![]() |
![]() |
![]() |
1. قال علي(عليه السلام): «وعليكم بالصبر فان الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد». نهج البلاغة، الكلمات القصار 82 .
تفيد أنّ أولئك الذين جاوزوا الحد في المباحات والرخص قد هوى آخر الأمر في مستنقع المحرمات. فقد شبهت بعض الروايات والأخبار المحارم بالغرق والمنطقة المحظورة ذات الحدود المعينة ثم شبهت النفس البشرية بالشاة التي ترعى عند تلك الحدود، حتى يلوح لها العلف فتندفع نحوه. فالإنسان قد يندفع بأقصى ما لديه لممارسة المباحات حتى تخدعه نفسه فاذا هو يقارف الخطيئة والمعصية. فقد قال الإمام علي(عليه السلام): «والمعاصي حمى اللّه، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها»(1). وقد وردت التعبيرات القرآنية الرائعة التي تحذر من الاقتراب من تلك الحمى كقوله: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِـيمِ)(2) و(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنا)(3) ووَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ماظَهَرَ مِنْها وَمابَطَنَ)(4).
فأفضل سبيل لمجانبة الذنب تكمن في عدم الاقتراب منه، فلايوغل في المباح خشية من السقوط بما بعده. والسبيل الثاني: «و لا تداهنوا(5) فيهجم بكم الإدهان على المعصية». المراد بالمداهنة هنا مماشاة الإنسان ومرونته لأحل الذنوب والمعاصي واظهار حالة من النفاق، فانّ من شأن هذا النفاق أنّ يقود الإنسان إلى مقارفة الذنب. وأحد المصاديق التي يمكن الإشارة إليها هنا ما تعارف بالحيل الشرعية واللجوء إلى بعض الأساليب التي تعدّ من الحلول الكاذبة لبعض المشاكل، حيث تنتهي بالإنسان في خاتمة المطاف إلى الوقوع في المعصية علانية، وهذا بدوره يعد من سبل الشيطان لجر الإنسان إلى الذنب والخطيئة. وأحياناً يخدع الإنسان نفسه ليقارب الذنب، كما يخدع أحياناً من قبل الآخرين للإتيان بالمعصية، وكلا الأمرين من مصاديق المداهنة. ومن هنا حذر الإمام(عليه السلام) من هذين السبيلين بغية غلق الابواب بوجه الشيطان وعدم الوقوع في حبائله.
—–
1. وسائل الشيعة 18/118 ح 22 الباب 12 من أبواب صفات القاضي.
2. سورة الانعام / 152.
3. سورة الاسراء / 32.
4. سورة الانعام / 151.
5. «تداهنوا» من مادة «مداهنة» وقد اشتقت من مادة «دهن» التي تعنى المرونة المذمومة والنفاق والمماشاة، كما تعني إظهار خلاف ما في الطوية.
أشار الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة إلى طرق نفوذ الشيطان في قلوب الناس، ليؤكد على موضوعين مهمين بهذا الشأن. الأول المبالغة في الاستفادة من الحرية وممارسة المباحات; وذلك لأن بعض المباحات تمثل الحد الأخير لحيز الذنب، بحيث يرد الإنسان هذا الحيز إذا ما اندفع أكثر من اللازم. فالإمام(عليه السلام) يحذر هنا من الاندفاع وراء هذه المباحات، حيث يخشى على مثل هذا الفرد أن يسلك سبيل الظلمة. ومن هنا نرى الدول والبلدان تعمد اليوم إلى تعيين حدودها لتشكل حزامها الامني، ولايحق للأفراد أن يقتربوا لبضع كيلومترات من هذه الحدود، لأنّ الوصول إلى النقطة الحدودية قد يسول للإنسان إذا وصل حد الذنب، قد يبدو له سهلاً فتوسوس له نفسه لمقارفته. والطريق الثاني الذي ينفذ من خلاله الشيطان إلى الإنسان إنّما يكمن في مداهنة أهل الذنوب والمعاصي ومجاملتهم على أعمالهم، إلى جانب حل بعض المعضلات من خلال الحيل الشرعية وما شابه ذلك. فعادة أهل المعاصي هى الاستخفاف بالذنب والمعصية وتصغيرها في نظر الآخرين، كما أنّ الحيل الشرعية تقضي على فضاعة الذنب وشدته وتهتك الحجب المضروبة بينه وبين الإنسان، فقد جاء في الخبر أنّ أميرَالمؤمنين علي(عليه السلام) قال: «من داهن نفسه هجمت به على المعاصي المحرمة».(1)
—–
1. غرر الحكم، ح 9022.
«عِبادَ اللّهِ، إِنَّ أَنْصَحَ النّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ; وإِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصاهُمْ لِرَبِّهِ; والْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ، والْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ، «وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ». والشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَواهُ وغُرُورِهِ».
—–
واصل الإمام(عليه السلام) حديثه بالنذر والتطرق لسبل نفوذ الشيطان، ليورد هنا بست عبارات قصيرة عظيمة كيفية العمل والخلاص، فقال بادئ ذي بدء: «عباد اللّه، إنّ أنصح النّاس لنفسه أطوعهم لربّه» ومعنى هذه العبارة أن لا يخدع الإنسان نفسه ولايكذب عليها ولايجعل من نقاط ضعفه عناصر قوة في شخصيته ولايسدل استار عيبه ونقصه أمام نفسه، بل يتهم نفسه بكل إخلاص، فمثل هذا الإنسان يتجه لا محالة نحو الطاعة.(1) ثم أشار في العبارة الثانية إلى عكس ذلك فقال: «و إنّ أغشّهم(2) لنفسه أعصاهم لربّه». ومن الطبيعي أنّ الإنسان إذا خدع نفسه وأخفى عنها عيبه، تراءى له الذنب مباحا، بل قد يبدو له أحياناً أمرا واجباً، وهكذا تتوفر لديه الأرضية الخصبة لمقارفة الاثم والمعصية. وقال في العبارة الثالثة: «والمغبون من غبن نفسه» في إشارة إلى أن بعض الأفراد قد يخدعون هذا الإنسان ويغبنه فيسلبوه ما لديه، كما قد يرتكب الإنسان مثل العمل بحق نفسه فيخدعها فيفقد عناصر القوة
1. لابد من الالتفات هنا إلى «أنصح» من مادة «نصح» تعني في الأصل الاخلاص، وهذا هو مفهوم النصيحة.
2. «أغش» من مادة «غش» تعني في الأصل الضعف والعجز، ومن هنا يصطلح بالمغوش على الشي غير الخالص.
التي كان من المفترض أن تقوده نحو الفوز بالآخرة ونيل سعادتها وفلاحها. وقال في العبارة الرابعة:
«والمغبوط من سلم له دينه». فالغبطة أن يتمنى الإنسان مالغيره من النعم، وعليه فالمغبوط هو المستحق لتطلع النفوس إليه والرغبة في نيل مثل نعمته، فان جد واجتهد الإنسان وتمكن من الحفاظ على دينه وإيمانه في ظل هذه الدنيا وتقلباتها فقد أحرز أعظم النعم الإلهية التي يجدر بالآخرين أن يغبطوه عليها. وعلى ضوء القاعدة الأدبية فان تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر، فالعبارة تفيد أن الغبطة لا تكون سوى تجاه من حفظ دينه وإيمانه ازاء حوادث الدهر ومكاره الدنيا، لاتجاه من ينال بعض المقامات ويجبي الأموال والثروات وسائر الإمكانات المادية الآيلة إلى الفناء والزوال. وقال في العبارة الخامسة: «والسّعيد من وعظ بغيره». فمما لاشك فيه أنّ الحوادث المريرة والتجارب القاسية تعد وسيلة لليقظة ومصدرا لنصيحة الإنسان ووعظه، ولكن ما أروع أن يستفيد من تجارب الآخرين ويتعظ بمصيرهم دون أن يرتكب بعض الاخطاء التي قد تلهمه بعض التجربة، فكأني بهذا الفرد كذلك المنزل الذي جاور حديقة غناء وكان يعمل فيها الآخرين بينما يصله نسيمها ورائحتها الزاكية. ولما كان مصير الأفراد في حياتهم متشابه في الغالب، وبعبارة اُخرى «التأريخ يعيد نفسه» فلكل فرد أن يرى جانبا من مصيره في حياة الآخرين. وبناءاً على هذا فليس هنالك من يستثنى من هذه العبارة ولايعتبر بحياة الآخرين. هذا وقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أن العبارة «والسّعيد من وعظ بغيره» تعد مثلاً من الأمثال المعروفة في الأدب العربي(1). بينما عدها ابن أبي الحديد من الأمثال النبوية.(2) ثم اختتم الخطبة بما يقابل العبارة السابقة قائلاً: «والشّقيّ من انخدع لهواه وغروره». واضح أنّ الإنسان يلام إذا خدع من قبل الآخرين، إلاّ أنّه يكون أكثر ملامة إذا انخدع بهوى نفسه، وذلك لأنّه أحرق سعادته بنفسه.
—–
1. شرح نهج البلاغة لابن ميثم 2/285.
2. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/365، المرحوم العلاّمة المجلسي في بحارالأنوار 21/211 حيث أوردها في تأريخ النبي(صلى الله عليه وآله) في باب حوادث غزوة تبوك ضمن خطبة(صلى الله عليه وآله).
من ضمن الأهداف التي تضمنتها الخطبة أنّ الإمام(عليه السلام) أشار إلى أنّ مقومات سعادة الإنسان وفلاحه كامنة في باطنه، لا أن ترد عليه من الخارج. فهو الذي يخدع نفسه، وهو الذي يغبنها وهو الذي يسعه خلق سعادته، وأخيراً هو الذي يفوز بالآخرة بعد أن ينتصر على نفسه ويتغلب على أهوائها وشهواتها. والكلام يصدق على الفرد، كما يصدق على المجتمع; فأغلب الأفراد لاسيما في عصرنا الراهن ينسبون عوامل البؤس والشقاء إلى الخارج، فيخدعون أنفسهم ويغلقون عليها سبل النجاة، والحال لابدّ من إقتفاء آثار هذه الأزمات في الذات والروابط الاجتماعية والأهواء النفسية والفرقة والشقاق والنفاق والحسد وسائر الأمراض المقيتة. وكفى بهذه الخطبة سبيلاً لسعادة الإنسان حتى لو لم تتضن سوى هذا الهدف العظيم.
—–
«وَ اعْلَمُوا أَنَّ «يَسِيرَ الرِّياءِ شِرْكٌ» ومُجالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْساةٌ لِلاِْيمانِ، ومَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطانِ. جانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلاِْيمَانِ. الصّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجاة وكَرامَة، والْكاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْواة ومَهانَة.لاتَحاسَدُوا، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الاِْيمَانَ «كَمَا تَأْكُلُ النّارُ الْحَطَبَ»; «وَ لا تَباغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ»; واعْلَمُوا أَنَّ الاَْمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ، ويُنْسِي الذِّكْرَ، فَأَكْذِبُوا الاَْمَلَ فَإِنَّهُ غُرُورٌ، وصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ».
—–
يختتم الإمام(عليه السلام) خطبته بالتحذير من ست رذائل (الرياء، مجالسة أهل الهوى، الكذب، الحسد، التباغض وطول الأمل)، إلى جانب الإشارة لما تختزنه كل رذيلة من أضرار، فقال(عليه السلام): «و اعلموا أنّ يسير الرّياء شركٌ» لأنّ المرائي يقوم بالعمل رضا للعباد وتظاهراً بالاحسان من أجل لفت إنتباه الآخرين، ليطلب العزة من أقرانه الضعفاء العجزة بدلاً من طلبها من منبعها: (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)(1) وهذا شرك يتناقض وتوحيد الأفعال. وقد تظافرت الروايات والأخبار التي صرحت بأنّ المرائي ينادى يوم القيامة: «يا كافر! يا فاجر! يا غادر! يا خاسر! حبط عملك وبطل أجرك، فلا خالص لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له»(2)أضف إلى ذلك فانّ المرائي ولتناقض ظاهره وباطنه فهو في زمرة المنافقين، ولهذا فانّ النفاق
1. سورة آل عمران / 26.
2. وسائل الشيعة، ج 1، الباب 11 من ابواب مقدمات العبادة، ح 16.
يحيل أعماله إلى قشور لالب فيها. فقد ورد في الحديث عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) إنّه قال: «سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم، طمعاً في الدنيا، لايريدون بها ما عند ربّهم، يكون دينهم رياءاً; «يخالطهم خوف، يعمهم اللّه بعقاب، فيدعونه دعا الغريق، فلايستجيب لهم»(1) وبالطبع فان أفضح الناس إذا وضعت موازين القيامة هم أهل الرياء. ثم أورد الرذيلة الثانية: «ومجالسة أهل الهوى منساةٌ(2) للإيمان، ومحضرةٌ(3)للشّيطان» لأنّ الهوى لايعرف الحدود والقيود فيملأ كيان الإنسان ويستهلك فكره فلا يدع من مجال للإيمان، ومن الطبيعي أن يكون مثل هذا المجلس محضرا الشياطين. ومخالطة الآخرين على درجة من الأهمية بحيث ورد عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «المرء على دين خليله وقرينه»(4). وجاء في المثل المعروف: «قل لي من تعاشر، أقل لك من أنت»(5). ثم حذر(عليه السلام) من رذيلة الكذب: «جانبوا الكذب فإنّه مجانبٌ للاْيمان» فالمفردة جانبوا تفيد أنّ الكذب على درجة من الخطورة بحيث يجب على الإنسان أن يبتعد عنه ولايقترب، حذراً من أن تتفاذفه الوساوس فتلقيه في الهاوية. والعبارة: «مجانبٌ للإيمان» لاتفيد أنّ الكذب لاينسجم والإيمان فحسب، بل هو شديد البعد عنه، لأن الكاذب إنما يكذب عادة لجلب منفعة أو دفع ضرر أو بدافع من هوى النفس، والحال يعلم المؤمن أنّ كل هذه الاُمور بيداللّه، كا يؤمن بانّ الهوى نوع من الوثنية. وشاهد ذلك الجملة اللاحقة التي بينها الإمام(عليه السلام) تأكيدا للعبارة السابقة فقال: «الصّادق على شفا(6) منجاة وكرامة، والكاذب على شرف مهواة(7) ومهانة». ثم قال محذراً من الرذيلة الرابعة: «ولاتحاسدوا، فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب»; لأنّ
1. وسائل الشيعة، 1/11، ح 4.
2. «منساة» من مادة «نسأ» على وزن نصب بمعنى الترك والتأخير.
3. «محضرة» اسم مكان من مادة «حضور» الموضع الذي يحضره الإنسان أو الشئ .
4. شرح نهج البلاغة للخوئي 6/136.
5. في ظلال نهج البلاغة 1/427.
6. «شفا» بمعنى حافة الشئ، وتطلق في الأصل على حافة البئر أو الخندق، ولعل ذلك هو السبب في تسمية الشفة.
7. «مهواة» من مادة «هوى» لميل اِلى الشيئ، ومهواة اسم مكان المسافة بين جبلين التي شوق الانسان اَحياناً اِلى السقوط.
الحسود في الواقع يعترض على نظام الخليقة واغداق اللّه لنعمه على العباد; الأمر الذي لاينجسم والإيمان، أضف إلى ذلك فليس للحسود أن يرى سعادته في سلب نعم الآخرين، ولو كان مؤمناً باللّه لسأل اللّه مثل هذه النعم. ثم حذر(عليه السلام) من البعض والعداء «و لا تباغض وا فإنّها الحالقة». الحالقة من مادة حلق (وبالنظر إلى حذف متعلقها) تفيد أن الخصومة والتباغض إنّما تجتث أصول الخير والسعادة من جذورها; ولا غرو لأنّ جذور الخير تتمثل بالتعاون والتعاضد بين أفراد المجتمع مع بعضهم البعض الآخر. وأخيراً من الرذيلة السادسة المتمثلة بطول الأمل فقال(عليه السلام): «و اعلموا أنّ الأمل يسهي العقل،ينسي الذّكر، فأكذبوا الأمل فإنّه غرورٌ، وصاحبه مغرورٌ» فالواقع هو أنّ طول الأمل يغرق الإنسان في عالم من الوهم والخيال ويجعله يدور حول محور الاُمور المادية، وهذا من أعظم العقبات التي تعترض سبيل السعادة، وقد دلت التجارب على أنّ أغلب الأفراد الذين يرتكبون أبشع الجرائم إنما هم ممن ابتلوا بهذه الرذيلة ـ طول الأمل ـ التي عدها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وأميرَالمؤمنين(عليه السلام) في مصاف عبادة الهوى ومن أخطر عقبات السعادة.
—–
لقد تضمنت هذه الخطبة وعلى الرغم من قلة عبارتها العديد من الاُمور المعنوية من قيبل مفهوم التوحيد وعبودية اللّه والاهتمام بالكتاب ـ القرآن الكريم ـ وما ورد فيه من تعاليم قيمة، إلى جانب التحذيرات التي تهدف إلى تنبيه الإنسان إلى مصيره وعاقبته. كما تطرقت إلى المسائل الأخلاقية المهمّة التي تعد الركن الركين لسعادة الإنسان المادية والمعنوية ، كاجتناب الشرك والكذب والحسد والعداوة والبغضاء وطول الأمل، ثم أوورد الدليل والبرهان المنطقي الذي يكشف اللثام عن أضرار كل رذيلة من هذه الرذائل. الحق لو تأمل الإنسان هذه الخطبة كل يوم وفكر قليلاً في عبارتها وعقد العزم على الالتزام بها لبلغ بنفسه شاطئ السلامة والأمان.
—–
ومن خطبة له (عليه السلام)
وهى في بيان صفات المتقين وصفات الفساق والتنبيه إلى مكان العترة الطيبة والظن الخاطىء لبعض الناس
تتالف الخطبة في الواقع من خمسة أقسام، أربعة منها متصلة، بينما ينفصل عنها الجزء الخامس بما له من مفهوم خاص، وهذا ما يفيد أنّ السيد الرضي (ره) قد حذف بعض الأقسام من الخطبة. والأقسام الخمسة هى:
القسم الأول: بيان صفات العلماء العاملين ممن شملتهم العناية الإلهية فاستشعروا التقوى والورع وابعدوا عن أنفسهم الأهواء والشهوات واهتدوا إلى ربّهم.
القسم الثاني: بيان صفات علماء السوء الذين اقتبسوا جهلاً من جهالّ وضلالا من ضلاّل فضلوا وأضلوا.
القسم الثالث: تحذير الناس من الضلال والاتجاه نحو الجهال، والحال فيهم عترة النبي(صلى الله عليه وآله)منابع العلم ومعادن الحكمة.
1. سند الخطبة: من الأدلة التي تفيد أنّ الخطبة نقلت من مصادر اُخرى غير نهج البلاغة ما قاله ابن ابي الحديد بعد أنّ أكمل شرح هذه الخطبة: وهذه خطبة طويلة وقد حذف الرضي (ره) منها كثيرا (ثم نقل أبي الحديد بعض أقسامها)، ورواها الزمخشري في باب العز والشرف من ربيع الابرار بتفاوت يسير نعرف منه أنه لم ينقلها عن النهج (مصادر نهج البلاغة 2/133).
القسم الرابع: الاشارة إلى بعض كلمات النبي(صلى الله عليه وآله) بشأن أهل البيت(عليه السلام)، كما يستدل على كلامه بحديث الثقلين المتواتر المعروف لدى جميع المسلمين.
القسم الخامس: إشارة إلى الظن الباطل بأنّ الدنيا دائمة لبني أمية، والأخبار عن سقوط دولتهم وزوال ملكهم، وكما أشرنا سابقاً فانّ هذا القسم لاعلاقة له بما سبقه من أقسام، ومن الواضح أنّه هناك بعض الأقسام التي حذفها السيد الرضي (ره) من الخطبة.
—–
«عِبادَ اللّهِ! إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبادِ اللّهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعانَهُ اللّهُ عَلَى نَفْسِهِ، فاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ، وتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ; فَزَهَرَ مِصْباحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ، وأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النّازِلِ بِهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ، وهَوَّنَ الشَّدِيدَ. نَظَرَ فَأَبْصَرَ ]فاقصر[، وذَكَرَ فَاسْتَذكْرَ، وارْتَوَى مِنْ عَذْب فُرَات سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ، فَشَرِبَ نَهَلاً، وسَلَكَ سَبِيلاً جَدَداً، قَدْ خَلَعَ سَرابِيلَ الشَّهَواتِ، وتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ، إِلاَّ هَمّاً واحِداً انْفَرَدَ بِهِ، فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى، ومُشارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى، وصارَ مِنْ مَفاتِيحِ أَبْوابِ الْهُدَى، ومَغالِيقِ أَبْوابِ الرَّدَى، قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ، وسَلَكَ سَبِيلَهُ، وعَرَفَ مَنارَهُ، وقَطَعَ غِمارَهُ، واسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِها، ومِنَ الْحِبالِ بِأَمْتَنِها، فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ».
—–
إستهل الإمام(عليه السلام) خطبته ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقا ـ بذكر صفات أولياء اللّه والسالكين إليه، بالشكل الذي جعل ابن أبي الحديد يصرح في شرحه قائلاً: «واعلم أن هذا الكلام منه أخذ أصحاب علم الطريقة والحقيقة علمهم، وهو تصريح بحال العارف ومكانته من اللّه تعالى»(1). ويرى البعض أنّ الإمام(عليه السلام) قد عرف نفسه بهذه العبارات; لأنّ العرفان درجة حال رفيعة شريفة جداً، لاتناسب إلاّ أمثاله(عليه السلام)، والأنسب أن يقال بأنّ بيان الإمام(عليه السلام)استهدف
1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/365.
شرح الصفات الكلية للكاملين من العرفاء وأصحاب السلوك إلى اللّه، حيث يتمثل مصداقهم به وزوجه والمعصومين من ولده(عليه السلام). والجدير بالذكر أنّ الإمام(عليه السلام) لم يترك جانباً من الجوانب المهمّة لحال الإنسان الكامل حتى ذكر له أربعين صفة. فقد إستهل كلامه قائلاً: «عباد اللّه! إنّ من أحبّ عباد اللّه إليه عبداً أعانه اللّه على نفسه»، فالعبارة تشير إلى نقطة مهمة وهى أنّ إجتياز هذا الطريق ليس ميسراً لأحد ـ دون عناية اللّه ـ وذلك لعظم المخاطر والمطبات التي يتعذر على الإنسان عبورها بقوته المتواضعة، فليس أمامه سوى التوكل على اللّه وتسليم اُموره إليه ليستلهم العون من مصدر فيضه ولطفة الذي لاينضب، وهذا ما أشار إليه القرآن بالقول: (وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَد أَبَداً)(1). ومن الواضح أنّ ألطاف اللّه سبحانه وتفضلاته ليست قائمة على العبث، بل لابدّ من نيلها بواسطة التسليم المطلق وحمل القلوب إليه وعدم إسكانها غيره. ثم خاض الإمام(عليه السلام) في بيان نتيجة هذا اللطف قائلاً: «فاستشعر الحزن، وتجلبب الخوف» استثعر من مادة شعار مايلي البدن من اللباس، وجعل الحزن بمنزلة الشعار يعني أنّ مثل هؤلاء الأفراد المؤمنين إنّما يعيشون الحزن في باطنهم على ما مضى من أيام عمرهم ولم يجدوا فيها كما ينبغي لطاعة معبودهم، وبالطبع فانّه حزن بناء يسوقهم نحو العمل والحركة لتدارك مافاتهم. تجلبب من مادة جلباب ما يكون فوق جميع الثياب وتجلبب الخوف إشارة إلى أنّ هؤلاء الأفراد المخلصين يراقبون أنفسهم على الدوام، حذرين من صدور الزلل وما من شأنه أن يخرجهم من زمرة المخلصين والسعداء. كما يحتمل أن يكون حزنهم بسبب فراق المحبوب وخوفهم من عدم الوصال. ثم خاض الإمام(عليه السلام)في نتيجة هذا الحزن والخوف البناء: «فزهر مصباح الهدى في قلبه، وأعدّ القرى(2) ليومه النّازل به» وزهور مصباح الهداية إشارة إلى تلألأ أنوار المعارف الإلهية في قلوبهم يتذوقون بها حلاوة الإيمان: (وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُـكُمُ اللّهُ)(3) والتعبير بالقري الذي يعني الوسيلة المعدة للضيوف يشير إلى أن يوم الأجل أو القيامة الذي يمثل ذروة الخشية والخوف لايعني لهم سوى
1. سورة النور / 21.
2. «قرى» مصدر واسم مصدر ما يهيأ للضيف، والمراد به هنا العمل الصالح يهيئه للقاء الموت وحلول الأجل، ومنه «المقراة» التي تطلق على الظرف الكبير الذي يوضع فيه الطعام.
3. سورة البقرة / 282.
ورود الضيف على المضيف الكريم، وكأنّهم كالشهداء ضيوف الرحمن الذين يرتزقون من فضل إحسانه: (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(1). ثم قال(عليه السلام): «فقرّب على نفسه البعيد، وهوّن الشّديد» أي يرى قرب الأجل والقيامة التي يحسبها الأعم الأغلب بعيدة، ولذلك سهل عليه تحمل الشدائد وصعوبات الطاعة وترك الذنوب والمعاصي. ثم تطرق(عليه السلام) إلى خمسة اُمور يختزن كل واحد منها صفة من صفات هؤلاء العباد من أهل الاخلاص والعرفان فقال(عليه السلام): «نظر فأبصر، وذكر فاستذكر، وارتوى(2) من عذب فرات(3) سهّلت له موارده، فشرب نهلاً،(4) وسلك سبيلاً جدداً»(5) فقد تضمنت هذه العبارات القصيرة البعيدة المعاني الإشارة من جانب إلى أهمية التفكر والنظر إلى عالم الوجود ومسائل الحياة التي تشكل أساس البصيرة الكاملة ومعرفة اللّه، كما أشارت من جانب آخر إلى المداومة على ذكر اللّه التي تؤدي إلى إحياء القلوب وإطمئنانها: (أَلا بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ)(6) ثم أشار إلى الارتواء من منبع الوحي وكلمات المعصومين(عليهم السلام) ليتزودوا منهم فيسيروا على الطريق ويحثوا الخطى نحو قرب الحبيب والفوز بوصاله. ثم تطرق(عليه السلام) إلى ستة أوصاف لتهذيب نفس اُولئك العباد المخلصين موضحاً معطياتها وآثارها فقال(عليه السلام): «قد خلع سرابيل الشّهوات، وتخلّى من الهموم، إلاّ همّاً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى، ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى، ومغاليق أبواب الرّدى» نعم فان هجر الشهوات وتصويب العين صوب مبدأ عالم الوجود وتنقية القلب إنّما يفتح بصيرة الإنسان، فلايصبح ذلك الإنسان سالكاً لسبيل الحق فحسب، بل يكون دليلاً ورائداً للطريق، ثم يودعه اللّه مفاتيح الهداية أقفال الضلالة
1. سورة آل عمران / 169.
2. «ارتوى» من مادة «ري» على وزن طي شرب الماء.
3. «فرات»، الماء العذب.
4. «نَهَل» بمعنى السقي أو الشراب الأول، ومن عادة العرب، أخذ الابل إلى مكان شُرب الماء، وعندما تشرب وترتوي ترجع إلى مكانها، فيقال لها نهلت الابل أو إبلٌ نواهل. وفي المرة الثانية تُعرض على الماء فعندما تشرب، فتسمى «الطِّل»، وبعد ذلك تذهب الابل للرعي في المرعى، فاصطلاح «النهل» يستعمل عندما تشرب الابل الشربة الاولى، وهذا الاصطلاح يستعمل دائماً في الشرب الاول.
5. «الجدد» من جد، الأرض الغليظة الصلبة المستوية .
6. سورة الرعد / 28.
وأبواب النيران، فيفتح طريق الحق لسالكيه ويغلق باب جهنم بوجه العباد. ثم أشار(عليه السلام) إلى ست صفات اُخرى فقال: «قد أبصر طريقه، وسلك سبيله، وعرف مناره، وقطع غماره،(1)استمسك من العرى(2) بأوثقها، ومن الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوءالشّمس» فالواقع أنّ الصفات الست السابقة أكدت على الجوانب العملية، بينما أضيفت لها هنا الجوانب العقائدية، فالخروج من صفة العمى وطرح حجب الهوى والظفر بسبيل الحق وطرق المعرفة وتجاوز بحار الشهوات والتمسك بعرى الهداية المتمثلة بالقرآن الكريم وكلمات المعصومين والراسخين في العلم، إنّما تجعل هذا العبد المخلص يبلغ مقام حق اليقين، فيرى الحقائق بأم عينه، بل تمثل له كالشمس في رابعة النهار، وهذه أعظم نعمة يصيبها العبد وأكرم ثواب يمنحه السالكين إلى اللّه. وقد جرى الكلام سابقا عن سلوك السبل القويمة المحكمة: «سلك سبيلاً جددا» كما كان هناك الانفتاح على الحقائق: «نظر فأبصر» ثم تكرر هذا الأمران بعبارة أخرى، فقال(عليه السلام): «قد أبصر طريقه وسلك سبيله»، ولكن وكما ذكرنا آنفا فقد ورد الحديث في السابق عن الجوانب العملية، بينما جاء الكلام هنا عن الأبعاد العلمية; أي أنّ معرفة الطريق وسلوك السبيل المطمئن ضروري في المرحلتين.
—–
أشار الإمام(عليه السلام) في هذا القسم من خطبته إلى أساس مطلق السعادات ودافع الإنسان إلى كافة الصالحات، وما يسهل عليه تحمل الشدائد والصعاب، ويحيله بالتالي إلى كائن يأبى القهر والانهزام، وقد عبر عنه في موضع: «فظهر مصباح الهدى في قلبه»، وفى موضع آخر: «فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس» ألا وهو مقام اليقين; وهو على مراتب، صنفها القرآن الكريم إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وبالطبع فانّ حق اليقين تمثل المرحلة الأخيرة،
1. «غمار» من مادة «غمر» على وزن أمر بمعنى التغطية، ولما كانت المياه الكثيرة تغطي الأرض، اطلق عليه الغمار.
2. «عرى» جمع عروه المقبض.
وهى مرحلة شهود الإنسان الكاملى لعالم الغيب على غرار مشاهدته لضوء الشمس، وهى المرحلة التي بلغها أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) حين قال: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا»(1)وقد جاء في الحديث أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: «ألا إنّ الناس لم يعطوا في الدنيا شيئا خيراً من اليقين والعافية، فاسئلوهما اللّه»(2).
وقال أميرالمؤمنين علي(عليه السلام): «ما أعظم سعادة من بوشر قلبه ببرد اليقين»(3). ومن الطبيعي أنّ الوصول إلى هذا المقام يتطلب من الإنسان إجتياز طريق صعب شائك بحيث لايغفل طرفة عين فيه عن اصلاح نفسه وتهذيبها، ويشفع أولياءاللّه في نفسه ويلهج قلبه قبل لسانه ببعض ما ورد في الأدعية الشعبانية: «إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، ونر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا ملعقة بعز قدسك». كثير وطويل هو الكلام في اليقين. ونكتفي بحديث عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في كيفية الوصول إلى اليقين، فقد قال(عليه السلام): «أين الموقنون؟ الذين خلعوا سرابيل الهوى، وقطعوا عنهم علائق الدنيا».(4)
—–
1. بحارالأنوار 40/152.
2. كنزالعمال 3/483، ح 7334.
3. بحارالأنوار 40/153.
4. غرر الحكم، ح 391.
![]() |
![]() |
![]() |