—–

 

الشرح والتفسير

راية الحق

لاشك أنّ الهدف الأصلي للخطبة بيان أوصاف رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومقامات أهل بيته(عليهم السلام)، ولكن وعلى ضوء الحديث المعروف: «أن كل خطبة ليس فيها تشهد فهى كاليد الجذماء»(1)، فانّ الإمام(عليه السلام) إستهل كلامه بحمد الله والثناء على والشهادة له بالوحدانية وللرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) بالنبوة، لتستنير القلوب بهاتين الشهادتين وتتأهب لسماع المطالب القادمة. فقال(عليه السلام): «الحمد الله الناشر في الخلق فضله، والباسط فيهم بالجود يده».


1. شرح نهج البلاغة للمرحوم العلامة الخوئي 7/157.

[ 232 ]

فوصف بالله بهذه الصفات هو في الواقع دليل على تفرده سبحانه بكل حمد وثناء، نعم فهو الجدير بكل مدح وحمد وثناء، كيف لا وقد عم فضله وانتشر جوده وملأت أركان العالم نعمه وآلائه. و لا ينبغي ذلك لمن سواه، فهم عيال على نعمه.

ثم أشار إلى سعة حمده و الثناء عليه قال(عليه السلام): «نحمده في جميع أموره، ونستعينه على رعاية حقوقه».

فالعبارة «جميع أموره» تفيد أننا لانحمده عند النعم والرفاه والدعة والعافية فحسب، بل نحمده ونشكره في البلاء والشدة وحين الوقائع الخطيرة، وذلك لأنه أولا: كل ما يفعله الله يتفق والحكمة والمصلحة، حتى المصائب التي تصب علينا إختباراً فهى كفارة لذنوبنا، أو أنّها سبب ليقظتنا من نوم الغفلة.

وثانياً: أنّ هذه الحوادث تجعلنا ننال أجر وثواب الصابرين وجزاء الشاكرين وهذه نعمة كبرى.

والعبارة «ونستعينه...» أي إننا يجب أن نستمد العون منه لطاعته وإمتثال أوامره ورعاية حقوقه، حيث لايسعنا فعل شيء دون عونه، وهذا ما نردده ليل نهار في صلواتنا (إِيَّاكَ نَعبُدُ وَإِيَّاكَ نَستَعِـين) ولما فرغ(عليه السلام) من حمد الله والثناء عليه، شهد لله بالوحدانية وأن لا معبود سواء «ونشهد أن لا إله غيره».لأننا إذ سلمنا أنّ النعم منه، فانّ العبودية والطاعة لاتليق الا به سبحانه وبذاته المقدسة.

ثم اتبعها بالشهادة للنبي(صلى الله عليه وآله) بالنبوة والعبودية: «وأن محمدا عبده ورسوله» أمّا تقديم العبودية على الرسالة، فتفيد نفيها لكافة أنواع الشرك عن المؤمنين، إلى جانب كون مقام العبودية أفضل وأسمى من مقام النبوة! لأنّ العبد الكامل المخلص لله يرى تمام وجوده لله، فلايفكر في سواه ولايرجو غيره، وهذا بحد ذاته أوج تكامل الإنسان الذي ليس بعده من مقام. ثم أشار (عليه السلام) إلى بعض صفات النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) في أنّه صدح بالحق، وأدى رسالته بكل أمانة حتى مضى إلى ربّه بعد أن ثبت دعائم الحق: «أرسله بأمره صادعاً،(1) وبذكره ناطقاً،


1. «صادع» من مادة «صدع» فالقا به، كما وردت هذه المفردة بمعنى الاظهار والاعلان، حيث يظهر باطن الشيء عند فلقه وهذا ما اريد بها في العبارة، وأمّا «الصداع» الذي يطلق على وجع الرأس فكأنه يريد أن يفلقه.

[ 233 ]

فأدى أمينا، ومضى رشيدا; وخلف فينا راية الحق».

فقد أشار الإمام(عليه السلام) بهذه العبارة إلى الخدمات الجليلة التي أسداها النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، إلى جانب ابلاغه لأوامر الحق ونواهيه، كما شرح من جانب آخر كل مايلزم لمعرفة الله سبحانه، وأنّه(صلى الله عليه وآله) كان أميناً في قيامه بهذه المهمة في أداء الرسالة، كما عمل(صلى الله عليه وآله) بما قال ليكون للاُخرى أسوة صالحة، كما كان حريصاً على الأجيال القادمة فنصب لهم راية الحق، حيث خلف في الاُمّة كتاب الله وسنته.

واختلف الشرّاح في تفسير المراد بقوله: «راية الحق» فذهب البعض الر أن المراد به القرآن الكريم، وقيل الكتاب والسنة، كما فسر بالكتاب والعترة اللذان وردا في حديث الثقلين.

إلاّ أنّ تفسيرها بالكتاب والسنة (لأنّ الكتاب دعا إلى السنة) أنسب بالنظر لتصدر الكلام بالعبارة: «دليلها مكيث الكلام».

ثم أضاف(عليه السلام) قائلاً: «من تقدمها مرق(1)، ومن تخلف عنها زهق(2) ومن لزمها لحق».

فالعبارة تشير إلى كيفية التعامل الطوائف الثلاث من الناس مع الحق: طائفة مفرطة تتقدم على الحق فتصيبها الحيرة والضلال كالخوارج الذين ذهبت بهم الظنون بأنّهم إنّما يعملون بالقرآن فتقدموا على إمام زمانهم فعاشوا بحماقتهم ذلك التناقض، أو كأولئك الذين كانوا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) فرأوه أفطر حين سافر فزعموا أنّهم لايفطرون رعاية طرحة شهر رمضان حتى تسموا بالعصاة(3)الطائفة الثانية من أهل التفريط الذين يتقدمون بضع خطوات في الحق ثم تحول أهوائهم وضعفهم دون مواصلة الطريق.

والطائفة الثالثة الملازمة للحق التي لا تتقدم عليه ولا تتخلف عنه; فهى تتحرك دائماً في ضل الحق حتى تبلغ أهدافها.(4)


1. «مرق» من مادة «مروق» على وزن غروب الخروج عن الدين، ومن هنا اطلق الخوارج على تلك الفرقة التي خرجت عن الإيمان.

2. «زهق» من مادة «زهوق» الاضمحلال والهلكة.

3. وسائل الشيعة 7/125، ح 7 (ابواب من يصح منه الصوم).

4. يمكن أن يكون مفعول لحق كتاب الله أو رسول الله أو الحق أو جميعها.

[ 234 ]

ثم قال(عليه السلام): «دليلها مكيث(1) الكلام، بطيىء القيام، سريع إذا قام».

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل المراد بالدليل في العبارة حامل الراية؟ أم الشخص الذي يتحرك في مقدمة العسكر والعارف بالطريق الذي يهدي الآخرين إلى جادة الصواب؟

يبدو الاحتمال الأول هو الاقوى، لأنّ حامل الراية ينهض بمسؤولية الهداية أيضاً، والعسكر مكلف باتباعه أينما حل.

على كل حال فقد صرح أغلب شرّاح نهج البلاغة أنّ المراد به شخص أمير المؤمنين(عليه السلام)أو جميع أهل البيت(عليهم السلام); فقد قرنوا (عليه السلام) ـ حسب حديث الثقلين ـ بالقرآن وأنّهم لن يفترقوا عنه أبداً، حيث جاء في الحديث: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي وقد نبأني اللطيف الخبير أنّها لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما».

وأميرالمومنين علي(عليه السلام) من قال له رسول الله(صلى الله عليه وآله) حسب مصادر الفريقين: «انت مع الحق والحق معك حيثما دار»(2).

فقد كان(عليه السلام) القرآن الناطق ومبين سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله).

والعبارة «مكيث الكلام» لا تعني أنّه قليل الكلام; بل تعني تريثه في الكلام، وبعبارة اُخرى أنّه رزين في كلامه فلا يبادر من غير روية. والعبارة «بطيئى القيام، سريع إذا قام» تأكيد لهذا المعنى وهو أنّ أعماله هى الاخرى رزينة كأقواله، فلايعجل في قيامه بالأعمال، ولكن إذا حان العمل لم يفوت الفرصة، فيقدم عليه بكل صرامة دون أدنى ترديد. والحق أنّ من عرف


1. «مكيث» من مادة «مكث» الرزين في قوله فلايبادر من غير روية في قوله وعمله.

2. نقل هذه الحديث عن أم سلمة بطرق مختلفة عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله). ومن ذلك نقله ابن عساكر في تاريخ دمشق وأبوبكر البغدادي في تاريخ بغداد والحموي في فرائد السمطين. وجاء في صحيح الترمذي أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال «اللّهم أدر الحق معه حيثما دار» (للوقوف على تفاصيل هذا الحديث راجع كتاب احقاق الحق 5/623 والغدير 3/176). والطريف مانقله الفخر الرازي في تفسير سورة الحمد في مورد الجهر بالبسملة عن البيهقي عن أبي هريرة ان رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يجهر بالبسملة، ثم قال: كما كان يجهر بها عمر وابن عباس وعبدالله بن عمر وعبد الله بن الزبير أمّا علي(عليه السلام) فقد ثبت بالتواتر أنّه كان يجهر بالبسملة دائماً، فمن اقتدى به في دينه هدى إلى الحق والدليل على ذلك حديث النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «اللّهم أدر الحق مع علي حيث دار» (تفسير الفخر الرازي 1/204 ـ 205.

[ 235 ]

سيرة أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) يذعن بهذه الصفات التي انطوت عليها شخصيته. فقد تواتر عليه بعض الأفراد بعد رحيل النبي(صلى الله عليه وآله) وناشدوه القيام; إلاّ أنّه لم يجبهم بسبب عدم توفر الشرائط اللازمة إلى جانب خشيته من الأعداء المتربصين بالإسلام، بينما نهض بالأمر لما تغيرت الظروف.

وهناك شواهد اُخرى كثيرة وردت في كلماته(عليه السلام) بهذا الشأن(1).

ثم قال(عليه السلام): «فاذا أنتم ألنتم له رقابكم، وأشرتم إليه باصابعكم، جاءه الموت فذهب به».

إشارة إلى أنّه يعاني الأمرين حتى يجمعكم تحت رايته، وتسلمون لإمامته بحيث تشيرون إليه من كل جانب، ولكن ما أن تتمهد مقومات الاتحاد وعناصر النصر والغلبة حتى تأخذه يد القدر منكم فتتفرقون ثانية ويتسلط عليكم الأعداء.

ولعل العبارة إشارة لما أوردناه سابقاً في سند الخطبة في أنّ الناس اجتمعوا على الإمام(عليه السلام)في الشهر الذي قتل فيه بحيث اجتمع له مأة الف سيف، عقد كل عشرة الآف لرجل، فخرج(عليه السلام)يريد الشام، فحال ابن ملجم بينه وبين ذلك. إلاّ أنّ بعض شرّاح نهج البلاغة فسروها بعصره(عليه السلام)، إلاّ أنّ هذا التفسير يبدو بعيداً، وذلك لأن العبارات قبل هذه الجملة تفيد خلاف هذا المعنى، ولاسيما أنّ الخطبة بعد خلافة(عليه السلام) وفيها اشارات إلى المستقبل.

ثم حاول الإمام(عليه السلام) الحيلولة دون شعور أصحابه باليأس، فبشرهم بالنصر القادم قائلاً: «فلبثتم بعده ماشاء الله حتى يطلع الله لكم من يجمعكم، ويضم نشركم».

أمّا من المقصود بهذا القيام؟ فقد أورد الشرّاح احتمالين: أحدهما: أن يكون المراد قيام الإمام المهدي(عليه السلام)، والآخر قيام بني العباس الذي أنهى حكومة بني أمية واجتث جذور ظلمهم وفسادهم، وان ما رسوا بدورهم نوعاً آخر من الجرائم والجنايات. ويبدو الاحتمال الأول أنسب، فلم تكن لبني العباس مثل هذه الجدارة في عباراته(عليه السلام)، كما لم تكن جناياتهم بحق شيعة علي(عليه السلام) وأهل العراق بأقل من جنايات بني أمية. أضف إلى ذلك فالكلام في رافع راية


1. راجع شرح الخطبة الخامسة والسادسة من المجلد الأول من هذا الكتاب.

[ 236 ]

الحق، ومن المسلم به أنّ راية بني العباس كانت باطلة.

كما قيل في تفسير العبارة المذكورة أنّ المراد بذلك الاجتماع لأصحابه هو الاجتماع الفكري والثقافي إلى جانب الاجتماع السياسي والعسكري، وهو المعنى الذي تحقق على عهد الإمام الباقر والصادق والرضا(عليه السلام)، والعبارات الأخيرة من الخطبة إنّما تؤيد هذا المعنى.

إلاّ أنّ هذا الاحتمال ييدو مستعبداً بالنظر إلى عدم انسجام هذا التفسير مع العبارات السابقة التي أشارت إلى الاجتماع السياسي والعسكري. ولكن على كل حال، فالهدف من هذه العبارة نفي ما يسيطر على الأفكار عادة بعد الهزيمة و هو اليأس و التشاؤم. فوصفها بأنها أمواج عابرة و هنالك المستقبل المشرق الذي ينتظر المجتمع الإسلامي. و من هنا ذكر ما يؤيد ذلك.

ثم قال(عليه السلام): «فلا تطمعوا في غير مقبل، ولاتيأسوا من مدبر، فانّ المدبر عسى أن تنزل به إحدى قائمتيه، وتثبت الاُخرى، فترجعا حتى تثبتا جميعاً».

قالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) بين قاعدتين كليتين لابدّ من الاهتمام بهما في الحوادث الصعبة: الاولى: لاينبغي التفاؤل المفرط في مثل هذه الحالات والاعتماد على شيء لم تتوفر بعد مقدماته.

الثانية: ألاتدعو الهزيمة إلى اليأس والقنوط ـ فيشبه الإمام(عليه السلام) ذلك بمن يتحرك في جادة فتزل احدى قدميه، فيظن الناس أنّه سقط ولاسبيل إلى قيامه ثانية، إلاّ أنّه سرعان مايعتمد على قدمه الاُخرى فينهض من سقطته ويجد في الحركة ثانية.

يناءاً على هذا لاينبغي اليأس عند الحوادث الاجتماعية الصعبة والاستسلام لمعاناتها، كما لاينبغي التعلق بالحركات الطائشة.

وذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلى أنّ سائر الأئمة(عليه السلام) غير الإمام المهدي(عليه السلام) هم المرادون بقوله «غير مقبل»، وأنّ قوله(عليه السلام)لاتطمعوا في غير مقبل، إشارة إلى الشرائط اللازمة لقيامهم(عليه السلام) ليست متوفرة، ومدبر إشارة إلى الإمام المهدي(عليه السلام) فلاينبغي اليأس من ظهوره في أي زمان.

إلاّ أنّ هذا التفسير لاينسجم قط والعبارات في آخر هذا المقطع من الخطبة; لأنّ زلل القدم

[ 237 ]

والاعتماد على الاُخرى لاينطبق عليه(عليه السلام) إلاّ بتكلف شديد.

اضافة إلى أنّ التعبير بمقبل ومدبر بصيغة التنكير يدل على أنّ المراد بيان قاعدة كلية، لا الإشارة إلى مصداق شخصيي، وإلاّ كان من المناسب تحليتها بالالف واللام.

 

تأمّلان : 1 ـ أولياء الله

إنّ الخصائص التي ذكرها الإمام(عليه السلام) بحقه بصورة غير مباشرة في العبارة المذكورة، هى في الواقع إشارة إلى الصفات التي ينبغي أن يشتمل عليها كل زعيم رباني مدير ومدبر:

الأول: لابدّ أن يكون رزينا في كلامه إلى جانب التريث والتروي قبل المبادرة. كما ورد ذلك في ماروي عن أميرالمومنين(عليه السلام)قوله «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه».(1)

فالعاقل يفكر أولاً ثم يتكلم، أمّا الأحمق فهو يتكلم ثم يفكر.

الثاني: أعماله هى الاُخرى رزينة كأقواله، فهو يفكر في عواقب العمل، فاذا احاط به وعرفه أقدم عليه دون تردد ـ فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فان يك خيراً ورشداً فاتبعه، وان يك غياً فاجتنبه»(2).

 

2 ـ الفشل قنطرة النجاح

هناك من يشعر باليأس لأدنى حادثة صعبة، فيما رس بعض ردود الفعل الساذجة، ومثل هذا اليأس يحول دون القيام بالأنشطة والمواقف المطلوبة مستقبلا; الأنشطة التي قد تحيل النشل نجاحا والهزيمة نصراً. والالتفات إلى أمرين مهمين أوردهما الإمام(عليه السلام) في الخطبة من شأنه أنّ يعالج هذه المواقف السلبية.

الأول: إجتناب الاستعجال في الأعمال والتعويل على مالم تتوفر مقدماته، الثاني: عدم


1. نهج البلاغة، الكلمة 40.

2. شرح نهج البلاغة للعلاّمة الخوئي 7/159.

[ 238 ]

اليأس من جراء بعض الاخفاقات المرحلية; لأنّ الاخفاق يتحول إلى نجاح بالتجارب.

أضف إلى ذلك فانّ الألطاف الإلهية قد تشمل الإنسان وتهمد له كل أسباب النجاح ومقومات النصر. فقد ورد عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) طبق رواية الشيخ الصدوق في الامالي أنّه قال «كن لما لاترجو أرجى منك لما ترجو»، ثم يوضح ذلك (عليه السلام) بذكر ثلاثة نماذج رائعة بقوله أنّ موسى بن عمران خرج يلتمس لاهله ناراً فعاد نبياً، كما قدمت ملكة سبأ للقاء نبي الله سليمان(عليه السلام) فأسلمت وآمنت، كما خرج السحرة يبغون العزة لفرعون فانقلبوا مؤمنين بالله وبموسى(عليه السلام).(1)

—–


1. امالي الصدوق /150 ح 7.

[ 239 ]

 

 

القسم الثاني

«ألاَ إِنَّ مَثَلَ آل مُحَمَّد، صَلَّى اللّه عَلَيْهَ وَآلهِ كَمَثَلِ نُجُومِ السَّماءِ، إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ، فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللّه فِيكُمُ الصَّنَائِعُ، وَأَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ».

—–

 

الشرح والتفسير

هدي آل محمد(صلى الله عليه وآله)

خاطب الإمام(عليه السلام) كافة الناس في آخر الخطبة داعيا اياهم إلى الحركة خلف آل النبي(صلى الله عليه وآله)بصفتهم الكواكب الزاهرة، وكلما غاب كوكب خلفه آخر «ألا إنّ مثل آل محمد صلى الله عليه وآله كمثل نجوم السماء، إذا خوى(1) نجم طلع نجم».

ثم قال(عليه السلام): «فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع(2)، وأراكم ماكنتم تأملون»، فقد أشار الإمام(عليه السلام) بهذه العبارة القصيرة إلى عدّة أمور: منها أنّ آل محمد(صلى الله عليه وآله) كالنجوم التي قال بشأنها الحكيم في كتابه الكريم: (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)(3)، كما قال في موضع آخر: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُم النُّجومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالبَحْرِ)(4) فالقوافل كانت تهتدي في الصحارى والبحار في الليالي الظلماء بنجوم السموات، حيث لم يخترع آنذاك البوصلة، كما لم تكن الطرق معبدة بالشكل الذي هى عليه اليوم.

فالنجاة في الدنيا والآخرة ونيل السعادة إنّما تتحقق في ظل هدي آل محمد(صلى الله عليه وآله) والأمر الآخر أنّ السماء لاتخلو لياليها من النجوم، فاذا غابت نجمة، أشرقت اُخرى في أفقها; وهكذا


1. «خوى» من مادة «خوى» بمعنى غرب.

2. «صنايع» جمع «صنيعة» النعمة والاحسان.

3. سورة النحل/16.

4. سورة الانعام/97.

[ 240 ]

أهل البيت(عليه السلام) إذا رحل امام خلفه آخر حتى يقوم آخرهم المهدي (عليه السلام) فيملأ الدنيا قسطا وعدلا، فالعبارة تفيد اتصال سلسلة الإمامة التي تأبى القطع. بعبارة اُخرى فانّ الأرض لاتخلو من حجة الله. والعجيب ما أورده بعض شرّاح نهج البلاغة كابن أبي الحديد حين بلغ العبارة المذكورة اذ قال: وهذا إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الوقت، وعند أصحابنا أنّه غير موجود الان وسيوجد ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

ولو أمعن هذا القائل في العبارات التي وردت في ذيل الخطبة لوقف على خطأه في ما ذهب إليه; ولكن للأسف! فانّ التعصب قد لايسمح أحياناً بان يلتفت الإنسان إلى القرائن الواضحة.

وأخيراً قال الإمام(عليه السلام) بأنّ اتباع أهل البيت(عليه السلام) يؤدي إلى نيل كافة الأماني وبلوغ جميع النعم، وهذا ما يكشف بدوره عن دور أهل البيت في التكامل الديني والدنيوي في كافة الازمنة، وماذهب إليه بعض الشرّاح من أنّه إشارة إلى زمان ظهور الإمام المهدي(عليه السلام) فهو كلام يفتقر إلى الدليل.

كما يكمن ان يكون المراد بالعبارة هو أنّ الإمام(عليه السلام) قال: إنّ الله سبحانه وفرّ لكم كل أسباب السعادة ومنها وجود آل محمد (صلى الله عليه وآله).

 

تأمّلان : 1 ـ حديث النجوم

ما أورده الإمام(عليه السلام) في هذه الخطبة شأن آل محمد(صلى الله عليه وآله) وتشبيههم بنحوم السماء، هو في الواقع اقتباس من الحديث النبوي المعروف الذي قال فيه(صلى الله عليه وآله): «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف».

رواه الحاكم النيشابوري من علماء العامة في كتاب المستدرك عن ابن عباس وقال: «هذا حديث صحيح الاسناد»(1).


1. مستدرك الحاكم 3/149 (طبق نقل احقاق الحق 9/294).

[ 241 ]

كما رواه عدد من محدثي العامة ومنهم الحمويني في فرائد السمطين وابن حجر في الصواعق ومحمد بن صبان في اسعاف الراغبين وغيرهم(1) وقد أفرد المرحوم العلاّمة المجلسي في بحث الإمامة من كتابه بحار الانوار عنواناً أسماه: «إنّهم أمان لأهل الأرض من العذاب»، وقد نقل فيه عدة أحاديث عن طرق أهل البيت، كما صرح قائلاً: رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن النبي(صلى الله عليه وآله).(2)

ومن الواضح أنّ تشبيه أهل البيت(عليه السلام) بالنجوم يدل على ما أورده الإمام(عليه السلام) في الخطبة أيضاً بدليل الدلالة الالتزامية، لأنّ طبيعة نجوم السماء بهذه الشاكلة إذا غرب أحدها في أفق المغرب، طلع الآخر في أفق المشرق ـ أضف إلى ذلك فان التعبير بأمتي تفيد أن جميع أمّة النبي(صلى الله عليه وآله) على طول الزمان يمكنها أن تهتدي بأهل البيت(عليه السلام)، وبالنتيجة فانه سيكون هناك إماماً على الدوام من اهل البيت(عليه السلام) في الاُمّة.

 

2 ـ آخر مراحل تكامل النعم الإلهية

هذه النقطة جديرة بالالتفات أيضاً وهى أنّ تكامل النعم الإلهية في ظل أهل البيت(عليه السلام)سيكون في كل زمان، إلاّ أنّ ذروة كما لها ستكون في عصر ظهر الإمام المهدي(عليه السلام) أرواحنا فداه.

فقد نقل المرحوم ابن ميثم حديثا في شرح هذه الخطبة وقال: رأيت حديثا للإمام(عليه السلام)يمكنه أن يوضح هذه الخطبة: «يا قوم اعلموا علما يقيناً، إن الذي يستقبل قائمناً من أمر جاهليتكم ليس بدون ما استقبل الرسول من أمر جاهليتكم... ولعمري لينزعن عنكم قضاة السوء، وليقبضن عنكم المراضين (المرائين) وليعزلن عنكم أمراء الجور، وليطهرن الأرض من كل غاش، وليعملن فيكم بالعدل، وليقومن فيكم بالقسطاس المستقيم».(3)

—–


1. احقاق الحق 9/294 ـ 296.

2. بحارالانوار 27/308.

3. شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3/9.

[ 242 ]

[ 243 ]

 

 

الخطبة(1) 101

 

 

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

وهى إحدى الخطب المشتملة على الملاحم

 

نظرة إلى الخطبة

هذه الخطبة كما ينهم من عنوانها تتحدث بصورة رئيسية عن الحوادث القادمة، والأخطار التي تهدد المسلمين، خاصة أهل العراق.

الا أنّها تتناول أمرين قبل ذلك: الأول: حمد الله والثناء عليه والشهادة له بالوحدانية مع ذكر بعض الاُمور. والثاني: الاعراب عن القلق من بعض من يسمع كلمات الإمام(عليه السلام)واخباراته على سبيل الشك والترديد.

—–


1. سند الخطبة: ورد في كتاب مصادر نهج البلاغة لم تذكر هذه الخطبة في غير مصدر السيد الرضي (ره)، وأن ذكرت اسناد هذه الخطبة في نهج البلاغة، طبعة جماعة مدرسي الحوزة للمحقق المرحوم حجة الإسلام الدشتي، غير أنّه تبين خطأها بعد الرجوع إلى المصادر الأصلية التي ذكرت في ذلك الكتاب.

[ 244 ]

[ 245 ]

 

 

القسم الأول

 

«الْحَمْدُ لِلّهِ الأوَّلِ قَبْلَ كُلَّ أَوِّل، وَالاْخِرِ، بِعْدَ كُلِّ آخِر، وَبِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لاَ أَوَّلَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاّ اللّهُ شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الإعْلَانَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ».

—–

 

الشرح والتفسير

الشهادة المطلقة

استهل(عليه السلام) هذه الخطبة كسائر الخطب بحمد الله والثناء عليه والشهادة له بالوحدانية، ثم تطرق إلى ذكر صفات الحق سبحانه: «الحمد لله الأول قبل كل أول، والآخر بعد كل آخر».

فالإمام(عليه السلام) انطلق هنا نحو أزلية الله وأبديته سبحانه التي تعد من أهم صفاته وتعود اليها سائر الصفات; وذلك لأننا قلنا في بحث الصفات: أنّ أساس صفاته الجمالية والجلالية عدم تناهي ذاته المقدسة من جميع الجهات، والازلية والأبدية هى بيان آخر لعدم محدودية تلك الذات المقدسة.

ثم خاض(عليه السلام) في بيان الدليل أو وضح ذلك بقوله «وبأوليته وجب أن لا أول له، وبآخريته وجب أن لا آخر له».

فالعبارة تشتمل على نقطة لطيفة وهى أنّ أوليته سبحانه وتعالى ليست أولية زمانية، بل أولية ذاتية وبمعنى الأزلية، ومن الواضح أنّ الذاتي الذي هو أزلي ليس له من أولية زمانية. وكذلك آخريته هى الآخرى ذاتية، لا زمانية وبمعنى الأبدية، وما كان أبدياً فلاآخر زماني له.

وقد أورد بعض شرّاح نهج البلاغة احتمالات اُخرى في تفسير هذه العبارة لا تنسجم وسائر عبارات الإمام(عليه السلام).

[ 246 ]

ثم شهد لله بالوحدانية والعبودية له على مستوى اللسان والقلب: «وأشهد أن لا إله إلاّ الله شهادة يوافق فيها السر الاعلان، والقلب اللسان».

فالعبارة تفيد ان الشهادة المطلوبة التي تشمل تمام وجود الإنسان والكيان والتي ينسجم فيها الظاهر والباطن والقلب واللسان.

فالأعم الأغلب يشهد بالوحدانية لساناً، بينما يعيش الوثنية والصنمية في قلبه. وكذلك الكثير ممن يشهد قلباً بهذه الوجدانية، بينما تخالط الشرك أعمالهم وأفعالهم. فهم يسجدون للمال والمقام ويركعون أمام الشهوات; بينما قد يرددون صباح مساء على ألسنتهم أو قلوبهم «لا إله إلاّ أنت»، و نعلم أنّ كل هذا من شعب النفاق، ومثل هؤلاء الأفراد بحق في زمرة المنافقين.

—–

[ 247 ]

 

 

القسم الثاني

 

«أَيُّهَا النَّاسُ، لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي، وَلاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي، وَلاَ تَتَرَامَوْا بِالأَبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي. فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّ الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنَ النَّبِيِّ الأُمِّىِّ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهَ وَآلِهِ، مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ، وَلاَ جَهِلَ السَّامِعُ».

—–

 

الشرح والتفسير

الحق ما أقول

مهد الإمام(عليه السلام) في الواقع بكلامه ما أراد أنّ يورده هنا في إماطة اللثام عن بعض الحوادث الآتية هو عين اليقين والحق الذي سمعه من رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولا سبيل إلى مخالفته. وتفيد هذه العبارات أن الإمام(عليه السلام) قد أخبر سابقاً عن بعض الحوادث فانكرها عليه بعض المنافقين أوضعاف الإيمان. فو عظهم(عليه السلام) بأنّ عدائي ومخالفتكم لي لا تدفعكم إلى مقارفة الذنب، ولاينبغي أن تسوقكم معصيتكم لي إلى اتباع هوى أنفسكم، فاذا سمعتم ما أقول أنكرتم عليَّ «أيّها الناس لا يجرمنكم(1) شقاقي(2)، ولا يستهو ينكم(3) عصياني، ولا تتراموا بالأبصار، عند ما تسمعونه منّي».

ومراده(عليه السلام) أنّ الحقد والحسد والضغينة تسوق الإنسان في أغلب الأحيان إلى ارتكاب الذنب والمعصية، فتكون حجاباً على بصره لتمنعه عن رؤية الحقائق.


1. «يجرَمَّن» من مادة «جرم» على وزن جهر (جرم على وزن ظلم، اسم مصدر) تعني في الأصل القطع، ولما كان الإثم يقطع صلته بالله، فهذه الكلمة تطلق على الذنب، وعليه لايجرمنكم بمعنى لا يحملنكم على الذنب.

2. «شقاق» في الأصل تعني المخالفة والنزاع.

3. «يستهوين» من مادة «هوى» من هوى النفس.

[ 248 ]

ثم قال(عليه السلام): «فو الذي فلق(1) الحبة وبرأ(2) النسمة(3) إن الذي أنبئكم به عن النبي الاُمّي(4)صلى الله عليه وآله، ما كذب المبلغ، ولا جهل السامع» والعبارة التي صدرت بالقسم لمن ابداعات أميرالمؤمنين(عليه السلام) التي ذكرت لمرات في خطب نهج البلاغة، حيث يشير إلى نقطة مهمّة وهى أنّ أهم وأعقد مسألة في نظام عالم الوجود هى مسألة الحياة; سواء في عالم النباتات أوفي عالم البشرية، ورغم الجهود المضنية التي بذلها الإنسان في هذا المجال، مازالت هنالك الأسرار التي تختزنها هذه الحياة لم تكتشف بعد. وبناءاً على هذا فانّ الحياة رائعة الخلق و هو الشيء الذي يربطنا تأمله بالله و يدل على أن هذه الظاهرة العجيبة ليست بالشيء الذي انبثق دون علم الله وقدرته، فالاستفادة من هذه الأوصاف حين القسم تجسد مفهوما بارزاً في الأذهان.

على كل حال فانّ هدف الإمام(عليه السلام) طمأنة مخاطبيه إلى أنّ مايقوله بشأن الحوادث المستقبلية لايستند إلى الحدس والتخمين، ولا من قبيل نبوءات الكهنة، بل هو واقع وحق سمعه من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وليس الإمام(عليه السلام) من يخطىء في إدراك كلام النبي (صلى الله عليه وآله). وعليه فما يقوله هو عين الحقيقة والصواب، واطلاعهم على هذه الأحداث من سبيله الحد من أخطارها.

فقد ورد في الخبر حين نزلت الآية الشريفة: (وَتَعِـيَها أُذُنٌ واعِـيَةٌ)(5).

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام): «سألت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي! قال(عليه السلام) فما نسيت شيئاً بعد ذلك»(6).

—–