![]() |
![]() |
ثم وصف فاجعتهم الأخيرة بأنّها أشد وأعظم على ذلك الأقرب لله والأكثر عبودية له: «وحتى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم بالله ظنا».
وهل ينتظر غير هذا من حكومة ظالمة مستبدة مجرمة، لادين لها ولا أخلاق، قطعاً محنة العبد في ظل هذه الحكومة تكون أعقد وأصعب كلما كان لربه أطوع وأقرب.
ثم اختتم(عليه السلام) كلامه بتسلية أصحابه وأنصاره لما ينتظرهم من أحداث أليمة: «فان أتاكم الله بعافية فاقبلوا، وإن ابتليتم فاصبروا فان العاقبة للمتقين».
فالذي يفهم من هذه العبارة أنّ حكومة بني أمية وإن مارست ظلمها وضغوطها بحق الاُمّة، فجرعتها أنواع العذاب، إلاّ أنّ هناك البعض الذي نجى من هذه الحوادث الخطيرة والمؤطة، وقد أوصى الإمام(عليه السلام) الطائفة الاولى بالصبر والتحمل وانتظار الفرج، بينما أوصى الثانية بالحمد والشكر.
لقد حصلت كافة تكهنات الإمام(عليه السلام) التي أوردها في هذه الخطبة بشأن شمولية فجائع بني أمية، حيث لم تأل هذه الحكومة المستبدة جهدوا عن مقارفة أنواع الظلم والجور، كما سفكت بحاراً من الدماء من أجل ترسيخ دعائم سلطتها الغاشمة، إلى جانب ملئ السجون بالأبرياء من المومنين وسومهم سوء العذاب، وممارسة أقصى درجات العنف والبطش، فعم الخوف والرعب كافة أبناء الاُمّة، بما فيهم مقربي هذه الحكومة وبطانتها. وقد قام المرحوم العلاّمة الأميني بجمع كافة الانتها كات والبدع التي ارتكبها بني أمية، مع ذكر اسنادها في كتابه الغدير، نورد طائفة منها، ونترك للقارىء العزيز الوقوف على تفاصيلها في المجلد الحادي عشر من كتاب الغدير أنّ معاوية:
أوّل من أحدث الاذان في صلاة العيدين؟!
أوّل من رأى الجميع بين الأختين إحياء لما ذهب إليه عثمان؟!
أوّل من غيّر السنّة في الديات وأدخل فيها ما ليس منها؟!
أوّل من ترك التكبير في الصلوات عند كلِّ هويّ وانتصاب وهى سنّة ثابتة؟!
اوّل من ترك التلبية وأمر به خلافاً لعليّ أمير المؤمنين(عليه السلام) العامل بسنّة اللّه ورسوله؟!
أوّل من قدم الخطبة على الصلاة في العيد لإسماع الناس سبّ عليّ(عليه السلام)؟! وقد صحّ عن نبيّ الإسلام: «من سبّ عليّاً فقد سبّه، ومن سبّه فقد سبّه اللّه».
أوّل من عصى ربّه بترك حدوده وإقامة سنّتة؟! (وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِـيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِـينٌ).
أوّل من نقض حكم العاهر، وأحيى طقوس الجاهليّة، وخالف دين محمد(صلى الله عليه وآله): «الولد للفراش وللعاهر الحَجر»؟!
أوّل من تختّم بالسيار؟ فأخذ المروانية بذلك إلى أن نقله السفّاح إلى اليمين فبقى إلى أيّام الرشيد فنقله إلى اليسار.
أوّل من سنّ سبّ علىّ وقنت به وجعله سنّة جارية في خلفه الذين أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، وشوّة خطب المنابر بذلك الحادث النخري؟!
أوّل من بغى على إمام وقته وحاربه وقاتله وقتل أُمّة كبيرة من صلحاء الصحابة البدريّين وأهل بيعة الشجرة الذين رضي اللّه عنهم ورضوا عنه؟!
أوّل من أعطى المال لوضع الحديث وتحريف كتاب اللّه وكلمته الطيّبة عن مواضعها؟!
أوّل من اشتراط البراءة من علىّ(عليه السلام) من بايعه في خلافته الغاشمة أو في ملكه العضوض؟!
أوّل من حُمل إليه رأس الصحابّي العادل عمرو بن الحمق وأُدير به في البلاد؟!
أوّل من قتل عدول الصحابة الأوّلين والتابعين لهم بإحسان من عيون الأُمّة وعبّادها ونسّاكها لمحض ولائهم سيّد العترة، وقد جعله اللّه أجر رسالة نبيّه الخاتم(صلى الله عليه وآله)؟!
أوّل من قتل نساء كلّ وإلى أهل بيت النبىّ وذبح صبيانهم ونهب أموالهم، ومثَّل بقتلاهم وشتَّت شملهم، وفّرق جمعهم، واستأصل شأفتهم، ونفاهم عن عقر دورهم، وأبادهم تحت كلّ حجر ومدَر؟!
أوّل من عبثت به رعيّته، وسنَّ العمل بالشهادات المزوّرة، وسلّط ورجال الشرِّ والغىّ والجور على صلحاء أُمة محمد(صلى الله عليه وآله).
أوّل من همَّ بنقل منبر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) عن المدينة المشرّفة إلى الشام؟! ولّما حرّك المنبر خسفت الشمس فترك.
أوّل من بدّل الخلافة الإسلاميّة إلى شرّ ملك وسلطة سوء؟!
أوّل من ملك وتجبّر في الإسلام بلبس الحرير والديباج، وشرب في آنية الذهب والفضّة، وركب السروج المحلّاة بهما؟!
أوّل من سمع الغناء وطرب عليه وأعطى ووصل إليه وهو يرى نفسه أميرالمؤمنين؟!
أوّل من هتك دين اللّه باستخلاف جروه الفاجر المستهتر التارك الصلاة؟!
أوّل من شنَّ الغارة على مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله) حرم أمن اللّه، وأخاف أهليها، وما رعى حرمة ذلك الجوار المقدّس؟!
إلى جرائم وبوائق تجر الرجل فيها هو السابق الأوّل إليها.
أصحيحٌ أنَّ مثل هذا الطاغية تصدر فيه كلمة إطراء من مصدر النبوّة؟ أو يأتي عن نبىِّ العدل والحقِّ والصدق ما يوهم الثناء عليه؟ لا، لا يمكن ذلك;
2 ـ غيض من فيض فضائع بني أمية
ذكر أبوالفرج الاصفهاني وهو من مشاهير علماء القرن الرابع الهجري في كتابه المعروف «الاغاني» بعض الاُمور العجيبة بشأن بني أمية، نورد طائفة منها:
1ـ خالد بن عبدالله القسري و الي هشام بن عبدالملك على الكوفة كان زنديقا و أمه نصرانيه و كان يوّلي النصارى و المجوس على المسلمين.(1)
2ـ بني كنيسة لأمه خلف قبلة مسجد الكوفة فكان يضرب فيها الناقوس حين يرتفع صوت الأذان(2).
3ـ كان يقول ـ و العياذ بالله ـ بأفضلية الخليفة هشام على رسول الله(صلى الله عليه وآله) و كان يقول بكل و قاحة: و الله لو أمرني الخليفة لهدمت الكعبة و نقلت حجرها إلى الشام.(3) و العجيب عزله هشام بعد مدة إثر تعرضه لبني أمية.(4)
روى ابن أبي الحديد المعتزلي(5) في شرح نهج البلاغة عن أبي عثمان الجاحظ أن بني هاشم كانوا يفخرون على بني أمية أنا لم نقم بهذه الأعمال:
أـ هدم الكعبة (إشارة لما فعله الحجاج على عهد عبد الملك)
ب ـ تغيير القبلة (إشارة لصلاة الوليد لغير القبلة ثملا و هو يقول أينما تولوا فثم وجه الله)
1. الأغاني 22/23.
2. الأغاني 22/22.
3. الأغاني 22/25.
4. الأغاني 22/33.
5. شرح نهج البلاغة 15/240ـ242.
ج ـ لم يجعلوا الخليفة أفضل شأنا من النبي(صلى الله عليه وآله) (إشارة لما ورد في كتاب الأغاني)
عـ ـ لم يختموا رقاب المسلمين (إشارة إلى ختم بني أمية لرقاب المسلمين كعبيد كما كانوا يختمون الخيل).
هـ ـ لم ينهبوا حرم النبي(صلى الله عليه وآله) و ينتهكوا حرمة المسلمات (إشارة إلى قصة مسلم بن عقبة الذي إستباح المدينة بأمر يزيد فارتكب فيها من الجرائم ما يعجز القلم عن وصفها).
و قد وجّه معاوية قبل ذلك يسر بن أرطاة ليهجم على المدينة و يطوف في مسجد النبي(صلى الله عليه وآله)دعيا الناس لبيعته و قتل من تخلف و هدم بيته و مصادرة أمواله.
و نختتم الكلام بما ذكره ابن عساكر ـ المؤرخ السني المعروف ـ في كتابه تأريخ دمشق أن عبدالله بن حنظلة ـ و أبوه غسيل الملائكة من كبار صحابة النبي(صلى الله عليه وآله) ـ خاطب الناس حين أمر يزيد مسلم بن عقبة بالهجوم على المدينة فقال: يا قوم اتقوا الله وحده لاشريك له، فوالله ماخرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ـ إن رجلا ينكح الأمهات و البنات و الأخوات و يشرب الخمر و يدع الصلاة ـ و الله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسناً.(1)
و هنا نقف على عمق كلام أميرالمؤمنين(عليه السلام) «لكل أمة آفة، و آفة هذه الأمة بنو أمية»(2) و يالهم من جهال أولئك الذين يطرون معاوية و يتغنون بأمجاد بني أمية رغم هذه الفجائع.
—–
1. تاريخ دمشق لابن عساكر 12/127.
2. كنز العمال 11/364 ح 31755.
ومن خطبة له(عليه السلام)
في التزهيد من الدنيا
تفيد بعض الروايات أنّ الإمام(عليه السلام) خطب بهذه الخطبة في صلاة الجمعة، فأوصى فيها الناس بالزهد في الدنيا، وقد صور غدرها وتقلب أحوالها بالشكل الذي جعل طلابها يمجونها ولايركنون اليها; ولا سيما أنّه تحدث عن اُولئك الذين يذرفون الدمع حزنا على فقد أعزتهم، وآخرين يعزونهم، وطائفة من الناس قد رقدت على فراش المرض تنتظر الموت، بهدف ايقاظهم من غفلتهم وسيطرة أهوائهم وهوسهم. فالخطبة موعظة لمرضى القلب من عبدة الدنيا.
—–
1. سند الخطبة: رواها قبل السيد الرضي (ره) جامع نهج البلاغة زيد بن وهب (وهو من أصحاب أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) الذي نقل جانباً من خطبه(عليه السلام) في كتابه خطب أميرالمؤمنين على المنابر في الجمع والأعياد وغيرهما، وهو أول كتاب صنفه بهذا الشأن) ونقلها عنه المرحوم المحدث النوري في مستدرك الوسائل باختلاف قليل، ورواها المرحوم الصدوق في كتابيه معاني الأخبار ومن لايحضره الفقيه. كما رواها عدد آخر ممن عاش بعد السيد الرضي (ره). (مصادر نهج البلاغة 3/196).
«نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ، وَنَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرنا عَلَى مَا يَكُونُ، وَنَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الأَدْيَانِ، كَمَا نَسَأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الأَبْدَانِ».
—–
الشرح والتفسير
إستهل الإمام(عليه السلام) خطبته بحمد الله والثناء عليه لتتهيى القلوب لسماع الكلمات القادمة في الوعظ والنصح، فقال(عليه السلام): «نحمده على ما كان» فمفهوم هذه العبارة واسع شامل، حيث تشمل النعم التي يفيضها الله سبحانه وتعالى على العباد، كما تشمل الحوادث المريرة والأليمة. وذلك لأنّ خاصة عباد الله تعد كل ما صدر من الله نعمة ورحمة، فترى عليها شكره على كل حال.
ثم قال(عليه السلام): «ونستعينه من أمرنا على ما يكون»، فمن الطبيعي أن يكون الحمد والثناء على الماضي، والاستعانة على المستقبل، وهذا هو ديدن العباد المخلصين الذي يكمن في شكر البارىء على ماكان والاستعانة به على ما يكون.
ثم قال(عليه السلام): «ونسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان»، فالعبارة إشارة إلى نقطة لطيفة وهى أنّ الناس لو أولوا سلامة دينهم ذات الأهمية التي يولونها لسلامة ابدانهم ودنياهم، لأخذوا العافية بطرفيها ونجوا. إلاّ أنّ المؤسف له أنّ الإنسان قد يتعرض إلى مرض بسيط فتراه يراجع عدداً من الأحياء، بينما لا يتجه إلى طبيب واحد حتى لو أصابته عشرات الأمراض الروحية والأخلاقية الخطيرة.
هذا وقد أورد بعض شرّاح نهج البلاغة عن بعض المفكرين قوله لو سكبت عشر هذه الدموع التي تسكب على البطون الجائعة والأبدان العارية على الأرواح الجائعة للمعرفة
والعارية من الفضائل لزال كل هذا الجوع والعري البدني، كما زال كل هذا الجوع والعري المعنوي.(1)
جدير بالذكر أن الأديان بصيغة الجمع إشارة إلى تدين أفراد البشر، لامختلف الأديان، على غرار الأبدان جمع البدن.
—–
1. شرح نهج البلاغة العلاّمة الجعفري 18/9.
«عِبَادَ اللّهِ، أوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ لِهذِهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا، وَالْمُبْلِيَةِ لأَجْسَامِكُمْ وَإنْ كُنْتُمْ تحبون تجديدها، فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهَا كَسَفْر، سَلَكُوا سَبِيلا فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ، وَأَمُّوا عَلَماً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ. وَكَمْ عَسَى الْمُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ أَنْ يَجْرِىَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا! وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يِوْمٌ لاَ يَعْدُوهُ، وَطَالِبٌ حَثِيثٌ مِنَ الْمَوتِ يَحْدُوهُ وَمُزْعِجٌ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا رَغْماً! فَلَا تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَفَخْرِهَا، وَلاَ تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَلاَ تَجْزَعُوا مَنْ ضَرَّائِهَا وَبُؤْسِهَا، فَإِنَّ عِزَّهَا وَفَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاع، وَإِنَّ زِينَتَهَا وَنَعِيمَهَا إِلَى زَوَال، وَضَرَّاءَهَا وَبُؤْسَهَا إلى نَفَاد، وَكُلُّ مُدَّة فِيهَا إلَى انْتِهَاء، وَكُلُّ حَىٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاء».
—–
الشرح والتفسير
بعد أن حمد الإمام(عليه السلام) الله وأثنى عليه شرع في هذا المقطع من الخطبة حث الناس على الزهد في هذه الدنيا بعبارات نافذة مؤثرة، إلى جانب تصويره لتفاهة هذه الدنيا فقال(عليه السلام): «عباد الله أوصيكم بالرفض(1) لهذه الدنيا التاركه لكم وان لم تحبوا تركها».
ويالها من فاجعة ان يسعى الإنسان بكل كيانه وذاته نحو معشوق يسعى بكل ما أوتي من قوة للهروب منه! فقد قال(عليه السلام): إذا كانت الدنيا تاركة لكم فاتركوها، وان شق ذلك على
1. «رفض» تعني في الأصل ترك الشيء، ومن هنا سميت الشيعة بالرافضة لتركها الخلفاء الثلاثة، وقيل استعملت هذه المفردة لأول مرة على عهد زيد بن علي، حيث نهاهم زيد عن سب الشيخين، ولهذا تركوه.
أهوائكم ورغباتكم، وذلك امتثالاً لقوله سبحانه: (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)(1)، فلعل هناك بعض الاُمور التي تبدو حسنة الظاهر يحبها الإنسان، بينما تستبطن السم الزعاف.
ثم قال(عليه السلام): «والمبلية(2) لأجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها».
فكل فرد يلاحظ على نفسه آثار العجز والتعب بمرور الزمان من قبيل ذهاب النشاط والحيوية وذبول الجلد وضعف العظام وضعف البصر وثقل السمع وتمتمة اللسان وانحناء الظهر وضعف العضلات والاعصاب وما إلى ذلك من الاُمور التي تؤرق الإنسان وتجعله يشعر بالاسى والحزن. ومن هنا يسعى احيانا وبشتى الوسائل لا ستعادة حيويته ولكن هل يصلح العطار ما أفسد الدهر، طبعاً قد يحقق بعض النجاحات الطفيفة في هذا المجال، إلاّ أنّ هناك مسيرة لابدّ له من اجتيازها والوصول إلى مصيره المحتوم، فهل من الصحيح أن يولي الإنسان ظهره لكل هذه الاُمور ويتعلق بالدنيا؟! الجدير بالذكر أن الدنيا لاتبلي الكائنات الحية ولاسيما بدن الإنسان فحسب، بل يشمل هذا القانون عالم المادة برمته من المجرات حتى الذرات. بل حتى هذه الشمس المشرقة التي تبعث بأشعتها إلى كل مكان إنّما تبلى بالتدريج حتى تنتهي يوماً إلى الزوال; الأمر الذي أشار إليه القرآن الكريم «تكوير الشمس» وأيده العلم الحديث.
ثم قال(عليه السلام): «فانما مثلكم ومثلها كسفر(3) سلكوا سبيلاً فكأنّهم قد قطعوه، وأموا(4) علماً فكأنّهم قد بلغوه، وكم عسى المجري(5) إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها».
ثم أكد ذلك(عليه السلام) بقوله، كيف يمكن أن يؤمل البقاء من كان له يوم لابدّ من بلوغه ولايمكنه تجاوزه، والموت يجري خلفه ليسوقه إلى حتفه وان كان كارها: «وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه، وطالب حثيث(6) من الموت يحدوه(7)، ومزعج(8) في الدنيا حتى يفارقها رغما(9)».
1. سورة البقرة/216.
2. «مبلية» من مادة «بلاء» منهكة.
3. «سفر» جمع «مسافر» بمعنى مسافر.
4. «أموا» من مادة «أم» على وزن غم القصد.
5. «مجرى» من مادة «اجراء» كناية عن المسافر، وقد وردت في تفسيره عدة أقوال، الأنسب ما أوردناه في المتن.
6. «حثيث» من مادة «حث» بفتح الحاء السرعة في العمل.
7. «يحدو» من مادة «حدى» يسوق.
8. «مزعج» من مادة «ازعاج» السوق والاضطراب والاجتثاث.
9. «رغم» بمعنى الاجبار، ومنه تمريغ الأنف بالتراب حين يضاف للأنف فيقال رغم أنفه.
فالعبارات بمجموعها تكشف النقاب عن ذات الحقيقة وهى تقلب الدنيا وانعدام قيمتها; الحقيقة التي يغفلها أغلب الناس، فتقودهم هذه الغفلة إلى البؤس والشقاء والحرمان من السعادة.
ثم يخلص الإمام(عليه السلام) من هذا البحث بشأن تفاهة الدنيا إلى نتيجة ينبغي أن يبلغها الجميع، وهى مادامت الدنيا كذلك فلا ينبغي اضاعة الجهود من أجل الحصول على مفاخرها الزائفة وعزتها الموهومة، كما لاينبغي الانخداع بزينتها وزخارفها الزائلة، ولاينبغي الشعور بالامتعاض والغصة على آلامها وأحزانها: «فلا تنافسوا(1) في عز الدنيا وفخرها، ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها، ولاتجزعوا من ضرائها وبؤسها».
وذلك لأنّ فخرها آيل إلى الزوال ونعمتها إلى الفناء، وآلامها إلى انقضاء «فان عزها وفخرها إلى انقطاع، وان زينتها ونعيمها إلى زوال، وضراءها ويؤسها إلى نفاد(2)، كل مدة فيها إلى انتهاء، وكل حي إلى فناء».
فقد ركز الإمام(عليه السلام) في هذه العبارات الرائعة على عزة الدنيا وفخرها ونعمها وزينتها وآلامها ومصائبها، ليرى فناء كل شيء فيها وزواله، ثم عرض لقانون كلي إلى أنّ كل عز فيها إلى انقطاع وزينة ونعيم إلى زوال وضراء وبؤس إلى نفاد وكل مدة فيها إلى انتهاء، وكل حي فيها إلى فناء; فاذا كان الأمر كذلك فما معنى كل هذا النزاع والتنافس والجزع؟! فقد صرح أحد شرّاح نهج البلاغة بأن الماضين قد ذهبوا وأصبحوا ترابا واننا لنطى ترابهم ثم نكون مثلهم، ثم يعبر علينا الآخرون من بعدنا. ومع كل هذا لا نفيق من غفلتنا!! وما أروع حديث الإمام الباقر(عليه السلام) الذي شبه نعم الدنيا بالمال الذي يراه النائم فان نهض من نومه لم ير شيئاً: «أو كمال وجدته في منامك، فاستيقظت وليس معك منه شيء»(3).
أو كما صورها الشاعر:
ألا إنّما الدنيا كمنزل راكب *** أناخ عشياً وهو في الصبح راحل
وكل شباب، أو جديد إلى البلاء *** وكل امرء يوماً إلى الله صائر
1. «تنافسوا» من مادة «تنافس» بمعنى بذل الجهد والسعي، ومحاولة شخصين او مجموعتين للحصول على شيء نفيس.
2. نفاد بمعنى الفناء والزوال.
3. بحارالانوار 70/36.
«أَوَلَيْسَ لَكُمْ فِي آثارِ الأوَّلينَ مُزْدَجِرٌ، وَفي آبَائِكُمُ الْمَاضِينَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ، إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُون َ! أَوَلَمْ تَرَوْا إلَى الْماضِينَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجِعُونَ، وَإلَى الْخَلَفِ الْبَاقِينَ لاَ يَبْقَوْنَ! أَوَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ عَلَى أَحْوَال شَتَّى: فَمَيِّتٌ يُبْكَى، وَآخَرُ يُعَزَّى، وَصَرِيعٌ مُبْتَلىً، وَعَائِدٌ يَعُودُ، وَآخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ، وَطَالِبُ لِلدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغَافِلٌ وَلَيْسَ بِمَغْفُول عَنْهُ; وَعَلَى أَثَرِ الماضِي مَا يَمْضِي الْباقِي!».
—–
الشرح والتفسير
واصل الإمام(عليه السلام) هذا المعلم الرباني العظيم كلامه السابق من أجل نفخ اليقظة في هذه الأرواح التي تعيش السبات والغفلة من خلال للدنيا وتقلب أحوالها فقال(عليه السلام): «أو ليس لكم في آثار الأولين مزدجر(1)، وفي آبائكم الماضين تبصرة ومعتبر، ان كنتم تعقلون».
ثم وضح(عليه السلام) هذه العبارة بقوله: «أولم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون، وإلى الخلف الباقين لا يبقون».
إشارة إلى قانون الموت والفناء; القانون العام الشامل الذي ليس فيه أي إستثناء، فمن ذهب لايعود، ومن بقى فهو سائر اثر تلك القافلة إلى الزوال وعدم العودة. مع هذا الفارق وهو أنّ البعض في الصفوف المقدمة والبعض الآخر في الصفوف المؤخرة; على غرار عباراته التي
1. مزدجر من مادة زجر المانع، مصدر ميمي بمعنى اسم الفاعل.
خاطب بها الأموات ممن دفنوا ظهر الكوفة: «أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تبع لاحق»(1).
ثم خاض(عليه السلام) في بيان هذا الكلام بعبارات أدق وأوضح و تحليل دقيق و بليغ بعد أن قسم أحوال أهل الدنيا في مصابهم بالحوادث إلى سبعة أقسام ليقول: «أولستم نزون أهل الدنيا يصبحون ويمسون على أحوال مشتى: فميت يبكي، وآخر يعزى، وصريح مبتلى، وعائد(2) يعود، وآخر بنفسه يجود(3)، وطالب للدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه; وعلى أثر الماضي مايمضي الباقي».
يا لها من عبارات رائعة وشاملة عظيمة الثأثير إذا استطاع الإنسان أن يتمثل صورها للناس وهم يتحركون; فهذا يموت ويبكى عليه، وهنالك مجلس للعزاء تتوافد عليه الناس جماعات ليعزوا ذوي الفقيد. وهناك من رقد على فراش المرض وقد عاده جمع من الاخوة والأصدقاء. وهناك من يعالج سكرات الموت ويحتضر وليس لأحد أن يفعل له شيئاً. وهناك صورة اُخرى يطالعك فيها الناس وهم يسارعون في الركض والحركة دون الالتفات إلى الحلال والحرام والمشروع والممنوع بغية الحصول على شيء من حطام الدنيا; بينما كمن لهم الموت في الطريق; وإذا به يباغتهم ليقضي على جميع آمالهم وأحلامهم. وبالتالي هناك فئة غافلة مشغولة بالذائذ العيش وسكر النعم والفرح والسرور دون أن تلتفت إلى الموت الذي ينتظرها; فاذا هجم الموت على أحدهم أحال فرحهم حزناً وغماً.
هذه هى صور الحياة السائدة طيلة تاريخ البشرية وستكون كذلك، ويا لها من صور تنطوي على الدروس والعبر، إلاّ أنّ القلة القليلة من تعتبر.
—–
1. نهج البلاغة، كلمات القصار 130.
2. «عائد» من يذهب لعبادة أحد.
3. «يجود» من مادة «جود» السخاء، وتستعمل في الاحتضار وكأنّ الإنسان يسخو بانفس ما لديه وهى روحه.
«ألاَ فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وَقَاطَعِ الاُْمْنِيَاتِ، عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ، وَاسْتَعِينُوا اللّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ، وَمَا لاَيُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ».
—–
الشرح والتفسير
أشار الإمام(عليه السلام) في ختام هذه الخطبة الفصيحة والبليغة النافذة إلى نقطتين تكملان البحث السابق:
الاولى: الإشارة إلى الموت الذي يدعو ذكره إلى يقظة الإنسان من سباته وغفلته: «ألا فاذكروا هادم اللذات، ومنغص(1) الشهوات، وقاطع الامنيات، عند المساورة(2) للأعمال القبيحة».
فقد وصف الإمام(عليه السلام) الموت هنا بثلاث: الأول: أنّه هادم اللذات; لأن أغلب الناس يفنون أعمارهم ليوفرا لأنفسهم العيش الهنيئ واللذيذ، بالضبط في الوقت الذي تهجم فيه الأمراض على الإنسان وترديه ميتاً. أضف إلى ذلك كثيراً ما تشاهد مجالس السرور واللذة وقد تعكرت وتبدلت عزاءا إثر بعض الحوادث، والعجيب ليس هنالك من ضمانة لأحد بعدم وقوع هذه الحوادث.
1. «منغص» من مادة «نغص» على وزن نقص بمعنى ليس عذب، وبمعنى اعتراض الماء في الحلق، ثم اطلقت على الحياة الصعية ونحو ذلك.
2. «مساورة» من مادة «سور» على وزن غور المواثبة، كأنّه يرى العمل القبيح لبعده عن ملاءمة الطبع الإنساني بالخطرة ينفر عن مقترفه كما ينفر الوحش، فلايصل إليه المغبون إلاّ بالوثبة عليه.
الثاني: منغص الشهوات; لأن الموت ـ الذي ليس له من زمان معين ولا يمكن التكهن به قط ـ يهجم على الإنسان في تلك اللحظة التي ينعم فيها بالشهوات.
الثالث: قاطع الامنيات; فاماني الإنسان كثيرة طويلة لاتعرف الحدود ولا يقطعها ويعطلها سوى الموت. فهذه العبارات على درجة من القوة. بحيث تؤثر على كل إنسان. و الرائع أنه قال «الا فاذكروا هادم اللذات... عند المساورة للأعمال القبيحة» إشارة إلى أن القبائح كثيرا ما تتزين بحيث يهجم عليها الإنسان كالوحش الذي ينقض على فريسته ـ ففي هذه اللحظة يمكن أن يصده عن ذلك ذكر الموت.
ثم أوصى(عليه السلام) بذكر نعم الله التي تحول دون ارتكاب الذنوب على أنها العامل الثاني الذي يصد عن المعاصى «واستعينوا الله على أداء واجب حقه، وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحاسنه».
فشكر المنعم لايؤدي إلى معرفة الله فحسب، بل يلعب دوراً مباشراً في دفع الإنسان لاداء الواجبات وترك المحرمات.
يزعم أغلب الناس أن الدنيا خادعة بزينتها وزخرفها; وقد اُشير إلى هذا المعنى في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية. إلاّ أننا إذا فكرنا بصورة سليمة لتوصلنا إلى أنّ هذا الخداع إنّما يطيل السذج والحمقى من الناس. وهذا ما أورده الإمام(عليه السلام)حيث صور الدنيا وقد ملئت بحوادث الغدر والخيانة والتنكر والتقلب. كما حفلت بالآف الصور التي تبعث على الاعتبار من قبيل المرض والموت والعزاء والحوادث الاليمة وماشاكل ذلك، فهل خادعة هى الدنيا وهى بهذه الصفات.
ومن هنا قال(عليه السلام) وقد سمع رجلاً يذم الدنيا، أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها، المخدوع بأباطيلها! أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟ أنت المتجرم عليها، أم هى المتجرمة عليك؟ متى استهوتك، أم متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك،
وكم مرضت بيديك! تبتغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، غداة لا يغني عنهم دواؤك، ولايجدي عليهم بكاؤك.(1)
كما قال(عليه السلام): مثل الدنيا كمثل الحية لين مسها، والسم الناقع في جوفها، يهوي اليها الغر الجاهل، ويحذرها ذواللب العاقل.(2)
ورد في بعض الروايات سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله) من أكيس المؤمنين؟
فقال(صلى الله عليه وآله): «أكيس المؤمنين أكثرهم ذكرا للموت، وأشدهم له استعدادا»(3).
وفي حديث آخر عنه(صلى الله عليه وآله) تحت عنوان: «أكيس الناس وأحزمهم» جاء في آخره: «أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة»(4).
والدليل على ذلك واضح لأن ذكر الموت وفناء الحياة عامل مهم في الصد عن الذنوب والمعاصي التي تنشأ عادة من حب الدنيا والتعلق بزخارفها والحرص والطمع الذي ينسى ذكر الموت والآخرة (فَإِذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَـوُا اللّهَ مُـخْلِصِـينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلى البَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ)(5).
ومن الاُمور التي حث عليها الإسلام زيارة القبور التي تهدف إلى احترام أرواح الأموات من المؤمنين، إلى جانب كونها من العوامل المهمة في إيقاظ الإنسان، حيث لايملك الإنسان هناك سوى الأذعان لهذه الحقيقة.
كل فتى وان طالت سلامته *** لابدّ يوماً على آلة الحدباء محمول
—–
1. نهج البلاغة، كلمات القصار 131.
2. نهج البلاغة، كلمات القصار 119.
3. ميزان الحكمة 3/ ح 18013.
4. ميزان الحكمة 3 / ح 18014.
5. سورة العنكبوت/65.
ومن خطبة له(عليه السلام)
في رسول الله وأهل بيته(عليه السلام)
كما أشرنا في سند الخطبة فانّ الإمام(عليه السلام) خطبها أوائل خلافته. حيث استهلها بحمد الله والثناء عليه، ثم تطرق إلى رسالة النبي(صلى الله عليه وآله) وضرورة طاعته واتباعه. ثم أشار(عليه السلام) إلى بعض الأخبار عنه وعن أهل العراق فقال: فاذا أنتم ألنتم له رقابكم، وأشرتم إليه باصابعكم، جاءه الموت فذهب به.
ثم يختتم الخطبة بالحديث عن عظمة آل محمد(صلى الله عليه وآله) وبركتهم واستمرار هدايتهم، و كلما ذهب منهم أحد خلّفه آخر.
1. سند الخطبة، لابن أبي الحديد كلام في هذه الخطبة يدل على أنّه نقلها من مصدر آخر غير نهج البلاغة فقد قال: واعلم أنّ هذه الخطبة خطب بها أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) في الجمعة الثالثة من خلافته، وكنى فيها عن مال نفسه، وأعلمهم فيها أنّهم سيفارقونه ويفقدونه بعد اجتماعهم عليه وطاعتهم له; وهكذا وقع الأمر، فانّه نقل أن أهل العراق لم يكونوا أشد اجتماعاً عليه من الشهر الذي قتل فيه(عليه السلام). وجاء في الأخبار أنّه عقد للحسن ابنه(عليه السلام)على عشرة ألاف، ولأبي أيوب الأنصاري على عشرة ألاف ولفلان وفلان، حتى اجتمع له مائة ألف سيف، وأخرج مقدمته، أمامه يريد الشام فضربه اللعين ابن ملجم، وكان من أمره ما كان، وانفضت تلك الجموع، وكانت كالغنم فقدت راعيها. (مصادر نهج البلاغة 2/198).
![]() |
![]() |