فقد ورد في الحديث أنّ رجلاً سأل الإمام الصادق(عليه السلام) عن صحة هذا الخبر «إن تفكر ساعة خير من قيام ليلة»، فأجاب(عليه السلام): نعم، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «تفكر ساعة خير من قيام ليلة». فسأل الراوي: «كيف يتفكر؟». قال(عليه السلام): «يمر بالدور الخربة، فيقول: أين بانوك؟ أين ساكنوك؟ مالك لا تتكلمين؟»(1).


1. بحارالانوار 68/324 ح 16.

[ 268 ]

ولو كانت له أذن سامعة لسمعها وهى تناديه: لقد ارتحلوا جميعاً بعد أن توسدوا التراب ولم يبق سوى آثارهم.

ثم قال(عليه السلام): «فكأن ما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن، وكأن ما هو كائن من الآخرة عما قليل لم يزل».

أي أنّ الدنيا لتمضي بسرعة، والآخرة تأتي بسرعة بحيث يتصور الإنسان أنّه لم تكن هناك من دنيا، والآخرة هى التي كانت موجودة دائماً.

وقد جربنا هذه المسألة في العديد من حوادث الدنيا; فقد نمر أحياناً بدار بعض الاشراف وقد كانت داره تغص بالناس والذهاب والاياب، وإذا بها صامتة هادئة وكأن لم تشهد تلك الضجة.

ثم اختتم(عليه السلام) خطبته بثلاث عبارات غاية في الروعة والدقة، في أنّ ما كان معدوداً (كساعات عمر الإنسان) فهو إلى انقضاء، وما كان منتظرا فهو إلى قدوم ووقوع، وما كان قريباً فهو حاصل: «وكل معدود منقض، وكل متوقع آت، وكل آت قريب دان».

فالعبارة الاُولى إشارة إلى قاعدة كلية فلسفية في محدودية كل ما دخل تحت العدد، وما كان محدوداً فهو إلى انقضاء، ولما كان عمر الإنسان والدنيا برمتها داخل في العدد والارقام، فلابدّ من انتظار انقضائه، والعبارات اللاحقة مكملة لذلك; لأنّ ما ننتظره سيأتينا يوماً لا محالة، وما يأتينا ليس ببعيد عنا! وعليه فلا ينبغي الاعتقاد ببعد الموت وخلود الحياة، والعمر ليس بباق. و الواقع هو أن هذه العبارات الثلاث بمنزلة الدليل على العبارات السابقة.

 

تأمّل : في الاعتبار

مليئة حياة الإنسان في كل عصر ومصر بالدروس والعبر; الدروس التي توقظ القلب وترفع الحجب وتفضح ماهية الحياة الدنيا; إلاّ أنّ الموسف قلة الاعتبار. فالناس عادة ما تمر مرّ الكرام على الحوادث التي من شأنها اثارة الاعتبار لديهم، كما أنّ تكرارها يدعوهم لاهمالها.

العامل الآخر الذي يقف وراء عدم الاعتبار إنّما يكمن في حصر مكاره الدهر في الآخرين،

[ 269 ]

وكأنا بمعزل عن تلك المكاره وأنا مخلدون في هذه الدنيا. ولو كانت هناك بصيرة حقا فإن كل شيء في الأرض يشتمل على عبرة تدعونا للإعتبار.

جاء في الأخبار أن هارون الرشيد كتب رسالة إلى الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) طلب فيها أن يعظه قائلاً «عظني وأوجز» (طبعا من المستبعد أن يكون مثل هؤلاء الأفراد صادقين وأنّهم يطلبون النصح والوعظ والارشاد; لأنّ هذه الاُمور إنّما تكون عادة جزءاً من مخططاتهم السياسية، ليوحوا للآخرين أنا من اهل الوعظ الذي نسأله من ابن رسول اللّه).

فأجابه(عليه السلام): «ما من شيء تراه عينك ألاّ وفيه موعظة»(1).

نعم فالأرض والسماء والكائنات والاشجار والحوادث وأنين المرضى ومشيب الشعر وانحناء الظهر والمقابر والقصور الخاوية للملوك، كلها تغص بالدروس والعبر فالواقع هو أنّ الإمام(عليه السلام) اراد أن يقول له لوكان لك عين باصرة لاعتبرت.

فقصور الملوك مملوءة بالعبر، ولكن لايعتبر بها سوى من له آذانا صاغية.

و كفى بالقرآن واعظا بهذا الشأن: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّات وَعُيُون * وَزُرُوع وَمَقَام كَرِيم * وَنَعْمَة كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالاَْرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ).(2)

—–


1. سفينة البحار ـ مادة وعظ.

2. سورة الدخان / 25 ـ 29.

[ 270 ]

[ 271 ]

 

 

القسم الثالث

 

ومنها: «الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ، وَكَفَى بِالْمَرءِ جَهْلا أَلاّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ; وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى لَعَبْداً وَكَلَهُ اللهُ إِلَى نَفْسِهِ، جَائِراً عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، سَائِراً بَغَيْرِ دَلِيل; إِنْ دُعِىَ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ، وَإِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الاْخِرَةِ كَسِلَ! كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ; وَكَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ سَاقِطٌ عَنْهُ!».

—–

 

الشرح والتفسير

العلماء والمتشبهون بهم

اتجه الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة ـ والذي يبدو منفصلاً، وان كان له نحو ارتباط بالمقاطع الماضية ـ صوب التعريف بالعلماء الحق ومن تشبه بالعلماء (العلماء الحقيقيون والعلماء المزيفون) حيث يعرض لصفات كل منهما، فقال(عليه السلام): «العالم من عرف قدره».

ثم أكد هذه العبارة بقوله(عليه السلام) «وكفى بالمرء جهلا ألا يعرف قدره».

وقد وردت عدة احتمالات في تفسير هاتين العبارتين كلها مناسبة، ويمكن جمعها في مفهوم كلامه(عليه السلام).

الأول: أنّ العالم الحقيقي من يعرف قيمته وقدره ازاء عظمة الله سبحانه في هذا العالم، فيرى أنّه ليس بشيء يذكر بالنسبة لذلك الوجود المطلق، وأنّه تابع له، فيحث الخطى للفوز بقربه، ولعل هذا هو المعنى الذي هدف إليه الحديث: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»(1).

والثاني: أن المراد معرفة القيم والمكانة الواقعية في المجتمع، وبعبارة اُخرى: العالم الحقيقي من


1. بحار الانوار 2/34 ح 22.

[ 272 ]

يبتعد عن الامال التي لا تستند لأي المنطق، ولايتجاوز حدود نفسه، ولايضع نفسه في موضع ليس له باهل، فلا يعبث بماء وجهه وقدره. على غرار ما ورد في بعض الروايات: «رحم الله من عرف قدره، ولم يتجاوز حده»(1).

والثالث: أنّ المراد هو أنّ الإنسان موجود قيم له استعدادته العاليه، فلا ينبغي أن يبيع هذه الجوهرة الثمينة برخص ولايزهد في نفسه وإمكاناته; الأمر الذي ورد في الشعر المنسوب لأمير المومنين علي(عليه السلام) إذ قال:

أتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

وبالنظر إلى إمكانية استعمال اللفظ لأكثر من معنى، حيث يعد ذلك من جمالية الكلام وبدائعه، فلا يبدو من المستبعد الجمع بين هذه الاحتمالات الثلاث في تفسير الكلام المذكور; وإن كانت العبارات القادمة أنسب للمعنى الثاني والثالث.

ثم واصل(عليه السلام) كلامه بالتعريف بمن تشبه من العلماء من الجهال البعيدين عن الحق والصواب فقال(عليه السلام): «وإن من أبغض الرجال إلى الله تعالى لعبدا وكله الله إلى نفسه، جائراً عن قصد السبيل، سائراً بغير دليل».

طبعا لايسع الإنسان ما لم تحفه عناية الله والطافه ان يتجاوز هذه الموانع والآفات الخطيرة التي تعترض طريقه، فاذا وكلّ إلى نفسه فسوف لن تكون عاقبته سوى المهلكة; فهو ينحرف عن الصراط، ويفقد الدليل فيسير على عمى وضلال.

ثم وضح ذلك(عليه السلام) بالقول أنّه اغتر بالدنيا وخدع بها بحيث لايعمل إلاّ لها ولا يجهد نفسه إلاّ من أجل الحصول على متاعها: «إن دعي إلى حرث الدنيا عمل، وإن دعي إلى حرث الآخرة كسل».

فهو نشط من أجل الدنيا، كسل من أجل الآخرة، وذلك لضعف ايمانه بالآخرة وعدم اعتقاده بالوعد والوعيد الإلهي. فلم يبصر سوى الدنيا و ينسى الآخرة.

ومن هنا إختتم(عليه السلام) كلامه بهذا الشأن بالقول: «كأن ما عمل له وأحب عليه، وكأن ما ونى فيه ساقط عنه»(2).


1. اشتهرت هذه العبارة التي يطلقها العلماء بالاستفادة من الاحاديث.

2. «ونى» بمعنى ضعف وتعب.

[ 273 ]

والتعبير بالزرع عن الدنيا والآخرة هو اقتباس من الآية الشريفة: (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُـؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِـيب)(1).

يمكن للدنيا أن تكون مزرعة الآخرة، كما يمكنها أن تكون مزرعة لنفسها. ويذرها الأعمال الحسنة والسيئة، وأعمالها الحسنة كالحبة التي تنبت سبع سنابل وفي كل سنبلة مأة حبة، أمّا الأعمال السيئة فهى البذور التي تزرع في الأراضي المالحة: (لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً)(2).

وتشير العبارة الأخيرة ضمنيا إلى أنّ الأعمال الصالحة والطالحة إنّما تفرزها طبيعة الاعتقادات القوية والضعيفة.

 

تأمّل : العلماء الحقيقيون

أوضح الإمام(عليه السلام) بجلاء في هذه الخطبة صفات العلماء، و من تشبه بهم من علماء السوء، فكان في مقدمتها عدم معرفة قدر النفس. عدم معرفة قدر النفس ازاء عظمة الله، ولا قدره تجاه المجتمع، ولا قدر نفسه حيال نفسه. ومن لم يعرف قدر نفسه فانّه سيتيه في أمواج من الجهل والبؤس والحيرة والشقاء، حتى يكله الله إلى نفسه فيضل في خضم هذه الحياة; فهو لا يرى سوى النعم المادية، وعليه فالدنيا عنده ماء، والآخرة سراب من الهواء. والحلال والحرام والحق والباطل لديه على حد سواء; وهو ينطلق نحو المال والمقام وكأنّها أوجب الواجبات، بينما يتقاعس عن واجباته وكأنّها من المحرمات.

وقد اوردنا شرحاً مفصلاً بهذا الخصوص في الخطبة السابعة عشر من المجلد الأول، ولا حاجة للتكرار.

—–


1. سورة الشورى/20.

2. سورة الاعراف/58.

[ 274 ]

[ 275 ]

 

 

القسم الرابع

 

ومنها: «وَذلِك زَمَانُ لاَ يَنْجُو فِيهِ إِلاَّ كُلُّ مُؤْمِن نُوَمَة، «إنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ، وَإنْ غَابَ لَمْ يُفْتَقَدْ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدى،» وَأَعْلَامُ السُّرَى، لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ، وَلاَالْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ، أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللهُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ وَيَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ.

أَيُّهَا النَّاسُ، سَيَأْتري عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُكْفَأُ فِيهِ الإسْلَامُ، كَمَا يُكْفَأُ الإنَاءُ بِمَا فِيهِ، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيكُمْ، وَقَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِل:«إِنَّ في ذلِكَ لآيَات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ»».

—–

 

الشرح والتفسير

علامات آخر الزمان

أشار الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع الذي يمثل آخر الخطبة إلى الوضع في آخر الزمان، وبعبارة اُخرى الزمان الذي يسوده الشر قبل الإمام المهدي(عليه السلام). فكان(عليه السلام) يتطرق إلى خصائص المؤمنين في ذلك الزمان أحياناً، وأحياناً اُخرى إلى وضع الإسلام والأحكام الإسلامية.(1)

فقال(عليه السلام): «وذلك زمان لا ينجو فيه إلاّ كل مؤمن نومة، إن شهد لم يعرف وإن غاب لم يفتقد».

صحيح أنّ النومة من النوم بمعنى الشخص الكثير النوم; إلاّ أنّه من الواضح هنا أنّ ذلك كناية عن الفرد المجهول وغير المعروف، ولا سيما أنّ الإمام(عليه السلام) وضح ذلك بالعبارات القادمة.


1. يفيد عدم الارتباط المعنوي بين هذا المقطع من الخطبة والذي سبقه، أنّ السيد الرضي (ره) حذف بعض الأقسام بينهما، والشاهد على ذلك تعبيره (منها).

[ 276 ]

طبعاً من البديهي في الظروف التي يعم فيها الفساد المجتمع، ويكون زعماء المجتمع وقادته من الفسدة والمنحرفين، ألا يكون الأفراد المؤمنين من الشخصيات المعروفة في المجتمع، لأنّهم سيكونون فريسة للجبابرة الذين لن يتركوهم وشأنهم أبداً; فأما أن يتسلموا ويكونوا عوناً لهم، وامّا ان يقاوموا ويمتنعوا وفي هذه الحالة ليس لهم سوى الحديد والنار.

وبناءاً على هذا يتوجب على الأفراد المؤمنين في ظل هذه الظروف أن يختفوا عن الأضواء ويعيشوا بعيداً عن الشهرة والمعرفة، كي لا يكون هناك من يتعقبهم ويبحث عنهم.

وبالطبع فان هذه المجهولية لن تحط من قدرهم وتقلل من مكانتهم، وأنّهم لن يتخلوا عن دورهم المعنوي في المجتمع، ومن هنا وصفهم الإمام(عليه السلام) بقوله: «أولئك مصابيح الهدى، وأعلام السرى»(1).

فهم صامتون خاملون، إلاّ أنّهم قدوة للاخرين، فهم مصابيح هدى كتلك العلامات التي تنصب على الطريق لكي لا يضل السائر فيه ليلاً.

ثم قال(عليه السلام) في وصف هذه الطائفة من المؤمنين: «ليسوا بالمساييح، ولا المذاييع البذر».

قال المرحوم السيد الرضي المساييح جمع مسياح وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها، والبذر جمع بذور وهو الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه.

وعليه فمعنى العبارة هو أنّ هذه الطائفة من المؤمنين ليست بمفسدة ولا مثيرة للفتنة وليست سفيهة تشيع الفاحشة.

ثم قال: «أولئك يفتح الله لهم أبواب رحمته، ويكشف عنهم ضراء نقمته». فالعبارة تفيد أنّ الله سبحانه وتعالى لم يسلب الطائفة المؤمنة الحقة عنصر هدايتها في تلك الظروف العصيبة، وهو حافظهم من شر الظلمة ومكاره ذلك الزمان وحوادثه.

ثم واصل الإمام(عليه السلام) كلامه بنبوءة صريحة وتوضيح أكثر لذلك الزمان، فقال(عليه السلام): «أيها الناس! سيأتي عليكم زماناً يكفا(2) فيه الإسلام، كما يكفأ الاناء بما فيه».

فالعبارة «يكفأ فيه الإسلام» كناية لطيفة عن انقلاب كافة المفاهيم الإسلامية رأساً على


1. «السرى» تعني السير في الليل.

2. «يكفأ» من مادة «كفأ» على وزن نفع بمعنى الانقلاب.

[ 277 ]

عقب وذهاب حقيقتها وجوهرها، لأنّها شبهت الإسلام بالاناء الذي وضعت فيه المعارف والقوانين والأحكام والأخلاق الإسلامية، وكما يضيع كل الماء إذا قلب الاناء، فكذلك الإسلام في ذلك الزمان يضيع كل محتواه، ولايبقي منه سوى القشور.

ويبدو أنّ عصرنا يشهد مثل هذه العلامات حيث يكتفي أغلب المسلمين بذكر اسم الإسلام فقط، دون أن يكون هناك أي أثر للأخلاق أو انفتاح على السنة النبوية; فليس هناك سوى الشهوات والمال والمقام واللذة المادية والشهوات الحيوانية.

ولا شك أنّ احد عوامل البؤس والشقاء هو التفسير بالرأي والقراءات الكاذبة والمنحرفة للإسلام، حيث يقوم بعض الأفراد خداعاً لأنفسهم وللأخرين بتقديم بعض التفاسير المشبوهة للحقائق الإسلامية المسلمة انسجاماً مع أهوائهم وأفكارهم; الأمر الذي يجعل الإسلام العوبة بيدهم يفعلون به ما يشاؤون.

فقد ورد في الحديث أنّ النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) قال لعلي(عليه السلام): «يستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة، والأهواء الساهية»(1).

ثم اختتم الإمام(عليه السلام) كلامه بالاجابة على سؤال مقدر وهو: لم يبتلي الله المسلمين بهذه الحوادث والاضطرابات؟ فقال(عليه السلام):«أيها الناس إنّ الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم، ولم يعذكم من أن يبتليكم، وقد قال جل من قائل إن في ذلك لآيات وإن كنّا لمبتلين»(2).

في إشارة إلى أنّ مثل هذه الحوادث اختبار للناس وامتحان لهم، ولابدّ أن يخوض عامة الناس ـ بما فيهم الأنبياء وسائر الأفراد ـ هذا الامتحان الإلهي! الامتحان الذي قد ينطوى أحياناً على بعد فردي، وأحياناً جماعي; كما ورد في العبارة المذكورة من شمول الجميع بالامتحان، لتمييز الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق.

كلام السيد الرضي(ره)

قال السيّد الشرّيف الرّضى: أَمَّا قَوْلُهُ(عليه السلام): «كُلُّ مُؤْمِن نُوَمَة» فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْخَامِلَ الذِّكْرِ، الْقَلِيلَ الشَّرِّ.


1. نهج البلاغة، الخطبة 156.

2. سورة المؤمنون/30.

[ 278 ]

وَ«الْمَسَايِيحُ» جَمْعُ «مِسْيَاحِ» وَهُوَ الَّذِي يَسيِحُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْفِسادِ وَالَّنمَائِم. وَ«الْمَذَايِيعُ» جَمْعُ «مِذْيَاع» وَهُؤَ الَّذِي إِذَا سَمِعَ لِغَيْرِهِ بِفَاحِشَة أَذَاعَهَا، وَنَوَّهَ بِهَا. وَ«الْبُذُرُ» جَمْعُ «بَذُورِ»وهُوَ الَّذِي يَكْثُرُ سَفَهُهُ وَيَلْغُو مَنْطِقُهُ.

 

تأمّل : الفساد في آخر الزمان

وردت عدة روايات التي تذم آخر الزمان، حيث فسر آخر الزمان عادة بالزمان القريب من ظهور الإمام المهدي(عليه السلام): والواقع هو كثرة الفساد الذي يجتاح العالم بأسره: «كما ملئت ظلما وجورا» فيعد القلوب الوالهة إلى تقبل وجوده(عليه السلام) بصفته مظهر العدل والصلاح.

هذا ومن جملة العوامل التي تؤدي إلى سعة حجم الفساد في آخر الزمان ما يلي:

1 ـ الابتعاد عن تعاليم الأنبياء وارشادات الاوصياء(عليهم السلام).

2 ـ إزدياد وسائل الفساد والشهوات.

3 ـ اتساع حجم الوسائل الدعائية التي تقوم بنشر الفساد إلى مختلف الأماكن لمجرّد حصوله في زاوية من الأرض.

4 ـ إزدياد الشبهات في المباني الدينية والأخلاقية من خلال التفسير بالرأي والقراءات المختلفة للمعارف والمفاهيم الدينية.

5 ـ تسلط حكام الجور والفساد الذين لايهمون سوى بتحقيق منافعهم المادية، إلى جانب بذلهم الجهود الحثيثة من أجل افساد الناس ولا سيما الشباب من اجل الوصول إلى اهدافهم الخبيثة.

حقاً أنّ التدين لصعب في مثل هذه العصور والأزمنة، بل الواقع هو أنّ هذا العصر من أصعب العصور اختباراً وامتحاناً. ولا يمكن للصالحين إجتياز هذا الامتحان العسير إلاّ من خلال الاستغاثة بالله ليشملهم بلطفه وعنايته.

—–

[ 279 ]

 

 

الخطبة(1) 104

 

 

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

نظرة إلى الخطبة

أشار الإمام(عليه السلام) في القسم الأول من هذه الخطبة إلى قيام النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) في وسط جاهلية العرب وجهوده المضنية في سبيل هداية الاُمّة.

وأشار في القسم الآخر من الخطبة إلى سعي بعض المنحرفين لاحياء تقاليد الجاهلية: ثم قال(عليه السلام) أني سأواصل طريق رسول الله(صلى الله عليه وآله) ولأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته، لتعلم الاُمّة كيف تنهض بتكاليفها وتتعامل معه، وتتاهب لمحاربة أعراف الجاهلية.

—–


1. سند الخطبة: تشيه هذه الخطبة إلى حد كبير الخطبة الثالثة والثلاثين. ومن هنا قال المرحوم السيد الرضي (ره) في آخر الخطبة: وقد تقدم مختار هذه الخطبة، إلاّ أنني وجدتها في هذه الرواية على خلاف ما سبق من زيادة ونقصان، فأوجبت الحال إثباتها ثانية. فالعبارة تفيد ان الخطبتين مرتبطة بواقعة واحدة، وإن نقلهما الرواة مع بعض الاختلاف; إلاّ أنّ التفاوت الواضح بين الخطبتين يجعل احتمال التعدد أقوى.

وللوقوف على التفاصيل راجع ما أوردناه ذيل الخطبة 33.

[ 280 ]

[ 281 ]

 

 

القسم الأول

 

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيهِ، وَآلِهِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَ يَدَّعي نُبُوَّةً وَلاَ وَحْياً، فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ، يَسُوقُهُم إلَى مَنْجَاتِهِمْ; وَيُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ، يَحْسِرُ الْحَسِيرُ، وَيَقِفُ الْكَسِيرُ، فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ، إِلاَّ هَالِكاً لاَ خَيْرَ فِيهِ، حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجاتَهُمْ وَبَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ، فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ، وَاسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ».

—–

 

الشرح والتفسير

النهضة التغييرية للنبي(عليه السلام)

استهل الإمام(عليه السلام) الخطبة ـ بعد الحمد والثناء الذي لم يذكر في العبارة ـ بالحديث عن بعثة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) في ذلك الوسط الجاهلي فقال(عليه السلام): «أمّا بعد، فان الله سبحانه بعث محمداً(صلى الله عليه وآله)وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً، ولا يدعي نبوة ولا وحياً».

فالعبارة إشارة إلى الأغلبية الساحقة من العرب آنذاك التي كانت تعبد الأوثان والأصنام وقد تناست دعوة الأنبياء السابقين. وبناءاً على هذا فليس هناك من منافاة بين هذا الحكم العام الناظر للأغلبية العظمى ووجود الأقليات الدينية آنذاك كاليهود والنصارى. أضف إلى ذلك فانّ الأقلية اليهودية كانت مهاجرة أتت إلى الحجاز من الشام، كما قدمت الأقلية النصرانية من اليمن، فهما لا تنتميان إلى العرب. كما يحتمل أن يكون المراد بالكتاب، الكتاب السماوي غير المحرف، الذي لم يكن موجودا آنذاك. أمّا ما قيل من أنّ المراد بالكتاب هنا هو القراءة والكتابة فيبدو بعيداً، لا سيما أنّ العبارة القادمة على الخلاف من ذلك.

[ 282 ]

أضف إلى ذلك فقد كا هناك من يحسن القراءة والكتابة آنذاك.

ثم واصل الإمام(عليه السلام) كلامه بتقسيم الناس ازاء الدعوة الإسلامية إلى ثلاث طوائف: الطائفة التي تقبلت الإسلام بكل كيانها، واُخرى التي استجابت بعد جهود، والثالثة التي اعتمدت التعصب واللجاجة فوقفت بقوة بوجه الدعوة، فلم تتعاطف معها أبدا، وقد قضي عليها.

فقال(عليه السلام) بشأن الطائفة الاولى: «فقاتل بمن أطاعه من عصاه، يسوقهم إلى منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم».

والمراد بالساعة في هذه العبارة القيامة الصغرى يعني الموت، لا القيامة الكبرى التي تقوم بعد نهاية العالم.

وقال بشأن الطائفة الثانية: «يحسر الحسير(1)، ويقف الكسير، فيقيم علمه حتى يلحقه غايته».

ثم أشار إلى الطائفة الثالثة وهى الطائفة الضالة التي لايؤمل هدايتها: «إلاّ هالكاً لا خير فيه».

فما ورد في الحديث الشريف هو عين ماورد في عبارة أميرالمؤمنين(عليه السلام)، ثم عاد(عليه السلام) إلى أصل المطلب: «حتى أراهم منجاتهم وبوأهم محلتهم، فاستدارت رحاهم(2)، واستقامت قناتهم(3)».

 

تأمّلان : 1 ـ هل بعث نبي من العرب؟

تضمنت بداية الخطبة إشارة إلى عدم قيام نبي من العرب; وهذا في الواقع اقتباس من الآية الشريفة: (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُـمْ ).(4)


1. «حسير» من مادة «حسر» على وزن حبس بمعنى العري وسلب اللباس من شيء. ثم استعمل بمعنى الكسل والتعب.

2. «رحى» كناية عن وفرة أرزاقهم، فالرحى تدور على ما تطحنه من حب.

3. «القناة» من مادة «قنو» على وزن صنف في الأصل فرع الشجرة، كما اطلقت على الرمح لشباهته بفرع الشجرة، وهى كناية عن صحة الأحوال وصلاحها.

4. سورة يس/6.

[ 283 ]

وهنا يمكن أن يطرح هذا السؤال: إنّ القرآن صرّح في موضع آخر قائلاً: (وَ إِنْ مِنْ أُمَّـة إِلاّ خَـلا فِـيها نَذِيرٌ)(1).

أضف إلى ذلك فانّ قاعدة اللطف تقتضي أن يكون لكل أمّة رسول مبعوث من الله.

ونقول في الجواب: أنّ المراد بالآية وما ورد في الخطبة كبار أنبياء الله الذين ذاع صيتهم في الارجاء، وإلاّ فليس هناك من زمان ليس لله فيه من حجة بين الناس. ومن هنا يصطلح بالفترة على الفاصلة الواقعة بين بعث السيد المسيح(عليه السلام) والنبي (صلى الله عليه وآله); والحال كان هناك أوصياء المسيح(عليه السلام) من بعده.

أضف إلى ذلك لم يدع أحد من العرب في زمان بعثة النبي(صلى الله عليه وآله) ـ المراد بهذه الخطبة ـ النبوة والاتصال بالوحي والإتيان بكتاب سماوي.

 

2 ـ القوة في الدين

يستفاد من عبارات الإمام(عليه السلام) الواردة في هذه الخطبة أنّ ظهور الإسلام لم يقتصر على اصلاح دين الناس فقط، بل حل إلى جانب ذلك الكثير من مشاكلهم الدنيوية.

وهكذا تبلورت أمة قوية وحكومة مقتدرة في ظل الدين الجديد، تمكنت من إدارة شؤون الاُمّة وزعامتها لسنوات طويلة; ولعل هذه الحكومة كانت ستخلد لو لم تنحرف عن المسار الإسلامي الصحيح. اضافة إلى ذلك نهضت الحضارة وتطورت الثقافة لتشهد اتساعاً ورقياً في ظل التعليمات الإسلامية، حتى كانت صفحة جديدة في فصل التأريخ البشري.

كل هذه أدلة على أن اتباع التعاليم الإسلامية إنّما يؤدي إلى ضمان سلامة دين الإنسان وعمارة دنياه.

والعبارات الاربع الواردة في الخطبة شاهد على هذا الادعاء، فقد قال(عليه السلام): حتى أراهم منجاتهم، وبوأهم محلتهم، فاستدارت رحاهم، واستقامت قناتهم. لتصف بمجموعها سعادتهم المعنوية والمادية.


1. سورة فاطر/24.

[ 284 ]

[ 285 ]

 

 

القسم الثاني

 

«وَايمُ اللّهِ، لَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا، وَاسْتَوْسَقَتْ فِي قِيَادِهَا; مَا ضَعُفْتُ، وَلاَ جَبُنْتُ، وَلاَ خُنْتُ، وَلاَ وَهَنْتُ وَايْمُ اللّهِ، لأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ!».

—–

 

الشرح والتفسير

بقر الباطل واخراج الحق

أشار الإمام(عليه السلام) هنا إلى دوره في انتشار الدعوة الإسلامية ودحر عسكر الكفر فقال(عليه السلام): «وايم الله، لقد كنت من ساقتها حتى تولت بحذافيرها(1)، واستوسقت قيادها»(2).

ساقه جمع سائق. وقد كان سائداً في السابق أن يتقدم حركة الركب أو القافلة شخص يسمى القائد، ويقال عن خلفه السائق.

وهكذا كان الأمر بالنسبة للجيوش فقد كان القادة في مقدمة الجيش و الأمراء خلفه. فالإمام(عليه السلام) يشير إلى أنّ الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) كان القائد للجيش وهو بمنزلة السائق، كما ورد السائق أحياناً بمعنى القائد. أضف إلى ذلك فان ساقة الجيش وردت بمعنى القسم الخلفي منه و في هذه الحالة لاتكون جمع سائق.

على كان حال فانّ العبارة تكشف عن دور الإمام(عليه السلام) في زعامة جيش الإسلام وهزيمة جيش الكفر.


1. «حذافير» جمع «حذفور» الجماعة الكثيرة، كما وردت بمعنى الجانب، إشارة إلى أنّ كل طوائف الباطل تولت وانتهت.

2. حسب التفسير الذي اوردناه فان الضمير في «ساقتها» و«قيادها» يعود إلى جيش الإسلام، بينما يعود إلى جيش الكفر في حذافيرها بقرينة المقام.

[ 286 ]

ثم قال(عليه السلام): «ما ضعفت، ولا جبنت، ولا خنت، ولا وهنت» فالواقع هو أنّ الهزيمة إنّما يفرزها أحد هذه العناصر الأربعة: الضعف الخوف، الخيانة والوهن.

والفارق بين الضعف والوهن هو أنّ الضعف يعني العجز وعدم وجود القدرة، بينما هناك قدرة في الوهن، غير أنّ هناك مسامحة في الاستعمال. وعليه فلا يمكن العثور على أي من هذه العناصر في شخص الإمام(عليه السلام)، ومن هنا كان منتصراً على الدوام.

ثم اختتم الخطبة بالقول: «وايم الله، لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته».

فالعبارة تفيد وجود الحق في الدنيا دائماً، وإن غطاه الباطل وعليه فبقر الباطل وطرح حجابه يظهر منه الحق. و هى نقطة رائعة أشار إليها الإمام(عليه السلام) بكلامه.

كلام السيد الرضي:

قال السيّد الشرّيف الرّضى: وَقَدْ تَقَدَّمَ مُخْتَارُ هذِهِ الْخُطْبَةِ، إِلاَ أنّنِي وَجَدْتَها فِي هذِهِ الرِّوايَةِ عَلَى خِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ زِيَادَة وَنُقْصَان، فَأَوْجَبَتِ الْحَالُ إِثْبَاتَهَا ثَانِيَةً. (و هذا يكشف بدوره عن مدى دقة السيد الرضي(ره) في ذكر الخطب حيث لم يهمل حتى إختلاف الروايات).

—–

[ 287 ]

 

 

الخطبة(1) 105

 

 

 

ومن خطبة له(عليه السلام)

 

في بعض صفات الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) وتهديد بني أمية وعظة الناس

 

نظرة إلى الخطبة

يتضح من عنوان الخطبة أنّها تشتمل على ثلاثة أقسام:

القسم الأول في ذكر بعض صفات الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) ويصرح الإمام(عليه السلام) فيه بأنّ الرسول(صلى الله عليه وآله) خير الخليقة طفلاً وأعظمها كهلاً. حيث هدف الإمام(عليه السلام) في الواقع إلى لفت إنتباه الناس إلى أهمية موروث النبي(صلى الله عليه وآله) و حفظ القرآن و الإسلام.

القسم الثاني يذم فيه بني أمية و يلفت إنتباههم إلى الدنيا التي أقبلت عليهم، ويحذرهم من غضب الله لما سفكوه من دماء بريئة، مؤكداً على أنّ هذه الخلافة ستؤول قريبا إلى الاعداء.

القسم الثالث في وعظ الناس ونصيحتهم بعدم الاستجابة للاهواء، والسعي لتحصيل العلم وعدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

—–