حقّاً ليس هناك من فئة في أوساط المسلمين شر من الخوارج، فهم مصداق الآية الشريفة: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ)(1).


1. سورة المجادلة /19.

[ 212 ]

وهم مصداق واضح للآية: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالاَْخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(1).

ثم أشار الإمام (عليه السلام) إلى نقطة أخرى وهى أنّ الأفراط والتفريط شيمة الأفراد الجهال، فمنهم من ألّهني ومنهم من كفّرني، فقال (عليه السلام): «وَسَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ».

فإن دفعكم جهلكم وجنايتكم لأن تعتبرونني كافراً، فانّ هناك من ذهب إلى عكس ذلك ـ وبدافع الجهل أيضاً ـ ليقولوا بالوهيتي، والفئتان ضالتان، والطريف في الأمر إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)أخبر الإمام (عليه السلام) منذ سنوات بهذا الإفراط والتفريط تجاهه، فقد روى ابن عبدالمالكي في كتاب «الاستيعاب» أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خاطب علياً (عليه السلام) بالقول: «لا يُحِبُّك إلاّ مُؤمِن ولا يُبغِضُك إلاّ مُنافِق... وَيَهْلَكُ فِيكَ رَجُلانِ مُحِبٌّ مُفرِطٌ وَكَذَّابٌ مُفْتَر.. وَتَفْتَرِقُ فِيكَ أَُمَّتِي كَمَا افتَرَقَتْ بَنو إِسرائيلَ فِي عِيسى»(2). (الحديث إشارة إلى أنّ طائفة من بني اسرائيل آمنت واعتقدت بالوهيته وطائفة لم تؤمن ورأته ابن الله والعياذ باللله).

وروى المرحوم السيد محسن الأمين في «أعيان الشيعة» عن «مسند أحمد» و«صحيح الترمذي» و«الاستيعاب» لابن عبدالبر و«مستدرك الحاكم» أنّ المعروف بين الصحابة بغض علي (عليه السلام) علامة النفاق والذي يمييزه عن المؤمن الصادق.

ثم أضاف والثابت تاريخياً أنّ معاوية كان يسب علياً (عليه السلام) ويدعو الناس إلى سبّه (وعليه فمعاوية كان من المنافقين)(3).

على كل حال فالجهّال دائماً على الإفراط والتفريط، الغلو أو العداوة.

ثم واصل الإمام (عليه السلام) كلامه وبالتأكيد على حفظ الاعتدال فقال: «وَخَيْرُ النَّاسِ فِيَّ حَالاً الَّنمَطُ الاَْوْسَطُ فَالْزَمُوهُ».


1. سورة الكهف / 103 ـ 104.

2. الاستيعاب 3/36.

3. شرح نهج البلاغة لمغنية 2/247، كما وردت في كتاب الغدير عدّة روايات من المصادر المعتبرة للعامّة بخصوص معرفة المؤمن يحبّ علي (عليه السلام) والمنافق ببغضه (الغدير 3/183).

[ 213 ]

فقد ورد عنه (عليه السلام) أنّه قال: «أَلا إِنّ خَيرَ شِيعَتِي الَّنمطُ(1) الأوسطُ إِلِيهِم يَرجَعُ الغـالِي وَبِهِم يَلحَقُ التّالِي»(2).

ثم أصدر أمراً مهما كانت مخالفته السبب في سقوط الخوارج في وادي الضلال فقال: «وَالْزَمُوا السَّوَادَ(3) الاَْعْظَمَ فَإِنَّ يَدَ اللّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ». كما بالغ في هذا التأكيد ليقول: «وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ! فَإِنَّ الشَّاذَّ(4) مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ».

فالجماعة المؤمنة غالباً من تنطلق في مسار الحق، فان ضلت طائفة منهم ذكّرتها طائفة أخرى وانقذتها من وادي الضلال، أمّا الأفراد الشاذّون والفئات الصغيرة والمعزولة عن المجتمع الإسلامي فهى عرضة لأنواع الأخطاء والانحرافات والشيطان غالباً من ما يشدد من وساوسه بينهم فهم لقمة سائغة للشيطان على غرار الشاذة من الغنم، فتكون لقمة سائغة للذئب، ثم أورد في وصيّته في الخصوص تقضي بقتل كل من رفع شعار لا حكم إلاّ لله ودعى إليه الناس وإن لاذ بالإمام (عليه السلام) واختفى تحت عمامته: «أَلاَ مَنْ دَعَا إِلَى هذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ، وَلَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هذِهِ».

وهكذا أصدر حكمه النهائي بشأن هذه الفئة الفاسدة والمفسدة والقاسية المتعطشة للدماء والذي لا يشكلون سوى الخطر الجدّي على الإسلام والمسلمين، أمّا ما هو مراد الإمام (عليه السلام) من مفردة «الشعار» التي وردت في العبارة المذكورة فقد اختلفت فيه أقوال شرّاح نهج البلاغة فقيل: المراد بالشعار التفرقة، قيل يعني شعار الخوارج، وكان شعارهم أنّهم يحلقون وسط رؤوسهم ويبقى الشعر مستديراً حوله كالإكليل(5)، وقيل هو الشعار الذي يعدّ شعار الخوارج أينما حلّوا وقد إرتكبوا بواسطته ما لا يحصى من الفتن والمفاسد وأشعلوا بالنيران المجتمع الإسلامي، والواقع قد مهدوا بهذا الشعار أسباب الفرقة، والقتال وسفك الدماء والفساد في


1. «النمط»: هو الطائفة من الناس التي لها هدف واحد، كما تستعمل هذه المفردة أحياناً بمعنى الاُسلوب والطريق.

2. بحار الانوار 6/178.

3. «السواد»: تعني في الأصل اللون الأسود، ولما كانت الجماعة الكثيرة والأشجار المتشابكة والكثيرة تبدو سواء من بعيد فقد وردت هذه المفردة بهذين المعنيين، وقد جاءت في هذه الخطبة بمعنى الجماعة.

4. «شاذ»: من مادة «شذوذ» بمعنى القلّة والندرة ويطلق الشاذ على من يتخلف عن الجماعة وينفرد لوحده.

5. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8/123.

[ 214 ]

الأرض، ومن هنا فقد حكم بالإعدام على حملة هذا الشعار.

كما وردت عدّة تفاسير للعبارة: «لَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هذِهِ»، أنسبها ما ذكرناه سابقاً، وهو وإن اعتصم هؤلاء الأفراد الفاسدين بي ولاذوا بداري وكانوا تحت ثيابي.

—–

 

تأمّلات

1 ـ الحذر من الإفراط والتفريط

من بين المسائل التي أكد عليها الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة ضلالة وهلاك الفئة المفرطة والمفرطة، وقد ظهرت هاتان الفئتان بصورة جلية بشأن الإمام (عليه السلام) في أوساط المجتمع الإسلامي، الفئة التي تصوّرت الإمام (عليه السلام) هو الله والتي عاشت على عهده (عليه السلام) وقد تلقّت أشد العقاب من الإمام (عليه السلام)، والفئة الأخرى التي تراه ـ نعوذ بالله ـ كافراً، وقد عوقبت هذه الفئة أشدّ العقاب أيضاً، فالإفراط والتفريط مذموم في كل شيء ومصدر البؤس والشقاء، ولا يقتصر ذلك على القضايا العقائدية، بل يتجاوزه ليشمل الحياة المتواضعة، وعادة ما يستند هذا الإفراط والتفريط إلى الجهل والعصبية، فهناك طائفة انحرفت عن الإسلام وشذت عن إتباع منهج أهل البيت(عليهم السلام)، فهبطت بالله إلى منزلة متسافلة لتراه كالجسمانيات فصوّرته كفتى أمرد وشعر مجعد وما إلى ذلك من صفات الأجسام، بينما رفعته فئة أخرى عن فكر البشر، لتقول باستحالة معرفة ذاته لدينا، وأبعد من ذلك بأننا لا نعلم شيئاً من صفاته، وبعبارة أخرى قال بتعطيل معرفة الله، فئة سلكت طريق الإفراط فقالت: بالتفويض، وأخرى سلكت سبيل التفريط فقالت: بالجبر، أمّا أئمّة الهدى(عليهم السلام)فقد وصفوا أنفسهم بأنّهم «النمرقة الوسطى» أي الفئة المعتدلة البعيدة عن الإفراط والتفريط، والتي ينبغي أن يعود إليها المتطرفون ويلحق به المغالون: «نَحنُ النُّمرَقَةُ الوُسطى بِهـا يَلْحَقُ التّالِي وَإلَيهـا يِرْجَعُ الغـالِي»(1).

—–


1. نهج البلاغة، الكلمات القصار، 109.

[ 215 ]

2 ـ يد الله مع الجماعة

ورد التأكيد في الخطبة المذكورة على مرافقة ومسايرة السواد الأعظم، أي جماعة المسلمين والابتعاد عن كافة أشكال العزلة والتفرد، فقال (عليه السلام) صراحة: «يَدَ اللّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ»، فالجماعة الإسلامية كانت قوية ومقتدرة ذات شوكة كما كانت متحدة ومتفقة، بينما عاشت الذل والهوان والضعف كلما سادها النفاق والشقاق، فمقاطعة الجماعة الإسلامية وبعبارة أخرى الانعزال الاجتماعي يشكل أحد الانحرافات والفكرية والعقائدية، والأفراد الانعزاليون عادة كما يعيشون خيال العجب بالنفس فيظون أنّهم أفضل من غيرهم وعلى الآخرين أن يعظموهم، وحيث لا يرون ذلك في الناس تشتعل في قلوبهم نيران العداوة والبغضاء وسوء الظنّ، الأمر الذي يجعلهم يهمون أحياناً بالثأر وقتل الأبرياء والإساءة إلى المثل الاجتماعية، وأحياناً أخرى يدّعي النبوة أو الإمام أو نيابة الإمام لمهدي (عليه السلام) فيصبح مصدراً لكل شقاق وفرقة ونفاق، ومن هنا نقف على عمق عبارة الإمام في قوله: «فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ». طبعاً المراد من مسايرة الجماعة بمعنى الأكثرية الموصوفة بالإيمان والقيم الأخلاقية والمباديء الإنسانية، وإلاّ فالإسلام لا يوصي بمسايرة الأكثرية الفاسدة، قال (عليه السلام) في موضوع آخر: «لا تَسْتَوحِشُوا فِي طرِيقِ الهُدىْ لِقلَّةِ أَهلِهِ»(1). واما الذمّ الذي أورده القرآن الكريم على لسان عدّة آيات بشأن الأكثرية إلاّ كان المراد بها الأكثرية الفاسدة والمفسدة: (قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الاَْلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(2).

—–

 

3 ـ شرار الخلق

وصف الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة الخوارج بصفتها شرار الناس، فهذا الكلام ليس مبالغة، فالحق أنّ الخوارج شرّف فئة ظهرت في أوساط المسلمين، ليس فقط لتكفيرهم أشرف مؤمن


1. نهج البلاغة، الخطبة 201.

2. سورة المائدة / 108.

[ 216 ]

بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي علي (عليه السلام) الذي سقى شجرة الإسلام بدمائه الزكية فاستقام عودها وكثفت أغصانها، وليس لحملهم سيوفهم على عواتقهم وسفكهم لدماء الأبرياء، بل لأنّهم أسسوا لأنفسهم بالتدريج مدرسة منحرفة من حيث العقائد، كما ابتعدت عن أحكام الإسلام والقرآن السنّة، ففي جانب عقائدهم وردت عدّة أبحاث في كتب الملل والنحل تصوّر مدى اختلافها وتضاربها، ولعل ذلك بسبب اختلاف فروعهم، مع ذلك فقد ذكر المؤرخ المعروف المسعودي اشتراك الخوارج في ما يلي:

1 ـ تكفير عثمان وعلي (عليه السلام) (والعياذ وبالله»

2 ـ وجوب القيام ضد الإمام الجائر.

3 ـ كفر من إرتكب الكبيرة (وجوب قتله).

4 ـ أنّهم بريئون من الحكمين (أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص).

5 ـ كفر معاوية وأبتاعه وأتباعه.

لكنّهم يختلفون في بعض المسائل كالتوحيد والوعد والوعيد في القيامة والإمامة(1).

وعدّ البعض الآخر من جملة عقائدهم المشتركة وجوب انتخاب الاُمّة للخليفة سواء كان من قريش أم من غيرها، والأخرى قبولهم الخلفاء الأربعة (وإن عزلوا عثمان وعلي (عليه السلام))، وكذلك شدّة مخالفتهم لكافة خلفاء بني الاُمية وبني العباس، خاصّة أنّهم يسبون بني اُمية(2).

وأمّا الأباضية الذين ينتشرون اليوم في عمان ومراكش وليبيا والجزائر وتونس ومصر والذين يعدّون أحياناً من الخوارج، فهناك فارق كبير لعقائدهم مع عقائد الخوارج، وإن اشتركوا معهم في مخالفة التحكيم في صفين وعدم اشتراط وصف القريشي في إمام المسلمين.

ولعل عقائد الأباضية تشبه كثيراً عقائد الشيعة مثل:

1 ـ صفات الله ليست زائدة على ذاته.

2 ـ استحالة رؤية الله في الآخرة.

3 ـ القرآن حادث لا قديم.


1. مروج الذهب، طبق نقل سفينة البحار مفردة الخوارج.

2. قاموس دهخدا، ذيل مفردة الخوارج.

[ 217 ]

4 ـ مرتكب الكبيرة كافر بالنعمة لا كافر ملي (يعني مثل هذا الفرد مسلم وليس خارجاً عن الإسلام).

5 ـ وجوب موالاة أولياء الله والبراءة من أعدائه.

وروى بعض أنّهم يقولون بوجوب حبّ الخليفة الأول والثاني وبغض عثمان وعلي (عليه السلام) إلاّ أنّ الأباضية في هذا الزمان ينكرون ذلك(1).

—–


1. الملل والنحل لآية الله السبحاني 5/242 و 249.

[ 218 ]

[ 219 ]

 

 

القسم الثالث

 

«فَإِنَّمَا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيَا الْقُرْآنُ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ، وَإِحْيَاؤُهُ الاِجْتَِماعُ عَلَيْهِ،وَإِمَاتَتُهُ الاِفْتِرَاقُ عَنْهُ. فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمُ اتَّبَعْنَاهُمْ، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا. فَلَمْ آتِ ـ لاَ أَبَالَكُمْ ـ بُجْراً، وَلاَ خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ، وَلاَ لَبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ لاَ يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ، فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَلَيْهِ. وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا ـ فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ، وَالصَّمْدِ لِلْحَقِّ ـ سُوءَ رَأْيِهِمَا، وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا».

—–

 

الشرح والتفسير

انحراف الحكمين

عاد الإمام (عليه السلام) في هذا القسم من الخطبة والذي يمثل آخرها إلى الأدلة المنطقية ليكشف بالبراهين القاطعة خطأ الخوارج.

توضيح ذلك أنّ الخوارج حين رأوا النتيجة المريرة لقضية التحكيم التي خدع فيها الماكر عمرو بن العاص أبي موسى الأشعري الساذج وقد حسم التحكيم لصالح معاوية، ارتفعت أصواتهم ليقولوا لم قبلنا التحكيم، ولماذا قبل علي (عليه السلام) التحكيم، رغم أنّهم يعلمون:

أولاً: أنّ التحكيم فرض على علي (عليه السلام).

ثانياً: أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن راضياً بأبي موسى الأشعري ممثلاً عنه في التحكيم، بل كان رأيه أن يلعب ابن عباس ذلك الرجل العالم دور التحكيم، رغم ذلك أصر اُولئك الجهال وفرضوا عليه أبي موسى الأشعري، وقد خاض الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة في جواب

[ 220 ]

آخر على أن تحكيم الحكمين كان مشروطاً بأن يتمّ على ضوء القرآن لا على أساس الأهواء النفسية والعقد الشخصية، فلم يعملا بهذا الشرط وهذا ذنبهم لا ذنب الإمام (عليه السلام) فقال: «فَإِنَّمَا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيَا الْقُرْآنُ، وَيُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ».

جدير بالذكر إنّه ورد نفس هذا المطلب الذي أشار إليه الإمام (عليه السلام) في متن العهد الذي أشرنا إليه سابقاً: «وإنَّ كِتـابَ اللهِ سُبحـانَهُ بَينَنا مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلى خـاتِمَتِهِ نُحيي مَا أَحيـا القُرآنُ ونُمِيتُ مَا أَمـاتَ».

ثم أضاف قائلاً: «وَإِحْيَاؤُهُ الاِجْتَِماعُ عَلَيْهِ،وَإِمَاتَتُهُ الاِفْتِرَاقُ عَنْهُ»، ووضح هذه العبارة من خلال التأكيد على مضمونها بالقول: «فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمُ اتَّبَعْنَاهُمْ، وَإِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا».

فهذا الكلام منطقي يدركه من كان له أدنى فكر وشعور، لكن كأن الخوارج لم يتمتعوا حتى بهذه النعمة الإلهيّة، ثم بيّن الإمام (عليه السلام) هذا المطلب بتعبير أوضح بحيث يبدو وكأنّه اشتاط غضباً من جهلهم وكلامهم الذي يفتقر إلى المنطق فقال: «فَلَمْ آتِ ـ لاَ أَبَالَكُمْ ـ بُجْراً(1)، وَلاَ خَتَلْتُكُمْ(2)عَنْ أَمْرِكُمْ، وَلاَ لَبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ، أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ لاَ يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ»، لكنّهم فقدوا عقلهم «إيمانهم» وتركوا الحق وهم يرونه باُم أعينهم، كما كان الظلم والجور ديدنهما وهواهما فاتخذوا سبيلاً وقد كنّا اشترطنا عليهما قبل أن يحكما بذلك الحكم الظالم أن يستندا إلى العدل ولا يهملا الحق: «فَتَاهَا عَنْهُ، وَتَرَكَا الْحَقَّ وَهُمَا يُبْصِرَانِهِ، وَكَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَلَيْهِ. وَقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا ـ فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ، وَالصَّمْدِ(3) لِلْحَقِّ ـ سُوءَ(4) رَأْيِهِمَا، وَجَوْرَ حُكْمِهِمَا».

فالواقع أنّ زبدة الكلام الإمام (عليه السلام) هى:


1. «بجر»: بضم الباء الشر والأمر العظيم، كما ورد بمعنى اتساع البطن وملأها.

2. «ختلت»: من مادة «ختل» على وزن قتل بمعنى المكر والخداع.

3. «الصمد»: بمعنى المكان المرتفع، كما يرد بمعنى القصد وعدم الاعتماد وهذا هو المعنى المراد في العبارة.

4. «سوء»: مفتوح مفعول سبق الذي ورد في أول العبارة ومفهوم الجملة قبل أن يبدي هؤلاء الرأي الظالم والفاسد قد اشترطنا عليهم إننا سوف لن نقبل رأيهم إن حاد عن الحق.

[ 221 ]

أولاً: إنّ انتخاب الحكمين كان على أساس ضغطكم وإصراركم على هذا الأمر، فان كان خلافاً فهو خلاف منكم لا منّي.

وثانياً: إننا اشترطنا عليهم الحكم على ضوء الآيات القرآنية، لكنّهم آثروا هوى أنفسهم وانحرفوا عن السبيل البيّن الذي هديناهم إليه، وعليه فان كان هناك من خلاف فقد بدر منهما لا منّي(1).

ولكن طبيعة الأفراد الجهّال والمتعصبين حين يرتكبون مخالفة ويبتلون بسوء عواقبها شرعان ما يغرونها إلى الآخرين ويحملونها مسؤولية أخطأهم وهذا أخس الأساليب، والحال يقتضي العقل والانصاف والإيمان الاعتراف بالذنب في مثل هذه الموارد والاعتذار منها ومن ثم التفكير في تدراكها.

—–

 

تأمّل

دروس التحكيم

كثير هو الكلام بشأن قضية التحكيم وهى تنطوي على الدورس والعبر التي نقلتها التواريخ والسير ومنها: أنّ عمرو بن العاص اشترط على معاوية إن انتصر في معركته أن يسلمه حكومة مصر، وقد وفى له معاوية بهذا الشرط وقد قدّم أكثر رشوة لعمرو بن العاص، ولم تمض مدّة حتى كتب معاوية لعمرو بن العاص أن إعطني خراج مصر لهذا العام فبيت المال لا يسدّ حاجات أهل الحجاز والعراق، فرفض عمرو ذلك من خلال شعر بعثه لمعاوية، فلم يعد معاوية للحديث عن خراج مصر ـ أمّا كتابه الذي ضمنه فهو:

مُعاوِى حَظّي لا تَغْفَلِ *** وَعَنْ سُنَنَ الحَقِّ لا تَعدِلِ

أَتَنسَى مُخـادَعَتِي الأشعَرِي *** وَمَا كَانَ فِي دَومَةَ الجَندَلِ!(2)

وَأَعلَيتُهُ المِنبَرَ المُشَمَخِرَ *** كَرَجْعِ الحِسامِ إِلَى المَفصِلِ


1. ورد شبه هذا المعنى مع إختلاف طفيف في الخطبة 177.

2. دومة الجندل منطقة قرب تبوك انتخبت كموضع للتحكيم.

[ 222 ]

فَأَضحى لِصـاحِبِهِ خـالِعاً *** كَخَلْعِ النِّعـالِ مِنَ الأَرجُلِ

وَأَثبَتُها فِيكَ مَورُوثَةً *** ثُبُوتَ الخَواتِمِ فِي الأَنمُلِ

وَهَبتَ لِغَيرِي وَزنَ الجِبالِ *** وَأَعطَيتَنِي زِنَةَ الخَردَلِ

وَإِنَّ عَلَيَّاً غَداً خَصمُنا *** سَيَحْتَجُّ بِالله وَالمُرسَلِ

وَمَا دَمُ عُثَمانَ مُنْج لَنا *** فَلَيسَ عَنِ الحَقِّ مِنْ مَزْحَلِ(1)

—–

 


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10/56 بتصرف.

[ 223 ]

 

 

الخطبة(1) 128

 

 

 

وَمِنْ كَلام لهُ(عليه السلام)

 

فِيَما يُخْبِرُ به عن المَلاحم بالبصرة

 

نظرة إلى الخطبة

أشار الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة إلى عدّة اُمور:

1 ـ فتنة صاحب الزنج وهم جماعة من العبيد بزعامة فرد أسمى نفسه علي بن محمد العلوي وقد قاموا في زمان خلافة المهتدي العباسي، وقد سفكوا الكثير من الدماء.

2 ـ إشارة إلى فتنة أخرى فسّرها شرّاح نهج البلاغة بفتنة المغول والعجيب أنّه أشار إلى أغلب صفاتهم هنا وفي القسم السابق.

3 ـ بيان الإمام (عليه السلام) بشأن الغيب بعد أن سأله أحد الحاضرين إنّك تعلم الغيب فتخبر عن المستقبل، كما أشار إلى الفرق بين العلم الذاتي والعلم الإكتسابي، وهو في الحقيقة تفسير للآيات القرآنية التي تنفي بعضها عن العباد علم الغيب بينما يثبته البعض الآخر.

أمّا المرحوم ابن ميثم فقد إختتم الخطبة في شرحه لنهج البلاغة بهذه العبارة «وناظرها


1. سند الخطبة:

جاء في كتاب مصادر نهج البلاغة أنّ هذا الكلام جزء من خطبة طويلة لإمام (عليه السلام) في البصرة بعد موقعة الجمل، وقد نقل المرحوم ابن ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة أجزاء منها، والمخاطب هو الأحنف بن قيس من أشراف قومه والمعروف بحكمته وسابقته، وترتبط هذه الخطبة بالخطبة رقم 110 التي شرحت سابقاً (مصادر نهج البلاغة 2/288).

[ 224 ]

بعينها» واعتبر بقية الخطبة، خطبة أخرى، وهذا ما نهجه أيضاً المرحوم الخوئي وابن أبي الحديد، فقد قسموا الخطبة إلى قسمين واعتبروا كل قسم خطبة منفصلة، بينما اعتبرهما المرحوم مغنية في شرحه كصبحي الصالح خطبة واحدة.

—–

[ 225 ]

 

 

القسم الأول

 

«يَا أَحْنَفُ، كَأَنِّي بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لاَ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلاَ لَجَبٌ، وَلاَ قَعْقَعَةُ لُجُم، وَلاَحَمْحَمَةُ خَيْل. يُثِيرُونَ الاَْرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ. (قَالَ الشَّرِيفُ: يُومئ بذلك إلى صاحب الزنج) ثمّ قَال(عليه السلام): وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ، وَالدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ، مِنْ أُولئِكَ الَّذِينَ لاَ يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ. أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا».

—–

 

الشرح والتفسير

الفتنة المرعبة بالمرصاد

خاطب الإمام (عليه السلام) بادىء الأمر الأحنف بن قيس(1) وهو من أشراف قبيلته، فقال: «يَا أَحْنَفُ، كَأَنِّي بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لاَ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلاَ لَجَبٌ(2)، وَلاَ قَعْقَعَةُ(3) لُجُم، وَلاَحَمْحَمَةُ(4) خَيْل. يُثِيرُونَ الاَْرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ(5)».


1. المراد بالأحنف بن قيس من أشراف البصرة وأحد صحابة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وورد في الحديث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سأل الله له المغفرة، فكان يثق بدعائه رغم أنّه رجل شريف وكريم، كما وجهه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى البصرة لنشر الإسلام، شهد صفين في عسكر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ولم يشهد الجمل بوصيّة منه (عليه السلام) حيث قال: إن لم أشهد المعركة فلي أن أمنع عنك ستة آلاف سيف فوافقه (عليه السلام).

سفينة البحار مادة حنف واُسد الغابة 1/55، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/249.

2. «لجب»: بمعنى الصياح وتطلق أحياناً على أصوات الخيل والمقاتلين.

3. «قعقعة»: الصوت الذي ينبعث من احتكاك الأشياء اليابسة كالجام الذي ورد في الخطبة.

4. «حمحمة»: بمعنى صوت الفرس التي لا تبلغ الصهيل المرتفع.

5. «نعام»: حويان المعروف.

[ 226 ]

والإمام (عليه السلام) لم يذكر إسماً لزعيم الجيش، إلاّ أن القرائن الواردة في هذه العبارات وما بعدها تشير إلى أنّ المراد به صاحب الزنج الذي قام في البصرة عام 255 هـ ق وجمع حوله العبيد وقد خلق هناك فتنة عظيمة سنعرض لتفاصيلها في البحث القادم إن شاء الله.

والعبارة: «لاَ يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ» والعبارات القادمة تدلّ صراحة على أنّ جيش صاحب الزنج كان من المشاة، حيث لم يكن لهم من خيول ليركبوها، طائفة من العراة المستضعفين الذين ساءت أحوالهم فقاموا على الأسياد فارتكبوا الجرائم الفضيعة، والعبارة يثيرون الأرض بأقدامهم تدلّ على أنّهم كانوا حفاة وقد اتسعت أرجلهم بسبب المشي حفاة طيلة أعمارهم لتصبح كرجل الناقة، مع ذلك كانوا مخفين في السير والحركة، وحين وصل هنا المرحوم السيد الرضي(رضي الله عنه) قال: (قَالَ الشَّرِيفُ: يُومئ بذلك إلى صاحب الزنج).

ثم قال (عليه السلام): «وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ، وَالدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ، مِنْ أُولئِكَ الَّذِينَ لاَ يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ».

والذي يستفاد من هذه العبارة أنّ البصرة كانت عامرة (وإن عاش العبيد منتهى الشقاء والعسر) فقد كانت بيوتهم كالقصور مزودة بالشرفات والظلال الجميلة وخراطيم المياه التي تزيدها روعة وجمالاً، وكما سيأتي فانّ كل ذلك قد تحطم إثر قيام صاحب الزنج وقد ضرّج أصحاب القصور بدمائهم، والعبارة «لاَ يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ».

تشير إلى أنّ العبيد لم يكونوا ذوي زوجات وأولاد، بل كانوا عزّاباً فلا نادية لهم من الأقرباء ليبحثوا عنهم ويتفقدونهم ويبكون عليهم، وهذه هى صفات العبيد في ذلك الزمان حيث كانوا يجلبون إلى البلاد الإسلامية وغير الإسلامية بالقهر والغلبة من البلدان البعيدة خاصّة أفريقيا، وخلافاً للتعاليم الإسلامية فقد كانوا يعاملون كالحيوانات، فكان قيام صالحب الزنج ردّ فعل تجاه المعاملة غير الإسلامية والإنسانية، ثم قال آخر كلامه: «أَنَا كَابُّ(1)الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا».

فهذه العبارات الثلاث إشارة إلى تفاهة متاع الدنيا لدى الإمام (عليه السلام) وكأنّ الدنيا موجود


1. «كاب»: من مادة «كب» على وزن خط تعني في الأصل طرح الشيء على وجهه في الأرض.

[ 227 ]

حي شرير لا قيمة له وقد كبّه الإمام (عليه السلام) على وجهه وهو ينظر إليه بحقارة، وتشبه هذه العبارة ما ورد عن الإمام (عليه السلام) في قصار كلماته حيث قال: «يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا، إِلَيْكِ عَنِّي أَبِي تَعَرَّضتِ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ؟ لاَحَانَ حِينُكِ، هَيْهَاتَ! غُرِّي غَيْرِي، لاَ حَاجَةَ لي فِيكَ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِيهَا!»(1).

ولعل شقاء أهل الدنيا المتكالبين عليها إنّما يعود إلى تقييمهم الباطل للدنيا فهم يرونها بعين أخرى فيعظمونها ويركعون لها ويضحون بالغالي والنفيس من أجلها، أمّا ما هو الإرتباط بين هذه العبارة والعبارات السابقة بشأن أخطار صاحب الزنج، فيبدو أنّ شرّاح نهج البلاغة لم يخوضوا في توضيح هذا الأمر، وربّما كان الإرتباط من خلال ذلك الظرف العصيب الذي أصاب أهل البصرة بسبب حبّ الدنيا، فقد شيّدوا القصور واهتموا بالدور وعاشوا الاسراف والتبذير في حياتهم، في حين عانى غالبية العبيد في مدنهم ومزارعهم الأمرّين فسامهم الزنوج أنواع العذاب.

—–

 

تأمّلات

قيام صاحب الزنج

ظهر في البصرة عام 255 هـ ق على عهد الخليفة العباسي المهتدي رجل زعم أنّه علي بن محمد ونسب نفسه إلى الإمام زين العابدين وزيد بن علي(عليهما السلام) وقد دعى العبيد للقيام ضد مالكيهم ولبّوا دعوته مسرعين بسبب صعوبة معيشتهم في الدور والمزارع في خدمة السلاطين فاجتمع له مائة نفر وألف نفر، وقد وعدهم بعتقهم وتسليمهم أموال مالكيهم ومزارعهم، وكانت الطبقية شديدة في ذلك الزمان، فالبعض مرفه في القصور كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في هذه الخطبة، والبعض الآخر يعيش الحياة الصعبة، لذلك إلتحق به جماعة من غير العبيد أيضاً، فاجتمع له جيش عظيم، لقد أشعل في قلوب العبيد والمحرومين نار


1. نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 77.

[ 228 ]

الإنتقام حتى أمر غلمانه بعد غلبته للأثرياء بأن يضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة وسبي نسائهم وكان يبيع كل واحدة منهن بدرهمين أو ثلاث وملكهن العبيد.

قال المؤرخ المشهور المسعودي في «مروج الذهب» أنّ صاحب الزنج قتل النساء والأطفال والشيخ الفاني والمريض وكان يحرق أموالهم وأدواتهم ويخرب بيوتهم، وقد قتل في البصرة ثلاثمائة ألف، ومن فرّ إلى الصحراء ونجى من القتل كان يأكل الكلاب والقطط والفئران، وأحياناً يأكلون الأموات، إستولى على قسم عظيم من العراق وإيران ودام حكمه مدّة تزيد على أربع عشرة سنة (وهذا يدلّ على أنّ حركته لم تكن عابرة بل كانت متجذرة في أعماق ذلك المجتمع).