![]() |
![]() |
1. «مدحوة» من مادة «دحو» بمعنى مبسوطة.
2. «بأو» على وزن نحو الكبر والزهو والفخر.
3. «شموخ» بمعنى الكبر والغرور.
4. «غلواء» من مادة غلو النشاط و الطموح و تجاوز الحد.
5. «كعم» من مادة «كعم» على وزن طعم، كعم البعير شد فاه لئلا يعفى أو يأكل، وما يشد به كعام.
6. «كظة» بالكسر ما يعرض من امتلاء البطن بالطعام، ويراد بها هنا ما يشاهد في جري الماء من ثقل الاندفاع.
7. «جرية» بمعنى الجريان.
8. «همد» من مادة «همود» بمعنى اخماد حرارة النار.
9. «نَزَقات» من مادة «نزق» الخفة والطيش.
10. «لبد» من مادة «لبود» الوقوف في مكان.
11. «زيفان» التبختر في المشية.
12. «وثبات» جمع «وثبة» القفز وقد وردت في العبارة بمعنى حركة الأرض الشديدة في الأيام الاولى.
«فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا، وَحَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا، فَجَّرَ يَنَابِيع الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أنوفها، وَفَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيَدِهَا وَأَخَادِيدِهَا، وَعَدَّلَ حَرَكاتِهَا بِالرَّسِيَاتِ مِنْ جَلاَمِيدِهَا، وَذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا، فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيِمَها، وَتَغَلغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا، وَرُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الأَرَضِينَ وَجَرَاثِيمِهَا، وَفَسَخَ بَيْنَ الْجَوِّ وَبَيْنَها، وَأَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا، وَأَخْرَجَ إِلَيْهَا أهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِها».
—–
الشرح والتفسير
أشار الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة ـ بعد أن شرح كيفية ظهور الأرض ـ إلى مسألة ظهور العيون والآثار المهمة للجبال في استقرار الأرض ومن عليها، فتطرق إلى أهم أسباب الحياة على الأرض وفي مقدمتها الماء والسكون والاستقرار فقال (عليه السلام): «فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها، وحمل شواهق(1) الجبال الشمخ(2) البذخ(3) على أكتافها، فجر ينابيع العيون من عرانين(4) أنوفها وفرقها في سهوب(5) بيدها(6) و أخاديدها(7)» فالعبارة تفيد أن اؤل
1. «شواهق» جمع «شاهق» العالي والمرتفع.
2. «شمخ» جمع «شامخ» و«بذخ» جمع «باذخ» العال والرفيع.
3. شمخ جمع شامخ وبذخ جمع باذخ العال والرفيع.
4. «عرانين» جمع «عرنين» على وزن عشرين وهو ما صلب من عظم الأنف.
5. «سهوب» جمع «سهب» على وزن فهم الفلاة.
6. «بيد» جمع «بيداء» بمعنى الأرض الفلاة.
7. «أخاديد» جمع «اخدود» الحفرة الكبيرة.
ما ظهر على الأرض الجبال ثم تبعتها العيون;الأمر الذي أيدته أبحاث علم طبقات الأرض حيث تشققت القشرة الأرضية في البداية إثر البرودة، فكان في تلك الشقوق حفر عظيمة استوعبت الماء النازل من السماء ثم جرى بشكل عيون و ينابيع. والعبارة «عرانين أنوفها» التي تعني ما صلب من عظم الانف، هى كناية رائعة عن قمم الجبال، بل أن تشبيه نتوءات الجبال بالانف تشبيه رائع يدل على أنّ جوف الجبل ليس مملوءاً، بل فيها المزيد من الأجزاء الخالية بحيث تبدوا أحياناً للعيان على هيئة غيران وكهوف ومصادر لادخار المياه.
ثم اشار(عليه السلام) إلى سكون الأرض والسيطرة على حركتها بالجبال، فقال: «وعدل حركاتها بالراسيات(1) من جلاميدها(2) وذوات الشناخيب(3) الشمّ(4) من صياخيدها(5)».
وهكذا سكنت حركات الأرض بفعل نفوذ الجبال في سطحها ورسوخها في الأعماق واستقرارها على الفلاة فحالت دون اضطرابها: «فسكنت من الميدان(6) لرسوب الجبال في قطع أديمها(7) وتغلغها(8) متسربة(9) في جوبات(10) خياشيمها(11)، وركوبها أعناق سهول الأرضين وجراثيمها(12)».
والحق أنّ ما أورده الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة هو ذات ما أثبته العلم الطبيعى; الأمر الّذى أشار إليه القرآن الكريم في أنّ الجبال بمثابة مسامير الأرض: (وَالجِبالَ أَوْتاداً)(13)، كما صرح القرآن قائلاً: (وَأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)(14). طبعا هناك
1. «الراسيات» جمع «راسية» بمعنى الثقيل والمحكم.
2. «جلاميد» جمع «جلمود» الحجر الصلد.
3. «شناخيب» جمع «شنخوب» رأس الجبل.
4. «الشم» جمع «أشم» بمعنى العالي والمرتفع.
5. «صياخيد» جمع «صيخود» على وزن محمود الصخرة الشديدة.
6. «ميدان» بالتحريك الاضطراب.
7. «أديم» يعنى في الأصل الجلد المدبوغ ثم اطلق على سطح الأرض.
8. «تغلغل» المبالغة في الدخول.
9. «متسربة» من مادة «تسرب» الدخول خفية.
10. «جوبات» «جوبة» على وزن توبة الحفرة.
11. «خياشيم» جمع «خيشوم» على وزن زيتون وهو منفذ الأنف إلى الرأس.
12. «جراثيم» جمع «جرثومة» المراد هنا ما سفل عن السطوح من الطبقات الترابية.
13. سورة النباء/7.
14. سورة النحل/15.
عدة فوائد اُخرى للجبال; ومنها خزن المياه التي تخرج منها أحياناً كعيون، وأحياناً اُخرى على هيئة صقيع كثير ذاب ماءاً فشكل الأنهار، ناهيك عن سائر فوائد التي ذكرناها في شرح الخطبة الاولى في المجلد الأول من هذا الكتاب. ثم أشار(عليه السلام)إلى اُمور مهمّة اُخرى لاعداد الأرض بغية عيش الإنسان وممارسة حياته عليها، في أنّ الله جعل فاصلة بين الأرض والجو، وأعد الهواء والنسيم إلى جانب توفير كافة ما يحتاج إليه سكنة الأرض: «وفسح بين الجو وبينهما، وأعد الهواء متنسما(1) لساكنها، وأخرج إليها أهلها على تمام مرافقها(2)»، فقد ضمنت هذه العبارة أشاره إلى الأركان الأصلية للحياة ومعيشة الإنسان والحيوان، وفي مقدمتها الهواء، أو بعبارة اُخرى الاو كسجين الذي لايستغني عنه الإنسان لبضع (دقائق حيث يموت إذا قطع عنه. إلاّ أنّ الحق سبحانه وتعالى خلقه بكمية كافية وفي جميع الاماكن بحيث يحصل عليه الإنسان دون أدنى جهد أو تعب. كما يحصل عليه الجميع على السواسية غنيهم وفقيرهم وكبيرهم وصغيرهم وعجوزهم وفتاهم وعاجزهم وناشطهم. ثم أشار على نحو الاجمال إلى كل ما يلزم الإنسان والحيوان للمعيشه على الأرض بعبارة قصيرة أوجزها في المفردة «المرافق». أمّا ما المراد بالجو في العبارة الذي فصله الله عن الأرض، فقد قال البعض المراد به الفضاء، ولمالم يكن الفضاء جسما أو مادة فلا يبدو التعبير با يجاد الفاصلة بينه وبين الأرض مناسبا. و يمكن أن يكون المراد بالجو الطبقات التي وراء الهواء، كطبقة الأوزون التي لايمكنها تلبية الحاجة التنفسية للإنسان لو كانت فاصلتها مع الأرض قليلة، وكانت الطبقة الجوية رقيقة. أضف إلى ذلك فانها تدعو إلى اضطراب سائر شرائط حياة الإنسان وكافة الأحياء على الأرض.
لقد أعد الحكيم سبحانه بمقتضى قدرته وعلمه كافة أسباب الحياة ومتطلبات العيش
1. «متنسم» من مادة «نسيم» هبوب الرياح المعتدلة. وعليه متنسم (بصيغة اسم مفعول) بمعنى الهواء الصالح للتنفس.
2. «مرافق» جمع «مرفق» على وزن مكتب كل ما يحتاج الإنسان ويستفيد منه، وهذا هو المعنى المراد في الخطبة. كما ورد بمعنى مرفق اليد.
والوسائل التي يحتاجها الإنسان قبل خلقه; الأمر الذي أشارت الخطبة إلى جانب منه، ومن ذلك استقرار الأرض، فلو كانت القشرة الأرضية في حالة حركة لتعذرت الحياة عليها، و الآخر توفير الهواء بهذه الصورة الواسعة حيث يعتبر مادة الحياة في السفر والحضر وفي البيت وخارجه وفي اليقظة والمنام وهو معه أينما كان، وتوفير المياه والعيون وجعلها تحت تصرف الإنسان، إلى جانب نزول الأمطار التي تروي كافة المواضع المرتفعة والعالية وترويها بالمياه، وهذا ما سيأتي ذكره فى الأقسام القادمة من الخطبة.
وظهور الجبال التي تلعب دوراً مهما في حياة الإنسان، بل يمكن القول أنّ الحياة البشرية مهددة بالاخطار لولا هذه الجبال للأسباب التالية.
أولاً: دورها في الحيلولة دون اضطراب الأرض بفعل الضغط الداخلي.
ثانياً: الحيولة دون عدم استقرار الأرض إثر الضغط الخارجي الناجم عن جاذبية الشمس والقمر وظاهرة المد والجزر الناشئة عنهما.
ثالثاً: كونها الملجأ الأمن ازاء العواصف التي تهدد كل مقومات وعناصر حياة الإنسان.
رابعاً: وسيلة لايقاف السحب ونزول الأمطار.
خامساً: عامل مهم لادخار المياه بصورة صقيع متراكم في سطحها الخارجي بحيث تتحول بالتدريج إلى ماء طيلة السنة.
سادساً: موضع للآبار الجوفية التي تختزن في حفر عظيمة داخلها وتجري كعيون.
سابعاً: تمنع الاصطدام الشديد للهواء بطبقة الأرض.
ثامناً: تجعل الأرض قابلة للاستفادة العملية، وبالنظر لاختلاف درجات حرارة وسط الجبال ونقاطها العلوية والسفلية فانها توفر مناخاً مناسباً لنمو مختلف النباتات والمحاصيل.
تاسعاً: انها مراكز للمعادن العظيمة التي تلعب دوراً مهما في حياة الإنسان.
عاشرا: يستخرج منها بعض المواد المهمّة في البناء ولاسيما الحجر.
ومن هنا عدها القرآن الكريم من النعم العظيمة ذات الفوائد الكثيرة، فقال (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرضَ وَجَعَلَ فِـيها رَواسِىَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ جَعَلَ فِـيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)(1).
1. سورة الرعد/3.
«ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الأَرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا، وَلاَ تَجِدُ جَدَاوِلُ الأَنْهَارِ ذَرِيعةً إِلى بُلُوغِهَا، حَتَّى أَنْشَأَلَهَا نَاشِئَةَ سَحَاب تُحْيِي مَوَاتَهَا، وَتَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْد افْتِرَاقِ لُمَعِهِ، وَتَبَايُنِ قَزَعِهِ، حَتَّى إِذَا تمخضت لُجَّةُ الْمُزْنِ فِيهِ، وَالْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ، وَلَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ، وَمُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ، أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً، قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ، تَمْرِيهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ، وَدُفَعَ شَآبِيبِهِ. فَلَمَّآ أَلْقَتِ السَّحابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا، وَبَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ المَحْمُولِ عَلَيْهَا، أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الأَرْضِ النَّبَاتَ، وَمِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الأَعْشَابَ، فَهِي تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا وَتَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ، أَزَاهِيرِهَا، وَحِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا، وَجَعَلَ ذلِكَ بَلاَغاً لِْلأَنَامِ، وَرِزْقاً لِْلأَنْعَامِ، وَخَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا، وَأَقَامَ المَنَارَ لِلسَّالِكينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا».
—–
الشرح والتفسير
أشار الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة إلى نعمة مهمّة اُخرى لا تتمّ الحياة بدونها على سطح الأرض، حيث شرحها بعبارات لطيفة رائعة، فقال(عليه السلام): «ثم لم يدع جرز(1) الأرض التي تقصر مياه العيون عن روابيها(2)، ولاتجد جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها، حتى أنشأ لها
1. «جرز»; تطلق على الأرض التي تمر عليها مياه العيون فتنبت.
2. «روابي» جمع «رابية» من مادة «ربو» على وزن غلو مرتفعات الأرض.
ناشئة السحاب تحيي، مواتها وتستخرج نباتها».
الجدير بالذكر أنّ الإمام(عليه السلام) أشار بصورة عابرة إلى الاقسام الثلاثة للري والسقي: السقي الطبيعي بواسطة العيون المليئة بالمياه، والسقي عن طريق الجدوال والآبار وتوجيه مياه الأنهار الطبيعية، والسقي عن طريق الأمطار الأهم من كل ذلك، وذلك لوجود بعض المناطق في الأرض التي يتعذر سقيها بغير الأمطار، وهى المناطق الكثيرة، فلولا مياه الأمطار لماتت أجزاء واسعة من الأرض. اضف إلى ذلك فما لاشك فيه أنّ الأنهار والعيون إنّما تكتسب مياهها من الأمطار. على كل حال فانّ السحب وبالتالي الأمطار تقوم بهذه المهمة في السقي و التي كلفها بها الله فقال(عليه السلام): «الف غمامها بعد افتراق لمعه(1)، وتباين قزعه(2)، حتى إذا تمخصت(3)لجة المزن(4) فيه والتمع برقه في كففه(5)، ولم ينم وميضه(6) في كنهور(7) ربابه(8)، متراكم سحابه، أرسله سحاً(9) متاركاً، قد أسف(10) هيدبه(11)، تمريه(12) الجنوب درر(13) أهاضيبه(14)، ودفع شابيبه(15)»، فقد استبطنت هذه العبارات عدّة مواضيع علمية مهمة: ومنها الإشارة إلى مهمّة الريح التي تؤلف بين السحب المتفرقة المنبعثة من البحار لتتكون منها الأمطار الغزيرة. ثم
1. «لمع» جمع «لمعة» على وزن لقمة بمعنى قطعة من السحاب أو شيء آخر.
2. «قزع» جمع «قزعة» على وزن ثمرة القطعة من الغيم.
3. «تمخضت» من مادة «مخض» على وزن فرض، بمعنى الحركة الشديدة، مثل حركة الشُكية - و هو الوسيلة التي يخض فيها اللبن لفصل الزبد عنه - عند ما نريد فصل الزبد عن اللبن.
و المخاض: يطلق على حركة الطفل الشديدة في بطن أمه في حالة الطلق و الوضع.
4. «مزن» السحب الماطرة.
5. «كفف» جمع «كفه» على وزن قبة حاشية شيء واطرافه.
6. و«ميض» من مادة ومض على وزن رمز التشعشع.
7. «كنهور» القطع العظيمة من السحاب.
8. «رباب» جمع «ربابة» السحاب الابيض.
9. «سح» متلاحق متواصل.
10. «أسف» من مادة إسفاف الدنو من الأرض.
11. «هيدب» السحاب المتدلي الذي يقترب من الأرض.
12. «تمرى» من مادة «مرى» من مرى الناقة مسح على ضرعها ليحلب لبنها.
13. «درر» جمع «درة» اللبن.
14. «أهاضيب» جمع «أهضوبة» الحلب المتواصل.
15. «شابيب» جمع «شؤبوب» ما ينزل من المطر بشدة.
تطرق(عليه السلام) إلى تجمع السحب والغيوم والضغط الذي تسلطه كل واحدة على الأرض تأهباً لهطول الأمطار إلى جانب دور البرق في ذلك الهطول، لاننا نعلم أنّ البرق إنّما يحصل من خلال الكهربائية الموجبة والسالبة، فيجذب إليه مقداراً كبيراً من الهواء ويقلل من ضغطه فاذا قلّ ضغط الهواء تمهدت الظروف لسقوط الأمطار. ثم واصل الإمام(عليه السلام)الكلام في دور الرياح وأنّها بمثابة الأصابع التي تستخرج الحليب من ضرع الثدي، فتفصل السحب والغيوم عن الهواء وتبعث بمياه الأمطار هنا وهناك. فكل هذه الاُمور تشير إلى أن الخالق الحكيم قد أعدّ جميع المقدمات ودبر كافة الاسباب من أجل ري الاراضي المرتفعة والجافة. ثم أشار الإمام(عليه السلام) إلى آثار المطر على الأرض وما ينطوي عليه من بركات وفوائد فقال: «فلما ألقت السحاب برك(1)بوانيها(2) وبعاع(3) ما أستقلت(4) به من العبث(5) المحمول عليه، أخرج به من هوامد(6) الأرض النبات، ومن زعر(7) الجبال الأعشاب»، فقد أشارت هذه العبارات الرائعة إلى مسألة وهى أنّ السحب كأنّها حبلى فاذا هطلت الأمطار الثقلية وضعت حملها; الحمل الذي يفيض الحياة والبركة والجمال لكي تشمل الصحاري الجرداء أطراف قمم و سفوح الجبال ـ التي يصعب على الإنسان سقيها ـ فتخرج منها النباتات التي تعود بالفائدة على الناس. ثم واصل(عليه السلام)حديثه برسم صورة رائعة عن الطبيعة التي تتمخض عن ذلك المطر، فقال «فهى تبهج(8) بزينة رياضها، وتزدهى(9) بما البسته من ريط(10) أزاهيرها(11) وحيلة ما سمطت(12) به من ناضر(13)أنوارها(14)».
1. «برك» بالفتح مايلي الأرض من جلد صدر العبير.
2. «بواني» مثنى «بوان» على وزن لسان عمود الخيمة.
3. «بعاع» بالفتح ثقل السحاب من الماء.
4. «استقل» من مادة «استقلال» الحمل.
5. «عِبء» الحمل.
6. «هوامد» جمع «هامدة» من مادة «همود» انطفاء النار والهوامد من الأرض ما لم يكن بها نبات.
7. «زعر» جمع «أزعر» الموضع القليل النبات.
8. «تبهج» من مادة «بهجت» سر وفرح.
9. «تزدهي» من الأزدهاء العجب.
10. «ريط» جمع «ريطة» الثوب الرقيق.
11. «أزاهير» جمع «زهرة» النبات.
12. «سمطت» من مادة «سمط» التعليق.
13. «ناضر» من مادة «نضارة» النشاط، ولا سيما الحاصل من وفور النعمة.
14. «أنوار» جمع «نور» البرعم والزهر.
ومن الواضع جداً دور الطبيعية وجمالها في صفاء روح الإنسان وإزالته لتعبه وارهاقه إلى جانب تفعيل قوته وطاقته; وعليه فالحديث لايقتصر على مسألة الجمال، وإن كان هذا الجمال يمثل جانباً من جمال الحق سبحانه وجلاله; بل إنّ هذا الجمال يعد أحد عوامل بقاء الحياة وديمومتها، بل ذهب بعض العلماء إلى أهمية دروه حتى في نشاط الحيوانات. ثم قال(عليه السلام)بأنّ كل ذلك زاد ومتاع للإنسان ورزق للانعام: «وجعل ذلك بلاغاً(1) للأنام، ورزقاً للأنعام»، فالإنسان لا يستفيد من نعم الطبيعية على مستوى الغذاء فحسب، بل يؤمن عن طريقها لباسه ومسكنه ومركبه، وبصورة عامة كافة حاجاته ومتطلباته. قال القرآن الكريم بهذا الشأن: (أَنّا صَبَبْنا الْماءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنا فِـيها حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً* وَزَيْتُوناً وَنَـخْلاً* وَحَدائِقَ غُلْباً * وَفاكِهَةً وَأَبّاً * مَتاعاً لَكُمْ وَلاَِنْعامِكُمْ)(2).
نعم فالإنسان لايتغذى على النباتات وثمارها، وينسبح مفروشاته من مختلف أليافها فحسب، بل يبني بيوته من خشبها وينصب الخيام من أليافها، كما يغطي أغلب حاجاته ومتطلباته عن طريق منتجات الحيوانات التي تتغذى على النباتات. ثم اختتم خطبته(عليه السلام)بالاشارة إلى مسألة مهمّة اُخرى خلقها الله في الأرض من أجل الإنسان: «وخرق الفجاج(3)في آفاقها وأقام المنار للسالكين على جواد(4) طرقها». فادنى نظرة إلى الأرض وكل بقعة من هذه الكرة الأرضية يتضح من خلالها بأنّ الجبال لم تحول دون الحركة على الأرض أو بفصل بعض بقاعها عن البعض الآخر فحسب، بل جعل في كافة مواضعها الاودية والشقوق لا يصالها مع بعضها عن طريق السبل والجادات وما إلى ذلك: و قلما يلتفت الإنسان أنه لولا وجود هذه الجادات و الجبال العملاقة المتصلة مع بعضها و التي تشكل جدارا لمنع عبور الناس و الحيوانات و تقسم الأرض إلى إقسام متناثرة لتعرض لعظيم البلاء و عاش أشد الفاقة (وَجَعَلْنا فِي الأَرْضِ رَواسِىَ أَنْ تَمِـيدَ بِـهِمْ وَجَعَلْنا فِـيها فِـجاجاً سُبُلاً لَعَـلَّهُمْ يَهْـتَدُونَ)(5)، وقال: (وَمِنَ الجِبالِ جُـدَدٌ بِيضٌ وَحُـمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ)(6).
1. «بلاغ» من مادة «بلوغ» الوصول إلى الشيء وهو هنا ما يتبلغ به من قوت.
2. سورة عبس/25 ـ 32.
3. «فجاج» جمع «فج» بمعنى الوادي بين الجبلين.
4. «جواد» جمع «جادة» الطريق الواسع الواضح.
5. سورة الأنبياء/31.
6. سورة فاطر/27.
جرت عادة أهل التدبير والحكمة على توفير كافة المقدمات والأسباب التي توصل إلى الهدف، ويتجلى هذا الأمر بأعظم أبعاده في الخالق الحكيم سواء في عالم التشريع والتكليف، أم في عالم العينيات والواقعيات، فقد أعد كافة الشرائط ومهد جميع السبل في عالم التكليف من أجل الطاعة، حيث زود الإنسان بالعقل والذكاء والفطرة السليمة وانزل الكتب السماوية وبعث الرسل والأنبياء ليتسنى للعباد اتخاذ سبيل الطاعة; الأمر الذي اصطلح عليه باللطف في علم الكلام. وفي عالم الخلق فانّ الله سبحانه أعد كافة وسائل الحياة قبل أن يضع الإنسان قدمه على هذا العالم، فقد أقر سطح الأرض وحال دون حركاتها الطائشة بواسطة الجبال، وشق فيها الآبار والأنهار التي تعتبر مادة الحياة، وسخر السحب لري المرتفعات، كما خلق مختلف النباتات التي يتغذى عليها الناس والحيوانات كما أوجد الجواد وسط الجبال لعبور الناس ومشيهم، وسهل للناس روابطهم الاجتماعية، بل منح أرواحهم السكينة والهدوء بما زين به الطبيعة من ورود وأزهار. نعم هذا هو معنى الحكمة والتدبير والربوبية الذي أشار إليه أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في هذا الموضع من الخطبة، والذي يعرف الإنسان بعلم الله وقدرته وحكمته من جانب، كما تثير لديه حس الشكر ـ مادة الطاعة والعبودية ـ، وهوالأمر الذي ورد كراراً في القرآن ومن ذلك في سورة النحل بعد ذكره لخلق السموات والأرض والانعام ونزول الأمطار من السماء و خروج الاشجار و نمو الزرع و أنواع الثمار و الفاكهة و حركة الشمس و القمر و خلق البحار على أنها من نعمه التي لاتعد و لا تحصى. حيث قال: (وَأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّـكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامات وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)(1).
—–
1. سورة النحل/16 ـ 15.
«فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ، وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ، اخْتَارَ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ وَجَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ، وَأَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ، وَأَوْ عَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرَّضَ لِمَعْصِيَتِهِ، وَالْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزَلَتِهِ; فَأَقْدَمََ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ ـ مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ ـ فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ، وَلِيُقِيمَ الْحُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ، وَيَصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، وَمُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالاَتِهِ، قَرْناً فَقَرْناً; حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّد (صلى الله عليه وآله) حُجَّتُهُ، وَبَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَنُذُرُهُ».
—–
الشرح والتفسير
خاض الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة في قضية خلق آدم بعد خلق الأرض و إعدادها من جميع النواحي، وأنّ الله سبحانه قد أعد الأرض وانفذ فيها أمره ثم اصطفى آدم(عليه السلام) من بين جميع خلقه: «فلما مهد أرضه، وأنفذ أمره، اختار آدم عليه السلام، خيرة من خلقه، وجعله أول جبلته»(1)، والعبارة «أول جبلته» (أول مخلوقاته) يمكن أن يكون المراد بها الإنسان الأول من حيث الترتيب الزماني، أو أول مخلوق من حيث الموقع.
والمقام، أو كلاهما.
1. «جبلة» بمعنى الطبيعة و الفطرة الإنسانية (وقد اشتقت هذه الكلمة من مادة «جبل» حيث تابى هذه الفطرة التغيير).
ثم قال(عليه السلام) بأنّ الله سبحانه أسكن آدم جنته وزوده بمختلف الأطعمة والأشرية، ثم حذره ما حظر عليه والعاقبة الخطيرة لتجاوز أمره ونهيه على مقامه وكرامته: «وأسكنه جنته، وأرغد فيها أكله، وأوعز(1) إليه فيما نهاه عنه، وأعلمه أن في الأقدام عليه التعرض لمعصيته، والمخاطرة بمنزلته».
نعم فقد أسكن الله آدم(عليه السلام) في جنّة أرضية (جنّة غناء بالفاكهة من جنان الأرض، والشاهد على ذلك قوله: «فلما مهد أرضه»، ثم بين لآدم(عليه السلام) تكليفه وأصدر له وأوامره ونواهيه وحذره من معصيته وعدم طاعة أوامره، والعبارات وان لم تصرح بالشجرة المنهية، غير أنّها بينت بصورة عامة; الأمر الذي ورد كراراً في عدّه آيات قرآنية ومنها الآية: (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(2) والآية (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِـينَ)(3).
ثم واصل الإمام(عليه السلام) كلامه بأنّ آدم وقع في ما حذر منه: «فأقدم على ما نهاه عنه، موافاة لسابق علمه».
قد يبدو في البداية أنّ العبارة: «موافاة لسابق علمه»، أنّ آدم(عليه السلام) ـ قد أجبر على المعصية وذلك لأنّ علم الله سبق في هذا الأمر (وهذه هى الشبهة المعروفة لدى المجبرة في مسألة العلم الأزلي لله سبحانه)، ولكن كما ذكر نا ذلك سابقاً في بحث الجبر والتفويض، أنّ العلم الازلي ليس سبباً الاجبار على فعل قط! لأنّ الله كان يعلم أنّ آدم(عليه السلام) سيقارف هذا العمل باختياره، بالضبط كالاستاذ الذي يعرف تلميذه سيسقط في الامتحان النهائي بسبب إهماله وكسله في الدروس. فمثل هذا العلم من قبل الاستاذ ليس له أية صلة برسوب ذلك التلميذ أو اجباره عليه. فهو يعلم أنّ تلميذه اختار طريقاً خاطئاً بمحض إرادته، وقد اعتاد الكسل والتقاعس دون الجد والمطالعة والمثابرة(4) ومن هنا آخذه الله وخاطبه: (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِـينٌ)(5).
1. «أوعز» من مادة «وعز» على وزن وعظ اقتراح عمل على آخر.
2. سورة طه/115.
3. سورة البقرة/35.
4. للوقوف على تفاصيل هذا الموضوع راجع كتاب «معرفة الله».
5. سورة الاعراف/22.
فلو كان آدم(عليه السلام) مجبوراً كيف يؤاخذه الحكيم سبحانه على فعل لم يكن مختاراً في ارتكابه، كذلك لماذا يندم آدم(عليه السلام) على ذلك الفعل ويتوب منه، أم كيف يخرج الله سبحانه من الجنّة بذلك الفعل؟ كل هذه الاُمور تدل على عدم وجود أي تضارب بين العلم الأزلي لله سبحانه مع اختيار آدم وسائر أفراد البشر، ثم قال(عليه السلام): «فاهبطه(1) بعد التوبة ليعمر الأرض بنسله، وليقيم الحجة به على عباده».
فبالنظر للعبارة السابقة «أسكنه جنّته» يفهم أنّ هبوط آدم ونزوله لم يكن هبوطاً مكانياً، بل مقامياً، أي أنّ الله أهبط آدم من ذلك المقام الرفيع الذي كان عليه لتركه ذلك الاولى.
والعبارة: «ليعمر أرضه بنسله» تفيد أنّ هدف كافة الأفراد لابدّ أن يكون إعمار الأرض لا اخرابها با الحروب والقتال والنزاعات والخلافات أو الخمول والكسل والتقاعس عن العمل أو حتى تلويث البيئة السالمة! والطريف أنّ هذا الاعمار جاء بعد التوبة، فما لم يتب الإنسان من أخطائه وزلله لا يوفق لهذا البناء والاعمار، فقد جاء في القرآن الكريم (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)(2).
كما يستفاد من العبارة: «فأهبطه بعد التوبة» بأنّ ذلك الهبوط قد حصل بعد التوبة.
النقطة المهمة الاُخرى في العبارة والتي أشير إليها مراراً في القرآن مسألة اتمام الحجة على العباد. فالله سبحانه وإن زود الإنسان بالعقل، إلاّ أنّه لم يكتف بذلك فواتر إليه كتبه ورسله وأنبيائه والدعاة إلى طاعته ـ في كل عصر ومصر ـ ليتم الحجة على العباد، وهذا ما أورده الإمام(عليه السلام) في حديثه بين بني آدم وواتر إليهم الأنبياء ليؤدوا رسالات ربّهم ويقيموا عليهم الحجج: «ولم يخلهم بعد أن قبضه، ممّا يؤكد عليهم حجة ربوبيته، ويصل بينهم وبين معرفته، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه، ومحتملي ودائع رسالاته، قرناً(3) فقرناً; حتى تمت بنبينا محمد(صلى الله عليه وآله) حجته، وبلغ المقطع (4) عذره ونذره(5)»، تفيد بعض
1. «أهبط» من مادة «هبوط» النزول.
2. سورة هود/61.
3. «قرن» الزمان الطويل الذي قد يمتد إلى مئة عام، كما يطلق على الجماعة التي تعيش مع بعضها في عصر.
4. «مقطع» النهاية.
![]() |
![]() |