وهنا لابدّ من الإشارة إلى بعض الاُمور:

1 ـ شبّه بعض الكتّاب قيام صاحب الزنج بثورة العبيد التي حدثت في ايطاليا عام 73 قبل الميلاد بزعامة اسبارتكوس الذي جمع حول فئة عظيمة من العبيد وقد قاتل الأثرياء والمرفهين وأحرز عدّة انتصارات حتى قتل عام 71 قبل الميلاد مع أربعين ألف من العبيد، لكن يبدو أنّ هناك بوناً شاسعاً بين قيامه وقيام صاحب الزنج، فقيام صاحب الزنج كان أوسع وأشمل وقد تمكن من تشكيل الحكومة آخر الأمر والتي حكمت قسماً كبيراً من العراق وايران لمدّة أربع عشرة سنة، على كل حال فهو رجل دموي ومجرم رغم إمتلاكه للحجج التي تبدو منطقية نسبياً من أجل قيامه وثروته.

2 ـ كما ذكرنا سابقاً فانّ صاحب الزنج أسمى نفسه علي بن محمد ومن نسل الإمام  السجاد (عليه السلام)، وتلقب بالعلوي، إلاّ أنّ ذلك لا حقيقة له، ولم يكن هدفه سوى شرعية حركته

[ 229 ]

والاستفادة من مكانة آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأميرالمؤمنين (عليه السلام)، ولذلك ورد عن الإمام الحسن العسكري أنّ قال: «صـاحِبَ الزِّنجِ لَيسَ مِنّا أَهلَ البَيتِ»(1)، وكما أوردنا فانّ قيام صاحب الزنج كان أواخر عمر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وتزامناً مع الولادة المباركة لإمام العصر والزمان المهدي (عليه السلام).

3 ـ كان ظاهر قيام صاحب الزنج وفتنته الدفاع عن العبيد والمحرومين، لكنّه انحرف عن هذا الهدف وتسبب في دمار عظيم وسفك للدماء، حتى قال المسعودي في «مروج الذهب»(2) أنّه قتل خمسمائة ألف من النساء والأطفال والشيوخ وهذا أقل عدد لقتلاه، وقال بعض المؤرخين أنّه دخل البصرة بعد عامين فأحرق مسجدها الجامع وكثير من البيوت، وأحرق حتى المواشي وجرت الدماء في أزقة البصرة(3).

4 ـ رغم كل نقاط الضعف في صاحب الزنج فقد كانت فيه بعض الجوانب الإيجابية ومنها خطه الجميل وضلوعه بعلم النحو النجوم وقد نقلت عنه بعض الأشعار التي تدلّ على ذوقه الشعري ومن أشعاره:

لَهْفَ نَفسِي عَلَى قُصُور بِبغدا *** دَ وَمَا قَدْ حَوَتْهُ مُلُّ عاص

وَخُمُور هُناكَ تُشرَبُ جَهراً *** وَرِجَال عَلَى المَعـاصِي حِراص

لَستُ بِابِن الفَواطِمِ الغُرِّ إنْ لَم *** أَجُلِ الخَيلَ حَوْلَ تِلكَ العِراصِ

رَأَيتُ المُقـامَ عَلَى الإِقتِصادِ *** قَثُوعاً بِهِ ذِلَّةً فِي العِبادِ(4)

ومن الشعر المنسوب إليه:

وَإِنّا لَتُصبِحُ أسيافَنا *** إذا مَا انْتَضَينَ لِيومِ سُفُوكِ

مَنَابِرُهُنَّ بُطُونُ الأَكُفِ *** وَأَغمَادهُنَّ رؤوسِ المُلُوكِ(5)

فهذان البيتان يكشفان بوضوح عن روحيته وأهدافه.

—–


1. بحار الانوار 63/197.

2. مروج الذهب 4/120.

3. الكنى والألقاب 2/402.

4. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8/128.

5. المصدر السابق.

[ 230 ]

[ 231 ]

 

 

القسم الثاني

 

منه في وصف الاتراك

 

«كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً «كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الَْمجَانُّ الْمُطَرَّقَةُ»، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَالدِّيبَاجَ، وَيَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ.

وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْل حَتَّى يَمْشِيَ الَْمجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ، وَيَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ!».

—–

 

الشرح والتفسير

نبوءة أخرى

خاض الإمام (عليه السلام) في هذا القسم من الخطبة في نبوءة عجيبة أخرى طبقها المرحوم السيد الرضي وتقريباً كافة شرّاح نهج البلاغة على المغول وحملاتهم الوحشية الهدّامة، ومن هنا قال المرحوم السيد الرضي: القسم الآخر من الخطبة في وصف الأتراك (المغول).

فقد قال الإمام (عليه السلام): «كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً «كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الَْمجَانُّ(1) الْمُطَرَّقَةُ(2)».

وردت المفردة «كأنّي» في عدّة موارد من نبوءات أميرالمؤمنين علي (عليه السلام)، والمفردة أراهم إشارة إلى الشهود الباطني والبصيرة التي كانت ترى الحوادث المستقبلية عبر القرون فيخبر عنها بصورة دقيقة، وتشبيه وجوههم بالدروع لأنّ وجوههم كانت عريضة وكبيرة ووصفها


1. «المجان»: جمع «مجن» ومجنة الترس.

2. «المطرقة»: من مادة «طرق» على وزن برق بمعنى دق الشيء بالمطرقة أو مطلق الدق، وعليه فالمطرقة الشيء الذي دقّ بالمطرقة.

[ 232 ]

بالمطرقة يمكن أن يكون إشارة أنّ أغلب وجوههم كانت تشبه بالضبط موضع المطرقة على صفيحة الترس، ثم قال (عليه السلام): «يَلْبَسُونَ السَّرَقَ(1) وَالدِّيبَاجَ(2)، وَيَعْتَقِبُونَ(3) الْخَيْلَ الْعِتَاقَ(4)».

فالعبارة تفيد أنّ هؤلاء وإن كانوا فقراء وجوعى أول أمرهم يرتدون الثياب الخشنة، إلاّ أنّهم حين يستولون على البلدان الغنية ويسيطرون على أموالهم وثرواتهم يتجهون صوب الثياب الفاخرة والخيول النفيسة، ويحتمل أن يكون المراد أنّ لهم رغبة شديدة في القتال، ومن المعروف أن لبس الحرير يمنح الإنسان قوة القلب ويجعله أكثر مقاومة للسيف، كما للخيول الخفيفة دور مهم في ميدان القتال، وهذا ما يجعلهم يتجهون إلى هذه الأمور.

ثم خاض الإمام (عليه السلام) في أعمالهم وأشار بعبارات قصيرة إلى أبعاد ما يرتكبونه من فاجعة فقال: «وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ(5) قَتْل حَتَّى يَمْشِيَ الَْمجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ، وَيَكُونَ الْمُفْلِتُ(6) أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ(7)!».

فالعبارتان تشيران إلى مدى سعة أبعاد الفاجعة، حيث لا يبقى في الأرض مكان يسمح لعبور الجرحى، لابدّ من وضع أقدامهم على أجساد القتلى، ومن لم يقتل يؤسر، وقليل هم الناجون، وإنّ أدنى مطالعة في تاريخ المغول تفيد انطباق جميع هذه الأوصاف عليهم، قال ابن أبي الحديد: واعلم إنّ هذا الغيب الذي أخبر به علي (عليه السلام) قد رأيناه نحن عياناً ووقع في زماننا فقد فعل هؤلاء القوم ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله(8).

وهنا يبرز هذا السؤال: ماذا كان قصد الإمام (عليه السلام) بالإخبار عن فتنة صاحب الزنج التي


1. «السرقة»: بمعنى الحرير الفاخر أو الحرير الأبيض، وقال أغلب أرباب اللغة أصلها فارسي أخذ من السرّه بمعنى الحسن والخالص.

2. «الديباج»: بمعنى القماش الحريري الملون، كما يستعمل أحياناً بمعنى كل قماش حسن النقش، وأصله فارسي أيضاً.

3. «يعتقبون»: من مادة «اعتقاب» يحبسون كرائم الخيل ويمنعونها غيرهم.

4. «اعتاق»: جمع «عتيق» بمعنى كل شيء حسن وقيّم وتستعمل في الخيل الأصيلة.

5. «استحرار»: من مادة «حرارة» بمعنى الشدّة والحدّة.

6. «المفلت»: من مادة «فلت» على وزن فرد بمعنى الهروب والفرار وتطلق مفردة المفلت على من ينجو من الشدّة.

7. «المأسور»: بمعنى الأسير.

8. شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 8/218.

[ 233 ]

وقعت بعد مئتي سنة وفتنة المغول التي وقعت بعد ستمائة سنة؟ ربّما أراد الإمام (عليه السلام) أن يذكّرهم بأنّ أعمالكم الطالحة هذه والتي تأتون بها في هذا العصر وقد وليتم ظهوركم للحق وأقبلتم على الباطل وضربتم أحكام الإسلام ووقعتم أسرى هوى أنفسكم، فانّ تواصلت هذه الأعمال في أجيالكم القادمة ستشهدون عواقب وخيمة وسيطالكم العقاب الإلهي، كما يحتمل أن يكون الإمام (عليه السلام) أراد تحذيرهم من البلاء العظيم الذي ينتظرهم، عليكم أن تتحدوا وتركزوا قوتكم لتتمكنوا من التقليل من آثاره المخربة.

—–

 

فتنة المغول

المغول فرع من الترك الذين عاشوا في آسيا المركزية والشرقية في حدود الصين وهم طوائف مختلفة، طائفة منهم التاتار، وكانوا يأتمرون عادة بأوامر سلاطين الصين، وكان والد جنكيز أول من نهض من هذه الطائفة وإدّعى الاستقلال، وحين خلف جنكيز أباه 600 هـ سعى للسيطرة على الأقوام المختلفة لتلك المنطقة حيث أراد الرئاسة العامّة لنفسه واستولى على قسم واسع من الصين وسيطر على عاصمتها بكين.

أمّا السلطان محمود خوارزم شاه الذي كان يحكم أكثر الشرط الأوسط وآسيا المركزية، فقد عقد الهدنة بادىء الأمر مع جنكيز، ولكن لم تمض مدّة حتى نشبت بينهما عداوة فقتل رسل جنكيز، فما كان من جنكيز وبدافع الانتقام إلاّ أن هجم على ايران وسائر المناطق الخاضعة لنفوذ خوارزمشاه.

أمّا ابن أبي الحديد الذي عاش في ذلك الزمان وقد شهد تلك الأحداث حسب قوله كما سمع بعضها الآخر، فقد أفرد 25 صفحة في شرحه لنهج البلاغة وتطرق فيها بالتفصيل إلى حملة المغول على المناطق الإسلامية وقال: واعلم أنّ هذا الغيب الذي أخبر به الإمام (عليه السلام) قد رأيناه نحن عياناً، ووقع في زماننا، وإليك الآن جانب ممّا أورده ابن أبي الحديد بهذا الشأن:

هم التاتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام، وقد فعلوا بالقوقاز وبلاد ما رواء النهر وبخراسان وما والاها من بلاد ما لم تحتو التواريخ منذ خلق
الله تعالى آدم (عليه السلام) إلى عصرنا هذا على مثله، رئيسهم هو جنكيز الذي كان شجاعاً عاقلاً

[ 234 ]

موفقاً منصوراً في الحرب، كما كان عسكره من الأفراد الشجعان وكانوا يعيشون بصورة شبه وحشية وأنّهم من أصبر الناس على القتال، لا يعرفون الفرار ويعلمون ما يحتاجون إلى من السلاح بأيديهم، وأنّ خيلهم لا تحتاج إلى الشعير، بل تأكل نبات الأرض وعروق المراعي، وأنّ عندهم من الخيل والبقر ما لا يحصى، وأنّهم يأكلون الميتة والكلاب والخنازير وهم أصبر خلق الله سبحانه على الجوع والعطش والشقاء، وثيابهم أخشن الثياب مسّاً، ومنهم من يلبس جلود الكلاب والدواب والميتة، وأنّهم أشبه شيء بالوحش والسباع، كانوا يقتلون كل من يرونه من الرجال ويغنمون الأموال ويحرقون المدن ويسبون النساء الأطفال، لقد دخلوا من شرق ايران وأشاعوا الخوف والرعب بحيث لم يفكر أحد في مواجهتهم، ومن قاومهم استسلم أخيراً لهم، وأحياناً كانت تفتح لهم أبواب المدن بعد أن يعطيهم التاتار الأمان حين يطلبونه، ولكنّهم كانوا ينقضون عهدهم ويقتلون أهالي المدن ويسبون النساء والأطفال ويعذبون الناس بأنواع العذاب في طلب المال.. ومن العجيب في هذ الأحداث أنّهم وصلوا إلى إصفهان بعد أن سيطروا على المدن الإيرانية، فحصلت بين الفريقين مقتلة عظيمة، ولم يبلغوا منها غرضاً حتى اختلف أهل إصفهان في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وهم طائفتان: حنفية وشافعية، وبينهم حروب متصلة وعصبية ظاهرة، فخرج قوم من أصحاب الشافعي إلى ما يجاروهم ويتاخمهم من ممالك التتار، فقالوا لهم: اقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم، وفتحت أبواب المدينة فلما دخلوا البلد بدؤا بالشافعية فقتلوهم قتلاً ذريعاً، ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم، ثم قتلوا الحنفية، ثم قتلوا سائرالناس وسبوا النساء وشقوا بطون الحبالى ونهبوا الأموال وصادروا الأغنياء، ثم أضرموا النار، فأحرقوا إصفهان حتى صارت تلولاً من الرماد.

ثم ساروا إلى بلاد العرب فهجموا على بغداد فتصدى لهم عسكر بغداد وثبت أحسن ثبوت ورشقوهم بالسهام، وبعد مدّة توفي جنكيز وخلفه حفيده هولاكو الذي تمكن من السيطرة على بغداد بعد أن قتل آخر خلفاء العباسيين المستعصم بالله وقد أنهى حكومتهم بذلك.

وبقي المغول في إيران والبلدان الإسلامية وقد فقدوا ما طبعوا عليه من وحشية بالتدريج وتأثروا بالثقافة الإسلاميه، وأسلم هولاكو حتى تشيع السلطان محمد خدابنده أحد سلاطين المغول(1).


1. شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 8/218 ـ 252، وقاموس دهخدا مفرد المغول.

[ 235 ]

 

 

القسم الثالث

 

«فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَالْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ! فَضَحِكَ(عليه السلام)، وَقَالَ لِلرَّجُلِ، وَكَانَ كَلْبِيّاً: يَا أَخَا كَلْب، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْم. وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِوَيُنَزِّلُ الْغَيْبُ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَْرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرض تَمُوتُ ...) الاْيَةَ، فَيَعْلَمُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الاَْرْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى ، وَقَبِيح أَوْ جَمِيل، وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيل، وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيد، وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً. فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اللّهُ، وَمَا سِوَى ذلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللّهُ نَبِيَّهُ فَعَلَّمَنِيهِ، وَدَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي، وَتَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي».

—–

 

الشرح والتفسير

الغيب لله ولكن...

حين خاض الإمام (عليه السلام) في تلك الحادثتين المهمتين (قيام صاحب الزنج وفتنة المغول) وذكر خصوصياتهما «فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَالْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ!».

فالعبارة وإن كانت على سبيل الإخبار، لكنّها في الواقع استفهامية، لأنّه سمع أن علم الغيب مختص بالله سبحانه، ولذلك طلب توضيح الإمام (عليه السلام): «فَضَحِكَ (عليه السلام)، وَقَالَ لِلرَّجُلِ، وَكَانَ كَلْبِيّاً: يَا أَخَا كَلْب، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْب، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْم».

قطعاً أنّ ضحك الإمام (عليه السلام) لم يكن بدافع السخرية ولم يفرزه الغرور، بل كان ضحك الفرح

[ 236 ]

والسرور، ولعل مرد ذلك إلى حسن الأمر في طرح ذلك السؤال من الرجل الكلبي ليكشف الإمام (عليه السلام) عن كنه ذلك الموضوع أمام الجميع.. أو أنّ ضحكه كان من تعجبه في أنّه لا ينبغي أن يكون مثل هذا الأمر بخفي على أحد، على كل حال فانّ عبارة الإمام (عليه السلام) تشير إلى حقيقة في أنّ ذلك العلم مختص بالله وهو علم ذاتي، والعلم الممكن لما سوى الله، فهو العلم الحاصل من التعلم والذي له بُعد إكتسابي، يعني يتعلّمه الإمام (عليه السلام) من النّبي (صلى الله عليه وآله) والنّبي عن طريق الوحي الإلهي (سيأتي شرح هذا المطلب).

ثم قال الإمام (عليه السلام): «وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَمَا عَدَّدَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِوَيُنَزِّلُ الْغَيْبُ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الاَْرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرض تَمُوتُ ...)(1)».

ثم أوضح معنى ذلك قائلاً: «فَيَعْلَمُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الاَْرْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى ، وَقَبِيح أَوْ جَمِيل، وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيل، وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيد، وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً».

فخلص (عليه السلام) إلى نتيجة نهائية مؤدّاها: «فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلاَّ اللّهُ، وَمَا سِوَى ذلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللّهُ نَبِيَّهُ فَعَلَّمَنِيهِ، وَدَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ(2) صَدْرِي، وَتَضْطَمَّ(3) عَلَيْهِ جَوَانِحِي(4)».

فالذي يستفاد من مجموع هذه العبارات:

أولاً: أنّ علم الغيب علم ذاتي مختص بالله سبحانه وتعالى، لكن العلم الإكتسابي والإعطائي لا يسمى بعلم الغيب، بل هو ذ لك العلم الذي علّمه الله سبحانه نبيّه وعلّمه النبي من يراه مستعداً لذلك العلم.

ثانياً: لهذه العلوم التعليمية استثناءات وردت خمسة منها في الآية الشريفة الأخيرة من


1. سورة لقمان / 34.

2. «يعي»: من مادة «وعي» على وزن سعي بمعنى حفظ الشيء في القلب، أو بعبارة أخرى التعلم والايداع في الحافظة.

3. «تضطم»: من مادة «ضم» بمعنى جمع الشيء.

4. «جوانح»: جمع «جانحة» الأضلاع تحت الترائب ممّا يلي الصدر.

[ 237 ]

سورة لقمان، وهذه مصاديق علم الغيب التي لم يعلّمها الله سبحانه أحداً من الخلق.

—–

 

وهنا لابدّ من طرح هذه الأسئلة

1 ـ كيف يستفاد من الآية الشريفة أنّ هذه العلوم الخمسة مختصة بالله سبحانه؟

2 ـ كيف تختص هذه العلوم بالله والحال أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة(عليهم السلام)أحياناً عن نزول الأمطار والأطفال في الأرحام أو الزمان والمكان الذي يتوفون فيه، بل أحياناً أخرى كانوا يخبرون عن العلوم المعاصرة فمثلاً متى وأين سينزل المطر، وذلك الجنين ولد أم بنت؟

3 ـ ما الفارق بين هذه العلوم الخمسة وسائر الأمور الخفية التي لا يعلمها غير الله سبحانه؟

ويقال في الإجابة على السؤال الأول: العبارة الاُولى بشأن القيامة قد بيّنت بوضوح إختصاص علمها بالله سبحانه، وتقديم عنده على علم الساعة دلالة على الحصر، يعني العلم بالقيامة مختص فقط بالذات الله المقدس، كما تدلّ العبارة والرابعة والخامسة على الحصر أيضاً حيث قالت: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرض تَمُوتُ ...).

وبناءاً على ما تقدم فانّ المورد الثاني والثالث بمقتضى وحدة السياق جزء من العلوم المختصة بالله سبحانه، والروايات المتعددة الواردة عن أئمة العصمة(عليهم السلام)في تفسير الآية شاهد أخر على هذا المعنى(1).

ويقال في الردّ على السؤال الثاني: أنّ الالتفات إلى هذه النقطة ضرورة، وهى أنّ العلم بهذه الأمور الخمسة بصورة تفصيلية مختص بالله سبحانه، وإن أمكن حصول العلم الإجمالي للمعصومين أو بعض أولياء الله سبحانه، مثلاً يمكن أن يعلم المعصوم أنّ المطر ينزل غداً، أو الشخص الفلاني يموت في الأرض الفلانية، أما العلم بجزئيات هذا الأمر من قبيل العلم بلحظة الشروع وحبات المطر التي تنزل في المكان، وكذلك العلم بلحظة الموت والبقعة التي يموت فيها والحالات الناشئة من سكرات الموت وما إلى ذلك في أمور فهو مختص بالذات الإلهيّة المقدّسة،


1. تفسير نور الثقلين، ووردت أحاديث سبعة أقلاًّ في هذا المضمار في ذيل الآية الشريفة.

[ 238 ]

والشاهد على ذلك ما أورده الإمام (عليه السلام) بشأن الجنين في رحم اُمّه فقال: «فَيَعْلَمُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الاَْرْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى ، وَقَبِيح أَوْ جَمِيل، وَسَخِيٍّ أَوْ بَخِيل، وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيد، وَمَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً، أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً»، وسائر الأمور التي يقتصر علمها على الله تبارك وتعالى، وبناءاً هلى هذا فما يعلمه الناس من حالات في بعض الأدوار الجنينية من خلال تعلم الغيب أو المختبرات المتداولة في الوقت المعاصر، فهو من قبيل العلم الجزئي، والحال يختص العلم الكلي بالله سبحانه.

وأمّا الإجابة على السؤال الثالث: فلابدّ من الإذعان بأننا لا نرى من فارق بين الموارد الأربعة الأخرى غير القيامة وسائر الأمور الخفية، سوى أنّ الآية المذكورة وروايات المعصومين(عليهم السلام)تفرّق هذه الأمور مع سائر الأمور الخفية وتقول بأنّ العلم التفصيلي فيها مختص بالذات الإلهيّة، ولكن في الموارد الأخرى كالذي ورد في هذه الخطبة بشأن فتنة صاحب الزنج وحملة المغول، فممكن أن يزود الله بعض الخواص من عباده بعلمها الإجمالي والتفصيلي، وعلى كل حال فاننا تبع للنصوص القرآنية وروايات المعصومين المعتبرة.

—–

 

علم الغيب في الآيات والروايات

اختلف العلماء في قضية علم الغيب وهل هناك من يعلم الغيب سوى الله سبحانه أم لا؟ ويبدو اختلافهم يعود إلى اختلاف ظواهر آيات القرآن والروايات الإسلامية، فبعض الآيات القرآنية صرّحت علانية قائلة أنّ علم الغيب مختص بالله تبارك وتعالى، مثل الآية 65 من سورة النمل: (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ...).

وصرحت في الآية 59 من سورة الأنعام قائلة: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ...)، في حين يستفاد من البعض الآخر من الآيات أنّ جانباً من علم الغيب على الأقل قد زود به بعض أولياء الله تعالى، كما في الآية 49 من وسورة آل عمران بشأن السيد المسيح (عليه السلام): (ءَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ...)، والآية 26 و 27 من سورة الجن: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُول...).

[ 239 ]

ونرى نفس هذا التفاوت في الروايات، فمثلاً جاء في الحديث أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) ورد مجلساً غاضباً وكان فيه أبو بصير وبعض أصحابه، فلما جلس قال: «يَا عَجَباً لأقوام يَزْعَمُونَ أَنَّا نَعلَمُ الغَيبَ مَا يَعْلَمُ الغَيبَ إِلاّ اللهُ عزَّ وَجَلَّ»(1).

بينما يستفاد من عدّة روايات علم الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)بأغلب الأمور الخفية كالذي ورد في هذه الخطبة بشأن فتنة صاحب الزنج والمغول، أو سائر خطب نهج البلاغة بخصوص الأمور المستقبلية، وممّا لا شك فيه أنّه ليس هناك من تضارب بين الآيات المذكورة وأمثالها ولا بين الروايات السابقة (والروايات الأخرى التي وردت بهذا المضمون) وقد ذكر المحققون عدّة آراء من أجل الجمع بين هذه الآيات والروايات، منها:

1 ـ المراد بعلم الغيب الذي اختصته الآيات والروايات بالله تبارك وتعالى هو العلم الذاتي، وما يعلمه الأنبياء والأولياء هو العلم التعليمي من جانب الله سبحانه (وهو ما ورد في كلام الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة).

2 ـ أسرار الغيب على قسمين: قسم يختص بالله تعالى ولا يعلمه أحد إلاّ هو كزمان الساعة والأمور الأخرى التي وردت في الآية 24 من سورة لقمان، وقد أشارت الخطبة إلى هذا الوجه في الجمع وقد تقدم شرح ذلك.

3 ـ علم الله سبحانه بأسرار الغيب بالفعل يعني يعلم كل شيء في كل زمان، أمّا علم أولياء الله سبحانه، فليس بفعلي بل حيني، أي إن أرادوا أن يعلموا شيئاً وتتحقق هذه الإرادة باذن الله تعالى ورضاه، ومن هنا نقرأ في سورة يوسف أنّ يعقوب لم يكن يعلم مصير ولده في صحراء كنعان، والحال علم بعد سنوات بمصيره في مصر، فقد وجد ريح يوسف من مصر بينما لم يجده في بئر كنعانه، فلم يكن مأذوناً في المورد الأول لأن يريد فيعلم، بينما أذن له في المورد الثاني.

4 ـ الطريق الآخر للجمع بين الآيات والروايات المختلفة في أنّ أسرار الغيب مثبتة في موضعين، اللوح المحفوظ والذي لا يحدث فيه أدنى تغيير ولا يعلمه إلاّ تعالى، واللوح المحو والإثبات وهو في الواقع علم بالمقتضيات لا علم بالعلة التامة، ومن هنا فهو قابل للتغيير، وما


1. اصول الكافي 1/257، ح3 من باب «نادر فيه ذكر الغيب».

[ 240 ]

يعلمه أولياء الله إنّما يرتبط بهذا القسم.

ومن أراد المزيد من الشرح لكل من الطرق الأربعة المذكورة، فليراجع المجلد 19، من تفسير الأمثل في تفسير سورة الجن.

—–

[ 241 ]

 

 

الخطبة(1) 129

 

 

 

وَمِنْ خُطبَة لهُ (عليه السلام)

 

في ذكر المكاييل والموازين(2)

 

نظرة إلى الخطبة

خاض الإمام (عليه السلام) في هذه الخطبة بوعظ المسلمين فأورد عدّة نصائح شافية وكافية، الأولى وتحدث فيها عن قصر عمر الدنيا وأنّ الناس فيها كالضيوف وستنتهي بسرعة هذه الضيافة، بينما تبقى تبعات أعمال الإنسان حين الحساب والجزاء، ثم تحدث في الثانية عن سعة الفساد في ذلك العصر شاكياً منه، وأشار في الثالثة إلى الأخيار والصلحاء والاتقياء والسمحاء ليحذر من خلال المقارنة بضرورة إصلاح النفس وإجتثاث الفساد من المجتمع وأخيراً إختتم الخطبة بذم المرائين الذين يأمرون بالمعروف وليسوا من أهله، وينهون عن المنكر ولا ينتهون عنه.

—–

 


1. سند الخطبة:

ورد في مصادر نهج البلاغة أنّ هذه الخطبة وإن كانت في رعاية العدل في الكيل والميزان، لكن لا يرى مطلب بهذا الخصوص في هذه الخطبة سوى إشارة قال فيها الإمام (عليه السلام): «اين المتورعون في مكاسبهم»، وهذا يدلّ على أنّها جزء من خطبة طويلة أشارت إلى هذه المسألة المهمة، إلاّ أنّ المرحوم السيد الرضي كعادته يختار منها ويترك بقيتها، رواها الزمخشري في «ربيع الأبرار»، كما ورد قسم منها في «غرر الحكم» (مصادر نهج البلاغة 2/290).

2. مكاييل جمع مكيال، والموازين جمع الميزان.

[ 242 ]

[ 243 ]

 

 

القسم الأول

 

«عِبَادَ اللّهِ، إِنَّكُمْ ـ وَمَا تَأْمُلُونَ مِنْ هذِهِ الدُّنيَا ـ أَثْوِيَاءُ مُؤَجَّلُونَ، وَمَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ: أَجَلٌ مَنْقُوصٌ، وَعَمَلٌ مَحْفُوظٌ. فَرُبَّ دَائِب مُضَيَّعٌ، وَرُبَّ كَادِح خَاسِرٌ. وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَن لاَ يَزْدَادُ الخَيْرُ فِيهِ إِلاَّ إِدْبَاراً، وَلاَ الشَّرُّ فِيهِ إِلاَّ إِقْبَالاً، وَلاَ الشَّيْطَانُ فِي هَلاَكِ النَّاسِ إِلاَّ طَمَعاً. فَهذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ، وَعَمَّتْ مَكِيدَتُهُ،وَأَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ. اِضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ ]تنظر [إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً، أَوْ بَخِيلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللّهِ وَفْراً، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً!».

—–

 

الشرح والتفسير

التحذير من الفساد الاجتماعي

كما ورد في سند الخطبة وخلافاً لما جاء في عنوان هذه الخطبة فاننا لا نشاهد في متنها ما يشير إلى رعاية العدل في الكيل والوزن، ولعل ذلك يعود إلى أحد سببين: إمّا أنّ المرحوم السيد الرضي (رضي الله عنه) قد حذف بعض جوانب الخطبة المتعلقة بالكيل والوزن حسب طريقته في اختيار الأفصح، أو ليس هنالك من حذف في الخطبة إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) خطب بهذه الخطبة في ظروف حين اتسع الفساد في الكيل والوزن والتطفيف في البيع وظلم الناس وساد ذلك في المجتمع، وبالنظر إلى ذلك أورد الإمام (عليه السلام) هذه الخطبة ليحذر المردة، بعبارة أخرى فانّ شأن وورد الخطبة قضية الكيل والميزان وإن لم يذكر ذلك صريحاً في متنها، إلاّ أنّه ذكر من خلال الدلالة الالتزامية، على كل حال خاطب الإمام (عليه السلام) عامة الناس وقد حذرهم من تقلب الدنيا

[ 244 ]

وفساد المجتمع فقال: «عِبَادَ اللّهِ، إِنَّكُمْ ـ وَمَا تَأْمُلُونَ مِنْ هذِهِ الدُّنيَا ـ أَثْوِيَاءُ(1) مُؤَجَّلُونَ، وَمَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ: أَجَلٌ مَنْقُوصٌ، وَعَمَلٌ مَحْفُوظٌ».

فقد شبّه الإمام (عليه السلام) وضع أهل الدنيا بهذه العبارة بالضيوف الذين دعوا لمدّة معينة في ضيافة، وبالأفراد المدينين الذين لا يتركهم دائنوهم، فمن الطبيعي ألا يرى الضيف دار المضيف محطته الأبدية، فهم لا يتعلق بها أبداً ولا يثق بها ولا يحرص عليها، وليس الشخص المدين الذي يتابع دائماً من قِبل الدائن من سبيل سوى منحه كل ما يجد بالتدريج، أملاً بأن يأتي اليوم الذي يكون قد سدد فيه كل دينه، كأنّ العمر الذي منحنا الله تعالى من ديوننا التي تؤخذ منّا كل لحظة، والمشكلة المهمّة أنّ إلى جانب ذلك العمر المتقلب والذي ينقضي بسرعة أعمالنا التي نقوم بها والتي تحفظ ويجب علينا تحمل تبعاتها.

ورى بعض شرّاح نهج البلاغة عن بعض الصلحاء قوله: «مَا أَدرِي كَيفَ أَعجَبُ مِنَ الدُّنيا! أَمن حُسنِ مَنطَرِها وَقُبحِ مَخبَرِها أَم مِنْ ذَمِّ النَّاسِ لَها وَتَناحُرِهُم عَلَيها»(2).

ثم واصل الإمام (عليه السلام) كلامه قائلاً: «فَرُبَّ دَائِب(3) مُضَيَّعٌ، وَرُبَّ كَادِح(4) خَاسِرٌ».

صحيح أنّ السعي والجهد رمز الموفقية والنجاح، إلاّ أنّ هذا ليس قانوناً كلياً، فهناك الأفراد الذين أفنوا عمرهم في السعي والجد وأجهدوا أنفسهم ليل نها ولم يظفروا بشيء، وهذا أحد إحباطات الإنسان في الحياة الدنيا، ولعل العبارة إشارة إلى السعي المتعلق بالأمور المادية أوالمعنوية، لأنّهم كثيرون هو الأفراد الذين أجهدوا أنفسهم من أجل الوصول إلى المقامات المعنوية والنجاة الاُخروية، ولكن تسللت إليهم أهواء النفس ووساوس الشيطان في اللحظات الحساسة فاشتعلت النيران في مزارع طاعتهم وأحرقت كل شيء، ثم أشار إلى الأوضاع المزرية لزمانهم وإقبال الناس على المساوىء وفرارهم من الصالحات فقال: «وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَن لاَ يَزْدَادُ الخَيْرُ فِيهِ إِلاَّ إِدْبَاراً، وَلاَ الشَّرُّ فِيهِ إِلاَّ إِقْبَالاً، وَلاَ الشَّيْطَانُ فِي


1. «أثوياء»: جمع «ثوي» على وزن قوي بمعنى الضيف وفي الأصل من مادة «ثواء» بمعنى الإقامة في مكان.