2. «برأ» من مادة «برء» على وزن ظلم وتعني الصحة وحسن الحال، أي خروج الشخص من حالته الاولى، والتي كان فيها مريضاً إلى حالة جيدة وحسنة.

3. «نسمة» تعني في الأصل هبوب الرياح المعتدلة، كما تأتي بمعنى التنفس، ومن هنا تطلق على الإنسان.

4. التعبير بالأمي يطلق على الشخص الذي لا يعرف القراءة والكتابة، أو على الشخص الذي ينسب الى الأم، وهو الذي تعلم في أحضان أمه ولم يتعلم من غيرها.

وهنا نود ان نشير اشارة لطيفة في هذا المورد، وهي أن الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله) كان اُمياً، ولكنه أخبر عن الماضي والمستقبل، وهذه من علامات ارتباطه بالله سبحانه وتعالى.

5. سورة الحاقة/12.

6. كفاية الطالب للكنجي /40 وردى مثل هذا المعنى أغلب مفسري العامة كالقرطبي في تفسير جامع الأحكام والبرسوي في روح البيان والآلوسي في روح المعاني، ذيل الآية 12 من سورة الحاقة.

[ 249 ]

 

 

القسم الثالث

 

«لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى ضِلِّيل قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ، وَفَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ، فَإذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ، وَاشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ، وَثَقُلَتْ فِي الأرْضِ وَطْأَتُهُ، عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْناءَهَا بِأَنْيَابِهَا، وَمَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا، وَبَدَا مِنَ الأَيَّامِ كُلُوحُهَا، وَمِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا. فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ، وَقَامَ عَلَى يَنْعِهِ، وَهَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ، وَبَرَقَتْ بَوَارِقُهُ، عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ، وَأَقْبَلْنَ كاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وَالْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ. هذا، وَكَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِف وَيَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِف وَعَنْ قَلِيل تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ، وَيُحْصَدُ الْقَائِمُ، وَيُحْطَمُ الْمَحْصُودُ!».

—–

 

الشرح والتفسير

فتنة ضليل الشام

كشف الإمام(عليه السلام) في هذا الكلام ـ الذي يمثل في الواقع جوهر الخطبة ـ النقاب عن الحوادث المستقبلية الخطيرة التي تنتظر أهل العراق، ثم يشرح(عليه السلام) بعض تفاصيل وجزئيات هذه الحوادث المروعة، بغية أعداد الاُمّة للحد من أخطارها: «لكأنّي أنظر إلى ضليل(1) قد نعق(2)بالشام، وفحص(3) براياته في ضواحي كوفان»(4).


1. «ضليل» من مادة «ضلال» الشديد الضلال فهو ضال مضل.

2. «نعق» من مادة «نعق» على وزن نعل تعني في الاصل صوت الفرس، ثم اطلق على الأصوات التي تطلق لحركة الحيوانات و أمرها و نهيها، و وردت في العبارة بمعنى أنّ بني أمية قد استضعفوا جماعة، يسوقونها كالحيوانات حيثما أرادوا.

3. «فحص» البحث والتفتيش.

4. «كوفان» بمعنى الكوفة.

[ 250 ]

ثم خاض في توضيح هذه الفاجعة الكبرى: «فاذا فغرت(1) فاغرته، واشتدت شكيمته(2)وثقلت في الأرض وطأته، عضت الفتنة أبناءها بانيابها، وماجت الحرب بامواجها، وبدا من الايام كلوحها(3)، ومن الليالي كدوحها(4)».

هناك قولان رئيسيان لشرّاح نهج البلاغة في المراد بالضليل في عبارة الإمام(عليه السلام):

الأول: أن يكون المراد به معاوية الذي أحكم قبضته على العراق بعد شهادة أميرالمومنين علي(عليه السلام) وصلحه مع الإمام الحسن (عليه السلام)، وقد نفذ كل ماورد في العبارة عملياً، والثاني: أن يكون المراد به عبدالملك بن مروان الذي سلط ذلك المجرم المعروف الحجاج على الكوفة فسام الناس سوء العذاب وجرعهم أنواع الظلم، ومهما كان فالعبارة إشارة إلى الطغاة من حكام بنى أمية.

والعبارة: «عضت الفتنة أبناءها بأنيابها» إشارة إلى أن هذه الفتن ستطيل حتى أولئك الذين يثيرونها! فعادة ماتعصف بهم الاختلافات الداخلية، أو أن يتسلط عليهم أعداؤهم فيذيقونهم أشد العذاب.

ثم قال(عليه السلام): «فاذا أينع زرعه وقام على ينعه(5)، وهدرت شقاشقه(6)، وبرقت بوارقه، عقدت رايات الفتن المعضلة، وأقبلن كالليل المظلم، والبحر الملتطم».

في إشارة إلى أنّ حكومة هؤلاء لن تدوم، كما لن يلتذ هؤلاء الضلال الظلمة بفتنهم، وسرعان ما تحيط بهم رايات المخالفين.

ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى قيام بني العباس ضد بني أمية.

ثم اختتم(عليه السلام) الخطبة بالقول: «هذا، وكم يخرق الكوفة من قاصف، ويمرعليها من عاصف، وعن قليل تلتف القرون بالقرون، ويحصد القائم، ويحطم المحصود».

والعجيب أن ما تكهن به الإمام(عليه السلام) في هذه العبارات القصار قد وقع سريعاً، فقد طحنت


1. «فغرت» من مادة «فغر» على وزن فقر فتح الضم.

2. «شكيمة» تعني في الاصل الحديدة المعترضة في اللجام في فم الدابة، ويعبر بقوتها عن شدة البأس، ثم اطلقت على كل قوة.

3. «كلوح» عبوس.

4. «كدوح» شدة السعي والجهد، وتعني في الأصل الخدش وأثر الجراحات.

5. «ينع» بمعنى نضج الفاكهة، ثم اطلق على كل نضج واستعداد لتلقي نتيجة.

6. «شفاشق» جمع «شقشقة» شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج.

[ 251 ]

الكوفة بفتن بني أمية ومن بعدهم بني العباس; لتصبح هذه المنطقة مركزاً المختلف الحوادث العنيفة، وكل من كان له أدنى المام بتاريخ الكوفة يدرك بسهولة عمق كلمات الإمام(عليه السلام) التي أوردها في هذه الخطبة.

والعبارة: «تلتف القرون بالقرون» إشارة إلى الحروب الطاحنة التي خاضها مختلف الأقوام في العراق والكوفة، ولاسيما حروب بني أمية وبني العباس.

والعبارة: «يحصد القائم، ويحطم المحصود» كناية لطيفة عن الاضرار والخسائر التي تلحق بالاُمّة طيلة هذه الحوادث. فمن كان قائما صرع، و من كان مصروعا تحطم.

 

أمّا ابن أبي الحديد فقد قال في شرحه للعبارة: «يحصد القائم» كناية عن قتل أمراء بني أمية في الحرب و«يحطم المحصود» كناية عن قتل المأسورين منهم صبراً، وهكذا وقعت الحال.

والحق أن ماذكره ابن أبي الحديد هو بعض مصاديق المفهوم الواسع للعبارة المذكورة.

 

تأمّلان : 1 ـ الملاحم

ملاحم جمع ملحمة تعني في الأصل الواقعة المهمة المقرونة بالفتنة، وقد طالعتنا أغلب خطب نهج البلاغة في بعض الموارد التي يتحدث فيها أميرالمومنين علي(عليه السلام) عن الفتن المهمة التي تنتظر الناس، ثم يشرح جزئياتها، ويعلن صراحة أنه سمع ذلك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله). ويبدو أن الإمام(عليه السلام) يهدف شيئين من هذه الأخبار: الأول: حب الإمام(عليه السلام) للناس الذي يدفعه لاخبارهم بغية تأهبهم واستعدادهم ليحذروا من أخطار هذه الفتن; بالضبط كمن يخبر الآخرين قبل وقوع الزلزال أو السيل; وان تعذر منعها، إلاّ أنّ العلم المسبق يحد من هذه الاخطار، الثاني: افهامهم أنّ التواني عن الجهاد والضعف والاختلاف إنّما يقود إلى مثل هذه الحوادث، علهم يفيقون إلى أنفسهم فيتوبون وينيبون إلى الله.

وسنبحث نظير هذه الاُمور في شرحنا للخطب 128 و138 من هذه الكتاب.

[ 252 ]

2 ـ الكوفة مركز الازمات والعواصف

لاشك أنّ من له أدنى معلومات مختصرة بتأريخ الكوفة، ليعلم أنّ الكوفة من المناطق التي شهدت أقسى الأحداث وأخطرها طيلة التأريخ الإسلامي. بعبارة اُخرى فان الكوفة كانت مسرحاً لاحداث دامية، وجرائم وجنايات بشعة مارستها بحقها طغاة بني أمية وبني العباس، بما يندى لها جبين البشرية حين يتصفح التاريخ.

هذا وقد أوردنا شرحاً مفصلاً في الخطبة 25 و47 من المجلد الثاني والخطبة 87 من المجلد الثالث بشأن الحوادث البشعة التي تعرضت لها الكوفة، ولا نرى من ضرورة لإعادتها.

—–

[ 253 ]

 

 

الخطبة(1) 102

 

 

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

تجري هذا المجرى وفيها ذكر يوم القيامة وأحوال الناس المقبلة

 

نظرة إلى الخطبة

تتالف هذه الخطبة من قسمين:

القسم الأول: وهو قصير، إشارة إلى الحوادث الصعبة ويوم القيامة، الذي يجمع الله فيه الاولين والاخرين للحساب والثواب والعقاب القسم الثاني: إشارة إلى الفتن المرعبة التي تهجم على الناس كقطع الليل المظلم فتضيق الخناق على الناس، حتى يهب لها جماعة من المجاهدين. ثم يركز الإمام(عليه السلام) في كلامه على البصرة التي ستكون مسرحا لهذه الفتن.

—–


1. سند الخطبة: لم ترد هذه الخطبة في المصادر التي الفت قبل السيد الرضي (ره)، ولكن يبدو أنّها جزء من الخطبة 128 التي سنتعرض باذن الله لشرحها، إلاّ أنّها ذكرت في الكتب التي دونت بعد السيد الرضي (ره).

[ 254 ]

[ 255 ]

 

 

القسم الأول

 

«وَذلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللهُ فِيهِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لِنِقَاشِ الْحِسَابِ، وَجَزَاءِ الأَعْمَالِ، خُضُوعاً، قِياماً، قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الأرْضُ، فَأَحْسَنُهُمْ حَالا مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً، وَلِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً».

—–

 

الشرح والتفسير

هول المحشر

كما أوردنا سابقاً أن الإمام(عليه السلام) أشار في القسم الأول من الخطبة إلى وضع الناس في يوم القيامة بعبارات قصار مؤثرة وقد ذكر المميزات المهولة لذلك اليوم.

فقد قال(عليه السلام): «وذلك يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين لنقاش الحساب، وجزاء الاعمال، خضوعاً قياماً».

فالعبارة «الأَولين» و«الأَخرين» تشير إلى حقيقة وهى أنّ القيامة والحساب سيشمل جميع الناس في يوم واحد، كما ورد ذلك في القرآن الكريم: (وَكُلُّهُمْ آتِـيهِ يَوْمَ القِـيامَةِ فَـرْداً)(1). وورد في موضع آخر: (قُـلْ إِنَّ الأَوَّلِـينَ وَالآخِـرِينَ * لََمجْـمُوعُونَ إِلى مِـيقاتِ يَـوْم مَـعْلُوم)(2).

والتعبير بالنقاش يفيد الدقة في الحساب حيث تخضع أصغر الأعمال ذلك اليوم للحساب فيعاقب الإنسان أو يثاب عليه.

والتعبير بالخضوع والقيام إشارة إلى أنّ الناس يوم القيامة كمثل من يحضر في المحكمة ويمثل بين يدي القاضي العادل، حيث تظهر عليه آثار الخوف والخشية.


1. سورة مريم/95.

2. سورة الواقعة/49 ـ 50.

[ 256 ]

وقد أشارت بعض الآيات القرآنية إلى هذه المعاني، ومن ذلك الآية الشريفة: (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ...)(1) والآية (يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ)(2).

ثم قال(عليه السلام): «قد الجمهم العرق، ور جفت(3) بهم الأرض».

فهل هذا العرق بسبب حرارة محيط المحشر، أم من شدة الخجل، أم كلاهما؟ وهل رجف الأرض بسبب أعمالهم، أم هكذا هى طبيعة محكمة العدل الإلهي، بحيث ينشغل الجميع بأنفسهم ويعترفوا بكل ما اقترفوا؟

كيفما كان فالاجواء هناك مرعبة مهولة للغاية.

وقد صرحت الآيات والروايات الإسلامية بالعوامل التي تدعو إلى الخوف والخشية في ذلك اليوم (نسأل الله أن يشملنا جميعاً برحمته وألطافه ويجنبنا هلع ذلك اليوم).

وقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة ـ كديدنهم في سائر الموارد ـ إلى أن الألفاظ المذكورة كناية عن الاُمور الباطنية والروحية، والحال ليست هناك آية قرينة تدعو إلى مثل هذا التأويل ـ ولو فتح الباب لمثل هذه التأويلات بشأن الآيات والرويات وباب التفسير بالرأي وأن يسطر الإنسان كل ما يفهمه من الآية والرواية، أو الاسلوب الذي يعتمده بعض من يتسمى بالانفتاحي والذي يكمن في القراءات الجديده للآيات والروايات، فمن المسلم به لسوف تزول إصالة المتون الدينية، ولايبقى من شيء للاستدلال بالمسائل العقائدية والعلمية.

ثم أشار(عليه السلام) في ختام هذا القسم من الخطبة إلى معضلة اُخرى من معضلات القيامة: «فأحسنهم حالاً من وجد لقدمية موضعاً، ولنفسه متسعاً».

فالعبارة تشير إلى زحام الناس وضيق المكان، حيث يفهم من الروايات أنّ هول المحشر ووحشة حساب الأعمال مسألة عامة تشمل كافة أهل المحشر; وذلك لأن خلص عباد الله أيضاً يخشون الحساب! فلهول المحشر عدة عوامل، يكمن أحدها في ضيق المكان الذي ورد في هذه العبارة.


1. سورة القمر/7.

2. سورة المطفقين/6.

3. «رجف» من مادة «رجف» على وزن ربط تعني الاضطراب، ولما كانت أخبار الفتن تدعو لاضطراب المجتمع فقد اصطلح عليها بالاراجيف.

[ 257 ]

 

 

القسم الثاني

 

ومنها:

«فِتَنٌ كَقِطَعِ الْلَّيْلِ الْمُظْلِمِ، لاَ تَقُومَ لَهَا قَائِمَةٌ، وَلاَ تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ، تَأْتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً: يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا، وَيَجْهَدُهَا رَاكِبُهَا، أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ، قَلِيلٌ سَلَبُهُمْ، يُجَاهِدُهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ الْمُتَكَبِّرِينَ، فِي الأَرْضِ مَجْهُولُونَ، وَفي السَّماءِ مَعْرُوفُونَ. فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذلِكَ، مِنْ جَيْش مَنْ نِقَمِ الله! لا رَهَجَ لَهُ، وَلأَ حَسَّ، وَسَيُبْتَلَى أَهْلُكِ بِالْمَوتِ الأَحْمَرِ، وَالْجُوعِ الأَغْبَرِ».

—–

 

الشرح والتفسير

فتنة البصرة

أشار الإمام(عليه السلام) في هذا الكلام من الخطبة إلى فتنة اُخرى تنتظر أهل العراق ولا سيما البصرة، لعل الاُمّة تستعد للدفاع وتقلل من خسائرها في هذه الفتنة، وكذلك تخشى العقاب الإلهي الذي يتمثل أحياناً بظهور الفتن فلا تحيد عن الطريق وتلتزم بدينها. فقد وصف(عليه السلام)هذه الفتن بأنّها كقطع(1) الليل المظلم، والتي لايسع أحد الوقوف برجهها والتغلب عليها «فتن كقطع الليل المظلم، لا تقوم لها قائمة، ولا ترد لها راية».

في إشارة إلى أنّ مثيري هذه الفتن يردون الميدان بكل قوة واقتدار فيأتون على كل ما يقف في طريقهم.


1. «قطع» جمع «قطعة» ولعله إشارة إلى بعض أقسام الليل كنصفه، أو الوقت الذي فيه القمر، كما فسّره البعض بالظلمة.

[ 258 ]

ثم يواصل الإمام(عليه السلام) كلامه بتشبيه هذه الفتن بالناقة التي وضع عليها رجلها ويسوقها سائقها بسرعة: «تأتيكم مزمومة(1) مرحولة(2) يحفزها(3) قائدها، ويجهدها راكبها».

ثم أشار(عليه السلام) إلى شدة هذه الفتنة وجسامة خسائرها بعد أن شبهها بالناقة المعدة للركوب وقد استسلمت لراكبها بعبارة أخرى فإن كل شيء جاهز للفتنة بحيث تكون ضربة أصحابها غاية في الشدة و تلفاتها قليلة: «أهلها قوم شديد كلبهم(4) وقليل سلبهم(5)».

فالإمام(عليه السلام) بين خصائص هؤلاء القوم الذين يقتحمون الميدان بكامل العدة والعدد، وسنرى لاحقاً ومن خلال ما ورد في التواريخ من تنطبق عليه هذه الأوصاف.

ثم أشار الإمام(عليه السلام) إلى نقطة مهمّة وهى عدم تداوم هذه الفتنة لمدة طويلة، حيث يتصدى لها طائفة من أولياء الله فيهبون للوقوف بوجه أصحاب هذه الفتن (ويقضون عليهم)، ثم وصف هذه الطائفة بأنّها ذليلة لدى المتكبرين، فهى ليست معروفة في الأرض، لكنها معروفة في السماء: «يجاهدهم في سبيل الله قوم أذلة عند المتكبرين، في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون».

فهذه الطائفة من أولياء الله ذات المقام الرفيع لديه والشديدة في الجهاد في سبيل الله ستخمد نار الفتنة، كما تفقد هذه الطائفة منزلتها لدى المتكبرين بسبب زهدها في الدنيا وبعدها عن التظاهر والرياء، فهى مجهولة في الأرض بين الناس، بينما معروفة لدى ملائكة السماء الخبيرة بباطن هذا العالم.

أمّا من هم هؤلاء القوم الذين أخبر الإمام(عليه السلام) عن فتنتهم وفجائهم، ومن هم المجاهدون الذين سيتصدون لهم ويخمدوا نيران الفتنة، فيبدوهنالك اختلاف بين شرّاح نهج البلاغة بهذا الشأن.


1. «مزمومة» من مادة «زمام» الحيوان الذي الجم.

2. «مرحولة» من مادة «رجل» جهاز الناقة أو أدوات السفر، ومرحولة هنا بمعنى الناقة الجاهزة للركوب، وهى كناية عن تمام الفتن وقوتها.

3. «يحفز» من مادة «حفز» على وزن حبس يحث ويدفع.

4. «كلب» على وزن طلب الاذى والشدة.

5. «سلب» محركة ما يأخذه القاتل من ثياب المقتول وسلاحه في الحرب.

[ 259 ]

فقد ذهب البعض إلى أنّ المراد بأصحاب الفتن هم أنصار رجل يدعى صاحب الزنج واسمه علي بن محمد وقد نسبوه إلى سلالة النبي(صلى الله عليه وآله) (وإن كان هنالك شك في نسبه) حيث يجمع عددا من الزنوج حوله ومن هنا لقب بصاحب الزنج. فقد نهض في نصف القرن الثالث وأثار فتنة عظيمة أطراف البصرة، ثم قتل على يد المجاهدين بعد 12 سنة من حكومة لتلك المنطقة.

كما فسرها البعض الآخر بفتنة المغول، الذين لم يسيطروا على العراق فحسب، بل سيطروا على أجزاء واسعة من العالم الإسلامي، ثم تصدى لهم المجاهدون المسلمون بعد مدة طويلة وقضوا عليهم. وأخيرا فسرها البعض بحوادث آخر الزمان وتعم الفتنة أغلب العالم الإسلامي فلا تقتصر على العراق، ثم يهب لهم جيش الإمام المهدي(عليه السلام) فيقضي عليهم.

ولما كان أغلب شرّاح نهج البلاغة يرون هذه الخطبة جزءا من الخطبة 128، لذلك نرجح تناول هذا الموضوع بصورة أعمق حين نخوض في شرح تلك الخطبة.

ثم اختتم الإمام(عليه السلام) خطبته مخاطبا البصرة: «فويل لك يا بصرة عند ذلك، من جيش من نقم الله! لارهج(1) له ولا حس(2)، وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر، والجوع الأغبر(3)».

والعبارة عند ذلك تشير إلى أنّ حادثة البصرة ليست حادثة منفصلة، بل البصرة إحدى مراكز الفتنة التي يتعرض أهلها إلى أشد الضربات والعقوبات.

والعبارة نقم الله تفيد أنّ هذه الفتنة المرعبة جزاء لاعمالهم.

والعبارة لارهج له ولا حس إشارة إلى الاستعداد التام للقوات المهاجمة بحيث تدخل المدينة وفق خطة دقيقة دون أن تثير بعض الاصوات والجلبة فتسلب زمام المبادرة من الطرف الآخر بحيث لايبقى أمامه من مجال للمقاومة.

والعبارة الموت الاحمر إشارة إلى عظم المقتلة التي تقع في البصرة، فقد ورد في تاريخ صاحب الزنج أنّه قتل ثلاثمئة ألف من الناس حين دخل البصرة.(4)


1. «رهج» بالتحريك والسكون الغبار كناية عن دخول الجيش بكل هدوء وبصورة مباغتة دون أن يثير شيئاً.

2. «حس» الجلبة والاصوات المختلفة.

3. «أغبر» من الغبار والجوع الأغير كناية عن المحل والجذب والقحط الشديد; فوجوه الناس تبدو مغبرة في القحط من شدة الجوع.

4. مروج الذهب 4/119.

[ 260 ]

والعبارة الجوع الأغبر إشارة إلى القحط الشديد إثر الحروب والاضطرابات بحيث يشحب وجههم.

وقد صرح بعض المؤرخين بأنّ الظروف الصعبة جعلتهم يقتلون بعض الحيوانات من قبيل الكلب والقط والفأر ويأكلونها، كما كانوا أحياناً يأكلون ميتة الإنسان(1).

وقد فسّر بعض شرّاح نهج البلاغة الموت الأحمر والجوع الأغبر بالطاعون والوباء والغرق أثر السيول وهجوم أمواج البحر، ولا يبدو مثل هذا التفسير مناسباً.

—–


1. مروج الذهب 4/119.

[ 261 ]

 

 

الخطبة(1) 103

 

 

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

في التزهيد في الدنيا

 

نظرة إلى الخطبة

يستفاد من تعبيرات المرحوم السيد الرضي (ره) (منها ومنها) أنّه لم يأت يتمام الخطبة هنا، بل اقتطف بعضها كعادته. ويبدو بصورة عامة أنّ لهذه الخطبة عدة أهداف: الأول: الحث على الزهد والتقوى والرغبة عن الدنيا. الثاني التفكر والاعتبار والتبصر في الاُمور، ثم التعريف بالعالم الحق وبيان اتباع الحق من اتباع الباطل من خلال ذكر الصفات، ثم اختتام الخطبة ببيان محن المؤمنين في آخر الزمان ومصير الإسلام في ظل تلك الشرائط، بغية تأهب المؤمنين والحد من الاضرار على مستوى الإيمان والأخلاق.

والخطبة على العموم ارشاد معنوي ومادي للإنسان يجعله يتغلب على ما يواجهه من مشاكل.

—–


1. سند الخطبة: ما نقله المرحوم السيد الرضي (ره) في هذه الخطبة جزء من خطبة طويلة ولذلك قال منها ومنها. وقد وردت أجزاء مختلفة من هذه الخطبة في عدة مصادر قبل نهج البلاغة، ومنها روضة الكافي وتحف العقول واصول الكافي وعيون الأخبار لابن قتيية وكتاب الفتن لنعيم بن حماد الخزاعي المتوفى عام 228 (مصادر نهج البلاغة 2/206).

[ 262 ]

[ 263 ]

 

 

القسم الأول

 

«أَيُّهَا النَّاسُ! انْظُرُوا إلى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا، الصَّادِفِين عَنْهَا; فَإِنَّهَا وَاللّهِ عَمَّا قَلِيل تُزِيلُ الثَّاوِيَ السَّاكِنَ، وَتَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الآمِنَ; لاَ يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مِنْهَا فَأَدْبَرَ، وَلاَ يُدْرى مَا هُوَ آت مِنْهَا فَيُنْتَظَرَ. سُرورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ، وَجَلَدُ الرِّجَالِ فِيهَا إلَى الضَّعْفِ وَالْوَهْنِ، فَلا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَآ يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا».

 

الشرح والتفسير

الدنيا الفانية

كما ذكرنا سابقاً فانّ الإمام(عليه السلام) تطرق في هذا الكلام من الخطبة إلى مسألة الزهد في الدنيا الذي يقود إلى كافة الصالحات والفضائل.

فقال(عليه السلام): «أيّها الناس! انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها، الصادفين(1) عنها»، طبعاً لا تعني هذه العبارة أنّ الإنسان ينبغي أن يترك الدنيا ويعيش الرهبنة فيها، بل الهدف عدم فقدان النفس، وعدم الركون إلى الدنيا والاغترار بها. فقد ثبت بوضوح أنّ التعلق بالدنيا والاغترار بما لها وجاهها ولذاتها يشكل حجاباً على سمع الإنسان وبصره، فيؤدي به إلى مقارفة الذنب والمعصية.

فقد ورد في الحديث أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: «حب الدنيا رأس كل خطيئة»(2).


1. «صادف» من مادة «صدف» على وزن حرف بمعنى الأعراض عن الشيء.

2. روى هذا الحديث بعبارات مختلفة عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) وأميرالمؤمنين والإمام الصادق وحتى الأنبياء الماضين(عليهم السلام). (ميزان الحكمة 2/ ح 5813 ـ 5823)ـ وفي الحديث الذي نقله الكليني في الكافي عن الإمام السجاد(عليه السلام) بعد شرح ودوافع الذنوب قال: «فاجتمعن كلهن في حب الدنيا». فقال الأنبياء والعلماء ـ بعد معرفة ذلك ـ «حب الدنيا رأس كل خطيئة». (اصول الكافي 2/131).

[ 264 ]

إنّ الذنب هو المادة التي تفضي إلى كافة الحروب والنزاعات والجنايات وسفك الدماء وما إلى ذلك من انحرافات.

ثم تطرق الإمام(عليه السلام) بعبارات قصيرة لأدلة اثبات تلك الحقيقة فأوجزها في ستة أدلة: «فانّها والله عما قليل تزيل الثاوي(1) الساكن».

نعم لابدّ لكل إنسان دون استثناء ان يودع يوماً هذا العالم، بعضهم يودع أبكر، والبعض الآخر قليل يتأخر، ولكن لامناص من تذوق هذه المرارة: (كُلُّ نَفْس ذائِقَةُ المَوْتِ)(2).

والفارق بين ثاوي وساكن هو أنّ الثاوي تطلق عن من أقام بصورة مستمرة في مكان وقد استقر فيه، وقد يكون الساكن كذلك أو لايكون، وبناءاً على هذا فالشباب الذين يعتقدون باستقرارهم لمدة مديدة في هذه الدنيا معرضون للزوال، وكذلك الكهول يبدو سكنهم مؤقتاً ومحدوداً، فالجميع يسير نحو الفناء والزوال، إلى عالم البقاء والخلود.

ثم قال في الدليل الثاني أنّ الدنيا تفجع بمصائبها من غرق في النعم واغتربها: «وتفجع المترف(3) الأمن».

نعم بينما ترى هذا الإنسان غارقاً في لذاته ونعمه وإذا نقل إليه خبر موت فلان. ويالها من عبرة هذه الوفيات المفاجئة، وما أكثرها في هذا الزمان. ويالها من عبرة أنّ تراه غارقاً ليلاً في نعمه وملذاته فيصحوا صباحاً وقد فقد كل شيء.

أمّا الدليل الثالث والرابع فهو أنّ ما يذهب من الدنيا لايعود أبداً، ولا يعلم كيف سيكون المستقبل: «لايرجع ما تولى منها فأدبر، ولايدري ما هو آت منها فينتظر».

ويالها من محنة إلاّ يعثر الإنسان على ضالته قط، كما يفقد الأمل بالمستقبل! فهو في حسرة دائمة! فلا الشباب يعود إليه، ولا قواه وطاقاته التي ذهبت أدراج الرياح مع تقادم العمر، هذا كله من جانب، ومن جانب آخر فالخوف من المستقبل الغامض الذي يهز كيانه ويؤرق تفكيره ويقض مضجعه.


1. «ثاوي» من مادة «ثواء» الاقامة مع الاستقرار.

2. سورة آل عمران/185.

3. «مترف» من مادة «ترف» التنعم ويطلق «المترف» على من تغفله كثرة النعم وتؤدي به إلى الغرور والطغيان.

[ 265 ]

ثم أورد(عليه السلام) الدليل الخامس والسادس الذي يدعو إلى الزهد في الدنيا وهو أنّ فرحها مقرون بالحزن وسرورها بالهم وقدرة الرجال وقوتهم إلى الضعف والوهن: «سرورها مثوب بالحزن وجلد(1) الرجال فيها إلى الضعف والوهن».

فمشكلة النعم المادية الدنيوية قد أشار اليها الإمام(عليه السلام) في موضع آخر فقال: «لاتنالون منها نعمة إلاّ بفراق اُخرى»(2)، على سبيل المثال فالعقيم يتصدع قلبه بفعل عدم وجود الأولاد; إلاّ أنّ مشكلته قد تحل بأن يمنح الأولاد، فسرعان ما تهجم عليه سائر المشاكل! ليس له ثروة كافية فيؤرقه ألم الفقر والحاجة، فاذا ما أصاب ثروة، واجهته مشاكل الحسد وخيانة الخونة وطمع اللصوص بثروته، حتى يفقد سكينته واستقراره. نعم فسرور الدنيا مشوب بالهم والغم والحزن، وقوة الإنسان آيلة فيها إلى الوهن، وهكذا يخلص الإمام(عليه السلام) من هذه الأدلة إلى نتيجة مؤداها: «فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لقلة ما يصحبكم منها».

صحيح أنّ الدنيا مليئة بمعاني الزينة والجمال والمظاهر الخلاية، إلاّ أنّها وعلاوة على استبطانها للمشاكل والمحن، فهى متقلبة سائرة نحو الفناء والزوال. وعليه فلا يجدر بالعاقل الاهتمام بها والركون إليها.

على كل حال فانّ أدنى تأمل لهذه الأدلة يكفي لافاقة الغافلين من سباتهم، إلاّ أنّ المؤسف هو أنّ أغلب الناس يبخل على نفسه حتى بتلك اللحظة من التأمل.

 

تأمّل : الزهد في الدنيا

قد يتصور أحياناً بأنّ مفهوم الزهد هو التخلي التام عن الدنيا، والتقوقع في زاوية والابتعاد عن المجتمع، والحال لاينسجم هذا المعنى والروح الاجتماعية للإسلام; الأمر الذي ورد النهي عنه في الروايات الإسلامية.

والحق أنّ للزهد معنى آخر وهو ترك التعلق المفرط بالدنيا وعدم الوقوع أسيراً في قبضة


1. جلد بمعنى القوة والصلابة.

2. نهج البلاغة، الخطبة 145.

[ 266 ]

زخارفها ومفاتنها; وبخلافه فانّ الإنسان يسير نحو الذنب والخطيئة ويبيع دينه وآخرته بمتاع الدنيا الفاني وهذا ما أشار إليه الإمام(عليه السلام) بقوله: «إنّ من أعون الاخلاق على الدين، الزهد في الدنيا»(1).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) بهذا الخصوص: «إذا تخلى المؤمن من الدنيا لسما، ووجد حلاوة حب الله»(2). وورد في الحديث أنّ علياً(عليه السلام) رأى جابر بن عبدالله وهو يتنهد فقال: «يا جابر علام تنفسك؟ أعلى الدنيا؟» قال جابر: بلى.

فتطرق الإمام(عليه السلام) إلى بيان لذات الدنيا وأنّها لا تعدو أن تكون في المأكل أو المشرب أو اللباس الفاخر، أو اللذة الجنسية أو المركب الهنيئ، ثم شرح ذلك قائلاً: فألذ المأكولات العسل وهو بصق من ذبابة، وأحلى المشروبات الماء؟ وكفى باباحته وسياحته على وجه الأرض، وأعلى الملبوسات الديباج وهو من لعاب دودة، وأعلى المنكوحات النساء وهو مبال في مبال، ومثال لمثال، وإنّما يراد أحسن ما في المرأة لأقبح ما فيها، وأعلى المركوبات الخيل وهو قواتل، وأجمل المشمومات المسك وهو دم من سرة دابة، وأجل المسوعات الغناء والترنم وهو إثم، فما هذه صفته لم يتنفس عليه عاقل.

قال جابر بن عبدالله: فو الله ما خطرت الدنيا بعدها على قلبي(3).

—–


1. منهاج البراعة، للعلاّمة الخوئي 7/182.

2. المصدر السابق.

3. بحارالانوار 75/11.

[ 267 ]

 

 

القسم الثاني

 

«رَحِمَ اللهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ، فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدُّنْيَا عَنْ قَلِيل لَمْ يَكُنْ، وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الآخِرَةِ عَمَّا قَلَيل لَمْ يَزَلْ، وَكُلُّ مَعْدُود مُنْقَض، وَكُلُّ مُتَوَقَّع آت، وَكُلُّ آت قَرِيبٌ دَان».

—–

 

الشرح والتفسير

سرعة العمر

قال(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة ـ والذي يعتبر في الواقع نتيجة لما تقدم ـ «رحم الله امرأ تفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر».