْلَةُ، والتَّشاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ; ولا تُرَخِّصُوا لاَِنْفُسِكُمْ، فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذاهِبَ الظَّلَمَةِ، ولا تُداهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الاِْدْهانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ».

—–

 

الشرح والتفسير

إغتنام الفرصة

ما إن فرغ الإمام(عليه السلام) من الانذار والتحذير واتمام الحجة على الناس حتى خلص إلى هذه النتيجة المهمة «فاستدركوا بقيّة أيّامكم، واصبروا لها أنفسكم» ثم استدل(عليه السلام) على ذلك بالقول «فإنّها قليلٌ في كثير الاْيّام الّتي تكون منكم فيها الغفلة،التّشاغل عن الموعظة» وحقاً أنّ الأمر كذلك فلو انتبه الإنسان إلى ساعات عمره وأيامه ولياليه لرأها قصيرة، وعليه فلابد من اليقظة في ما بقي من عمره والاستناد إلى سلاح الصبر والاستقامة، وذلك لأنّ الحيطة والحذر من الغفلة تستلزم الصبر، إلى جانب كون الطاعة واجتناب المعصية هى الاُخرى بحاجة إلى الصبر، فقد صرحت بعض الروايات الإسلامية بأنّ نسبة الصبر إلى الإيمان كنسبة الرأس إلى الجسد.(1)